ضيف غير مرغوب فيه

شقة واسعة، واااسعة، حجراتها عديدة. الأثاث غربي، فيه تجريد وحداثة مما يشي بغلو ثمنه. لكن سيطرت إضاءة صفراء على كل شيء؛ الجدران، والأرضيات، وربما الهواء. صادفت صديقي، راقدًا على شيزلونج فارهٍ، وهنأته بكل ذلك. لكنه لم يكترث كثيرًا، مُطلقًا تركيزه في شاشة هاتفه المحمول. شدت انتباهي ملابسه الفاخرة. سامر لم يتعوَّد ارتداء ملابس من سوق الكانتو، لكن هذا أفخم كثيرًا من الملابس التي ألفته بها في المرحلة الثانوية، والجامعية، وما بعدها. قابلت بروده ببرود، وطفقت أتجول في الشقة. إن كل حجرة مفتوحة على حجرة أخرى تشبهها. لا توجد أبواب، وإنما قواطع جدارية غير عريضة. هناك صمت مستفز، ووحشة تكاد تنطحك. الأثاث الفاخر له تكوينات مثل قطط نائمة في شبع، أو سكران مُلقًى أرضًا. أتمشى بلا توقف، مصادفًا جمال، وهيثم، وأبو المجد. كانوا يتكلمون، أو يأكلون، ولا أحد يحييني أو يلتفت إليَّ أصلًا. دخلت حجرات قادتني إلى حجرات، حتى كدت أتأكد أني في بيت جحا حديث! أين ذهب سامر؟ إني لم أقابله منذ ١٥ عامًا. من يوم تقابلنا مصادفةً في المترو بعد خصامنا، كي يؤكد هذا الخصام ولا يسعى لهدمه. ثم ما الذي جاء بي إلى هنا؟ وما هذا المكان؟! أهو بيته؟ لا، إن بيته — هو وعائلته — كان في السيدة زينب، أمام المسجد. كم اجتمعنا هناك، وحوَّلنا حجرته إلى سيرك، وسايبر، وسينما، ومسرح، ومقهًى، وحديقة، وملاهٍ، وحضانة أطفال أشقياء. في أحيان، كنت أجلس غريبًا وسَط أصدقائه، جمال وهيثم وأبو المجد، ربما لأني أتحدث بكلمات غليظة عليهم، أو أحكي ما لا يهتمون به. لكن سامر كان يحب هذا — عينه — فيَّ. كنا نلتقي في هذه الجدية. يشاهد الكل على الكومبيوتر الفيلم الذي لم ينزل مصر بعدُ، في سابقة تعد من المعجزات بنهاية التسعينيات، لكن أنا وهو فقط من يجلس بعدها لمناقشة إيجابيات وسلبيات العمل بموضوعية وهدوء. يبتعد الكل عن القراءة، لكن أنا وهو نتبادل المسرحيات، والروايات، ونتبادل آراءنا فيها لاحقًا. حتى الأغاني، تبادلنا شرائطها للاستماع والاستمتاع والجدل. لن أنسى خبله حينما قدته إلى القسم الموسيقي في مكتبة مبارك العامة، ولقي هناك أشعار فريق الروك الأمريكي الذي يعتنقه. يااااه، في هذه اللحظة، حقَّق حلمًا كان يراه من ضروب المستحيل. ولن أنسى كيف حين دعوته لحضور معرِض فن تشكيلي بقصر الفنون، أن فتح لي — بجرأته المعهودة — بابًا كنت دائمًا ما أظنه مغلقًا، لأفاجأ بقاعة كبرى تمتلئ بلوحات باهرة. يومها كنت كمن فُتحت أمامه مغارة علي بابا، وأتذكر مقولته لي: «إنت وشك احمَرَّ م المفاجأة.» انشقت المودة لما ذهبت لدراسة الفن بعد الجامعة، ثم انخرط هو في أعماله التجارية. أتذكر جيدًا — كمن يتذكر جرحًا قديمًا — ذهوله من شراسة السوق، وهمجية قوانينه. لما تردت لقاءاتنا إلى هاتفية، كنت أحدثه عن فيلم مجري قديم، كالشِّعر المرئي، لا حوار فيه، يستعرض الحب مع فصول السنة الأربعة. فيرد عليَّ — كأنه لم يسمعني — بحكايات عن غريمه التجاري الألد، الذي يسرق مخازن منافسيه، أو يحرقها، والآخر الذي يلفِّق لهم فضائح جنسية، أو قضايا مخدرات. سامر كان بريئًا، مثلي. لكنه مع الوقت لم يعد يجد نفسه فيَّ. كنت أذكِّره ببراءة يكرهها، ويسعى لنفيها، أو إعدامها. اختار أن يعبر طريقًا يحوِّله لشخص آخر كي يحتمل كل هذه القذارة، ثم يتدرَّب عليها حتى يتعامل بها. الطريق إلى «الجانب المظلم» كما يقولون في أفلام حرب النجوم التي لم يستسغها. وكنت أنا المطب الذي يكسر الأعناق؛ مرةً لشاعريتي العُضال، ومرةً لمثاليتي الثرثارة. بعد ذلك، لا شيء. عدم. ليل بلا قمر، أو نجوم، أو سماء. كل الأزهار الملونة بلعها خفاش هائل سرعان ما لفَّ وجهي، وأسر عينيَّ، ممتصًّا دمي. حدث فراق. هو أخطأ، كذلك أنا. لكنه — على عكسي — لم يعرف الاعتذار. العلاقة التي يكون احترام المشاعر فيها من طرف واحد، علاقة فاشلة، مقيتة. واستمرارها ذبح متواصل لذلك الطرف نفسه. شممت رائحة مقلب زبالة. ثم مع الأيام، تعملقت الزبالة لتصير وحشًا ضاريًا هبَّ مكشرًا عن أنيابه في زئير مرعب. لذلك رحلتُ. كان الأفضل لي … وله أيضًا. «له» لأن الملل قاتل. وفي عالم الملل القاتل، كنت رئيس الولايات المتحدة المملة، أكبر وأخطر قوة ضاربة. سامحني يا سامر. كان عندك حق تمل مني. حاولت الرجوع كي أستغل تواجدي معه، ونتحادث مجددًا، لكني فهمت أن انصرافه للموبايل في وجودي لم يكن مصادفةً. كما أني تهت داخل منزله هذا. نفرت من وِقفة بلا معنًى، فمددت يدي من خارج الكادر، منتشلًا نفسي من هذا الكابوس المتنكر كحلم عادي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤