حلم الحب

كنت أمام عمارة قديمة، تشبه بيت جدتي، وأناسٍ متجمعين، يشبهون أقاربي الذين لم أعد أراهم إلا في المآتم، وعبد الحليم حافظ يقف ببدلة فخمة، متوترًا، يفرك كفَّيه كزوج يقف على باب حجرة عمليات، منتظرًا تحوله إلى أب. هدَّأت من رَوعه، فهناك حفلة داخل المكان، وهو نجمها، ولا بد أن يثق في نفسه، ويواجه جمهوره، ليبهرهم بأحلى الأغاني. نظر إليَّ بعيون مبيعة للحزن، قائلًا برهافته المعهودة، لكن مع يأس هذه المرة: «مش ح أقدر من غيرها …» فهمت تلميحه لغيابها. لكن ماذا نفعل؟ لقد افترقا. لا أعلم السبب بوضوح؛ أكانت غنيةً وهو فقير؟ أم العكس؟ أم فهم خطأً أنها خانته؟ أم العكس؟ إلى آخر قاموس الميلودراما الذي تقتات منه أفلامنا القديمة. انتقل حزنه إليَّ، لكني لم أظهِر ذلك، ودفنت شجني وراء ابتسامة بارعة، مربتًا على كتفه، كي يخلع عنه توتره، ويتجه لمسرحه، وفرقته، وحلمه. دخل وأنا أسمعه يرد دون كلام أنها — أيضًا — حلم، ربما الحلم الذي لا تكتمل بدونه بقية الأحلام. تلاشى ظله، لكن ليست حرارة مشاعره. وبعد ثوانٍ، سمعت همسةً أعرفها وأحبها. التفتُّ في الجانب، لأجدها في سيارة مختفية تحت ظل شجرة وارفة. إنها سعاد حسني، حبيسة سيارتها، عاجزة عن الدخول، والالتقاء مع حبها. أف! … ما الذي يعقِّد العلاقات الإنسانية إلى هذه الدرجة الغبية؟! لماذا يلتقي البشر لينفصلوا؟! ألا يدركون أن البُعد مَوَات؟! لماذا يصنعون عذابهم بكل هذا الإتقان؟! إنهم كعشماوي والمجرم الذي سيتم إعدامه شنقًا في الوقت ذاته! فهمت من ازدحام الدموع في مقلتيها أنها تتألم لعدم قدرتها على رؤيته، وحضور نجاحه. أخبرتني أنها مستعدة للتضحية بأي شيء حتى تكون بجواره في تلك اللحظة، مقاسيةً شعورًا ضاغطًا أنها نصف إنسان، وتهفو إلى نصفها الآخر بجنون، لكن الظروف التعيسة تمنع ذلك. عرفت أني أشاهد قناة المستحيل. أني أقرأ روايةً مكتوبًا عليها أَلَّا تكتمل. البعض يرى في سماع الأحلام التي يتعذَّر تحقيقها طرافةً وتسليةً. كيف يحتملون ذلك؟! إنه أكثر شقاءٍ يمكن أن تتعرَّض له. حلم بلا تحقق هو طعنة في حق إرادتك كإنسان. أليس العَجْز هو أسوأ ما يتعرَّض له خليفة الله، القادر القدير، على الأرض؟! يبدو أن ملح الأيام السوداء التي نعيشها منذ عقود ملأ المسام، والدماء، والأرواح، حتى غدا المرور به في طريقنا، أو في طرق الآخرين، جزءًا من أنفاس الواقع ليس إلَّا. نظرتُ إليها والقنوط يقطِّع لساني، كانت تعرف أن لا شيء بيدي أو بيدها. هزمتْها دموعها، بينما تراجعتُ مهزومًا أمام الموقف، عائدًا إلى بوابة البيت، أو المسرح، راكلًا بقدمي حجرًا رماديًّا تائهًا. كان مثل قلبي. لكن على عكس الحجر، سأل قلبي نفسه: أيهما أردأ حالًا؛ قلوب تحِب، وتُحَب … أم قلوب لا تجد من تحِبه، وتُحَب منه؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤