عطايا

طلب منير من التليفزيون أخًا أكبر؛ فأسئلته حول العالم كثرت وتعقَّدت، ولا إجابة من أبيه أو أمه. كلاهما مسافر لعالم آخر، رغم معيشتهما على الأرض. الأب في مجرة العمل، وإذا ما عاد، ينام طالبًا الهدوء، ويصحو طالبًا مزيدًا من الهدوء. أما الأم ففي كوكب المطبخ، لا تسافر منه إلا لكوكب غرفة النوم، حيث تنشغل بالتريكو، والكلمات المتقاطعة، وإذاعة أم كلثوم. إنهما ينصتان طَوال الوقت لأصوات لا تهمه، وإذا ما صارحهما بأسئلته، لا يهتمان. لمَ يظن بعض الآباء والأمهات أن الطفل يجب أَلَّا يكون سوى طفل؟! أي كائن يأكل ويشرب وينام، ولا يستخدم عقله إلا للنجاح في المدرسة، وعدم إحراجهما أمام الآخرين. لا إجابات من أستاذ المدرسة أيضًا. إنه يترك الدرس، ويجلس خارج الفصل لقراءة الجريدة، وإذا ما ثارت الفوضى في الفصل، وهُرِع إليه طالبٌ يشتكي زميلًا ضربه ومزَّق قميصه، يوجِّه رأسه إليه بنظرة جليدية البرود، ثم يعود إلى جريدته غير عابئ حتى بلعن ذلك الشيء الذي عطله لثانية واحدة.

عطف التليفزيون على الولد، الذي يعلم حالته مرَّ العلم، ومنحه أخًا فارعًا ووسيمًا. لكن للأسف، تعوَّد هذا الأخ الطيران في المدينة لفترات طويلة، يتصيَّد فيها الفتيات، ويدعوهن إلى الكازينوهات، وظلال ما وراء أشجار المتنزهات، ليفوز بخاطف أو متمهل القبلات! صاح فيه منير: لماذا تتركني؟ وكيف تظن أن ما تفعله هذا لعب؟ فنظر إليه الأخ الأكبر باحتقار، وأمره بالسكوت، ثم استكمل في نبرة اعتراض هادر، أن هذه هي الحياة. تصفيف شعرك على أحدث موضة، وشرب السجائر، وارتداء النظارة الشمسية، والتفرغ لمتابعة أجساد الفتيات هي الحياة. كل ما غير ذلك وهم، أو قرف. وصفعه بالجملة التي يكره: «إنت لسه صغير ومش فاهم حاجة!» أخرج منير ثورًا ناريًّا ضخمًا من قصة ما يحبها، اختطف هذا الأخ، وحبسه في القصة. بعدها، طاب للأخ العيش هناك، خاصةً لمَّا نجح في العمل كتاجر للجواري.

استمر الحزن في تقريح أوقات منير، وغدا هو والوحدة صديقين. جِلسته المتأملة في الشرفة طالت. عثر على منبع للشعر بين ضلوعه، لكنه لم يجد من يحتفي بهذا الشعر، أو حتى يقيِّمه. اعتاد إيداع شموس كل الأيام في الثلاجة، والنوم دون أحلام. إلى أن طلب من دولاب الصالون أخًا، أو صديقًا، أو صاحبًا مخلصًا، المهم شخص يستشيره … يرجع إليه … يسأله. إن الأسئلة تهوى الإجابات، وتشوق إليها، وإذا لم تجد حبها المنشود، تنقلب للعنف، وتخنق من حولها. فهل للأسئلة أي إجابة؟!

كان دولاب الصالون، الذي يُحب أن يُدعَى «بوفيه»، مسنًّا وطيِّبًا. يحتوي تحفًا وأنتيكات هجرها الزمن، وشابت غبارًا. ولما سمع طلب منير، وأوجعته شكواه، أشفق عليه بأخ عجوز؛ صحته متأخرة، وكلامه قليل — حسنًا، كل الحكماء في القصص كذلك — ومنحوت على ملامحه سنوات وسنوات … فكيف تكون السنوات بلا خبرة؟! ألِفَ الأخ العجوز الرقود على سجادة مرسوم عليها غزالة تقف فوق صخرة، سامقةً بسيقانها القوية، رافعةً صدرها في اعتداد. إن منير لم يرَ الغزالة، ولن يرى الغزالة، في حياته إلا في هذه السجادة الأنيقة. وحين يلجأ للأخ الذي يفضِّل رحابها، ملتمسًا إرشاده، يجيبه الأخ في مودة، ناصحًا إياه بالشيء الصحيح: لا مواربة. لا مراوغة. لا استعمال للغة «اليومين دول». لا رِشوة تتجمل كإكرامية، ولا نفاق يتنكر كدبلوماسية. الحق لا بد أن يُقال في وجه التخين، والأعور يجب مصارحته بأنه أعور. مارس منير هذه النصائح، ليلاقي الويل ألوانًا. سكنه التعب، وصارت المعاناة ورمًا يلازمه، لا هرب منه، ولا علاج له. استغرب، لماذا لا يحاول الأخ العجوز أن يطَّلع على العالم الذي نعيشه؟ إن كلامه قديم. قديم جدًّا. حينما يردِّد بعضه أمام زملاء العمل، أو سائقي التاكسي، أو أهل خطيبته، ينفجرون في الضحك. ألفاظه عتيقة، صار لا وجود لها إلا في المسلسلات التاريخية التي لم يعد ينتجها أحد، أو يتذكرها أحد. شعر بالغربة بسبب الخطوط التي طالبه الأخ العجوز بالسير عليها. غربة تفصلك عن الحياة، وتؤخرك عن قضاء مطالبك، وتعكنن عليك لحظتك، فتعقم عن السلام. وفي صباح ما، بلغ السن مبلغه، وتلاشى الأخ العجوز من فوق السجادة. تآكل أو تحلَّل متطايرًا في ريح شتوية مغسولة، من هذه التي تشرِّف أغلب الصباحات الشتوية. ومن يومها، صارت الغزالة على السجادة متكومة على الأرض، بعيون تحبس دموعًا غزيرة.

وماذا بعد؟ البشر من حول منير يتناقصون. أوراق متأسية مثل «الله يرحمه» أو «الله يرحمها» تراكمت على أرففه. اليتم متجبر، لا يترك للحنين حضورًا مُلطِّفًا. وحديقة العمر اجتاحها الموت ليدق فيها مباني خرسانيةً لا فن فيها ولا سكان. الليل أمسى أطول من النهار، أي نهار. والصمت شبح سمج، يخرج من القبور، كي يلدغ منير، ويعاود مكانه مجددًا. انتهت خطبته مع أكثر من محبوبة انكشف أنها لا تستحق هذا اللقب. وتقاسم فراشه مع فراغ غليظ، جاء ليحتل ويتوسع. ضحكة الأطفال تعذِّبه. ولحظة المغرب تقطم وسطه. وبزوغ الفجر لا يبهجه. رثت علبة السكر له، ورأفت به، واهبةً إياه فتاةً في نصف عمره. تجالسه وتؤانسه. خاف من تنامي شهوته، وتسلَّى حرمانه بعرض أحلام يقظة حمراء عليه، جعله يرش على الفتاة البريئة ملحًا في نوبة ثورة، قاصدًا إكراهها على المغادرة. بكت الفتاة متظلِّمة، ووصمته بنظرة مبغضة، ثم خرجت من باب سلَّم الخدم غير المُستخدَم منذ عصور إلا من قِبَلِ جامعي القمامة.

وفي مستهل عصر وهن العظام، ووجع الحركة، وذبول الأزهار، وعجْز الأجنحة، أهداه كرسي الشرفة صديقًا شابًّا. الكرسي كان عليمًا بحال منير منذ الصغر؛ يصغي لقصائده فيفخر به رغم عدم فهمه لمعظم الأبيات، وتسرُّه أخلاقه القويمة رغم اعوجاج السنين. كما أنه يحمل جميل محافظته عليه؛ فإنه لم يستغنِ عنه لأي محتاج قريب، أو جمعية خيرية بعيدة. ويبدو أن منير قام بكثير من أفعال الخير في حياته؛ مثل عدم الانزلاق في النميمة، أو التعامل بفظاظة، أو إضمار الشر، أو إضاعة وقته في التفاهات، لذلك أكرمه الله على خيره، وأثابه من فضله.

برَّدت نسمة سحرية حزن منير. كان الشاب هو الابن الذي لم يلده، والصديق الذي لم ينله، والأخ الأكبر الذي تمناه؛ إنه ذكي، مهذار، حكيم. يقولون إن شباب هذه الأيام يكتسبون الخبرات بسرعة. طهارته أكيدة أيضًا، لكن يأسه طاغٍ. من أين أتى منير بكل هذه التعاليم لقتال اليأس؟ لقد مارس دور المُعلِّم ببراعة مشهودة مع الشاب. اكتشف أن رحيق العمر الماضي كان وفيرًا بحق. لم يمضِ يوم إلا وتعلَّم فيه ما ينير الطريق، ويسند المشوار، ويقرِّب الهدف. صحيح شاخت الأسئلة مع الوقت، لكنها لم تمت، وفي الإجابات الزهيدة التي اغتنمها … حياة. حياة لم يعترف بثرائها، بل لم يرَه، إلا الآن. وفي ثانية ثمينة، أدرك أن الإنسان لا يفوز بكل شيء. وأن الدنيا لا تعطي نفسها بالكامل لأحد. تذكَّر طرفةً قالها جده، ولم يعِها في وقتها، خلاصتها أن الحياة تطبِّق الديمقراطية بإنصاف لا يتوافر للأنظمة السياسية؛ فالناس قاطبةً لها نسبة من الإرضاء، ولا يوجد فرد — مهما بلغ سلطانه — يحكم جميع الأراضي، ويملك كل الكنوز.

واظبَ منير على إسداء ما يعرفه للشاب. رعاه ولاقى منه الوفاء. وهبه سحبًا، ولم يرد الشاب واحدةً منها طينًا. حدثت خلافات وخصامات، لكنها كانت مثل شقاق أعظم المحبين، وجروح جسد وولفرين، تلتئم جميعها بعد قليل. أشرقت شمس الرضا في نفس منير. ومن شُكْر الشاب له، غامر الإعزاز، صنع لنفسه شاطئًا رحيبًا لا تمسُّه إلا رياح تُصِحُّ الروح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤