اللمسة

في صباح جميل، يكفي أن نوره وصل إلى قلبي وأنعش نبضاتي، صادفت على الرصيف زهرةً بيضاء خلَّابة، كأن الهواء قطفها وطار بها إلى هنا، أو سقطت من بوكيه متجه إلى مُحب محظوظ. ضخَّت الفرحة دماءً راقصةً في عروقي، مؤمنًا أن الله أهداني هذه الزهرة. ولما دنوت منها، ولمستها، تحوَّلت إلى زهرة بلاستيكية.

في الطريق، اشتريت أصيصًا ممتلئًا بالطين. وبمجرد وصولي إلى المنزل، وضعت الزهرة في الأصيص، واخترت لها موقعًا في شرفتي الواسعة، تواجهه الشمس يوميًّا، بين العاشرة والحادية عشرة صباحًا، ساقيًا إياها بإخلاص.

خلال أسابيع معدودة، علت ساق الزهرة سامقةً، طارحةً زهورًا بلاستيكيةً ملونة، لكن صامتة، سميكة، تلمع ببرود، ولا عبير فيها، وإنما رائحة شبه كريهة تقارب رائحة ورقة سلوفان اقتربت من النار، أو مدفأة صينية رخيصة تعمل بالكهرباء.

فاحتْ رائحة الزهور غائرة، تسربتْ من الشرفة إلى الصالة، وحجرة النوم، بل ممرات رأسي. لم تنزعج زوجتي، فقد تحوَّل أغلبها إلى بلاستيك منذ زمن، وربما كانت هذه الرائحة في أنفها «عبيرًا»، لكن انزعج ولدي الصغير، متأففًا، بأنف منكمشة، وابتسامة تخفي قرفًا.

تعمدت مؤخرًا إطعام ولدي أكلًا بلاستيكيًّا. أريده أَلَّا يحس بالغربة، وأريد لقرفه أن ينتهيَ. لكني في لحظة تبدو عابرة — وهي ليست كذلك — توصلت إلى الإجابة العبقرية. فبينما كنت أغلق الشيش بإحكام، قبيل المغرب كما كل يوم، صدمتني الحقيقة برقة؛ إن الولد سيكبر، غدًا أو بعد غد، وستصير له القدرة على تحويل الأشياء إلى بلاستيك أيضًا، فلماذا الاستعجال إذن؟

وأنا أريح جسدي على الفراش في قيلولة سريعة، علا صياح مخاوف وليدة بأن أيامه ستكون أفضل، ولن يتمكن من نيل هذه القدرة. لكن، ساعتها لماذا سأخاف؟! إنه اليوم الموعود. اليوم الذي لا نجرؤ على الحلم به في زمننا، وفشلنا جميعًا في الوصول إليه حتى حينما أردنا. تصارعَ الخوف والشك والقلق في صدري، ولم يهزمهم نومي، إنه فقط أخفض أصواتهم.

تابعت المسلسل مع زوجتي، إنها تنفعل به كأنه الحياة، تغرق نفسها فيه أكثر من مواقف جادة تواجهنا. اعتدتُ على ذلك، وركنتُ إليه في شيء من المحبة. أعشق في حبيبتي قِصَر عمر ذاكرتها. تلك المقدمة التي تعلو العقل، والتي تتهشم عند البعض من كثرة التصادم مع المتاعب، عالية عندها للغاية. أعلى من الاصطدام بأي مقلق حقيقي. لم تعلم أن أكثر من نصف نظرات هُيامي بها، وحمدي الدائم لله عليها، كان لهذا السبب عينه. أشجاني أن ملمس يدها صار ناشفًا، أدق عليه بأطراف أصابعي كأنه سطح منضدة. لكني من ناحية، تعايشت مع ذلك على أنه من ضغط أعمال البيت، وغسيل المواعين السرمدي. ومن ناحية أخرى، لم أرد أن أجرح شعورها، فهي المهد الذي يلفني ويهدهدني، وبدونه أنا هاموشة تائهة. ومن ناحية ثالثة، من قال إن الحياة لا بد أن تكون كريمةً بالكامل، مُرضيةً طَوال الوقت؟! أدام الله وجودك يا ثروتي، وأبعد عنك أي لحظة ثقيلة، وجعل يومي قبل يومك.

تقابلت وصديقي على مقهانا المفضل. يحكي لي عن ابنته المجنونة، تلك التي ترفض مناهج المدرسة بحجة عدم اقتناعها بها، وتتفرغ لقراءة روايات كلاسيكية. ابتسمت مُذكِّرًا إياه برغبتنا في إطالة شعورنا ونحن في سنها، وميلنا للرقص، وصفيرنا للجميلات على النواصي. في سن معينة تتعمد الخروج عن الأسفلت. لكن بعدها، حتى وإن لم يكبحك نضج ما، فإن الأسفلت له طريقته الفعَّالة في إرجاعك إليه. وبينما كان يمص قطعة بلاستيك بيضاء في يده — قبل أن يكسرها بأسنانه، ويبتلعها في ضجر — هوَّنت من أزمته، ونصحته أَلَّا يحمل همًّا، فالتعقل في الطريق.

أحيانًا أسأل نفسي — وأنا سارح على مقعدي في المترو، تمر عيني على صور الناس المهزوزة، أو واجم أمام شباك مكتبي، أحدق في حركة السحب البطيئة — هل أنا أهل للنصيحة؟! منذ الصغر يختارني الكل ليسألونيَ عن علاج همومهم؛ من أول زميل الصف الرابع الابتدائي الذي أحب فتاةً أكبر منا في الصف السادس، وأراني إياها من شباك فصلنا وهي تصعد السلَّم لفصلها، مصارحًا إياي بشعوره وحيرته، وصولًا إلى سائق التاكسي الذي صادفته في مشوار ما، وينوي أَلَّا يخبر ابن عمه عن زواجه القريب، حيث إن ابن العم لم يخبره قبلها بزواجه، ملتمسًا مني الرأي الفصل في انتقام عادل كهذا. لماذا يلجئون إليَّ؟ هل يؤهلني شكلي للحكمة؟ وهل الحكمة بالشكل؟! هل يستشعرون أني أفتقر للمشاكل، وبالتالي فإن باليَ مرتاح، وهو ما يترك فراغًا يحتمل مناقشة مشاكلهم؟ ربما جاوبت بعضهم بذكاء، واقتنعوا أني لقمان العصر. على أي حال، لم يكن الأمر ذا أهمية، بل إنه رفع من قيمتي في أنظارهم، ومدَّني بثقة إضافية. سمعة العقل الراجح أفضل من سمعة خطَّاء أخرق، أو مجرد تافه.

كرهت الزجاج، ينكسر مثيرًا فوضى جارحة. لذلك، عند رجوعي من العمل في ذلك اليوم سميك الحر، لم أشترِ أكوابًا زجاجية، رغم أناقتها، وإنما أكواب بلاستيكية. تعذَّرت لزوجتي أني لم أجد غيرها، وهاجمتني آلام قدمي التي بقيت عامين تتلقى جلسات العلاج الطبيعي … وليس أي من ذلك هو السبب. لا شك أني أحببت ملمس البلاستيك في أزرار ريموت التليفزيون والريسيفر والتكييف، ومفاتيح النور والغسَّالة والكومبيوتر. بها نعومة، ورفق، وافتتان بالفاعلية، واحتفال بالإنسانية وما وصلت إليه. أتذكر بنائي لهرم من قطع بلاستيكية جمعتها من ألعابي المتكسرة، أو ربما كسرت بعضها كي أجمعها. كان ذلك أيام دراستي الابتدائية، ولم أكن أمتلك لمسة التحويل المتواترة بعدُ. إنها لم تظهر عليَّ إلا في السنوات الأخيرة فقط. هل كانت بعد بلوغي الخامسة والأربعين، وترهل بطني، وهشاشة شعر رأسي؟ هل كانت بعد بيعي لبيتي القديم في الحي الشعبي المعربد الزحام، الدائم الصخب، الفضولي الجيران؟ هل كانت بعد اليوم الذي لم أعد أشعر فيه بآلام رأسي أثناء استخدام الموبايل؛ بعد سنوات دأب فيها الصداع على قصفي، وجنحت أعصاب وجهي إلى التشنج، كلما استخدمته؟! لا يهم … هذا سؤال لن تفيد إجابته أحدًا، تمامًا كسؤال البيضة والفرخة.

وفي صباح معتدل جديد، أنار قلبي وأنعش نبضاتي مثل سابقه، دلفت إلى الشرفة، لأطمئن على زهوري ومتانتها. لكني — لأول مرة — لاقيت فيها عبيرًا أحببته. كان أشبه برائحة الملابس الجديدة، أو مكان مغلق يحكمه التكييف. إنه عبير تألفه بسرعة، وله فخامة من نوع خاص. يا للروعة، يظهر أن هذه الزهور تُطلق عطرًا خاصًّا بها بعد فترة ما. تسلَّمت الراحة مقاليد الحكم، وسمعت زقزقة عصافير بثت سلامًا مقدسًا، وضممت ولدي إلى أحضاني في لحظة ابتسَم لها دون فهم.

السعادة في الاطمئنان. وهي قاعدة علَّمها لي والدي دون أن ينطقها. فحينما يهدأ كل شيء في البيت، والحارة، والشارع، ونطمئن أن الغد هادئ، مستقر، مثل الأمس، وأن الإجابات لدينا، ولا داعيَ للأسئلة، وأن أفضل تجديد في ترك القديم يؤدي عمله دون اعوجاج، أو شطط، وأن الصبر على الشدائد هو قمة الإيمان؛ حينما يتحقَّق كل ذلك، فابتسامة أبي النادرة، الراضية، تفرش حدائقها الزاهرة على وجهه. آآآه، كان يلمس الأشياء فتتحوَّل إلى خشب؛ يا لها من أيام أكثر بركةً، وأقل غلاءً.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤