فلما كانت الليلة ٧٠٩

قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاطر علي لما أعطى السقَّاء دينارًا، نظر إليه واستقل به، وقال له: أَنْعِم بك، أَنْعِم بك، صغار قوم كبار قوم آخرين. فنهض الشاطر علي وقبض على جلابيب السقَّاء، وسحب عليه خنجرًا مثمنًا، كما قيل في هذين البيتين:

اضْرِبْ بِخَنْجَرِكَ الْعَنِيدَ وَلَا تَخَفْ
أَحَدًا سِوَى مِنْ سَطْوَةِ الْخَلَّاقِ
وَتَجَنَّبِ الْخُلُقَ الذَّمِيمَ وَلَا تَكُنْ
أَبَدًا بِغَيْرِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ

فقال له: يا شيخ، كلِّمني بمعقول، فإن قربتك إن غلا ثمنها يبلغ ثلاثة دراهم، والكوزان اللذان دلقتهما على الأرض مقدار رطل من الماء. قال له: نعم. قال له: فأنا أعطيتك دينارًا من الذهب، ولأي شيء تستقل بي؟ فهل رأيت أحدًا أشجع مني أو أكرم مني؟ فقال له: رأيت أشجع منك وأكرم منك، فإنه ما دامت النساء تَلِد، ما على الدنيا شجاع ولا كريم. فقال له: مَن الذي رأيتَ أشجع مني وأكرم مني؟ فقال له: اعلم أن لي واقعة من العجب، وذلك أن أبي كان شيخ السقَّائين بالشربة في مصر، فمات وخلف لي خمسة جمال وبغلًا ودكانًا وبيتًا، ولكن الفقير لا يستغني، وإذا استغنى مات، فقلت في نفسي: أنا أطلع الحجاز. فأخذت قطار جمال، وما زلت أقترض حتى صار عليَّ خمسمائة دينار، وضاع مني جميع ذلك في الحج، فقلت في نفسي: إن رجعتُ إلى مصر تحبسني الناس على أموالهم. فتوجهت مع الحج الشامي حتى وصلت إلى حلب، وتوجهت من حلب إلى بغداد، ثم سألت عن شيخ السقائين ببغداد، فدلوني عليه، فدخلت وقرأت له الفاتحة، فسألني عن حالي، فحكيت له جميع ما جرى لي، فأخلى لي دكانًا وأعطاني قربة وعدة وسرحت على باب الله، وطفت في البلد، فأعطيت واحدًا الكوز ليشرب فقال لي: لم آكل شيئًا حتى أشرب عليه؛ لأنه عزمني بخيل في هذا اليوم، وجاءني بقلتين بين يديه، فقلت له: يابن الخسيس، هل أطعمتني شيئًا حتى تسقيني عليه؟ فرح يا سقَّاء حتى آكل شيئًا، وبعد ذلك اسقني. فجئت للثاني فقال: الله يرزقك. فصرتُ على هذا الحال إلى وقت الظهر، ولم يعطني أحدٌ شيئًا، فقلت: يا ليتني ما جئت إلى بغداد. وإذا أنا بناس يُسرِعون في الجري فتبعتهم، فرأيت موكبًا عظيمًا منجرًّا اثنين اثنين، وكلهم بالطوقي والشدود والبرانس واللبد والبولاد، فقلت لواحد: هذا موكب مَن؟ فقال: موكب المقدم أحمد الدنف. فقلت له: أي شيء رُتْبَته؟ فقال: مقدم الديوان ومقدم بغداد، وعليه درك البر، وله على الخليفة في كل شهر ألف دينار، ولكل واحد من أتباعه مائة دينار، حسن شومان له مثله ألف دينار، وهم نازلون من الديوان إلى قاعتهم.

وإذا بأحمد الدنف رآني، فقال: تعالَ اسقني. فملأت الكوز وأعطيته إياه، فخضَّه وكبَّه، وثاني مرة كذلك، وثالث مرة شرب رشفة مثلك، وقال لي: يا سقاء، من أين أنت؟ فقلت له: من مصر. فقال: حيَّا الله مصر وأهلها، وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ فحكيت له قصتي، وأفهمته أني مديون وهربان من الدين والعيلة، فقال: مرحبًا بك. ثم أعطاني خمسة دنانير، وقال لأتباعه: اقصدوا وجه الله وأحسنوا إليه. فأعطاني كل واحد دينارًا، وقال لي: يا شيخ، ما دمتَ في بغداد لك علينا ذلك كلما أسقيتَنا. فصرت أتردَّد عليهم وصار يأتيني الخير من الناس، ثم بعد أيام أحصيت الذي اكتسبته منهم؛ فوجدته ألف دينار، فقلت في نفسي: صار رواحك إلى البلاد أصوب. فرحت له القاعة، وقبَّلْتُ يديه، فقال: أي شيء تطلب؟ فقلت له: أريد السفر. وأنشدته هذين البيتين:

إِقَامَاتُ الْغَرِيبِ بِكُلِّ أَرْضٍ
كَبُنْيَانِ الْقُصُورِ عَلَى الرِّيَاحِ
هُبُوبُ الرِّيحِ يَهْدُمُ مَا بَنَاهُ
لَقَدْ عَزَمَ الْغَرِيبُ عَلَى الرَّوَاحِ

وقلت له: إن القافلة متوجِّهة إلى مصر، ومرادي أن أروح إلى عيالي. فأعطاني بغلة ومائة دينار، وقال: غرضنا أن نرسل معك أمانة يا شيخ، فهل أنت تعرف أهل مصر؟ فقلت له: نعم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤