المبرات السلطانية

ماذا أقول: فلو أنه كان لي قلم صيغ من سحر البيان لوقف عاجزًا عن أن يوفي عظمة مولانا السلطان حقه من الشكران، وإنما التاريخ قائل الخبر وحافظ الأثر لا يعرف لإنسان في الوجود حسنة ضاعت عليه، وقد ادّخر أكرم منازله لمن ينادي بلسانه ويده أن الإنسان للإنسان وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.

فقد فاضت سحب مكارم عظمته، على أبناء أمته، وأحيا عهد الكرم بإجزاله العطايا والنعم، وتنافس في المغانم، وسارع إلى المكارم، فأقام له في البلاد صرحًا من الفخر، وحصنًا من طيب الأحدوثة والذكر، وتحدثت بفضل عظمته الركبان، وجرى ذكر مفاخره على كل شفة ولسان، حتى غدا ينشد كل إنسان:

يا لسان الزمان لفظًا ومعنى
وربيع الأنام كفًّا ومغنى
تعتلي كوكبًا وتشرق شمسًا
وتحامي ليثًا وتنهل مزنا

سار مولانا السلطان في الرعية، سيرة طاهرة ذكية، فأعلى منار العدل، وأحيا عهد الفضائل والنبل، قال الله عز وجل: الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.

ولقد اغتبطت الرعية بسلطانها العادل، وغدت تنشد قول الشاعر القائل:

ألقت مقاليدها الدنيا إلى ملك
ما زال وقفًا عليه الجود والكرم

فاللهم أيده بالنصر في دوام نعمته، وأحط الرعية بطول مدته، اللهم شد أزره، وأطل عمره، واجعل أيامه أيام سعد وصفاء ورغد ورخاء، وصنه بملائكة السلام واحفظه مع الأنجال الكرام ما تعاقبت الأيام والأعوام.

إن الهبات الوافرات التي جادت بها المكارم السلطانية كثيرة وافرة، وإنني أسرد ما وصلت إليه معرفتي مما أذاعته الصحف، وهو نذر يسير من تلك الهبات الوافرات، ولكن القليل يدل على الكثير، فأقول:

وهب عظمة مولانا السلطان الأعظم خمس مئة جنيه للجمعية الخيرية الإسلامية، وتفضل جزاه الله خيرًا بخمس مئة جنيه سنويًّا للجمعية المشار إليها أيضًا، ثم تكرم فوهبها جانبًا من ريع وقف الشيخ صالح من الأوقاف السلطانية الخصوصية يكفي النفقات اللازمة لإنشاء مدرسة لتعليم البنات الفقيرات تسَع ثلاث مئة بنت.

أما مدرسة الصبيان التي ينفق عليها من ريع وقف الشيخ صالح وتديرها نظارة الوقف المذكور، فقد استصوب عظمته أن تضاف إدارتها وإدارة الريع الذي ينفق عليها إلى الجمعية الخيرية الإسلامية أيضًا.

ألف جنيه إعانة لطلبة العلم الشريف

يسهر عظمة مولانا السلطان بعين لا تنام على مصلحة رعيته ورفاهها ولا يجد راحة إلا في راحتها، ولما رأى أعزه الله أن وطأة الأزمة المالية قد ثقلت على أصناف الرعية، وخصوصًا على طلبة العلم الشريف وخدمته، صدرت إرادته السنية إلى الخاصة الخديوية بصرف ألف جنيه من الجيب الخاص إلى وزارة الأوقاف هبة من عظمته توزعها على طلبة الأزهر الشريف الذين اشتدت بهم الحاجة إلى المساعدة في هذه الأيام الصعبة. فجاءت هذه المبرة السلطانية دليلًا قاطعًا على ميل عظمته إلى رفع منار العلم الشريف وإعانة خدمته. فأهل العلم عمومًا وطلبة الأزهر الشريف خصوصًا يدعون إلى الله سبحانه وتعالى أن يجزل ثواب عظمته ويرعاه بعين عنايته ويطيل عمره ليكون ملجأ لأمته وذخرًا لرعيته.

ولقد جادت قريحة حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ علي حسين المفتي المنياوي الطالب بالأزهر الشريف فنظم قصيدة عبر بها عن عواطف الأزهريين نحو عظمة مولانا السلطان وشكرهم له على ما أغدق عليهم من نعمة وما شملهم به من كرم، وها هي:

النيل يجري من نداك

ادع المعالي أنهن إماء
ومر الزمان بما ترى وتشاء
وارج الذي ترجو فجوك صاعد
والله عونك والنفوس فداء
يا أيها الملك الذي لجلاله
تعنو القلوب وتخضع العظماء
النيل يجري من نداك فترتوي
منه البلاد وتكثر النعماء
في عصرك الزاهي المعارف أشرفت
وبدا لها في المشرقين ضياء
للأزهر النعمى منحت وعاجز
عن شكرها الطلاب والعلماء
حياك منبره الذي من فوقه
ندعو ومنا يستجاب دعاء
خففت همّ البائسين وهكذا
جود الكرام وهكذا الرحماء
عدل ومرحمة وحلم زانه
جود وقلب طاهر وذكاء
من كان مثلك في الملوك فإنه
ملك سعيد قومه سعداء
خذ من قلوب المخلصين وعطفهم
حرسًا فإن قلوبنا أمناء
عش يا ابن إسماعيل للملك الذي
بالعدل منك له سنًا وبقاء

تعطف مولانا السلطان المعظم على عمد البنوان وطنباره وجبارس وأهلها المستأجرين للأطيان التابعة للدائرة الخاصة السلطانية بتلك الجهات، فاقتضت مراحمه السنية إعفاءهم من جميع ما عليهم من المتأخر إلى آخر العام الماضي وخصم عشرة في المئة من مجموع إيجارات السنة الحالية، فبلغ مقدار ما أعفوا منه خمسة وعشرين ألفًا من الجنيهات المصرية.

•••

تفضل عظمة مولانا السلطان فأمر بأن تتجاوز الأوقاف السلطانية الخصوصية لمستأجري أطيانها عن ١٠ في المئة من قيمة الإيجار سنة ١٩١٤، وأن تخفض قيمة الإيجار لهم ١٠ في المئة أيضًا سنة ١٩١٥ وتقسط المتأخر عليهم أقساطًا يسهل دفعها، فانطلقت ألسنة المستأجرين بالشكر لعظمته على رفقه بهم وشفقته عليهم والدعاء إلى الله أن يطيل عمره ويجزل ثوابه.

لما تشرف مجلس الإدارة لجمعية تحسين حال العميان بالمثول بين يدي الحضرة السلطانية قدم صاحب العطوفة حسين رشدي باشا الرئيس الأعضاء الحاضرين إلى عظمته، فاستعلم مولانا السلطان عن غرض الجمعية وأحوالها الحاضرة، فأجاب صاحب السعادة علوي باشا أن غرض الجمعية تحسين حال العميان بتهذيبهم وتعليمهم صناعات يدوية يرتزقون منها فلا يكونون عالة على الأمة، والتمس رعاية عظمته السامية لها فتعطف مولانا السلطان وشكر لحضرات الأعضاء عنايتهم بهذه الفئة البائسة ووعد أن يرمقها بنظره السامي ويساعدها أدبيًّا وماديًّا من الجيب السلطاني ومن خزينة وزارة الأوقاف باشتراك عطوفة رئيس وزارته رئيس الجمعية، فخرج الأعضاء من الحضرة وهم يدعون لعظمته بالعز والتأييد.

•••

ولما تشرف مجلس إدارة جمعية الإسعاف الخيرية بمقابلة عظمته وتناول الطعام على مائدته. وبعد خروجهم أمرت عظمته بنفح هذه الجمعية النافعة التي نالت عنايته قبل اليوم بمبلغ مئتي جنيه من الخاصة السلطانية، فقابل مجلس الإدارة هذه الهبة بالدعاء لعظمته.

•••

وعلى أثر زيارة عظمته للجرحى الإنكليز والعثمانيين تكرم عظمته وأهدى لجرحى الجنود البريطانية والهندية في القلعة والعثمانية في قصر العيني ثمانية آلاف سيجارة من أفخر سجاير جناكليس في علب صغيرة، ومقدارًا كبيرًا من أطيب أنواع الحلوى والملبس في سلال صغيرة زينت بأنواع الشريط الغالي بعناية صاحبة العظمة السلطانة وصاحبات الدولة الأميرات كريمات عظمته. فسلمت الهدية إلى رئيس المستشفى العسكري في القلعة وإلى جناب الدكتور كيتنج في قصر العيني فتلقياها بمزيد الشكر والامتنان.

•••

تفضلت حضرة صاحبة العظمة والعصمة السلطانة فشملت برعايتها اللجنة المؤلفة من العقيلات المصريات والإنكليزيات لإعانة الأسرى العثمانيين، وجمع المال لهم بالاكتتاب من المتبرعين المحسنين، وقد تبرعت عظمتها أجزل الله لها الأجر والثواب بمئتين وخمسين جنيهًا من مالها لتصرف في هذا السبيل.

•••

ثم إن عظمته فاضت مكارمها على خدمة المساجد بهبات أنطقتهم بالشكران والدعاء بطول بقاء عظمته، فإنه تبرع أيده الله لخدمة مسجد سيدنا الحسين بمبلغ ٣٠ جنيهًا، و٢٠ جنيهًا لخدمة مسجد السيدة نفيسة، و٣٠ جنيهًا لخدمة مسجد الرفاعي، و٢٠ جنيهًا لخدمة مسجد عابدين، ولخدمة المساجد الأخرى التي أدى عظمته فيها صلاة الجمعة مما لم يسبق له نظير فيما مضى من الزمان. وأما هبات عظمته لأهل العلم فإني سأذكرها في الفصل الذي خصصته لزيارة مولانا السلطان لمعاهد العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤