البطيخ في البحر

تعالَ نزرع البطيخ في البحر!

جملة تبدو لك، ولكل عاقل، عبثية. لكنه سألني إياها في صوت يخرج من صدره. إنها نفس النبرة العميقة التي أخبرني بها بأن زوجته مصابة بمرض عضال، وأن عمَّه أفلس بائعًا كل ما يملك، وأنه يكره الحاكم معدوم الخطة الذي انتخبه الجميع. إنها نبرة جادة، صدوقة، لا أخطئها.

بدأتُ في محاورته، محافظًا على رزانتي، ممسكًا زمامي «بالعافية» حتى لا تقرب البسمة الساخرة وجهي. تراجع بظهره، مُحرِّكًا بطن كفه على كرشه صعودًا وهبوطًا، كأنه يُحمِّي حماسته، أو يشوِّقني إلى سر مبهج، وانطلق يتحدث في إيمان عتيد، واتقاد يفور، أن هذا هو المشروع الأنجح. لقد قرأ عنه في كتاب قديم بمكتبة كلية الآداب، قسم التاريخ، أيام كان يعد الماجستير الذي لم يكمله. احتفظ بالمعلومة لنفسه، وقرر أنه سيحقِّقها يومًا ما. ضحك ضحكته المسرسعة، الأشبه بضحكة الأراجوز والنابعة من قرار عذوبته، حينما تذكر غباء الجميع. فنصف الطلبة وطاقم التدريس أقل ذكاءً من انتهاز فرصة كهذه حين قراءتها، والنصف الآخر لا «يهوِّب» ناحية المكتبة من الأصل. امتطى جواد حديثه، مندفعًا بلا توقف، حاكيًا عن سهولة التنفيذ، وسرعة المكسب، وضرورة المشاركة. أخبرني أنه لا يحتاج إلى مؤازرة مالية، وإنما إيمان بما يقول. زوجته رحلت عن الدنيا، ولم ينجب أولادًا، وباقي أصدقائه مهرجون لا يثق بهم، وبصراحةٍ لا يرضى لهم الربح.

تابعته وأنا أشرب كوب شايه ذي الرغاوي على مهل، جالسًا في هدوء صالون بيته ذي الرائحة المكمكمة، التي يتمازج فيها قِدم القطن مع غياب التنفيض. سليم يستطيع إقناعك بملامح وجهه الطيبة، وعينيه البريئتين، وابتسامته الواسعة إلى درجة العته. إنه غير مخادع. من أيام المدرسة لم يسرق قلمًا، أو يزعم إحراز هدف، أو يغش في الامتحان … لأكثر من اللازم. في الجامعة كان له جنوحه، لكن داخل إطار بعيد عن التطرف الحق. شُرْب سيجارة «ملغمة»، وإهمال مذاكرته، ومرافقة بنات فضائحهن بجلاجل لم تكن بخطايا مهلكة في قانوني. كما أنه يحترمني، مشيرًا إليَّ كإله العقل في أسطورته. يراني الأفضل لنظامي والتزامي. لحني بالنسبة له بهي. إنما لحنه بالنسبة له … نشاز. حسنًا، أنا أحبه، وأثق به، لكن زرع البطيخ في البحر؟! أمر غريب تمامًا!

طالبني بالتفكير في الأمر، راميًا في حِجري نظرةً أعرفها، وأكرهها، وهو يعرف أني أكرهها. نظرة التأسي على الخوف الزائد، واليأس من رافض المغامرة. رماني بها منذ سنوات، يوم رفضت الذهاب معه إلى الملاهي، لأن العجلة الدوارة قد تصيبني بالقيء، وبيت الرعب سيبتليني بذعر لا أحتاج إليه، إلى جانب بُعد المشوار، وصخب الزحام، وغلاء التذكرة. ذهب هو، واستمتع، شاتمني بعينيه — لاحقًا — على تفويت فرصة كهذه. لم يدرك أن لكل شخص متعته، وأن ما يمتعه لا يمتع غيره. لم أخض في حديث مثل هذا. هو يعهده، ويمل منه، وأنا عدت أملُّ منه كذلك. لن أكتب قواعدي على صدري، وأجبر البشرية على قراءتها. نظرة رفض موجزة وصامتة أكثر بلاغةً وأقل تعبًا.

بحثتُ على الإنترنت عن مسألة «زرع البطيخ في البحر» هذه. لا شيء بالعربية أو الإنجليزية. إنها خرافة ولا شك. وهو ما بثَّ نورًا في أحد كهوفي. هممم! الخرافة! ولِمَ لا؟ وهل يتبقَّى لنا غيرها حاليًّا؟! إنَّ واقِعَنا اليومَ يعوزها. نحن لم نفلح في شئونٍ شتى. فارَقَتْنا الحلول المنطقية. تُوفِّي العلم فينا، ومن حولنا. غاصتْ بنا مشاكلنا لما وراء الطين، وتحت الحضيض. فما المشكلة في بعض الخرافة إذن؟!

اتصلت بسليم، وزرنا معًا مكتبة الكلية، وبحثنا عن كتب عتيقة في سور الأزبكية، بل راسلنا صديقًا مشتركًا يعيش في بيروت كي يرسل إلينا كتبًا أخرى بها ولو شذرات عن الأمر. صمَّمت أني لن أدخل التجرِبة إلا وأنا محمَّل بصحة العلم، ووافقني صديقي عن اقتناع ومحبة. كنت أريد الدخول في مشروع، أي مشروع. ما أحقر حياةً تأكل وتشرب وتنام فيها دون إنجاز حقيقي يعيش بعدك! نعم، أعرف أن العمل الصالح يدوم، ويترك لك ذكرى طيبة في الدنيا، وحياةً سعيدةً في الآخرة، لكني أريد عملًا صالحًا من نوع آخر، غير اتباع الضمير في وظيفتي، والبعد عن الكبائر والموبقات، ومودة الأهل والأقارب، والتبرع للجمعيات الخيرية والمستشفيات، وحلو الكلام، والابتسام في وجه الجميع، و… و… و… لماذا لا أكون مثل ابن الخالة؟ لديه الوظيفة الحكومية الباردة، المحايدة المذاق، البطيئة الإيقاع، العديمة الفائدة إلى حدٍّ كبير، وإلى جانبها … المشروع الخاص. صحيح تقلَّب من مشروع إلى مشروع، وفشل مرارًا، لكنه لا ييئس، ويستمر قاصدًا المختلف، والمربح. الإصرار على الجديد يمنحك الحياة، وحتى إن خسرت تكسب من ورائه خبرةً لا تقدَّر بثمن. لا أظن أننا يجب أن نعيش في هذه الدنيا دون ادخار ثروة من الخبرة. إنه الغِنَى الأهم. أتمنى يوم موتي أن يقولوا: «كان رجلًا خبيرًا»، بدلًا من «كان رجلًا طيبًا». احتقرت روايةً قرأتها صبيًّا تسأل في ذروتها: «لماذا نعيش؟» السؤال الأصح هو: «كيف نعيش؟» ولعله الإجابة المثالية للسؤال الأول.

جمعنا — كما تُجمَع قِطَع «البازل» — معلومات متناثرةً لكن كافية عن المشروع. وفي سرية تامة دفعتْ سليم أن يخفض صوته حين الحديث معي في صالة بيتي، كي لا يسمعه جاري الأصم! قرَّرنا السفر إلى الإسكندرية، حيث شاليه متهالك ورثه عن أبيه، وكان يذلنا به أيام الجامعة. وهناك، بدأنا في العمل بعد الاتكال على الله.

كانت الخطة في زراعة البطيخ تحت مياه البحر. وبعدها، يَتحوَّل المُنى إلى حقيقة، وتشدو الطيور بموسيقى الفردوس، ويُشرق التوفيق دون غروب. حيث سيكون الطرح بطيخًا كبيرًا، باهت الاخضرار، متطرف الاحمرار، لا مثيل لِلَذته. يقولون إنه يعالج العقيم ويهبه البنين والبنات، ويُحفِّز العظيم داخلك فتقهر المستحيلات، ويُنهي الهزائم ويُديم الانتصارات. آمنت بذلك. وحتى إن لم يتحقَّق، فقد آمنت بالتجرِبة. هواء البحر كان أجمل من هواء راكد حكم حجرات بيتي، ومكتب عملي، وشوارع مدينتي. هذا الامتداد في الأفق، الذي يدفعك إلى الإيمان بأن يدك يمكن أن تطول الشمس، كان الحلم الذي افتقدته لليالٍ معذبة الطول، أدمنني فيها التقلُّب الرجيم، والشخير المزعج، والاستيقاظ على وسادة غارقة في العرق، صيفًا وشتاءً!

انبسط حقل البطيخ تحت الماء. حصدنا المحصول. ذقنا طعمه. طافت بنا حلاوته في عوالم لم نعرفها، أو نتخيل روعتها. يا الله! كنت أظن أن أفضل طعم يمكن تذوقه لبامية أمي الويكة، وفول عربة عم سيد على ناصية مدرستي الابتدائية، وملوخية زوجة عمي الريفية، وأي طعام مع صحبة يحتضنها الحب. لكني فوجئت بمذاق عجيب، يتعدى فتنة هند رستم، وأغاني شيرلي باسي، وضحكات الطفولة الخالصة، وعيون حبيبتي العسلية الشفَّافة، وحوار بديع خيري، وفيلم العودة إلى المستقبل، وطيبة جدتي حين تلومني، وتشجيع أستاذ اللغة العربية لي بدلًا من تجاهل أبي الدائم، وفرحة أول قصيدة نُشرِت لي، وجرأة مواجهة الظالم، بل القضاء عليه. رحماك يا رب. دموعُ تأثُّرِنا أغرقت البحر ساعتها، ولم يترك سليم اللحظة تمر دون الرقص وسط الماء كالمخمور.

هل بعنا الكثير؟ لا … بعنا المحصول كله، وتهافتت الأسواق على البطيخ الساحر. لم نحاول تغلية الثمن، أو ترويج الأساطير حول بضاعتنا. العين تفلق الحجر، وداري على شمعتك تقيد، وغيرها من حكم الأجداد والأمهات الصائبة جدًّا بالمناسبة. لكن مع الوقت تأكدت أن عيني الثالثة، الموجودة في قفاي، كانت محقةً في شكوكها. هناك من يراقبنا من بعيد. وسر الزراعة تحت البحر لم يعد سرًّا. القلق عند سليم يتحوَّل دومًا إلى غضب أخرق. وكاد في لحظة أن يلغي المشروع من مكانه، وينقله بالكامل إلى مكان آخر. لكني هدَّأته. فأسلوب الزراعة محفوظ عندنا، مرةً في الكتب، ومرةً في رءوسنا. ثم حتى لو — لا قدر الله — راحت الفكرة، فنحن أهل للمنافسة، وسنظل بإذن الله من الرابحين. لم يقتنع بكلامي، بل إني لم أقتنع ببعضه أيضًا، شامًّا رائحةً عقلانيةً زائدةً فيه، لكني حاولت أن أغسل قلوبنا بالاطمئنان، وأطعِّم طريقنا ضد أي حُمَّى توتر.

وفي ليلة ما، بينما كنت أحلم بشبح والدي يحذِّرني أن ثمة سيارةً ستصدمني، استيقظت على صراخ سليم. كان صراخًا ثائرًا وليس مستغيثًا. خرجت لأجد الخطوط الحمراء عريضةً على وجهه. عَرَضٌ يحدث له حين التشاجر، وغالبًا الفشل في غلبة من يتشاجر معه. علمت أن ثمة لصًّا شابًّا اقتحم الشاليه وسرق كتبنا. راح السر والتجارة كما صاح سليم بين اللعن والإحباط. لكني هوَّنت عليه، بعد تأكيد مرارتي. وأخبرته أن أجدى رد فعل هو الاستمرار في حلمنا، بل توسيع رقعة زراعتنا. هَضَمَ كلماتي سريعًا، ورفع رأسه بنظرة تحدٍّ شعرت بصلابتها، مُقرِّرًا أن الحق معي.

بعدها بأيام، شعرت أن الشمس تتراجع مبتعدة، وأن نسيم البحر تلوَّث، وأن غبارًا ملأ رأسي ليعكنن لحظتي. ما الأمر؟! هذا جو يناسب كوابيس المدينة وليس أحلام الساحل. لقد قاطعت مضجعي القديم الذي يشعُّ عذابًا، وصرت أنام كل ليلة بعمق فريد على أنغام الموج. استر يا رب. استر والنبي.

خرج الكابوس من عباءة الخفاء، وقفز بوقاحة إلى واقعنا، مهاجمًا عقر دارنا، كاتمًا أنفاسنا. ماذا يحدث؟ الشرطة تقبض علينا. ماذا؟! لأي جريمة؟! يقولون تشويه مياه البحر، الاستيلاء على الشاطئ، إقامة مشروع دون ترخيص … ضربات عشوائية غبية وحادة مثل هذه. المحامية التي أعرفها جاءت من العاصمة؛ جادة، وعالية الصوت، وعظيمة الثقة كالمعتاد، لكن غير فاهمة ماهية الأمر بوضوح. ظلت تخفض عنقها وصوتها سائلةً في تحيُّر، رافعةً حاجبها الأيسر، وطرف فمها الأيمن: «بطيخ؟ … تحت البحر؟!»

باختصار — وأنا هنا أفضِّل الاختصار فيما يوجع قلبي — لجأنا للأبواب الخلفية، والظلام الذي يسمح بتمرير ما لا يسمح النور به؛ نقد وريقات مناسبة للشخص المناسب كي يتم العمل المناسب، تحت العنوان البليغ «لا من شاف، ولا من درى». هذا هو التلوث الذي أحسست به مبكرًا. تمامًا مثلما حلمت بوفاة عمي بعد مجيئه من صلاة الجمعة، قبلها بأسبوع. وبزواج ابنة خالتي من جارها القصير، قبلها بسنوات. طبعًا، رفضت هذا التلوث حين عرضه سليم، وأمَّنت عليه المحامية. لكنه كان الحل الأوحد الذي يبعدنا عن البُرش. فكرت طويلًا، وتنازعتني الرغبات والأهداف، ودخلت حَلْبة المصارعة مع ضميري، لأرهقه ويرهقني. الاتهام في جذروه باطل، لكن يبدو أن ثمة تجارًا كبارًا لم يرق لهم توغلنا في عالمهم، وغزونا لأسواقهم، واستيلاؤنا على زبائنهم؛ لذلك فلنحارب النار بالنار. لكن رائحة الرماد كانت مقزِّزة. لم يحتملها قلبي الحسَّاس. شعرت أني أنزلق في الموبقات التي أبغضها، وفلحت في النوء عنها طيلة عمري. أيقنت أن روحَيْ أبي وأمي لن تزوراني في المنام ثانية، إلا معاتبتين في عصبية.

استمر عملنا كالسابق. لم يتأثر المكسب كثيرًا. شاعت مزارع البطيخ تحت مياه البحر في الإسكندرية وغيرها. انفجرت ضحكة سليم المسرسعة ذات مرة: «أنا السبب. أنا العبقري. أنا رائد الحركة. كُتُب التاريخ ح تحمل — أخيرًا — اسمي!» احتكر أحد المسئولين تجارة البطيخ البحري من الباطن. حقًّا، الفساد عندنا دولة كما قال صحفي معارض نفاه النظام إلى خارج البلد. لم يعد دمي صافيًا أبدًا بعد انخراطنا في دفع الرشاوى. وعاد فراشي — حتى في الإسكندرية — يصفع راحتي، ويمزِّق نومي، ويعذِّبني بعرق أغزر من السابق. تزوج سليم من امرأة جميلة، كانت لا تعرف القراءة والكتابة. «مش عايز إزعاج» كما قال. عاشا في سعادة بشقة فاخرة تبعد عن الشاليه مسافة ٣ أحياء. من أرباحي اشتريت منه الشاليه، وقرَّرت العيش فيه. أود الزواج مثله، لكن يبدو أني مولود بتردد خاص بهذا الأمر. كم أبغي استئصاله، لكن يبدو أن هذا لن يحدث قريبًا.

أحيانًا أرى المستقبل بجلاء ساطع. تصدمني أمور، وتفرحني أخرى. أحلم ببحر كله بطيخ، يجيء إليه المصيفون من جميع أنحاء العالم، بل المجرات. يسبحون ويأكلون ويستجمون. لكن سقف أحلامنا دائمًا قصير. محكوم علينا أَلَّا نطمح بما يتعدى طموح الكبار. السمك الكبير الذي يأكل السمك الصغير حقيقة يعيشها كل زمان ومكان، وأحفظها منذ دروس الابتدائية، وبرامج د. مصطفى محمود، ومسلسل فالكون كريست. المشكلة أنها — هنا — مفروضة علينا دون فكاك. الحلم عليه رقابة. ويدك لن تطول لتمسك الشمس. هناك أوامر مختومة من الإدارة الحكومية تحظر على عينيك النظر إلى أعلى، لأنه ملك أسياد على كراسي شاهقة، أصواتهم منكرة، وهراواتهم جائعة للبطش، وأحذيتهم في وجهك طوال العمر. عدت إلى نقطة استسلام قديمة، لكن — هيهات — فخورًا بخوضي للتجربة. ما آلمني رغم ذلك، لحظات عجز مأفونة، سخيفة، تعرف كيف تنفذ إلى روحي ساعة مغرب، لتقلب البحر ماءً مغليًّا، والبطيخ خيارًا مرًّا، والأمل عبدًا ذليلًا. ربما في الزواج نسيان، أو انتصار ما يتجاوز الهزيمة، أو أي علاج آخر لا أعرف له اسمًا. ربما. من كان يظن أن البطيخ يمكن أن ينمو في البحر على أي حال؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤