بعض الجحيم

أدخل وصديقي إلى المطعم. المكان ضيق رغم اسم المطعم العالمي، الشهير بوجباته السريعة. لمحتها جالسةً وحدها على منضدة لها ٤ كراسي. يا الله! جمال يطوف بك في جنات بلا نهاية. حضورها فيلم مقدس. تشع أحلامًا وردية، وآيات شافية. قبعتُ داخل سجني القديم. وبحثتُ عن كرسي فارغ، فوجدت واحدًا، طويلًا وبلا خلفية، ككراسي البارات، أجلست صديقي عليه، ثم ذهبت — باعتباري مضيفه — إلى قسم الطلبات. هناك، انعكستْ واضحةً في لوح معدِني مصقول وطويل. عبارة عن ابتسامة ملائكية في هيئة فتاة. كانت قريبةً جدًّا من الصورة التي لا أجرؤ على تخيلها لحبيبة، وعروس، وشريكة حياة، وقرينة روح حتى الممات، وما بعده. كتمتُ الأماني الثرثارة. وسددتُ مسام عاطفتي بالجبس والأسمنت الأسود. تخيَّل قاطرة بخارية فحمها يغلي نارًا، وأغلقت مدخنتها ببساطة. نعم، كنت أنا القاطرة الموشكة على الانفجار. اضطُررت للانتظار حتى ينتهيَ شاب بدين من إلقاء طلباته. واضح محاولته المستميتة لتلميع شعره بمادة ما، واختياره لفانلة قاتمة تخفي ترهلاته. ما إن انتهى، حتى فوجئت بصوتي يخرج خفيضًا هادئًا. يبدو أنه قد تم استهلاكه في صرخات داخلية لم أسمعها. طلبتُ السندوتشات لي ولصديقي، ثم عدتُ إلى مكاني بخطوات بطيئة، راغبًا وبقوة، في التجديف والنظر إليها. سأختطف نظرةً واحدةً سريعة. لن تشعر، ولن تتضايق. فعلتها، وإذا بي أجد البدين يجاورها. كانا يتحدثان مبتسمين في وقار. تذكرتُ رصدي — في جميع المطاعم التي دخلتها — أن الثنائيَّ المتحاب، أو المخطوب حديثًا، يجلسان بجوار بعضهما، وليس «في مواجهة» بعضهما. ربما رغبةً في الاقتراب، وتقصير المسافات. ربما طمعًا في لمسة يد، أو دفء كتف. حين وصلت إلى صديقي، المستغرق في متابعة مباراة كرة قدم في التليفزيون المفتوح، انتبهت إلى غياب الكرسي الذي سأجلس عليه. وقفت منتظرًا تلك الأسرة الصاخبة التي تلتهم طعامها بشراهة. يبدو أنهم سيسكنون المكان، أو يأكلون كراسيه أيضًا. خرج البدين ليتابع مكالمةً في محموله داهمته وسَط ضجيج التليفزيون والزبائن. طردت صبري، على الوقوف أو اقتناص النظر، وتقدمت خطوات إلى منضدتها. تقابلت عيني — أخيرًا — مع عينها. آآآه. عيون سوداء عميقة. لو أطلت النظر إليها لوصلت إلى سعاد حسني، ونفرتيتي، وبنت السلطان في القصص الشعبية، وكل ليلى أصابت قيسًا بالجنون. عيون كالمرسى الذي تهفو إليه سفينة طال تِيهها. عيون تقيس عليها الحقيقة، ليظهر الزائف، وينكشف السراب. سألت بنفس الصوت الخافت: «ممكن آخد الكرسي؟» قاصدًا أحد الكراسي الشاغرة لمنضدتها. فوافقت بهزة خفيفة من رأسها، وصوت لم أسمعه؛ إذ إني كنت مشغولًا بالتحليق في سمائها. ما عذَّبني أكثر كان رداءها. أبيض وبنفسجي. كيف عرفت ألواني المفضلة؟ هذه الفتاة مطبوعة من أحلام يقظتي! جررت الكرسي إلى جوار صديقي الذي امتصته المباراة، حتى اختفى. جلست معطيًا جانبي لها. كنت أصلى نارًا حامية. لم أذق الجحيم على الأرض إلا في هذه اللحظة. تاريخ آلامي طويل، والحمد لله. لكن تلك النار التي تضطرم، بلا رادع، وتأكل جسدك، حتى تكاد تسمع لظاها وتغيظها، لم أعرفها إلا في تلك اللحظة الملعونة. لم يلحظ صديقي العزيز تفصُّد عرقي، واضطراب تنفسي، وإحساسي السحيق بالفشل. الزمن لُوري يدهسني ببطء. آخ، أريد لهذا المشهد أن ينتهيَ. أن يموت. أبرع في تمثيل التماسك حتى كادت أسناني تنكسر من فرط الضغط عليها. أجري وراء قلبي، لألحقه، وأصفعه مُعيدًا إليه عقلانيته، أو حتى أعرقله لأقلِّل سرعته. صوت ضحكتها الناعمة الصغيرة يُملي أكواد تفجير القنبلة النووية. تتصاعد درجة حرارة اشتهائي للنظر إليها، لكن القاضي حكم على ذلك بالإعدام الفوري. أستغفر الله العظيم. إلى متى سأبقى غرابًا ينعق وحده في الصحراء؟ الشمس الحارقة لا ترحم، ولا تغرب. حقدت على البدين، وعلى حظه. أردت إلغاءه delete مع shift، والحلول مطرحه. خرجت المظاهرات قاصمة، تطالب أن يكون نهر هذه العيون السود لنا فقط، لا شريك فيه، ولا غريب يقربه. سمعت العامل ينادي. إنه طلبي. صحا صديقي من المباراة، ومن قبل أن يفكر في تناول الطعام هنا، كنت اختطفت الكيس الورقي، وهربت للخارج. لحق بي مستغربًا، فتعلَّلت أن الجالس بجوارنا عدو قديم. ومع رحيلي، لم أحاول، أي محاولة، أن أنظر إلى الخلف، علمًا بأن واجهة المطعم وبابه من زجاج، ومجرد إدارة عنقي سترويني من محيَّاها. ومع تقدم الطريق، ودَعْوَات صديقي عليَّ، قرأت لها ولفتاها الفاتحة، داعيًا الله أن يبعد عنهما الشرور، والحاقدين، ولحظات الألم … من أمثالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤