ولَمَّا كَبِرتُ

بَلَوْتُ الْحَيَاةَ فَمَا مِنْ أَنِيسٍ
يُؤَاسِي هُمُومِي وَمَا مِنْ صَدِيقِ
تَقُولُ لِيَ انْهَضْ وَإِمَّا رَأَتْنِي
مُجِدًّا تَقِفْ عَثْرَةً فِي طَرِيقِي
فَيَا رَبِّ أَطْفِئْ سِرَاجَ شُعُورِي
لِأُصْبِحَ ذَا بَصَرٍ مُسْتَفِيقِ
وَأَخْرِسْ بِصَدْرِي الشَّبَابَ فَإِنِّي
أَوَدُّ اسْتِمَاعَ فُؤَادِي الْحَقِيقِي

•••

لَقَدْ طَالَ عَهْدِيَ بِالظُّلُمَاتِ
وَلَمْ أَسْتَنِرْ بِسِوَى الظُّلُمَاتْ
كَأَنَّ الدُّجَى مَشْعَلٌ فِي فُؤَادِي
تُزَيِّنُهُ بِالشَّقَاءِ الْحَيَاةْ
فَمَا الزَّهَرَاتُ أَمَامَ عُيُونِي
سِوَى ذِكْرَيَاتِ الْهَوَى الْمَاضِيَاتْ
تَمُرُّ بِمَشْهَدِهَا الْمُسْتَحَبِّ
وَتَذْبُلُ كَالْأَزْهُرِ الذَّابِلَاتْ

•••

أُقَضِّي لَيَالِيَّ فِي مِخْدَعٍ
بَكَى وَالِدِي حَظَّهُ فِيهِ قَبْلِي
فَكَمْ زَارَنِي فِيهِ مِنْ زَائِرٍ
وَأَبْصَرَنِي بِالدُّمُوعِ أُصَلِّي
نَشَأْتُ تَشُفُّ بِيَ الْحَسَرَاتُ
فَتُضْوِي فُؤَادِي الْكَئِيبَ وَتُبْلِي
تَمَرَّدَ كُلُّ غَرِيبٍ عَلَيَّ
وَلَمَّا كَبِرْتُ تَمَرَّدَ أَهْلِي

•••

أَرَى اللَّيْلَ يَفْتَحُ إِيوَانَهُ
لِيَسْتَقْبِلَ الْأَجْفُنَ النَّائِمَةْ
وَنَفْسِيَ هَائِمَةٌ فِي فَضَاءٍ
تَخَوَّفَ مِنْ نَفْسِيَ الْهَائِمَةْ
فَيَا مَنْ لَهُ الْأَعْيُنُ الْبَاسِمَاتُ
أَنِرْنِي بِأَعْيُنِكَ الْبَاسِمَةْ
تَعَالَ وَأَغْمِضْ ذُبُولَ جُفُونِي
بِأَنْمُلِكَ الْبَضَّةِ النَّاعِمَةْ

•••

تَعَالَ إِلَيَّ فَقَدْ سَكَتَ الطَّيْـ
ـرُ وَاللَّيْلُ مُنْسَدِلٌ فَوْقَ عُشِّهْ
وَقَدْ نَامَ فَلَّاحُ تِلْكَ الْحُقُولِ
وَفِي جَنْبِهِ مَا جَنَاهُ بِرَفْشِهْ
فَكَمْ مَلَكٍ أَيُّهَا اللَّيْلُ يَبْكِي
أَمَامَ جَلَالِكَ فُقْدَانَ عَرْشِهْ
وَكَمْ بَائِسٍ ظَلَمَتْهُ الْحَيَاةُ
يَخَالُ سَوَادَكَ ظُلْمَةَ نَعْشِهْ

•••

تَعَالَ وَأَنْشِدْ عَلَى مَسْمَعِي
أَغَانِي الْهَوَى بِلُغَاتِ الْخُلُودْ
وَخُذْ ذِكْرَيَاتِي إِلَى عَالَمٍ
يَطِيبُ لِرُوحِي فِيهِ السُّجُودْ
فَهَذِي الْحَيَاةُ ثُمَالَةُ كَأْسٍ
سَقَاهَا رَجِيمُ الرَّدَى لِلْوُجُودْ
فَدَعْنِي أُنِلْهَا بَقَايَا جَمَادِي
لِتَمْتَصَّهَا حَشَرَاتُ اللُّحُودْ

•••

تَعَالَ فَإِنَّ دَقَائِقَ عُمْرِي
تَمُرُّ عَلَى مُهْجَتِي رَاحِلَةْ
وَقَدْ حَمَلَتْ لِيَدِ اللَّانِهَا
يَةِ اكْيَاسَ آمَالِيَ الزَّائِلَةْ
غَدًا إِنْ رَأَيْتَ خَيَالَ الْحِمَامِ
يَمُرُّ عَلَى وَجْنَتِي النَّاحِلَةْ
تَعَالَ وَضَعْ قُبُلَاتِ الْوَفَاءِ
عَلَى شَفَةِ الْمَائِتِ الذَّابِلَةْ

•••

وَفِي الْغَدِ حِينَ تَمُرُّ السُّنُونُ
حَيَارَى عَلَى خَدِّكِ النَّاعِمِ
وَتَنْزِعُ عَنْهُ سَنَاءَ الْجَمَالِ
وَيَبْقَى سَنَا رُوحِكَ الدَّائِمِ
سَتَذْكُرُنِي مُلْقِيًا هَامَتِي
بِعَطْفٍ عَلَى صَدْرِكَ النَّائِمِ
وَأُسْمِعُكَ الشِّعْرَ عَذْبًا طَرِيَّا
كَسِحْرٍ بِمِرْشَفِكَ الْبَاسِمِ

•••

فَيَا مَنْ ظَهَرْتَ لِرَيِّقِ قَلْبِـ
ـيَ فِي عَالَمٍ مُقْفِرٍ مُنْتِنِ
وَأَشْعَلْتَ فِي لَيْلِيَ الْمُكْفَهِرِّ
مَشَاعِلَ حُبِّكَ فِي أَعْيُنِي
وَقُلْتَ لِقَلْبِيَ كُنْ عَاشِقًا
فَكَانَ وَفَاضَ مِنَ الْأَجْفُنِ
تَعَالَ إِلَيَّ وَلَامِسْ فُؤَادِي
وَلَا تَخْشَ مِنْ جُرْحِيَ الْمُزْمِنِ
في ٨ آب سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤