فلما كانت الليلة ٦٨٨

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشيخ لما قال لأبي إسحاق: هل لك أن تزيدني ونكافِئك؟ قال أبو إسحاق: فتحمَّلْتُ المشقة وأخذت العود، فغنيت وتحفظت فيما غنيت وقمت به قيامًا تامًّا لقوله: ونكافِئك. فطرب وقال: أحسنتَ يا سيدي. ثم قال: أتأذن لي في الغناء؟ قال: شأنك. واستضعفت عقله في أن يغني بحضرتي بعد الذي سمعه مني، فأخذ العود وجسه، فوالله لقد خلت العود أن ينطق بلسان عربي فصيح بصوتٍ أغَنٍّ مليح، واندفع يغني هذه الأبيات:

وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ مَنْ يَبِيعُنِي
بِهَا كَبِدًا لَيْسَتْ بِذَاتِ قُرُوحِ
أَبَاهَا عَلَيَّ النَّاسُ لَا يَشْتَرُونَهَا
وَمَنْ يَشْتَرِي ذَا عِلَّةٍ بِصَحِيحِ
أَئِنُّ مِنَ الشَّوْقِ الَّذِي بِجَوَانِحِي
أَنِينَ غُصَيْصٍ بِالشَّرَابِ قَرِيحِ

قال أبو إسحاق: فوالله لقد ظننتُ أن الأبواب والحيطان وكلَّ ما في البيت تجيبه وتغني معه من حُسْن صوته، حتى خلتُ والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجيبه، وبقيت مبهوتًا لا أستطيع الكلام ولا الحركة لِمَا خالَطَ قلبي، ثم غنَّى بهذه الأبيات:

أَلَا يَا حَمَامَاتِ اللِّوَى عُدْنَ عَوْدَةً
فَإِنِّي مِنْ أَصْوَاتِكُنَّ حَزِينُ
فَعُدْنَ إِلَى أَيْكٍ فَكِدْنَ يُمِتْنَنِي
وَكِدْتُ بِأَسْرَارِي لَهُنَّ أَبِينُ
دَعَوْنَ فَرِيقًا بِالْهَدِيرِ كَأَنَّمَا
شَرِبْنَ الْحُمَيَّا أَوْ بِهِنَّ جُنُونُ
فَلَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَهُنَّ حَمَائِمَ
بَكَيْنَ وَلَمْ تَدْمَعْ لَهُنَّ عُيُونُ

ثم غنَّى أيضًا بهذه الأبيات:

أَلَا يَا صَبَا نَجْدٍ مَتَى هِجْتِ مِنْ نَجْدِ
فَقَدْ زَادَنِي مَسْرَاكِ وَجْدًا عَلَى وَجْدِي
لَقَدْ هَتَفَتْ وَرْقَاءُ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى
عَلَى فَنَنِ الْأَغْصَانِ بِالْبَانِ وَالرَّنْدِ
بَكَتْ مِثْلَ مَا يَبْكِي الْوَلِيدُ صَبَابَةً
وَأَبْدَتْ مِنَ الْأَشْوَاقِ مَا لَمْ أَكُنْ أُبْدِي
وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ الْمُحِبَّ إِذَا دَنَا
يَمَلُّ وَأَنَّ الْبُعْدَ يَشْفِي مِنَ الْوَجْدِ
بِكُلٍّ تَدَاوَيْنَا فَلَمْ يُشْفَ مَا بِنَا
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ خَيْرٌ مِنَ الْبُعْدِ
عَلَى أَنَّ قُرْبَ الدَّارِ لَيْسَ بِنَافِعٍ
إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوَاهُ لَيْسَ بِذِي وُدِّ

ثم قال: يا إبراهيم، غنِّ هذا الغناء الذي سمعتَه وانحِ نحوه في غنائك وعلِّمه جواريك. فقلت: أَعِدْه عليَّ. فقال: لستَ تحتاج إلى إعادة، قد أخذته وفرغت منه. ثم غاب من بين يدي. فتعجَّبْتُ منه وقمتُ إلى السيف وجذَبْتُه، ثم غدوت نحو باب الحريم فوجدتُه مغلقًا، فقلت للجواري: أي شيء سمعتن؟ فقلن: سمعنا أطيب غناء وأحسنه. فخرجتُ متحيِّرًا إلى باب الدار فوجدتُه مغلقًا، فسألتُ البوابين عن الشيخ فقالوا لي: شيخ! فوالله ما دخل إليك اليومَ أحدٌ. فرجعت أتأمَّل أمره، فإذا هو قد هتف من جانب الدار فقال: لا بأس عليك يا أبا إسحاق، إنما أنا أبو مرة، قد كنتُ نديمك اليومَ فلا تفزع. فركبت إلى الرشيد فأخبرته الخبر، فقال: أَعِدِ الأصواتَ التي أخذتَها منه. فأخذت العود وضربتُ، فإذا هي راسخة في صدري؛ فطرب بها الرشيد وجعل يشرب عليها، ولم يكن له انهماك على الشراب، وقال: ليته متَّعَنا بنفسه يومًا واحدًا كما متَّعَك. ثم أمر لي بصلة، فأخذتُها وانصرفت.

عاشقان من بني عذرة

وحُكِي أيضًا أن مسرور الخادم قال: أرق أمير المؤمنين هارون الرشيد ليلةً أرقًا شديدًا، فقال لي: يا مسرور، مَن بالباب من الشعراء؟ فخرجت إلى الدهليز فوجدتُ جميل بن معمر العذري، فقلت له: أجِبْ أمير المؤمنين. فقال: سمعًا وطاعة. فدخلتُ ودخل معي إلى أن صار بين يدي هارون الرشيد، فسلَّمَ بسلام الخلافة، فردَّ عليه السلام وأمره بالجلوس، ثم قال له الرشيد: يا جميل، أعندك شيء من الأحاديث العجيبة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أيما أَحَبُّ إليك؛ ما عاينتُه ورأيتُه، أو ما سمعتُه ووعيتُه؟ فقال: حدِّثني بما عاينتَه ورأيتَه. قال: نعم يا أمير المؤمنين، أقبِلْ عليَّ بكُلِّك، وأصغِ إليَّ بإذنَيْك. فعمد الرشيد إلى مخدة من الديباج الأحمر المزركش بالذهب، محشوَّة بريش النعام، فجعلها تحت فخذيه، ثم مكَّنَ منها مرفقيه، وقال: هلمَّ بحديثك يا جميل. فقال: اعلم يا أمير المؤمنين أني كنت مفتونًا بفتاةٍ مُحِبًّا لها، وكنت أتردَّد إليها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤