الحصة

كانت حصة الزراعة، وفيها ينتقل فصلنا — بتلاميذه الثلاثين — إلى مبنًى آخر؛ حيث نصعد سلَّمه إلى الدور الثاني، ونحاول الجلوس محشورين على دكك خشبية متجاورة، تتراص على جانبي باب «حجرة الزراعة»، أو على كراسي خشبية نحيلة في شرفة الحجرة الواسعة، الممتلئة بأكثر من أصيص لنباتات مثل الريحان، أو الأقحوان.

اتجه الفصل بأكمله كالمعتاد. قادنا المدرس ذو البالطو الأبيض. كان سارحًا أكثر من سرحانه المألوف. شاردًا بنظراته في أنحاء الفناء، كأن ثمة ندَّاهة تناديه، وهو يخاصمها حينًا، ويفكِّر في الرد عليها حينًا، ثم يهجرها كسلًا بقية الأحيان. شعره الأصفر المختلط بالأبيض، والذي تعود طلاءه بالفازلين، تطاير في ثقل مع نسائم شتوية متجبِّرة. يبدو أنه نسي دهانه هذا الصباح. لطالما شعرت أنه في السبعين على الأقل، بينما هو — بالطبع — لم يصل إلى سن المعاش بعدُ. على أي حال كان أفضل من زميله المختل عقليًّا، والذي أغرقتنا أمواج عصبيته، الدائمة الهياج، ليدخل علينا ذات مرة، ويشبعنا ضربًا بخرزانته، بشكل عشوائي مسعور، نكتشف بعدها أن سببه ما قاساه من زحام في المواصلات. لقد دمغته مجنونًا رسميًّا حينما ضحك بعدها كالأبله، سائلًا وكأن آهات ألم لا تدوِّي، وساعات يد لم تُكسر: «إيه رأيكم في ماتش امبارح بقى؟!» هذا الرزين أفضل منه بمراحل …

وصلنا إلى غرفة الزراعة، وجلسنا هذه المرة خارج بابها. تعالت أصوات بعضنا. ثرثرة، مجرد ثرثرة فارغة كالهواء. وجلست أنا صامتًا، لا أجد ما أقوله. كنت مشغولًا طيلة إجازة الأسبوع الماضي بقراءة مجموعة قصصية لنجيب محفوظ. وطبعًا، لن أجد من زملائي من سيستمع إلى حديث عن هذا الأمر، أو يطيقه. كانت الغالبية تتحدث عن مدى حلاوة فتيات إعلان جديد عن البسكويت، مقررين أن الثالثة منهن كانت الأجمل … رغم أن شعرها مصبوغ على نحو مقزِّز، ومساحيق التجميل تغطيها كشيء مزيف. هذا كان رأيي الذي لم أحب إعلانه؛ كراهيةً لخوض حديث مثل هذا، أو لأنهم سيضحكون عليَّ، كما يفعلون مع أغلب كلامي، أو لأني لا أريد الحديث معهم من الأساس. التزمت بصمت ظاهره مريح، وباطنه حزين.

مرت دقائق كخلع ضروس على مَهَل. نحن جالسون، والأستاذ بالداخل، ولا جديد. بعد انتهائه من إجراءات الحضور والغياب، دلف إلى الغرفة، وجلس وراء مكتبه يقرأ، متغيبًا عن العالم بأسره. كان الجو باردًا، لأن ثمة شباكًا كبيرًا على سلم الدور، مفتوحًا على مصراعيه، يطل منه الشتاء مُحدِّقًا فينا بفجاجة. كل شيء كان كبيرًا زمان. وعمر هذا المبنى تجاوز المائة عام حسبما سمعت. ترابزين السلم له زخارف حديدية لم أشهد فنيَّتها إلا في منازل الأثرياء في الأفلام القديمة، يعلوها خشب ذو سماكة، أخضر اللون، شديد النعومة، عشقت لمسه، ومرور باطن كفي عليه، في كل صعود وهبوط.

تغوَّلت الرياح، واقتحمت المكان محاصرةً إيانا، لنرتعش جميعًا. لم يفلح النفخ في الكفوف، أو هز الساقين. لف جاري كوفيةً قصيرةً رفيعةً حول رقبته، كانت أقرب لمنديل مبروم، وكأنها حل سيدفئه. لُذت أنا إلى حواري الداخلي، وطفقت أؤلف قصةً جديدةً، سأسطرها حين أصل إلى البيت.

بدأ التلاميذ في التسرب الواحد تلو الآخر. فالسلَّم أمامنا، وواضح أن الأستاذ لن يباليَ، أو يلتفت. توالى التسلل من المكان، والعودة إلى الفصل. الكل اقتنع أن الجلوس هنا صار بلا معنًى. ولا أحد يعترض. فلمَ لا؟! رحل عشرة، ثم عشرون، ثم بقي ٤، و٣، ثم لم يبقَ إلا أنا. كنت ملتصقًا بالدكة الخشبية، أتطلع إلى لمعان سطحها المصقول الفارغ في ضوء الشباك — ذلك الذي تحول لمستطيل فضي ساطع — مقاسيًا البرد، والوحدة أيضًا.

نظرت إلى الأستاذ. إن باب الغرفة مفتوح، ومن الأكيد أنه رأى مغادرة الطلبة، أو شعر بها. لكن وجهه ملتصق بما يقرأ. ما المهم فيما يقرؤه إلى هذا الحد؟ أهي وصفة سحرية للسعادة الجنسية؟! سمعته مرةً يحكي مع زميله المخبول أن الجنس هو أهم شيء في الوجود. وبدونه لا متعة في هذه الحياة العقيمة. سخر المخبول منه، ومن تقدم سنه، وفخر بشبابه، وفحولته. لكن الأستاذ رد له السخرية، وعايره بصلعته؛ وهو ما ألقى الجمر على زيته، وأشعل جنونه. فإن أي معايرة من هذا النوع كانت توصله إلى آخر طوابق ناطحة سحاب عصبيته، ليلقي من أعلاها بمن يحادثه!

نظرت إلى أستاذي الأشقر في جِلسته الباردة، وأشفقت عليه. ثم رجعت إلى مكاني، ألتهم الصمت ويلتهمني. المكان ساكت جدًّا. لا أصوات حولي إلا لارتعاش عظامي، وخبط الرياح لأذني، وزقزقة عصافير تحتفل بالصباح … تابعت أطيافها وَسَط المستطيل الفضي، تحلِّق في السماء سعيدةً. لعلها سعيدة لأنها تحلِّق. آآآه، لماذا يا أبي علمتني أن ألتزم بالقواعد، وأحترم الآخرين؟ هنا لا توجد قواعد، وليس كل الآخرين يستحقون احترامًا. ربما دمعت عيناي على جِلستي وحيدًا، فقرَّرت بهدوء أن أقوم ﺑ «حركة» مُغامِرة …

هبطت السلم، عائدًا إلى الفصل، حيث لقيت الجميع هناك؛ يلعبون، ويغنون، ويثرثرون. مغلقين الشبابيك، ومتنعمين بالدفء. أخبرتهم بصوت عالٍ، وتمثيل محكم، أن الأستاذ يريدهم هناك حالًا. فرد أحدهم ﺑ «تناحة» أعجبني مَنطِقها: «لو عايزنا، ييجي هو هنا!» … فعلًا، إنه لا يريدنا، ولا يكترث.

نزلت قاصدًا غرفة الزراعة، متذكِّرًا أنها مادة هامشية، لا ندرس فيها شيئًا تقريبًا. وجودها يساوي عدمها. لكن أليس لهذا الوقت قيمة؟ إن الدقيقة لها أهميتها، ويجب ألا تعبرنا هكذا دون أن نستفيد منها. سيحاسبنا الله على كل ثانية! قلت في نفسي أني سأذهب إليه، وأسأله لماذا لا يحرِّك ساكنًا؟ وكيف نتصرف حين صمته المبهم هذا؟ وماذا أفعل أنا؟

بلغت مكانه، ودنوت منه. كان مثل ميت يتنفس. صنم يقرأ. روبوت بنظارة «كعب كباية»، متدلية على أنفه. بحثت عن الكلمات على لساني، فلم أجد. ريقي ناشف كالحطب. هل أنا خائف من مواجهته؟ نعم. حشدت غيظي، واستنفرت جرأتي، ونطقت سائلًا: «يا أستاذ … يا أستاذ …» ودون أن يترك ما يقرأ، أو يعيرني نظرةً واحدةً، رد بلهجة زاجرة، ونبرة خفيضة: «ارجع مطرحك.»

عدت إلى دكتي بتباطُؤ كان كل ما أملك من اعتراض، وانتظرت جرس نهاية الحصة حتى أعود إلى فصلي، متمنيًا أن يلاقيَ أستاذي من يعامله هكذا يومًا ما، وداعيًا الله أن يخرجني من هذا السجن على خير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤