الفصل الأول

(١) العاصفة

أقْبَلَ الشِّتاءُ بِأَمْطارِهِ وَزمْهَرِيرِهِ (شِدَّةِ بَرْدِه). وَهَبَّتْ عاصِفَةٌ قَوِيَّةٌ هَوْجاءُ، فانْحَنَتْ أمامَها أَشْجارُ الغابةِ، حتَّى تَنْجُوَ مِنها سالِمَةً …

وَظَلَّتِ الرِّيحُ تُصَفِّرُ مُزَمْجِرَةً (شَديدةَ الصِّياحِ) مُنْذِرةً بِالْوَيْلِ (مُتَوَعِّدَةً بوقُوعِ الشَّرِّ وَحُلول العذاب) والدَّمارِ (الْهَلاكِ).

وَصَرَخَتْ صغارُ السَّناجيبِ — وهِيَ في عُشِّها الَّذي اتَّخَذتْهُ في أَعْلى شَجرَةِ الشُّوح (وَهِيَ شَجَرَةٌ أَغْصانُها عَلَى هَيْئَةٍ مَخْرُوطَةٍ) — وَتَعَالَتْ أَصْوَاتُها شاكِيَةً راهِبَةً (خائِفَةً): «أَدْرِكْنا — يا أبانا — فَقَدْ قارَبْنا الْهَلاكَ، وَأَشْرَفْنا عَلَى التَّلَفِ، وَأَوْشَكَتِ الشجرَةُ أَنْ تَهْوِيَ (تَسْقُطَ) بنا إلى الأرضِ، وَلَيْسَ بَيْنَنا وَبَينَ الْمَوْتِ إلَّا لَحَظاتٌ يَسِيرةٌ (زَمَنٌ قليلٌ).»

(٢) فَزَعُ السَّناجِيبِ

فقالَ أَبو السَّناجِيبِ لِأوْلادِه الثَّلاثةِ: «هَدِّئُوا منْ رَوْعِكُمْ (خَفِّفُوا منْ فَزَعكُمْ)، فإنَّ هذهِ الْعاصِفَةَ الْهَوْجاءَ (الرِّيحَ الْقَوِيَّةَ الَّتي تَهُبُّ هُنا وهُنالِكَ، فَتَقْتَلِعُ ما أمامَها) لَنْ تَلْبَثَ — عَلَى شِدَّتِها — إلَّا وَقْتًا يَسِيْرًا، ثُمَّ لا يَبْقَى لَها أَثَرٌ.»

وكان «اللَّامِعُ» و«السَّاطعُ» و«الْبَرَّاقُ» يَكادُون يَهْلِكُونَ منْ فَرْطِ الْفَزَعِ، (مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَالْجَزَعِ) وَيَلْتَصِقُ بَعْضهُمْ بِبَعْضٍ، لِيَتَوارَوْا (لْيَسْتَتِرُوا) خَلْفَ أبيهم وهُمْ حَسَنُو الْهَيْئَةِ، شُقْرٌ (أَلْوانُهُمْ بَيْنَ الْحُمْرَةِ والصُّفْرةِ).

أَمَّا أَبُوهُمُ الشَّيْخُ «قُنْزُعَةُ»؛ فَهُوَ سِنْجابٌ جَمِيلُ الطَّلْعَةِ، أدْكَنُ (يَمِيْلُ لَوْنُهُ إلى السَّواد)، كَثِيفُ القُصَّةِ (كَثِيرُ الشَّعْرِ في مُقَدَّمَةِ رَأْسِه). وقد بَذَلَ الشَّيْخُ جُهْدَهُ في تَسْكِينِ رُوعِهِمْ (تَثْبِيتِ قَلْبِهِمْ)، وَتَهْدِئَةِ ثائِرَتِهم (ضَجَّتِهِمْ وَهِياجِهمْ)، وَتَأْمِينهمْ مِنَ الْخَوْفِ. وَقالَ لُهمْ، فِيما قال: «لا عَلَيْكُمْ (لَنْ يُصِيبَكُمْ أذًى)، يا بَنِيَّ الأعِزَّاءَ، فإنَّ العاصِفَة — عَلَى شِدَّتِها — لا تَلْبَثُ وَقْتًا طوِيلًا. وَلَيْسَ لكم إِلاَّ الصَّبْرُ الْجَمِيلُ!»

ولَمْ يَكَدْ «قُنْزُعَةُ»: أبو السَّناجِيبِ، يُتِمُّ قَوْلَهُ، حتَّى هَبَّتْ (ثارَتْ وهاجَتْ) عَلَى الشَّجرةِ ريحٌ صَرْصَرٌ عاتِيةٌ (قَوِيَّةٌ عَنِيفَةٌ)، أَوْشَكتْ أَنْ تَقْتَلِعَها مِنْ جُذُورِها؛ (كادَتْ تَنْتَزِعُها مِنْ أُصُولِها) فانْقَلَبَ السَّناجِيبُ الأرْبَعةُ، بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَأَخَذُوا يَصْرُخُون في عُشِّهِمْ مَذْعُورِين (خائفين).

(٣) هُدُوءُ الْعاصِفَةِ

ثُمَّ خَفَّتِ العاصِفَةُ (قَلَّتْ شِدَّتُها) شَيْئًا فشَيْئًا، وَسَكَنتِ الرِّيحُ الْعاتِيَةُ (الشَّديدةُ العَصْفِ، التي جاوزَتْ حدَّ هُبُوبها).

فَرَفَعَتْ شجرَةُ الشُّوحِ العجُوزُ رَأْسَها الَّذي زَعْزَعَتْهُ الصَّدَماتُ العنِيفَةُ وتَطلَّعتْ إلى بَنات جِنْسها — مِن شُجيْراتِ الشُّوحِ؛ فَهالَها ما رَأَتْهُ، وَحَزَنها مَصارِعُ الشُجيراتِ الَّتي اقْتَلَعْتها العاصِفَةُ الهَوْجاءُ، وَقذفَتْ بها (رَمَتْها) عَلَى الأعْشابِ!

وقال «قُنْزُعَةُ» أَبُو السَّناجِيبِ لأَبْنائهِ: «يا لها مِن عاصِفةٍ مُفَزِّعةٍ، هائلةٍ مُروِّعَةٍ! لقدْ عِشتُ عُمُرًا طوِيلًا — يا أَوْلادِي — وأَصْبحتُ شيخًا طاعِنًا في السِّنِّ، ورَأَيْتُ فُصُولَ الشِّتاءِ مُتعاقِبَةً (مُتتالِيةً) في هذهِ الغابةِ، فلمْ أرَ — لِهذِه الْعاصِفَةِ الهوجاءِ — مَثيلًا. ولقدْ كانَ مِنْ حُسْنِ حَظِّنا أنَّ هذِهِ الشجرةَ الَّتي نأْوِي إليْها (نَسْكُنها) مَتِينةٌ قَوِيَّةٌ.»

(٤) طعامُ السَّناجِيبِ

فقالَ لَهُ وَلَدُهُ «اللَّامِعُ»، وَقَدِ اشْتَدَّ بِهِ أَلَمُ الجُوعِ: «أَيْنَ زادُنا (طَعامُنا)، يا أَبَتاهُ؟ فما أَظنُّهُ إلَّا تَفَرَّقَ، وَقَذَفَتْ بِه الرِّيحُ، إِلَى حَيْثُ لا نَعْلَمُ!»

فأجابَهُ «قُنْزُعَةُ»: «لا عَليْكَ — يا وَلَدِي — (لا بَأْسَ عَليْكَ، وَلا تَهْتَمَّ)، وَلا تَخْشَ عَلَى زادِنا الضَّياعَ؛ فإنَّ أَباكَ شَيْخٌ مُتَبَصِّرٌ (عَلِيمٌ عارفٌ) بَعِيدُ النَّظَرِ، يُقَدِّرُ عَوَاقِبَ الأُمُورِ (يَحْسَبُ لها حِسابَها). وَقَدْ أَعْدَدْتُ عُدَّتِي — فِي فَصْلِ الْخَرِيفِ — لِأَمْثالِ هذِهِ الْمُفاجَأَةِ، فَخَبَأْتُ زادَنا — مِنَ الْجَوْزِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ — تَحْتَ سِيَاجِ الْأَعْشابِ (تَحْتَ سُورِها الْمُحِيطِ)، حَتَّى لا تُبَدِّدَهُ (لا تُفَرِّقَهُ) الْعَواصِفُ، وَلا تَذْرُوهُ (لا تُطَيِّرَهُ) الرِّيَاحُ.»

فاطمَأَنَّتِ السَّناجِيبُ عَلى زادِها، ثُمَّ أَنْشَأَتْ تُعْنَى (تَهْتَمُّ) بِتَنْسِيقٍ هِنْدامِها، وَتَنْظيمِ فِرَائِها وَأَذْنابِها الَّتي تَشَعَّثتْ (انْتَفَشَ شَعرُها). وَلَمْ تَلْبَثْ — بَعْدَ لَحْظَةٍ قَصِيَرةٍ — أَنْ أَعْمَلَتْ أَلْسِنَتَها اللَّطِيفَةَ الصَّغِيرَةَ فِي شَعْرِها، حَتَّى نَسَّقَتْهُ (نَظَّمَتْهُ)، وَأَصْلَحَتْ مَا تَشَعَّثَ (ما تَفَرَّقَ) مِنْهُ.

(٥) بابُ العُـشِّ

وَصاحَ «الْبَرَّاقُ» مَذْعُورًا (خائِفًا)، وَهُوَ مُنْزَوٍ (مُخْتَفٍ) فِي رُكْنٍ مِنْ أَرْكانِ الْعُشِّ، وَقَدِ انْتَظَمَتْهُ الرَّجْفَة (شَمِلَهُ الرُّعاشَ)، مِنْ شِدَّةِ الْبَرْدِ. قالَ: «ما أَشَدَّهُ بَرْدًا، وَما أَقْساهُ زَمْهَرِيرًا!»

فَقالَ أَبُو السَّناجِيبِ «قُنْزُعَةُ»: «صَدَقْتَ يا «بَرَّاقُ»، فَقَدِ اشْتَدَّ البَرْدُ، وَلا بُدَّ (لا مَفَرَّ) لَنا مِنْ إِغْلاقِ بابِ العُشِّ (إِقْفالِهِ) عَلَيْنا، حَتَّى نُصِيِبَ (نَنالَ) ما نَرْجُو مِنَ الدِّفْءِ (السُّخُونَةِ) والْحَرارَةِ.»

وَجَمَعَ «قُنْزُعَةُ» قَبْضَةً مِنَ الْحَشائِشِ الْيَابِسَةِ، بِيَدَيْهِ الْأَمامِيَّتَيْنِ، فَمَلَأَ بها فاهُ، ثُمَّ لَفَظَها (رَمَى بِها وَطَرَحَها) نَافِخًا بِقُوَّةٍ، فَسَدَّ مَنْفَذَ العُشِّ. ثُمَّ قالَ: «لقَدْ وَقَيْتُكُمْ غائلَةَ الْبَرْدِ (شِدَّتَهُ الْمُهْلِكَةَ)؛ فالْبَثُوا — أَيُّها الصِّغارُ الْأعِزَّاءُ — وادِعِينَ (أَقِيمُوا مُرْتاحِينَ)، ونامُوا آمِنِينَ.»

(٦) نَشيدُ النَّوْمِ

واقْتَرَبَ «قُنْزُعَةُ» مِنْ بَنِيه، والْتَفَّ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مُتَحَوِّيًا (مُسْتَدِيرًا عَلَى نَفْسِهِ مُتَجَمِّعًا) كالْكُرَةِ، وَأَصْبَحَ فُوهُ (فَمُهُ) عِنْدَ بَطْنِهِ، شَأْنُ السَّناجيبِ حِينَ تَتَأَهَّبُ لِلنَّوْمِ.

ثُمَّ سادَ الْعُشَّ سُكُونٌ عَمِيقٌ.

فَهَلْ تَحْسَبُونَهُمْ (تَظُنُّونَهُمْ) — أَيُّها القُرَّاءُ الْأَعِزَّاءُ — قَدِ اسْتسْلَمُوا لِلْنَّوْمِ؟ كلَّا. فَإِنَّ عَيْنَيْنِ صغِيرَتَيْنِ كانَتا تَبْرُقانِ فِي الظَّلامِ، وَذَنَبًا يَرْتَجِفُ آَنًا بَعْدَ آخَرَ (ذَيْلًا يَرْتَعِشُ حِينَا بَعْدَ حِينٍ).

وَمِنْ عادَةِ السَّناجيبِ أنْ تَثِبَ بَيْنَ الْغُصُونِ، قافِزَةً مِنْ فَرْعٍ إِلَى آخَرَ، وَهِي تُحِبُّ الْوَثْبَ وَالقَفْزَ حُبًّا جَمًّا (كَثِيرًا). لِهذَا بَرَقَتْ (لَمَعَتْ) عَيْنا ذلِكَ السِّنجابِ الصَّغِيرِ: «البَرَّاق». وَلكِنَّهُ — هُوَ وَأَخَوَاهُ — قدْ آثَرُوا (اخْتارُوا) الصَّمْتَ، وَأَخْلَدُوا (ارْتَكَنُوا) إِلَى السُّكُونِ، تَلْبِيَةً لأَمْرِ أَبيهِمْ.

وَمَرَّتْ لَحَظاتٌ قصِيرَةٌ، ثُمَّ عَجَزَ «البَرَّاقُ» عَنْ مُغَالَبَةِ شَوْقِهِ إِلَى الْوَثْبِ (الْقَفْز)؛ فَانْخَرَطَ (أَسْرَعَ) فِي الْبُكاءِ، وقالَ لِأَبيهِ فَجْأَةً: «لَقَدْ أَعْجَزَنِي أَنْ أَظْفَرَ بِالنَّوْمِ، فَلَيْسَ لِي مِنْ سَبِيِلٍ إِلَيْه، يا أَبَتاهُ.»

فَرثَى «قُنْزُعَةُ» (رَقَّ) لِحالِ ولَدِه «الْبَرَّاقِ»، وَقالَ لَهُ حانِيًا (عاطِفًا)، مُشْفِقًا (خائِفًا): «ادْنُ (اقْتَرِبْ) مِنِّي — يا وَلدِي الْعَزِيزَ — والْتَصِقْ بِي، فإِنِّي مُغَنِّيكَ أُنشُودَةً (أُغْنِيَّةً) جَميلَةً، لَعَلَّكَ تَنَامُ.»

•••

ثُمَّ أَنْشأَ يُغَنِّيهِ نَشِيدَ النَّوْمِ، الَّذِي تَحْفَظُهُ أُمَّاتُ السَّناجِيبِ جَميعًا، وَتُلَقِّنُهُ أَوْلادَهُنَّ (تُفَهِّمُهُنَّ إِيَّاهُ، وتقولُهُ لَهُنَّ مُشافَهَةً)، لِيُنْشِدْنَهُ، اسْتِجلابًا للنَّوْمِ والرَّاحةِ، فقالَ، فِي صَوْتٍ عَذْبٍ، يَفِيضُ رِقَّةً وَحَنَانًا:

«نَمْ آمِنًا يا «لامِعُ»
نَمْ آمِنًا يا «سَاطِعُ»
يا أَيُّها «الْبَرَّاقُ»، نَمْ
وُقِيتُمُ كُلَّ أَلَمْ!
وَأَشْرَقَتْ أَيَّامُكُمْ
وَسُعِدَتْ أَحْلامُكُمْ
وَسـاعَفَتْكمُ المُنَى
بِكُلِّ أَسْبَابِ الْهَنا
«نَمْ آمِنًا يا «لامِعُ»
نَمْ آمِنًا يا «ساطِعُ»
يا أَيُّها «الْبَرَّاقُ»، نَمْ
وُقِيتُمُ كُلَّ أَلَمْ
غَلَبْتُمُ أَعْـداءَكُمْ
وَنلْتُمُ رَجاءَكُمْ
وَحَقَّقَ الدَّهْـرُ بكُمْ
آمالَنـا بِقُرْبِكُمْ
«نَمْ آمِنًا يا «لامِعُ»
نَمْ آمِنًا يا «ساطِعُ»
يا أَيُّها «الْبَرَّاقُ»، نَمْ
وُقِيتُمُ كُلَّ أَلَمْ
فَأَغْمِضُوا أَجْفانكُمْ
وفَارِقُوا أَحْزانَكُمْ
سَلِمْتُمُ مِن الرَّدَى
وَمِنَ مَكايِدِ الْعِدا
«نَمْ آمِنًا يا «لامِعُ»
نَمْ آمِنًا يا «ساطِعُ»
يا أَيُّها «الْبَرَّاقُ»، نَمْ
وُقِيتُمُ كُلَّ أَلَمْ
نامُوا جَمِيعًا وانْعَمُوا
بِالنَّوْمِ فَهْوَ مَغْنَمُ
في صِحَّةٍ وَعَافِيَهْ
وَمُتْعَةٍ مُوافِيَهْ
«نَمْ آمِنًا يا «لامِعُ»
نَمْ آمِنًا يا «سَاطِعُ»
يا أَيُّها «الْبَرَّاقُ»، نَمْ
وُقِيتُمُ كُلَّ أَلَمْ
سَلِمْتُمُ — فَأَنْـتُمُ
رَجاؤُنا — وَدُمْـتُمْ

وظَلَّ «قُنْزُعَة» يُرَجِّعُ (يُرَدِّدُ) هذهِ الأُنْشُودَةَ الجَمِيلَةَ، وصَوْتُهُ يَخْفُتُ (يَسْكنُ أَوْ: يَسْكتُ) شَيْئًا فَشَيْئًا، حَتَّى أَسْلَمَ أَوْلادُهُ أَجْفانَهُمْ لِلنَّوْمِ، وراحَ مَعَهُمْ فِي سُباتٍ (نَوْمٍ) عَمِيقٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤