تسوُّق

لم أكن أحمل شيئًا كي أُودعه في خزانة المكان قبل أن أدخل، إنهم لا يضعون حارسًا عليها من الأصل، ولما وضعوا، كان بدينًا ينعس كثيرًا، كثلاجة كبيرة تفصل كهرباؤها مرارًا. اختطفت السلة المعدِنية اللطيفة، وأخذت أتجول في الممرات الواسعة الطويلة. المكان يلمع في ضوء النهار الداخل من الشبابيك، ولمبات نيون غزيرة بالسقف، وللتكييف قدرة غريبة على إيهامك أن كل شيء جميل ونظيف. الأنواع متعددة، والألوان فاتنة … ماذا سأختار؟ وهل ستكفي سلتي؟ عمومًا، يمكن أن أمسك الباقي في يدي الثانية، أو أملأ السلة برجًا أسند قمته بذقني. اخترت لعبة السلم والثعبان، لم ألتفت مبكرًا فيها إلى عظة السلَّم الزاهي الذي تسمو عبره إلى أعلى فتكسب، والثعبان الداكن الذي تمتطيه ساقطًا إلى أسفل فتخسر. المهم أنها تجمعنا وتضحكنا. هناك كاميرا ستصوِّرنا في أثناء ذلك، لنتحسر لاحقًا، وتثقل الهموم أجسادنا، وتغلِّظ وسائدنا. هناك قلم يكتب كل الإجابات الصحيحة في المدرسة، ويضمن النجاح. وهناك ١٠ أصدقاء يُباعون في package واحد. سحقًا لهذه المجموعة. دائمًا، وأبدًا، يتبقَّى منها صديق واحد، يتحوَّل — تدريجيًّا — إلى صاحب، أو يختفي من الوجود وحده دون تفسير! أعجبتني صباحات مشرقة، وأماني متفائلة، وسماء فضية تفردها بيديك، لكني ابتعدت عنها. لا أدري هل كان ذلك لعدم احتياجي لها، أم لغلائها. عبوات صغيرة لنصائح الأب، مؤكَّد على غلافها الخارجي، بخط منمنم، أنها مفعمة بمادة الحنان المستخلصة من قلوب أعظم آباء العالم. هجرتها، هذه السلع يصنعها نصابون، ويشتريها مغفلون. لم أصدق أن المكان يحوي وجبات الحزن السريعة! إن الأطباء حذَّروا أنها تجعل الدموع تجف مع الوقت، والجلد يثخن، والمشاعر تبهت. أنا أفضِّل شراء الحزن ككتاب أقرؤه بتمعن، وأحتفظ به في مكتبتي، فلا يفارقها لاستعارة، أو لتبرع. لكن لِمَ لا؟ سأشتري وجبةً أو اثتنين. التغيير مفيد، و«خلينا ع الموضة». علاقات الحب المراهق، نصف المجهزة، لم تُغرِني. ليست هناك أي متعة حقيقية فيها. إما أن يكون الطعام طعامًا ومغذيًا، وإما فلتذهب هذه الوجبات إلى الجحيم. جرَّبت منها واحدةً من قبل، وقضيت سنةً كاملةً في تَلَوٍّ معذب. معدتي ضمَّت إرسالها مع صدري وعقلي، لأعيش بثًّا حيًّا للشقاء اتصل يوميًّا. مررت على الحلوى. اتجهت دون تفكير إلى أنواع حلوى الغلط، معبئًا سلتي بها. أريد أن أخطئ، فقد عشت أعمارًا محرومًا منها، وحارمًا نفسي من تذوقها. كانت لذيذة. لذة تضربك بألم يسمو بك في حدائق عليا، وجنات لينة، ونوم مريح. وجدت أيضًا حلوى الخطيئة، فهجمت عليها. أوقفني تعقلي حتى لا أغترف منها الكثير. أنت تعلم ما تسبِّبه. هذه الحلوى لا تسوِّس الأسنان فحسب، إنها بالإضافة إلى ذلك تزيد الكولسترول، وتورِّم الجسد، وتعرقل عن الصلاة، ولا تعالجها حبوب الاستغفار العادية بسهولة. ستحتاج لعملية توبة مؤلمة، وغالية، وسيبقى ضميرك ينشرك بمنشاره، كثيرًا أو قليلًا، إلى يوم الرحيل. أف … الشهوة نار تحرق. ماذا أفعل يا ربي؟ لماذا خلقتنا بنار تجوع لتشبع، وتشبع لتجوع؟! ما الحكمة؟! ثم إن عصرنا تباع فيه العرائس بأسعار لا يقدر عليها إلا المتريشون؛ نوع نادر من البشر أنا لست منه. لهم مولات أفخم من هذا المتجر المسكين بالمقارنة، ذات أدوار بلا نهاية، وتقبع في مدن خضراء شاسعة، محروسة بأمن خاص، لها أسوار شاهقة، وأسلاك شائكة، حتى لا تصوِّر، أو تتصوَّر، الحياة فيها. طيِّب … لن أزيد في حلوى الخطايا، رغم أني أحتاج إلى سكرها الساخن، ولحظاتها المُنقِذة. هناك نجاحات معلَّبة، أخذت بعضها. لا يوجد في بيتي من يطبخ لي، ويستمتع معي. أكره رائحة النجاح المُعلَّب، ذلك الذي تأكله وحدك ليلًا أمام مسلسل التليفزيون، لكن ما باليد حيلة، وما لا يمكن حلُّه يجب تحمُّله. سوائل التنظيف التي أفضِّلها أفلام قديمة. لكن النوعية المتوافرة حاليًّا، في كل أرفف القسم، أفلام جديدة توسِّخ شقتي. إنها نوعية رديئة بنت رديئة، تترك آثارًا لا تنمحي في الأرضية، وخطوطَ همٍّ أسود على قلبي. المكان غَدَا صامتًا، حتى الموسيقى الداخلية المُسجَّلة، التي اعتدت على سخافتها، تلاشت. لا أظن أن سمعيَ هو الذي ضَعُف! جُلت بنظري في دائرة أنا مركزها. ما الأمر؟! … أين الناس؟! إني لا أجد مشترين، أو باعة. الممرات ضاقت كذلك. هل يجدِّدون المكان؟! هل أعلنوا أن غازًا تسرب، ولا بد للكل من الاحتماء في مخابئ لم يدلني عليها أحد؟! لاح أمامي منظر يدميني وجعًا. إنها الذكرى التي تعرف بخبث كيف تهرب كل فترة من سجني لها. يوم كنت في المعهد، أجلس داخل قاعة الدراسة، بالصف الأول، والمكان صاخب بطلبة دفعتي، يشغلون كل الصفوف عدا الأول. كانوا يرفضون مواجهة الدكتور، أو القرب منه إلى هذا النحو. منهم من يتحاشى أسئلته عن المنهج الذي لا يعرفونه، ومنهم من يريد الاختفاء في زحام بعيد، خلف رءوس عديدة، ليثرثر، أو يعبث بموبايله، أو يغمض عينيه نائمًا. انشغلت بترديد لحن أغنية أحبها لمحمد عبد الوهاب عن عشق الروح، بنبرة داخلية خافتة لا يسمعها غيري، أسمتها أختي في طفولتنا «زن». لكن بعد دقائق، تضاءلت الهمهمات، وخفَّت الأنفاس. لم أعبأ إلى حد القلق، يبدو أن الدكتور اقترب من الباب، وبدأ الكل في الصمت خوفًا. دائمًا ما يحكمهم الخوف، وليس الاحترام. لكن الصمت تزايد، ولا حضور لدكتور. عزمت على فعل ما لم أفعله منذ دخولي؛ التوقف عن الدندنة، والنظر ورائي. وإذا بي لا أجد حضورًا. المقاعد فارغة مثل جرائد بلا كلمات، أو ساعات دون عقارب. أين ذهبوا؟ علمت بعدها أن ثمة من أبلغهم أن المحاضرة أُلغيت. لكن لماذا لم يخبرني أي منهم بهذه المعلومة؟ لماذا خرجوا وتركوني وحدي؟! الكل — بمن فيهم أصدقائي المخلصون — سعى من أجل نفسه، وأنا … لم يتذكرني أحد. تحوَّلت نبضاتي إلى صلبة، وصفعتني الوحدة صفعةً تاريخيةً مشهودةً لم يهدأ صداها مع الزمن حتى الآن. اقتربتُ بما يشبه التصوير البطيء إلى الكاشير، حيث اكتشفت أن خطوتي صارت مُنهَكةً للغاية. أتخيل قدرتي على المشي بأسرع من ذلك، لكن سيقاني لا تترجم هذه القدرة. الإضاءة تخبو محتضرة، وباب الخروج يبتعد. أسمع عاصفةً كونيةً شنيعةً بالخارج. هل قامت الحرب، أم القيامة؟! هذا العالم لا بد أن ينتهيَ يومًا ما. ليس لأن لكل شيء نهاية، وإنما لأنه يستحق نهايةً تعادل خطاياه المُهلِكة. جريت بسيقاني كأني أدفع فيلًا إلى الأمام. تجردت — باكيًا — من سلتي. جريت وجريت وجريت، صوت العاصفة جبار، دون برق رحيم ينير ظلام الشارع وراء الأبواب الزجاجية المغلقة. في آخر هذا النفق المعتم، انبعث نور. بقعة نور في حجم ابتسامة أمي. آمنت به، ومددت يدي إليه. تواصلت معه لا أعرف كيف. مسَّني امتداده الشفاف، وشعرت بدفء سارٍ، واطمئنان حاضن. هناك منفَذ. والله العظيم هناك منفَذ. آآآخ، لو كنت اشتريت النور الطازج — المجاور لباب الدخول — من البداية، لما كان هذا هو حالي. رغم رخص ثمنه، فإني قرَّرت بعناد غبي أني سأنتظر العرض التخفيضي عليه. ما أقذر مُخِّي. سأغادر السوبر ماركت هذه المرة مُحمَّلًا بندم أكثر من كل مرة. وبعد اليوم، أعرف أني سأذكِّر نفسي بشرائه أولًا، ثم أنسى، أو أتجاهل … كالمعتاد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤