الصوت المتحدث من الثلاجة

صرت شاحبًا مثل دراكيولا، وأنام مثله. أبقى عاملًا طَوال الليل، ثم أستسلم لنوم يلتهم النهار من العاشرة صباحًا حتى الثامنة مساءً. نوم مؤلم يقارب الجحيم عذابًا. أناس يتحدثون في أُذُني بلا كلل، كل أصواتهم تنويعات على صوتي. ينقرون رأسي كنقار خشب مجنون. أظن أنهم يكتبون قصصًا للصغار، والكبار، ومقالات، وروايات، ثم يعدِّلون عليها، جملةً جملة. نومي صار مصنعًا لإزعاج غزير وصلب. أكاد أبكي، لكن جفاف عيني يحرمني من هذا الترف. أرى وجهي في المرآة؛ بعيون منتفخة، تخنقها هالات سوداء. أف. أشعر بانسداد في أنفي، وخشونة في حلقي. حسنًا، إنها فعلة المروحة الدائرة عليَّ طَوال اليقظة وطَوال العذاب/النوم سابقًا. أُسرع لتناول ملعقة عسل أبيض، لعلها تحارب هذه الإنفلوانزا قبل استفحالها. أفتح الكومبيوتر كالمحكوم عليه بأداء ذلك إلى ما لا نهاية، ومعه أفتح التليفزيون. لا أدري لماذا أفعل ذلك؟ ربما آلية اعتراضية في عقلي تحاول تعطيلي عما أريد فعله، ولا أفعل غيره، وهو الكتابة. لا أجد ردًّا على رسائلي الإلكترونية. لا أحد لديه الوقت للرد. القنوات الأرضية تذيع نفس الفيلم للمرة المليار. فيلم كوميدي نهايته ميلودرامية. نحن الأغبياء الوحيدون في العالم الذين نفعل ذلك. نضحك، ونضحك، ونضحك، ثم نتفنن في وضع نهاية مأساوية لكل هذا الضحك في النهاية. في الخارج، حيث العقول أرقى، والنظام حاكم، يفعلونها بشكل متناغم، فيبتكرون الكوميديا السوداء، إنما هنا … الحياة سوداء، غير متناغمة. لماذا أفكر في كل شيء؟ أنا مؤسس مصنع الإزعاج، ومديره، ومستهلكه الأعظم!

أعاني هذه الأيام. شيء غير منضبط بي، على الرغم من التزامي بالصلاة مؤخرًا. مثلًا، أحاول الخروج من روتيني الأبدي؛ فأبحث عن ألعاب للتسلية على الإنترنت. وجدت لعبةً اسمها «المُدافِع عن النجم». معركة طائرة مع وحوش فضائية تمتلك أسلحةً متقدمةً بلا حصر. هؤلاء اليابانيون مبدعون عباقرة. فماذا حدث؟ ما حدث أني بقيت ألعب، وألعب، لسبع ساعات متواصلة، حتى تخشَّبت يدي — لأول مرة في حياتي — على فأرة الكومبيوتر. وانعدم الدم في عروق ذراعي. وصارت وحوش اللعبة يطاردونني في كل بقعة. لقد احتلوا تفكيري، وصاروا يضربونني كلما أغلقت عينيَّ ولو لثانية. أي أني حاولت تهدئة أعصابي بما أرهقها! حذفت اللعبة من الكومبيوتر. فإن لها إغواءً شهوانيًّا لا أريده أن يدنِّس وقتي. حينما تضيع ٧ ساعات يوميًّا، مع أعصابي، فإن ذلك ضرر يرفضه مجلس إدارة عقلي بالإجماع. ما أسوأ الجمال إن ضرَّ، إنه هكذا ينقلب إلى قبح، وأنا لا أطيق القبح.

لاحظت مؤخرًا ميلي إلى التهام الطعام على نحو مفجع. نعم، كنت رشيقًا، ألعب الحديد، ولا يستغرق وقت أكلي إلا أقصر مدة وَسَط زملاء الجامعة، وأهل بيتي، رحمهم الله جميعًا. ثم بعدها، صرت أنتقم من الحياة أكلًا. وأعي بوضوح أني أشبع مرتين، أو ثلاثًا، في الوجبة الواحدة؛ حتى امتد كرشي، وترهل جسدي، وإن كنت أحتفظ بالصورة الذهنية لي رشيقًا طيلة الوقت. وقبيل مطالعة صورتي في أي مرآة، أو سطح عاكس، تلتصق بذهني صورتي أيام كنت جميل النحافة. العجيب أن ذلك لم يأتِ لي بالفتيات أبدًا! على أي حال، ما يحدث هذه الأيام لم أمرَّ به من قبل. لقد صرت وحشًا؛ ألتهم الطعام بلا توقف. لم تعد هناك نقطة شبع واضحة، قريبة أو بعيدة. مرةً تماديت في الغيِّ، وانزلقت لفوهة بلا قاع، لينفتح فمي ملتهمًا كل شيء دون توقف. لحظتها خفت أن ألتهم مفرش المائدة، والجريدة أسفل الأطباق، والأطباق نفسها! في اللحظة اللاحقة، أشفقت على روحي، وكدت أبكي. لكن مجددًا، البكاء صار صديقًا لا يزورني مطلقًا.

في الليل، أشعر بنوبات جوع تثور مثل ديناصور في فيلم أمريكي، يريد حشو بطنه، وإخماد شراسة جوعه بشراسة شبع. انطلقت إلى الثلاجة. جبنة رومي، جبنة بيضاء، طماطم، فلفل حار يدب الدم في رأسي بعنفوان أحبه، بيضة مسلوقة قديمة، بقايا حلة محشي الأمس وصينية بطاطس اليوم، يكفي هذا. حين إرجاع الباقي للثلاجة، نما إلى مسامعي صوت دقات من الرف العلوي؛ دقات متوازنة لها إيقاع واحد لا يتغير. خمنت أنه الطبق الألومنيوم العجوز، الذي كان في جهاز أمي. طبق قاعه نصف كروي، يحب المرجحة خاصةً إذا ما وجد نفسه على سطح مستوٍ، ويبدو أن اهتزاز الأرفف البلاستيكية منحه هذه المتعة. لكني لاحظت بعد شيء من التدقيق، أن الطبق ليس في الرف الأخير، ولا في الثلاجة كلها. من أين يصدر هذا الصوت إذن؟! ليس من خلفية الثلاجة. أنا متعوِّد على زعلها، ومرضها، وأحفظ أصواتهما. هذا الصوت لا ينتمي لهذا أو لذاك، فما سببه؟ وسَط تحيري سكن الصوت، لأزداد حيرةً! هل أتخيل أمورًا لا وجود لها؟! تذكرت مرةً حينما كنت طفلًا، ولمحت فأرًا أسود ضخمًا يجري من أسفل أريكة الصالة، إلى أسفل الثلاجة المجاورة لها. وكيف تجمدت واقفًا لِمَا لم أحسب وقته. وكيف — أيضًا — أقنعت نفسي أن ما شاهدتُه كان وهمًا، إلى أن شاهدته ثانيةً يهرب من تحت كرسي الشرفة إلى سورها. حسنًا، هذه المرة لن أقع في هذا الخطأ؛ ما أسمعه واقع لا مراء فيه، وسأكتشف هذا الصوت عاجلًا … أو … هه؟ ثانيةً واحدةً. ثمة صوت غريب نطق الآن «آجلًا» بدلًا مني! لا يوجد داخل جدران شقتي الخرساء غيري. أنا لست مريضًا وأتصور ما لا وجود له. وعيي يقظ جدًّا، ومخي حامٍ دائمًا. إنها المشكلة الكبرى التي أقاسيها عمري، ولم يفلح معها أي استرخاء مسكين. لقد جرَّبت فتح فيديوهات اليوتيوب التي تحمل ساعات من صوت خرير الماء، وأمواج البحر، وانهمار المطر؛ لكن لم يفلح معي أي منها. لطالما كنت أقتل استرخائي بأسئلة حول الناس الذين يمشون تحت هذا المطر، وأين تم تسجيل ذلك، ناهِيَك أن صوت الماء يثير عندي رغبة في التبول، وكيف يشعرني هدير البحر أن ثمة طوفانًا قادمًا سيبتلع البيت والعمارة والحي.

قطع تفكيري الرذيل هذا صوت لرجل يبلغني ألا أتفاجأ. كان في نبرته ابتسامة مرحة، ودعوة للاطمئنان والثقة. دعاني الصوت إلى الاستماع إليه دون ذعر، فهي تجربة علمية جديدة — لم أدرِ له أم لأحد يعرفه — تقوم على التواصل مع بعضنا عبر الثلاجات. انبهرت كمن شهد نافذته مكسورة الشيش تتحول إلى غادة حسناء، أو جدرانه الكالحة تتحول إلى أشجار ناضرة، أو بلاط أرضيته الميت يتحول إلى رمال شاطئية رطبة، تقبِّلها أمواج حثيثة ثم تجري مبتعدةً، لتقترب مقبِّلةً إياها من جديد. كان كلامه مثيرًا، وعرضه مغريًا. اليوم الناس تتواصل في بيوتها بالبريد الإلكتروني والفيسبوك والواتس آب، وجميعها أكرهه بعنف. لكن هذه طريقة مبتكرة. استحليت الأمر كمكعب سكر من هذه المكعبات التي كنت أهنأ بأكلها طفلًا عند خالتي، حتى تصفني ﺑ «حرامي السكر». كم من السكر أكلت، يااااه. الآن لو فعلتها لعلا مستوى السكر في دمي، ورحت بلاش. يا أيها الصوت الغريب، من أنت؟!

جاوبني بأريحية، معرِّفًا نفسه. إنه «محفوظ»، رجل من عائلة ميسورة الحال، وَرِثَ أرضًا زراعيةً شاسعةً، يتغذى من إيجارها المنتفخ سنويًّا. لم يحتج للعمل طيلة حياته، رغم تخرجه في كلية عليا. قدمت له نفسي، متذكِّرًا صفحات من ملخص السيرة الذاتية، الذي يسمونه — لا أعلم لماذا — CV، والذي أضيف له كل أسبوع سطرًا، خاصًّا بمقالة أو قصة صدرت لي. وحكيت له، كما لم أحكِ مع خطيبتي المزعومة، عما أحب وعما أكره. برامجي المفضلة وأفلامي المقدسة. في التجربة لطف تشعلقت فيه بجذل وإصرار. دق قلبي حنينًا. ذكَّرتني نبرة صوته بصديقي العزيز الذي اعتزلني. لم تكن تشبهها، لكنها أعادتني إلى مساحة أُلْفَة وصراحة جمعتنا معًا، ثم تاهت في نفق السنين ذي الاتجاه الواحد. شعاع البرودة الخارج من الثلاجة لطَّف المكان كتكييف رقيق. ورغم علمي جيدًا أن فتح الثلاجة لأكثر من اللازم يؤدي إلى مشاكل؛ من أول تسرب غاز الفريون إلى اتساع ثقب الأوزون، فإني لم أهتم. نقدت حذري مبلغًا، وأرسلته لشراء سجائر من المريخ، وذابت كل همومي في ابتسامة عانقت شفتيَّ من بعد فراق دام لشهور وشهور وشهور.

•••

صار أول ما يعطِّر وجودي فور القيام من النوم هو التواصل مع «محفوظ»، والاطمئنان عليه، وتبادل الحواديت معه، وسماع قفشاته التي تضحكني. الضحكات كانت حلوى شحيحةً جدًّا، لم أجدها في أي سوق منذ طفولتي تقريبًا. ثم جاء صاحب الصوت ومنحني إياها بغزارة. كيف عرف نوعية المفارقات اللفظية التي أعشقها؟ مثل دعائه على من يستهجن، من أول المسئولين إلى الفنانين: «الله يهديهم … ويهدُّهم» أو «ربنا يكرمهم … ويأخذهم»! أحببت صوته العميق الوقور الذي تمازجه أحيانًا حشرجة ما فتكسِبه بساطةً وطرافةً. ومع تحوُّل حديثه للتهريج يغلي إيقاعه، قاطعًا المسافة من البطء للسرعة في تتابع خاطف تفتنني جاذبيته. بهرني ذكاؤه في إلقاء الإفيه. حينما تسمعه تظنه شيخًا رصينًا يُلقي خطبة جمعة، ولكن ما يلبث أن يفاجئك بجملة راقصة السخرية، غنية الإضحاك. إنها مفارقة متقنة وفريدة، أجبرتني على الاشتياق إلى خفة دمه أكثر من أي نجم للهزل عرفته في الفن أو خارجه. وبدلًا من تناول عشائي أمام مسرحية كوميدية في التليفزيون، أو فيلم أكشن على الكومبيوتر، أو مسلسل كلاسيكي على اليوتيوب، أتيت بالمائدة البلاستيكية ذات العَجَل، ورسوت بها أمام الثلاجة، غير عابئ إن أطارت برودتها سخونة عشائي، المهم هو لقائي مع «محفوظ»، وارتوائي من سمره. كان رجلًا لذيذًا بحق، رغم كراهية أستاذي في الجامعة لاستخدام صفة «لذيذ» لأي شيء غير الطعام، أو الفاكهة، أو الحلوى، مؤمنًا بأن استخدامها مع البشر — مع الإفراط فيه — دليل تغلغل للمادية في العلاقات الإنسانية على نحو خطير ومرفوض. سحقًا لأستاذ الجامعة. كان باردًا، ثقيل الظل، بلا مذاق. من يحب هذه الشخصيات، أو يشتاق إليها؟! يحكي لي عن أساتذته، وكيف كانوا يعاكسون زميلاته، بتلميحات عابرة أو بتصريحات وقحة. أحب الإطالة في أي موضوع رائحته شهوانية، وإطلاق النكات الجنسية بغزارة، مع تعمد وصف الآخرين بعوارتهم، أو بشتائم تمسُّها. تذكرت خالتي العزيزة، وكيف كانت تستعمل عبارات مثل «كبير المؤخرة» لوصف ضيف ثقيل الحضور لا يريد المغادرة. هذا في أحيان نادرة كانت ترفضها رقابتي بالطبع. لكن هنا الأمر يختلف. تعبيراته كانت مسرحيةً وضيعة التجارية، منطلقة البذاءة، لا تنتهي. وأنا أمقت ذلك. تحوُّل رد فعلي مع الوقت من ابتسامة مجاملة، إلى ربع ابتسامة، إلى تجهم صرف. رأى ذلك كله في نبرة صوتي. وحينما يستمتع بما أكره، أستأذنه في غلق الثلاجة، لأن برودتها جثمت على صدري. هل يفهم ما أقصد؟ لا أظن؛ لأنه يعود إلى سلوكه — كما هو — في المرة التالية، ومن قبلها، أعود أنا إليه.

صوته مألوف جدًّا. أظل أفكر، وأتحرى؛ من في حياتي امتلك نبرةً كهذه؟! أحب تمضية الوقت في تذكر شيء نسيته. أظنها محاولةً للفخر بقدراتي الذهنية، أو الحفاظ عليها نشيطةً. مرةً بقيت ساعتين على فراشي، محاولًا تذكر اسم فيلم غنائي قديم. كنت أذكر كل ما فيه، عدا اسمه. لم يكن وقتها هناك إنترنت، ولا ساعتها شخص متيقظ يجيب عن تساؤلي، ولا بجواري كتاب يطفئ ناري. وبعد الساعتين، تذكرت اسمه: «السعد وعد»، وكان له عنوان فرعي يتبعه دومًا «محدش واخد منها حاجة». من قال إنه لا أحد ينال منها شيئًا؟! إنه الحب يا سادة. هذا إن كان حقيقيًّا. حب الإنسان لربه، ونفسه، وغيره. إنه العمل الصالح الذي يجعل للكفن جيوبًا تحمل ما سيشفع لنا في العالم الآخر. لكن يبدو أني أدركت هذا متأخرًا … بعد الأربعين. تعوَّدت في كل علاقة إنسانية أن آخذ فقط، أمتص خير الآخرين، أو الآخرين أنفسهم. لم أعتد أن أرد على الخير بمثله. زهق صديقي السابق مني، ومن عدم تقديري لحبه. يقرضني كتابًا، ولا أقرضه جريدةً. يعزمني على غداء، ولا أعزمه على بونبوني. يتصل بي في عيد، ولا أتصل به إلا لأحكيَ عن ضياع أعيادي. بِئْسَ الأفعال وساءَتْ مُرْتَفَقًا. لم يكن بخلًا، وإنما غباء فهمته بعد وفاة الأوان. لكن فلندع الماضي يذبل؛ لن أسقيه ولو بزيارة واحدة. يؤكد صاحب الصوت ذلك، ويقص لي حكاية فتاة عرفها، وأحبها، وهجرته، ثم إدراكه المتأخر أنه السبب. كان يتكلم أكثر مما يفعل. الحب عنده كلمة يهمسها برقة بالغة، لكن لا يبدِّلها في أي يوم أو ليلة إلى فعل. أمضى الوقت متلذذًا ببريق عينيها، ولمسة يديها. حاول أن يتلذذ بما هو أكثر من ذلك، لكنها لم تسمح له. الآن يحاول البحث عن مذاقها وَسَط تلال الفتيات اللائي يقضي معهن وقته. فلا يجد إلا سرابًا أكد لي أنه ينتظره، ويسعى وراءه بكل تصميم. ورغم إخباره لي أنه يضع روبًا صوفيًّا على كتفيه، فإنه اشتكى من «سقعة» ثلاجته، متعلِّلًا بذلك كي يُنهيَ الجلسة. بينما أحسست في صوته باختناق بعيد، يتنكر كصخرة صلدة.

اكتشفت مرةً أن تغييري للمبة الثلاجة بأخرى أقوى منها زاد من وضوح الصوت. ورغم ذلك لم أسمع أي أصوات مميزة حوله، كأنه يتحدث في غرفة مصمتة. ربما وصلتْ إليه زقزقة عصافير شارعي، أو جانب من موسيقى مذياعي، أو حتى خطوات الصاعدين والهابطين على سلم عمارتي من وراء باب الشقة؛ الذي يفصل بينه وبين الثلاجة متر واحد. الحق أني لم أخبره بمسألة اللمبة، ولم يخبرني هو ما إذا كان أحس باختلاف كما أحسست. مساحة الحذر بين الأصدقاء من جديد. وهي نفس المساحة التي فرضناها من البداية. فلا تبادل لأرقام الهواتف، أو معلومات عن مكان السكن، أو حتى وصف للشكل. ربما يكون هذا مطلب مثل مطالب ما يدعونها مواقع التواصل الاجتماعي، التي تدعوك لتسجيل معلومات معينة، قد يكذب أصحابها في أعمارهم، وجنسياتهم، بل جنسهم ذاته! في زمن آخر كان الضيق سيحوم حولي بخصوص مساحة الحذر هذه، ويدعوني لتجاوزها. لكن في زمننا العليل هذا، أُعجبت بهذه المطالب. ليس لما فيها من غموض قد يمنحك قدرةً على الكذب، أو متعةً في التخيل، وإنما لأنها تحتفظ لك بخصوصية، وبدون الصورة يرجع الكذب إلى أيام براءته، أيام كان الصدق لا يزال بصحته وسطوته، له وجود وأتباع، والهرب منه صعب أو غير مستحب.

أقلقتني مسألة انحلاله الأخلاقي. هذه الكلمة نفسها كانت تثير الضحك وَسَط زملاء الجامعة، مثل قنبلة تفجِّر الكل ضحكًا. لماذا رأى هؤلاء الجهلة الأغبياء أن اللغة العربية أمر يستحق الهزء؟ ليس ذنبي أنكم مشوهون. قدوتكم في الحياة سلطان السكري من مسرحية العيال كبرت. فاشل مسطول مبسوط دائمًا، يسخر من كل إنسان حتى نفسه، دون أي نية للانصلاح. أنتم النكتة وليس لغتي، لكنها نكتة محزنة للغاية. على أي حال، ذلك أحزنني بالأمس، ومن رحمة الله أن الأمس مضى. ما يحزنني اليوم هو علاقاته النسائية المتعددة؛ صديق الثلاجة يروي عن مغامراته مع نساء الليل والنهار بشكل يقزِّزني، بل يؤلمني. نعم، أعرف، جيدًا، جدًّا، أن لكل إنسان أخطاء، ولا أحد كامل، وأن الله هو الذي يحاسب … وإلى آخر محفوظات الحرية التي لا بد أن يلتزم بها الناضجون. لكن هذه خطايا وليست أخطاء. وأنا أحب «محفوظ». صرت أشتاق إليه، وأطمئن إلى حواره، وأحفظ كلامه، وأشعر بأشجانه. حينما نحب، يسكننا من نحب، ونسكنه. يصبح الخوف عليه واجبًا كالخوف على روحك تمامًا. والانزلاق في الخطيئة على إغوائه مخيف، يوسِّخ البيت بنجاسة هادمة. لا بركة في عيش نحصد به غضب الله. بالأحرى، لا عيش مع غضب الله، وإنما عمر أغلبه يابس، ثم موت نلاقي فيه أسوأ ما يمكن أن نصنعه؛ أبدية من العذاب. أعرف أن ترديد ما أقول أمام ٩٠٪ ممن أعرفهم سيؤدي، أو يُودِي، إلى رد فعل زملاء الجامعة إياه. لا أعلم لماذا صارت الجدية، أو لعلها الحقيقة، كوميديةً هكذا. ربما لأن عالم الجهل حاكم، وهواء الكذب ممتع، وسيقهرنا اليأس إذا ما حاولنا إصلاح كون من الفوضى، أو تشييد نظام وَسَط أطلال. إذن لا حل إلا في الحياة والتلذذ. أما رضا الرب … فشاق. سنستغفر في الوقت المناسب الذي لن يجيء أبدًا، وسنحاول إخراج نقود للغلابة أحيانًا، وترحمات ندمائنا علينا بعد موتنا ستتكفَّل بالباقي.

طاردتني فكرة مواجهته برأيي، لكن تجمد لساني في حلقي. فعلتها سابقًا وخسرت من أحب، وأنا لا أريد خسارته. إنه ما تبقى لي من كل هذا الزمان. إلى من سأتكلم، وأنصت إليه، بعد ذلك؟ سيقيِّدني الصمت، ويرميني في زنزانة غرفتي، ليجلدنيَ الشتاء الدائم. قلت حسنًا، سأرمي وَسَط حديثي النصيحة كنكتة، ولا مانع من إضفاء بعض السكر على نبرتي ساعتها. ولمَّا فعلت … صمت كأب شتمه ابنه. داس على صدري الخوف. لكن بعد لحظات، عبرتني مثل سنة، ضحك راميًا عبارات مثل: «هو انت جاي تربيني؟!» تنفست الصُّعَداء، رغم أني أكره هذا التعبير، واستأذنته في خطف طبق بامية طبختها، وتصادف أنها شهية، كي أعيد تسخينه، طالبًا منه انتظاري، ففعل مغنيًا: «أنا مالي … أنا في حالي … سيبوني في وحدتي ديا … أنام خالي … وأقوم خالي … ولا فرحة عزول فيا …» كانت أغنيةً عتيقةً لعبده السروجي، لا أدري لماذا تسلَّى بها في أثناء غيابي.

حين عودتي، وتغميس البامية خلال حوارنا، صدمني بجملة قالها … جملة نالت من كرامتي. كان يسخر من وحدتي، وكيف أنه — على عكسي — يلمس ويعتصر، يتشمم ويحتضن، يلثم ويضاجع. توقفت عن الأكل، حزينًا من كلمته أكثر من حزني على وحدتي. اشتبهت في مراهقة مقيتة دفعته أن يرد لي التدخل في تفاصيل حياته الشخصية، بتدخل في تفاصيل حياتي الشخصية. هناك قواعد سنَّها العرف بين الأصحاب. تكلم، وتدخَّل، لكن هناك أمورًا، وأفعالًا، وأماكن، لا يدخلها الحوار. ربما في علاقات ولحظات وشخصيات استثنائية. لكن في علاقاتي، وكل من عرفتهم، لا. معظم أبناء الطبقة المتوسطة لهم عادات وتقاليد قديمة لكن فعَّالة. أومن بها عن اقتناع، وأمارسها بحرص. هنا حدث تجاوز لما نسميه الخط الأحمر. دُفعت أول ما دُفعت بتقبل الآخر، ذلك الذي يكملك ولا يشبهك. لكني رفضت أن تكملَني هذه البذاءة، فهي لا تنتمي إليَّ. أغلقت باب الثلاجة مرةً واحدةً. وظَلِلْت واقفًا بشَفة مال طرفها لأسفل كأنما أثقلها قفل أوصدته. شعلة من سواد تتأجج في قلبي، وتخرج محتلةً المكان من حولي. أُهرَع لفعل أي شيء، أي شيء، إلا فتح الثلاجة مجددًا، وتركت طبق البامية على المنضدة وجبةً هانئةً لأي ذباب أو نمل.

•••

مرَّت أيام وأيام لا أحادثه فيها. حسنًا، كان ألمًا قاسيًا. لم أعلم أكان هو صاحبه، أم كرامتي، أم واقعي، أم ماذا بالضبط؟ تعجبت من كون كلمة «عذاب» قريبةً من كلمة «عذب». المسافة بين الحزن والسعادة تكون بحذف حرف. الحذف مفيد إذن. لمَّا سألوا روبرت دي نيرو، الممثل الأمريكي الكبير، ما نصيحتك لكل الشباب الذين يريدون العمل في مجال التمثيل، رد بثلاثة كلمات فقط Less is More، أو الأقل أفضل. التخلص من الدهون فيه كل المنافع للجسم. ترشيد التفكير طريق مضمون للراحة. فهل الدرس المستفاد، يا سيدي المتعقل الحكيم، أن أحذفه من حياتي؟ لقد فتحت الثلاجة مرارًا طيلة الفترة السابقة، ولم أحاول أن أدعوَه للحديث، أو حتى أوجِّه له التحية. مرةً حيَّاني، ولم أرد. ثم اختفى صوته بعدها. أنا لا أريد أن أفقده. تبًّا للكرامة. أين سمعت جملة «لا كرامة في الحب»؟ هل قالها أحد أمامي فعلًا، أم أن الجعان يحلم بسوق العيش؟ سأتفرغ لإنهاء المقالتين المطلوبتين، وليذهب الكون بأسره إلى الجحيم بعدها.

بلَّلَ وسادتي طرف من دموعي. وحين قمت من النوم، كنت سأفتح الثلاجة على نحو بديهي كي ألقي عليه التحية؛ لعله متيقظ، أو لم ينم من الأمس. لكني تنبَّهت محوِّلًا اتجاهي للحمام. وبينما كنت أغسل أسناني، ردَّدت اسم حبيبتي القديمة. كنت أستخدمه كتميمة حظ، أنطقه كي يبعد عني الأرواح الشريرة، والأفكار المُرهِقة، والذكريات السيئة تلك التي تطاردني بإخلاص الظل، وضراوة كلب مسعور. أحببت صوتي حينما يردِّد اسمها. يبث فيَّ اطمئنانًا أعجب له. إنه اطمئنان حقيقي، رغم يقيني أنها ليست هنا لتداويَ جروحي. لكنْ لاسمها مفعول سحري غامض …

دخلت على الفيسبوك، فتحت صفحتها، تطلعت إلى صورتها. الحمد لله أننا لم نتزوج. بعد ١٥ سنةً انقلب شكلها إلى إنسانة أخرى، يذوب الضمور في نضارتها، وينخر العجْز ابتسامتها. أقول لنفسي ربما لو دامت العلاقة لكنت أراها الآن أجمل البشر. لا أعرف. ولم أتعوَّد تخيل مصائر البشر خارج قصصي. انقلبت صورتها إلى نيجاتيف شبحي، ومللت من التسلل إلى صفحتها، سانًّا قانونًا يحظر فعل ذلك إلى يوم الممات. وبينما يجتاحني سكون مرعب، شفط الأصوات كلها من جسمي وشارعي وسمائي، قرَّرت — وبكاء عظيم يضطرم بين ضلوعي، مستعدًّا لإحالة عينيَّ إلى بركان — أن أفتح الثلاجة وأحكيَ له عن وحدتي. لعله يجبِّر روحي الكسيرة، ويجبر بخاطري الذليل.

استقبلني بترحاب اعتبرته أسفًا مُشبِعًا، ووقعت أرضًا، أحكي وأبكي … وهو يفسح لي المجال، كي أُخرج الأحجار التي أنتجها قلبي طيلة عشرين سنةً سابقةً. تخلصت من كل مساجيني. ذكرى ابنة عمتي التي أحببتها ولم تحبَّني. ذكرى ابنة الجيران الشقراء التي انتقلت إلى حيث لا أعلم. ذكرى زميلة العمل التي مزقني حبها، ورفضتني لأنها تريد الأغنى. وحبيبتي التي لم أنجح في الفوز بها، واتهمتني بالتقصير. من قال إني مُقصِّر أو متواكل أو أي شخص من هذا القبيل الأحمق؟! أنا إنسان عبقري. أعظم من قابلت. إذا أردت فعل شيء فلا بد أن أفعله على نحو صحيح، كامل الصحة أو يقارب ذلك. إذا أردت كتابة مقال عن السد العالي، أقرأ لمن يمجده، ومن يراه وبالًا، ثم أعلن وجهة نظري على وسادة حريرية وثيرة من العلم والمعرفة. إذا أردت أن أذكر جملةً لسعد زغلول في قصة، ينتهي بي الحال إلى قراءة كل كراسات مذكراته، ثم أكتب بعدها ذلك السطر الذي كنت أبحث عن إجادته. إذا أردت كتابة عمل يدور عن حرب أكتوبر، أبحث عن جميع روايات أدب الحرب، وكل ما كُتِب عن الحرب بأنواعها العسكرية والسياسية والنفسية، والجرائد والمجلات المتوافرة من تلك الفترة، لأقتنيَ وأقرأ وأحلِّل، وأصل إلى أفكار وألفاظ بل إيقاع المرحلة، ثم أكتب ذلك العمل، أو لا أكتبه. هذا أنا، وهذه هي شخصيتي. أرادت هي بيتًا، وأردت أنا أيضًا. لكن لا بد أن يكون كل شيء كما ينبغي. مشروع الزواج يحتاج إلى أساسيات، وكماليات، بل تأمينات للغد صمَّمتُ أن أحقِّقها على نحو كامل الصحة أو يقارب ذلك. لكن … إمكانياتي المادية وقفت عائقًا. عند تخطيطي للمشروع، وجدت عوائق ستمنع ذلك. تراجعت … أهملت الحلم … تركته يغيم … تتراكم عليه فضلات التجاهل. يا قوم، مبدئي واضح … إما أن أفعلها بشكل صحيح، أو لا أفعلها. واخترت الثانية. لم تفهم ذلك، فرحلت، ولا ألومها. أمسحها بأستيكة من على قلبي إن ارتسمت عليه في لحظة ما متمردة. هذه هي حكايتي. فلا تذلَّني بعاهراتك يا صديق الثلاجة الغامض. لست في حاجة لمن يهين رجولتي، أو يسبُّني بالنقصان. نعم، أنا وحيد، وقد أبقى هكذا. لكني لا أريد قضاء المسافة إلى القبر في قبر آخر من التقطيم. سأُغرِق شجوني في قصصي، وأنفي الوقت في مقالاتي، ولا أريد دموعًا عليَّ أو — لاحظ — ضحكات عليَّ، من أي أحد قريب أو بعيد.

طبطب عليَّ بصوت يعافر كآبته، واعتذر لي كمن يستغفر. بينما اعتقلني بكاء غزير، قهر كرامتي، ثم رفعها في شموخ من جديد.

•••

بعدها، تباعد حضوره أو حضوري. اهترأت العلاقة كالثوب الذي يقدُم. لم أتفاجأ؛ فهي سُنَّة العلاقات في عصرنا. صحيح أن علاقتنا كانت مختلفةً، لكن العصر الذي نعيشه واحد، وغالب. أنت ملعون بالعصر الذي تولد فيه، ولا يمكنك اختراقه للوراء لتعيش الماضي الأقل قبحًا.

تنهدت في ألم حار لمَّا عدت إلى تناول الفيتامين الذي كتبه لي الطبيب كي يوفِّر لي قدرًا من العمق في أثناء النوم. لم يكن بدواء ناجح كل النجاح، إلى جانب أنه — في الوقت ذاته — فاتح شهية؛ مما سيعيد فتح أبواب شهيتي على مصاريعها، لينطلق طوفان جوعي مجددًا، مكتسحًا الموائد، ومُدمِّرًا قوامي، ومُغرِقًا أملي في التحسن. علاقتي ﺑ «محفوظ» أبعدتني عن هذا الدواء. تزاوجَ حديثه مع معدتي فأنتج شبعًا من نوع غريب. لماذا خلقنا الله نتوق إلى وليف، ولماذا لم يجعلنا نسخةً قويةً من روبنسون كروزو؛ شخص قادر على قضاء حياته كلها فوق جزيرة يعمِّرها وحده دون أي إنسان معه؟! أجبت هذه الأسئلة مئات المرات في قصص كتبتها للأطفال، ولا زلت — رغم ذلك — أسألها في عناد ومرارة وتعب. الاتزان العاطفي نعمة. قد يحنو القدر عليك، ويضعها في طريقك، أو لا يحنو. وإذا لم يحنُ … فأتمنى أن يرحمني من منطقة التفكير في رأسي، ويأمرها أن تحنوَ هي عليَّ. إنها تطرح فيروسات الشك بخصوبة. فيروسات مزمنة الإلحاح، خبيثة الموهبة، تعرقلني في أسئلة مثل هل كان «محفوظ» صادقًا معي؟ هل ابتكر هذه المغامرات النسائية كي يدفع عنه حقيقة كونه وحيدًا مثلي، وربما خجولًا لم يكلم فتاةً في حياته؟ لا أدري. قد يكون ذلك حقيقةً، أو محض وهم. طيِّب، هل كانت تجربة التواصل عبر الثلاجات لدراسة شخصيتي؟ هل هناك مكتب ما يفعل ذلك معي، ومع غيري، بهدف التسلل إلى حيوات مواطنين بعينهم، أو حتى على نحو عشوائي، لدراسة طبقات اجتماعية محددة؟ كنست هذه الأفكار بسرعة. بعضها وقع من بارانويا أنا أكثر عقلانيةً من المشي وراءها، وبعضها طار من انفجارات فيلم عن شرير يريد السيطرة على العالم … ولو أن العالم شرير بالفعل، ومُسيطَر عليه إلى حد. أضحك متهكمًا إذا ما سمعت شاعرًا — دائمًا ما يكون شاعرًا — يهذي في رومانتيكية قائلًا إن المشاعر هي الصدق الوحيد في أي زمان. لكن هناك أصابع خفية تكوِّن وعي من تظنهم صادقين أيها الأبله. تشكِّلهم كما الصَّلصَال كي يشتروا سلعهم، ويتغذوا على ثقافتهم، ويؤمنوا بما يبغونه من أفكار، ويمارسوا ما يريدونه من فساد. المشاعر أراجوز في سيرك عالمي … فهل كنت من مرتادي هذا السيرك، وهل تلاعب «محفوظ» بي كما يتلاعب البهلوان بالكرات؟ إن أفكاري لا تتوقف عن الكلام، وتلقي في طريقي بنقر وحفر، ملاحِظةً مثلًا أن لثغة «محفوظ» في حرف الراء مماثلة للثغتي في نفس الحرف، والاسم الثنائي لمستأجر أرضه الزراعية هو ذاته الاسم الثنائي لموظف البنك الذي يسلِّمني أرباح وديعتي البنكية. لك أن تتخيل أنها أخرجت فيلمًا قصيرًا قابلتُ فيه «محفوظ» في المنام، ووجدته يشبه صورةً لي بجوار بحر مطروح منذ ربع قرن؛ بنفس القميص التركواز المفتوح، والنظارة الشمسية الخضراء العدسات، الذهبية الإطار، التي استعرتها من ابن خالي. لا يا أفكاريَ السخيفة، أنا لست بمختل. حلِّي عني الله يبارك لك. انشغلي بهواية كالصمت مثلًا. ابتلعي طنًّا من سد الحنك. اذهبي وراء الشمس، أو في رحلة استكشافية للعالم الآخر. أصدري قرارًا بمصادرتك، أو حكمًا شرعيًّا بتحريمك. دعي الحية تلوشك، والعو يلهفك، والقبر يلمك. غوري في ٦٠ ألف داهية سوداء، أو أي لون أغمق من الأسود!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤