أخبار العباس بن أحمد بن طولون

قال مؤلف هذا الكتاب: لمَّا ضبط أحمد بن طولون أطرافَ عمله، بلؤلؤ غلامه وابن جيغويه، ومَنْ ضمَّ إليهما من الرجال، أغذَّ السير من الثغر إلى الفسطاط ليبادر أمر العباس ابنه. وكان سبب خروج العباس إلى الغرب حمقه ونقصه، وإنما قدَّمه أبوه على سائر ولده لكبَرِ سنه، ولأنه كان أحظاهم عنده، ولهوًى كان له فيه من هوى الأبوة، ومن الناس مَنْ يعمى عن حظ نفسه وعَيب ولده لهواه فيه، وإن كان أبوه حازمًا لا يُطعن عليه، لكنه كما قال الشاعر:

ويُسيءُ بالإحسان ظنًّا لا كمن
هو بابنه وبشعرِه مفتونُ

فخانَه أملُه فيه وأتاه من المقدور ما ليس في خَلَده، وهذا لصغر الدنيا عند الله، عزَّ وجل، ولنزارة محلها، وليُنبِّه أولي الألباب على مقدارها، وأنها لا تدوم لأحد ولا تصفو له وإن حَسُن تدبيره، وصحَّ تمييزه، وقيل هو واحد زمانه.

ولم يزل أحمد بن طولون كذلك مستقيمة أموره كلها مصحَّحة أمانيه، يُعطَى سؤله وإرادتَه حتى بلغ الكتابُ أجله، فكان أول انحلال أمره وعكس قصته وتنقُّص الأمور عنه، أمر العباس ابنه، فانعكسَت العين على مَنْ آمن سبلَها وأعذب شِرْبها، وذلك ولده وقرة عينه، وأحب الأشياء كلها إلى قلبه، والمؤمَّل لسدِّ مكانه، و[أن] ينوب مَنابَه، فكان كما قال الشاعر:

أُتيتُ في أمريَ من مأمني
ولم أكن فيه بمُرتابِ
وقد يُوفَّى ويُلقَى الردَى
محترسٌّ من ضعفِ أسبابِ

وذلك أنه اشتملت على العباس ابنه طائفةُ سوءٍ من صنوفٍ شتى؛ فمنهم قُواد استخلصَهم، واستحجَب كثيرًا منهم، كانوا يخافون أباه ويحسدونه بالنعمة عليه، ويتمنَّون تلفَها وزوالَها، ودخول النقص عليها من أي وجه تهيَّأ له، فأشاروا على العباس بالخلاف على أبيه والانحراف عنه، واتفَق لهم أنه أُرجف بموته لمَّا طالت غيبتُه بالثغور والشامات.

منهم علي بن ماجور١ وعبد الله بن طغيا وأحمد بن صالح الرشيدي وأحمد بن القاسم بن أسلم و[جعفر] بن حدار٢ الكاتب، وكل هؤلاء كان لأحمد بن طولون عنده النعمة الجزيلة، والإحسان التام، والأشياء الخطيرة، إلا أن الحاسد لا دواءَ له، ولا يقنعه إلا أن يأتي على نفس مَنْ يحسُده.
ومنهم طائفةٌ أخرى مذهبهم النحو والغريب وعلم النجوم والشعر وما يجري مجراه. وانضاف إليهم جعفر بن عبد الله وأحمد بن [المؤمل] المعروف بأبي معشر، ومحمد بن أزهر٣ المعروف بالمنتوف. وكل هؤلاء حسَّنوا له التغلُّب على مصر، والفتك بأحمد بن محمد الواسطي.
وكان العباس ممتلئ القلب من هيبة أبيه، وكل مَنْ أشار عليه لا علم له بسياسة جيش، ولا تدبير أمر، فرام العباس أن يُظهِر التغلُّب من مصر فمنَعه الواسطي، وخاف دخول الخلَل في الأعمال، وكان أبوه أَمَرَهُ قبل خروجِه إلى الشام واستخلافِه إياه في البلد ألا يتجاوز ما يشير عليه به الواسطي، وقال له: يا بُنيَّ، إن الواسطي قد عجم أمري وعرف ما يُصلِحه، فأقْبِلْ عليه، وفوِّض الأمر إليه، وتضافرا على ما يحسُن معه الأثَر فيما أنتما بسبيله، وكانت هذه الطائفةُ تُزري٤ على الواسطي عند العباس، وتقع فيه وتوحِش بينه وبينه، ويحكون عنه أن ألفاظه عامية، وأنه يغلَط في كُتبه، ويُكثر اللحن فيها — وكان العباس أديبًا حَسَن الأدب إلا أن الكمال لله، عزَّ وجل — وقالوا فيه من هذا المعنى ما لا يضع منه ولا يعكِّر فيه، لفضله وعقله، لولا عمى قلب العباس وقلب مَنْ أشار عليه. أليس البلدُ في يده وأمرُه نافذٌ فيه، وفيما يريده من مال وغيره، متمكِّن منه مبذول له؟ ولكن نعوذ بالله من الخذلان.

وكتب الواسطي إلى أحمد بن طولون كتبًا بخطِّه، يذكر فيها ما يلحقه من سوء اعتراض العباس، ومنْعه له من استيفاء الرسوم السلطانية بمصر، وأنه مقبوض اليد، ويذكُر الطائفة التي استولَت عليها وتخطِّيها في البلد إلى ما ليس من عملها، وكان محبوب بن رجاء عدوَّ الواسطي، فكان كلما ورَد من الواسطي كتابٌ إلى أحمد بن طولون يُنفِذه إليه لموضع كتابته لأحمد بن طولون، وأخذه كل كتابٍ يرِد عليه، وكتَب عنه بما يأمره به، فكان ذلك مما يزيد في غيظ العباس على الواسطي ويُحقِدُه له.

ولجَّ العباس وجدَّ فيما اعتزم عليه، فلخوف الواسطي من سوء العاقبة، قال له بما جعلَه له أبوه من اليد في البلد: إن أضربتَ أيها الأميرُ عما قد حملتَ عليه وإلا منعتُكَ منه. فأجابه العباس بجوابٍ قبيح، وخاف الواسطي تأنيب أبيه في ستر الأمر عنه، وأن يُلزِمه أحمد بن طولون الذنب فيما يأتيه العباس، فكتب إليه يشرح له القصة، ولم يستُر عنه منها شيئًا، ويذكُر أن حيلتَه تعجز عن منعه، فأجابه يُوصِيه بالمداراة له إلى موافاته، فاستعمل معه ذلك حتى زاد أمره، وعجز عن مداراته، فاستتر في داره ولم يحتمل الامتهان، فركب إليه العباس وهجم عليه وأخرجه مكرَهًا، ووجد عنده الأجوبة من أبيه عن كُتبه كانت إليه في أمرها، فأخذها فلمَّا وقف عليها اشتدَّ خوفُه من أبيه وساء ظنُّه به، فقيَّد الواسطي وأيمن الأسود وكان من غلمان أبيه وثقاته؛ لأنه أشار عليه بما يُشير به الناصح.

وأظهر العباس لمَّا قوي في نفسه الخوف من أبيه أنه يريد الخروج إلى الإسكندرية، فقال له محمد بن أبَّا ونظراؤه من قُواد أبيه: ما يصنع الأمير بالإسكندرية؟ فقال: بلغني أن الروم تطرقُها وأحبُّ أنْ ألقاهم لعل الله، جلَّ اسمُه، أن يُظفِرني بهم. فقالوا له: بعضنا يكفيك هذا، والصواب ألا تفارق [ما جعلك] الأمير، أيَّدَه الله، عليه، والمرتبة التي رتَّبَك فيها؛ فأنت أيها الأمير العِوَض منه، ومقامه في دار مملكته، فلم يُصغِ إلى قولهم، واستخلف أخاه ربيعة على البلد وخرج، وكتب هؤلاء القُواد إلى أبيه يُبْلُون بينهم وبينه عذرًا، ويُعرِّفونه أنه قد غلبهم على رأيهم، ولم يتهيأ لهم منعه إلا على سبيل النصح، لقوة يده وما مكَّنه منه الأمير.

وأخذ العباس كل ما تهيَّأ له من المال والمتاع والسلاح والكُراع، وأخذ معه الواسطي وأيمن الأسود مقيَّدَين وخرج، فلمَّا صار إلى الإسكندرية أقام بها أيامًا ثم تجاوزها إلى بَرقة.

ووافى أحمد بن طولون إلى مصر فوجده قد أخذ من المال ألفَي ألف دينار، ولم يُقنِعه ذلك حتى استسلف من التجار ثلاثمائة ألف دينار، وأمر صاحب الخراج أن يضمَنَها لهم ويكتب لهم بها على المعاملين، ففعل ذلك خوفًا منه. وأحضر أحمد بن طولون أبا أيوب وقال له: لم يُقنِعك [ما أخذ] من المال حتى استسلفتَ له من التجار ثلاثمائة ألف دينار! فقال له: خِفْتُهُ، ولم يكن لي به طاقة. فلم يقبل ذلك منه، وألزمه غُرْمها للتجار من ماله، فبلغ ذلك منه مبلغًا كشَفه وأضرَّ به، فشكا ذلك إليه، فقال له: هذا جزاء مَنْ عاون عدُوي وقوَّى يده بمالي. فلمَّا انكشف له ما لحقه من ذلك علم أنه لو مَنعَه لأجرى عليه المكروه، فأزال ذلك عنه، وقَبِلَ عُذْره.

قال: وسعى إليه في ذلك الوقت المعروف بأبي مقاتل بن أبي ثابت بأبيه لمَّا رأى انحراف أبيه عنه، وبأخيه المعروف بأبي حفص، لتقديم أبيه أخاه عليه، فغلظ عليه سعايته بأبيه، فقبض عليه وعلى أخيه جميعًا وضربهما بالسوط فماتا، فأخذ ما كان لهما، وعطفه ذلك على أبيهما.

قال: وراسَلَ أحمد بن طولون العباس ابنه ولطف به، وأنْفَذَ إليه أبا بكرة بكار بن قتيبة والصابوني القاضيَين وأبا محمد مَعمر الجوهري وزيادًا المَعدَني مولى أشهب، وكان فصيح اللسان، حَسَن العبارة، قويَّ الفهم، وأمرهم بملاينته وملاطفته، ووعده في كتابه الصفحَ عما جناه، وألا يسوءه بمكروه، وحلف له على ذلك بأيمان مغلَّظة. وخرجوا فلمَّا وصلوا إليه رحَّب بهم وأكرمهم ورفع مجلسهم، فابتدأ زياد المعدني فقال: يا سيدي، سيدنا الأمير، أيَّدَه الله، يقرأ عليك السلام، ويقول لك: يا أقربَ الناس إليَّ، وأبرَّهم لديَّ، وأعزَّهم عليَّ، خفرتَ ظني بك [أقوى ما كان] أملي فيك، وأرجى ما كنتُ لك، عن غير إساءةٍ كانت مني إليك، ولا خطيئة ركِبْتُها فيك، ولم ترعَ حسن تربيتي لك، وعِظم إشفاقي عليك، وأني رشَّحتُك لمنزلتي، وقدَّرتُ بك حياةَ ذكري، وصيانةَ شملي؛ فأرضيتَ عدوِّي، وأسخطتَّ وليي، أيا سبحان الله! أما تخافُ العقوبة في العقوق وقانيها الله، جلَّ اسمُه، فيك، وثمرة المجازاة على الإساءة، صرفها الله بكرمه عنك؟ فإن رجعتَ إليَّ فكأنك لم تذنب، وإن تمادَى بك الاغترار شخصتُ إليك بنفسي، ولم أكن بأول من خسر سعيه وأخلَف تقديره. وبكى زياد وبكى معه مَنْ حضر، فتدمَّع العباس، وبلغ قولُه من قلبه.

فذكر زياد أنه انصرف مع الجماعة إلى دورٍ قد أُعدَّت لهم، وفرَّق فيما بينهم، وما يُخالجه شكٌّ في أنه يرجع معهم إلى أبيه، لما تبيَّنه من انعطافه وبلوغ كلامه من قلبه، فخَلَت به تلك الطائفةُ التي أغوَتْه حتى خرج، لخوفها من أبيه، فثنَتْه عن انعطافه. وقال له ابن حدار الكاتب: الله الله فينا وفي نفسك، انظر لنا ولك؛ فأنت تعرف أباك وغدره، فارحمنا وارحم نفسك؛ فأنت تعرف طَبْع أبيك وشدة غدره، فإنه يرى أن في استئصال شأفتك، وتقطيع قلبه عليك فيما يأتيه من أمرك وأمرنا بعدك، بما السياسة وتوطيد المملكة توجيه، فخف الله فينا وفيك.

وكان كلام زياد له يشبه معنى ما كاتبه [به] أبوه، وكن فيما ذكره في كتابه بعد دعاء الصدر: وراجع بك إلى الحال التي يحصُل لك عاجلُها، ويتوفَّر عليك ثواب آجلها، ولا حرمك ثواب برِّي وطاعتي، وصرف عنك وزر عقوقي ومعصيتي. ثم قال له فيه: أحين فقأَت النعمةُ فيك أعينَ الأعداء، وبلغَت الغاية القصوى من سرور الأولياء، وبلغتَ السنَّ التي يكون معها انتفاع الوالد بولَده، واستحكَمَت ثقتي بك، وحَسُن ظني بالأيام فيك، واستكفيت على كفايتك وعنايتك عني، أتيتَ ما لا يَحسُن بك، ولا يجمُلُ بمثلك، أستكفي الله، جلَّ اسمُه، مئونة مَنْ حملَك على ذلك، وغلَبك على رأيك، فقد سعى في دينك بما ثَلمَه، وعيشك بما كدَّره، ودنياك بما نقصَها، وآخرتكَ بما أفسدَها، ومروءتَك بما أزرى بها، ونعم الله، عزَّ وجل، عليكَ بما يدعو إلى تبديلها وما، أنا بآيسٍ من أن يُثيبه على عظيمِ ما ركِبه منك، وجليلِ ما جناه عليك في تضييعك حقي، وما ألبسك من ثوب معصيتي، وعرَّضك إليه من سخط الله، جلَّ ثناؤه، وغضبه في إسخاطي ومخالفتي، فإنكَ إذا ميَّزتَه وتبيَّنتَه لم تجدْه إلا أحدَ رجلَين؛ إما رجل أطعنا الله، عز وجل، فيه، فلزمنا أخذ جناية جناها منه، أو رجل طمع في مالِك فاغتنم شُغْلَ قلبك فقال: أفوز بحظٍّ من دنياه في هذا الرهج الساطع، فإن أحسستُ في أمره نقصًا لجأتُ به إلى حيث لا يعرف خبري ولا يدري أين أمري، فميِّز مَنْ شئتَ من خلصائك ونصحائك، فقد ترى أمرك، فإنك لا تجده يخرج من هذَين القسمَين، والله المستعان.

قال زياد: فلمَّا غدَونا إليه وسلَّمنا عليه وجدناه قد حال عما كنا شاهدناه منه، فقال لي: يا زياد، والله إن أبي ما نوى لي خيرًا. فقلت له: يا سيدي، كيف يليق٥ هذا بصدرك وأنت تعلم أنه ما طلعَت الشمس على أحبَّ إلى أبيك منك؟! فالتفت إلى بكار القاضي فقال له: يا أبا بكرة المستشار مؤتَمَن، وأنا أُقلِّدك أمري، أسألك بالله هل تأمَنُه عليَّ؟ فقال له بكار، لما كان عليه من الدين والورع والزهد: قد حلف أبوك لك ألا يسُوءَك، فإما يفي لكَ بما حلَف أو لا يفي، وما يعلم الغيب إلا الله جلَّ اسمُه.

فلمَّا سمع أصحابه قول بكار، قالوا له: كيف رأيت؟ لو تحقَّق القاضي ما يثق به منه لَمَا قال هذا. فكتب لنا جوابًا للكتاب وشَرَط فيه شرائط مجحفة، وأغلظ في خطابه لأبيه بإنشاء ابن حدار الكاتب، وانصرفنا إلى أبيه وعرَّفناه ما جرى بيننا وبينه، ولم تزل بينهما مكاتبات ومراجعات.

ثم دعت العباس حماقتُه [إلى] الخروج إلى إفريقية،٦ ثقةً بما معه من المال والعُدَّة والعِدَّة، ورأى أن ذلك يُقيمه ويُوصِله إليها، وحسَّن ذلك وأطمَعه فيه أصحابه، ليبعدوا عن أبيه، وصغَّروا عنده أمر إبراهيم بن أحمد بن الأغلب صاحب إفريقية، وكاتَب وجوه البربر فتسرَّعَت إليه منهم جماعةٌ كبيرة العِدَّة، وفرَّق فيهم صدرًا٧ من المال الذي كان معه، وتخلَّف عنه أكابر القبائل، واعتلُّوا عليه بأن بينهم وبين قومٍ تِرات، ولا يأمنونهم عند خروجهم عن أوطانهم على أموالهم وحَرَمهم، فرأى أن من حصل معه كافٍ له.
وكتب إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب يقول: إن المعتمد بالله أمير المؤمنين قد قلَّدني إفريقية، وإنه أمره بالخروج إليها. ويأمره بإقامة الدعوة له، ورحل بأكثر مَنْ معه وأكثر المال والذخائر، حتى انتهى إلى حصنٍ يقال له: «لبْدة» ففتَحه أهلُه له، وخرج إليه عامل ابن الأغلب به، فتلقَّاه بأجمل تلقٍّ فقابلَهم بضدِّ ما استحقُّوه منه، وأطلَق لأصحابه نهب الحصن، فنَهبوا وقتَلوا الرجال وسبَوا النساء، وهتكوا مَنْ لم يصلوا إلى سبيه، فهرب أهل الحصن إلى إلياس بن منصور الزناتي [النفوسي] رئيس الإباضية،٨ واستغاثوا إليه، وشكَوا ما نالهم منه، فدخلَته حميَّة الإباضية، فغَضِب من ذلك غضبًا شديدًا، وكان العباس قد كاتبه يأمره بالسمع والطاعة له، وإلا رحل إليه، ووطئ بلده، وبلدُ النَّفوسي بمعزلٍ عن الناس، ممتنع لنجدته وكثرة أهله وقوتهم، ولم يؤدِّ النفوسيُّ إلى الأغلب طاعةً قط، فردَّ الجواب مع رسوله يقول: قل لهذا الغلام إنك أقرب الكافرين مني وأوْلاهم بمجاهدتي، وقد ظهر من قبيحِ فعلِك ما لا يمكنني معه التخلُّف عنك وعن جهادك، وأنا على أثَر رسالتي إليك.

وكانا ابن الأغلب قد أنفذ إلى محمد بن قَرْهب عامل طرابلس بخادمٍ له يُعْرَف ببلاغ في جمعٍ من أهل القيروان كثير، فالتقى مع العباس وكان القتال بينهم مناوشةً لا مناجزةً، فقاتل العباس فيها قتالًا شديدًا بنفسه، وكان مع نقص عقله من الرجال الفُتَّاك، وكان جيِّد الشعر [ومن شعره يفتخر]:

لله درِّيَ إذ أغدُو على فرسي
إلى الهياجِ ونارُ الحرب تستعرُ
وفي يدي صارمٌ أفْري الرءوسَ به
في حدِّه الموتُ لا يُبقي ولا يذرُ
إن كنتِ سائلةً عني وعن خبري
فها أنا الليثُ والصمصامة الذكرُ
من آل طولون أصلي إن سألتِ فما٩
فوقي لمفتخِرٍ بالجود مُفْتَخَرُ
ورِثْتُ مجد أبي عنه وورَّثَني
مجدًا أناف به آباؤه الغُرَرُ
لو كنتِ شاهدةً كرِّي بلبدة١٠ إذ
بالسيف أضربُ والهاماتُ تبتدرُ
يَدْعون لا أينَ والعباس يقدمُهُم
كأنهم حُمُرٌ والليثُ مقتسرُ
إذن لعاينتِ مني ما تسيرُ به
عني الأحاديثُ والأنباءُ والخبرُ
فلمَّا كان من غدٍ غاداه النَّفُوسي في اثنَي عشر ألف مستنصرٍ مقاتل، وزحَفَ إليه أيضًا بلاغ بعسكره من خلفه، فأطبق عليه العسكران، فقُتِل من أصحابه خَلقٌ كثير، ولولا شجاعته ورُجلته١١ لأُخِذ، فدعَتْه الضرورة بقتل مَنْ قُتل من أصحابه إلى أن انهزم، ولُحِق فكاد أن يؤسَر، حتى أُقيل بجزالته ولطف الله، عزَّ وجل، به وبعونه، وأُخِذَ سوادُه وذخائره وجميع ما كان معه من المتاع والأموال والسلاح، وما حصَّله معه له من مصر وعاد إلى برقة أقبح عودة، وكان معه أيمن الأسود مقيَّدًا فتخلَّص من القتل؛ لأنهم علِموا بقيده أنه حربٌ له، وكان قد أطلَق الواسطي بضمان جماعة من التجار ببرقة إحضارَه إياه متى طلبه، فكان عندهم مكرَّمًا.

وشاع الخبَرُ بمصر أن العباس قُتِل، فتبيَّن الناس في وجه أحمد بن طولون كآبةً شديدة وغمًّا ظاهرًا؛ لأنه وقع بذلك بين شرَّين؛ منها فقْد ابنه إن صحَّ، وذهاب جميع ما كان معه، ومنها التِّرة التي تقع بينه وبين النفوسي وابن الأغلب، إن أمسَك عنها انحلَّت منزلتُه، وإن نهض إليها فبإنفاق الأموال الجليلة العظيمة التي لم تكن في حسابه، فلم يزل مغمومًا مهمومًا حتى صحَّت عنده سلامته، فحَمِدَ الله، جلَّ اسمُه، وتصدَّق بمالٍ كثير.

وكان مما أغاظ أحمد بن طولون من مكاتبات ابنه العباس إليه، حتى استخفَّه إلى الخروج إلى الإسكندرية بنفسه، قولُه في كتابه من إنشاء جعفر بن حدار: إلى الأمير أبي العباس أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين من عبد الله مولى الله، المتمسِّك بمناجي طاعة الله، المنحرف عن زيغِ ظُلَم المعصية إلى وضوح سر البصيرة، القابل من الله موعظتَه، والعامل بما أمر به؛ إذ يقول جل ثناؤه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ وقوله عز وجل: وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ سلامٌ على الأمير، وعلى مَنِ استرجع وادَّكر، وفكَّر وازدجر، فأنا أحمَد إلى الأمير الله لا إله إلا هو، العاطف بي إلى أرفع سُنن الهداية، والعادل بي عن ظُلَم سنن الجهالة، وأسألُه صلاةً تامةً يخُص بها وليَّه وخيرتَه من صَفْوته ورسوله .

أما بعد، وفَّق الله الأمير لمحالِّ رشده، وجنَّبه مقابح أمره، وسخَّر له الخلق عن غامض ذِكْره، فإن كتاب الأمير ورَد على الحائد منه عن سبيل العظة والتذكير، إلى سبيل التهديد والتحذير، فبعَّد وقرَّب، وآنس وهدَّد، وجمع وفرَّع، يبذل من نفسه باليسير فيها، ويدعو إلى الصلة ويُحدِث غيرها، ويعرض من ماله الأنفس، ويصيِّر من خطابه الأنزر، ويعدِّد من واجب حقه، ولازم مفترضه، ما أعترف به مصدقًا لمن اعترف بالطاعة محققًا، وأذعن به لمن أذعَن وحاد عن الشك، ووقفتُ منه على ما أطنب حاطا وحوف عاما ومهمه [؟] فإن استخذأتُ لاتباع موافقتك وتطامنت ترغبًا عَبْر محاورتك [؟] فلقد اضطرَّتْني الطاعة، وأنجذتني الحاجة، إلى إقامة عذر يتضح لك في استجلاب مرضاتك ما تجاوزت عما يدهمني، فهبتُ في جواب الأمير مقام الأمير.

إن فُهت ضاع دمي [؟] وإن سكتُّ فمثل النار في كبدي، وبالله أستعين على بلوغ طاعته، وإليه الرغبة، جلَّ اسمُه، في استصلاحك، وتحصينك من زيغ شيطانك، وأما ما قرعتَ بذكره ووبختَ موضعه في غير كتابٍ صدر منك في غير جوابٍ ورَد، من انحرافي عن سبيل طاعتك وحنقي عن موالاتك، والْتماسي ابتزازَ ملكك، فوالذي اضطرَّني إلى مجادلة مَنْ أوجب الله، عزَّ وجل، عليَّ حقه، فإن حججتُه أوحشتُه، وإن قصَّرتُ عن الحجة نقصتُ عنده، ما حلتُ عن مخايل ظنك، ولا كنتُ مذ نشأتُ إلا تحت طاعتك، لكنه اكتنفَني أمران واجبان مقرون حقُّهما بحق الله، جلَّ اسمُه، وحق رسوله ، وسمعتُ الله، جلَّ اسمُه وعلا، يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ.

فكان أكبر ما عندي في تأدية حقك القعود عن نصرة مَنْ لزِمَني مشايعتُه، ووجبَت عليَّ معاونته، وقبلتُ من الله، عزَّ وعلا، أدبَه في حُسن هِجرتك، يقول الله، عز وجل: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا فلو ذهبتُ إلى ذكر ما أتى الله به، عزَّ وجل، في كتابه المنزَّل على نبيه لطال به كتابي، وقامت به عليك حُجَّتي. والآن فقد خليتُ عما قلَّدنيه أمير المؤمنين، وما قبلتُ له تكرمتَه وإنعامَه من جميع أعمال حضرته؛ خوفًا من أن أقوم فيها بالحق فأُسخِطك، وانكفأتُ إلى هذه الناحية هربًا من مَوْجدتِك، وطلبًا للقيام بحقك، أيها الأمير، ولا أبين بقيامي فيما جعل إليَّ ما يخلفك فيه النقيصة، إذا كان حبل أمير المؤمنين قد اضطَرب في يدك، فوهَت قواه وانحلَّ مُبْرَمه وتداكَّت١٢ عساكره في ذلك كما تداكُّ الإبل اللواقح على الحياض الطوافح، وسبلي من اتبع رضاك أيها الأمير، وتوقَّف عما تكره التصرُّف فيه أن تعرف له ذلك، ولا تجازي عليه بخلاف ما يستوجب.

وأما تخويفك أيها الأمير إياي بخيلك ورَجلك وعَددك وعَتادك، فلو نظرتَ بعين النَّصَفة ونطقتَ بلسان المَعدلة؛ لانفرج عن لُبِّك رَينُ الشبهة، وانفتَح من سمعك ما استدَّ سمعه بالشهوة، فسمعتَ بعد وَقْر، وعرفتَ بعد نُكْر، أني لو آثرتُ ما إليه قصدت من مقاومتك، لدفعتُكَ عن محل عزِّك، وما انحرفتُ عن دار ذلِّك، ولأقمتُ بها مظهرًا الحق داعيًا إلى طاعة الله، عزَّ وجل، وفي جواري من يُجيب صريخ الحق إذا استصرختُه، ثم لو كشف لك عن قناعه، وحسر عن ذراعه، لتطامنَت لوطأتِه الليوثُ الغِضاب، ولتضَعضَعَت لروعته الصمُّ الصِّلاب، فلو لزمت ما بدر إليه ظنك لغوَّرتُ مشاربك، ولَدَثَرتُ مسالكك، ولاستصعَب على الراكب مركبه، ولحيل بينهم وبين ما يشتهون، لكني آثرتُ الله، عز وجل، وما لدَيه، فألقيتُ أزمَّة أمرك سخيًّا بها، وسوَّغتُكها مُطَّرحًا لها زاهدًا فيها، وانقطعتُ إلى ناحيتي هذه لقلة قدْرها وبُعْد محلِّها، لأُخفي شخصي بها لا لما شرطتَ القول فيه وأطلتَ الخطْب به، والله، جلَّ وعزَّ، يجزي الشاكرين.

وأما عَرضُك أمانك قبل انجذاذ الحبل، فإن الله تبارك وتعالى يقول: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ويقول جلَّ اسمُه: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ولقد مدَح خليلَه في قطعه رحِمه فيما حصر دينه فقال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ.

والكتاب طويل، وإنما اختصرنا منه هذا القول.

فلمَّا ورَد كتابُه أغاظَه وبلَغ منه وخرج إلى الإسكندرية وأجابه يقول:١٣
إلى الظالم لنفسه العاصي لربه المثلِّم لدينه١٤ المبخوس من حظ دنياه وآخرته، سلامٌ على كل منيبٍ مستجيب من قريب.
أما بعد فإن مَثَلَك مَثَل البقرة تثير المُدْية بقَرنها، والنملة يكون حتفُها في جناحها، وستعلم، هَبلتْكَ١٥ الهوابل، أيها الأخرق الجاهل الذي ثنى عن الحق عِطفه، واغترَّ بضجيج المواكب خلفه، أيَّ مورد هلَكَةٍ سلَكتَ، إذ على الله، جلَّ اسمُه، تمرَّدتَ؛ فإنه تعالى قد ضرب لك مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ١٦ واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلَّك، والمكروه قد أحاط بك، والعساكر قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذنك بحربٍ وويل، فإني لأُقسم، وأرجو ألا أجورَ وأظلم، ألا أَثنيَ عنك عِنانًا، ولا أوثر على شأنك شانًا، فلا تتوقل ذورةً أو تلِج بطن وادٍ، إلا تبعتُكَ وطلبتُك حيث يمَّمتَ وسلكتَ، حتى تستمرَّ من عيشك ما استحليتَ، وتستدفع من البلايا ما استدعيتَ، حتى لا دافع، بعون الله، يدفع عنك، فتعرف من قَدْر الرخاء ما جهلتَ، وتوَدَّ أنك هلكتَ، ولم تأتِ بما إليه عَجِلتَ، ولا رأيَ مَنْ أطاف بك من الغُواة قبِلْتَ، فحينئذٍ يتفرَّى١٧ لك الليلُ عن صُبحه، ويُسفِر [لك] الحق عن نصحه، فتنظُر بعين لا غشاوة عليها، وتسمع بأذنٍ لا وَقْر فيها، وتعلم أنك كنت مستمسكًا بحبل غرور متماديًا، وسالكًا سبيل ضلال لا تجد له هاديًا، من عقوق لا ينام طالبُه، وبغيٍ لا يفوت هاربه، وتقف على سوء رويَّتك، وعظيم جريرتك، في تركك قَبولَ الأمان، وهو لك مبذولٌ وأنت عليه محمود، واليد عنك كافَّة والسيف عنك مغمود، فتتلهَّف واللهف غير نافعك، إلا أن تكون أجبتَ إليه سريعًا وأقبلتَ نحوه هرعًا،١٨  واعلم أنك لا تقصد موضعًا إلا تلوتُك، ولا تأتي بلدًا إلا قفوتُك، ولا تلوذ بعاصم لينجيك، إلا استعنتُ بالله عليه وعليك، فما يجيرك إلا أحد رجلَين؛ إما لدين أو لدنيا، فأما الدين فأنت بحكمه مفارق؛ لأنك عاقٌّ مشاقق، وأما الدنيا فما أحسبه بقي معك من حُطام ما سرقتَه، مما حملتَ نفسَك على الاستبداد به، ما يفي بمُكاثرتنا، مع ما وهبه الله، جلَّ اسمُه، لنا من جليل نعمه التي نستوزعُه الشكر عليها، ونرغبُ إليه في إدامتها،١٩ وما دعاني إلى إرفاقك والتسهيل من خناقك طُول هذه المدة إلا أمور؛ منها استضعاف أمرك واحتقارك، وقلة الاحتفال به واستصغاره، ومنها أنْ جعلنا تركك على ما اخترتَه عقوبةً لك من إباقك إلى أقصى البلاد، مُبعَدًا عن الوطن والأهل والراحة والمِهاد، وقد فارقتَ بلدَك، وحُرمتَ أهلَك وولدَك، ومنها أنَّا علمنا يقينًا أن الوحْشة دعتك إلى الانحياز حيث انحزْتَ، فأمهلناك ليسكن نفارُك، وقلنا إنك تحنُّ إلينا حنين الولد ذي الحسب، وتتوق إلينا توقان ذي الرحم والنسب،٢٠ فلم تسمع من واعظ، ولم تعتدَّ بمحافظ، وأما الآن وقد اضطُررنا إلى الانزعاج نحوك، لاستعمالك المواربة والمخادعة فيما يجري عليه تدبيرك، فما أنت بموضع للصيانة، بل حقيق باللعنة والإهانة، فعليك من ولدٍ عاقٍّ لعنه الله ولعنه اللاعنين، والملائكة والناس أجمعين، لا قَبِلَ الله لك صرفًا ولا عدلًا، وحاط بك حيث كنتَ ولا حاطك حيث توجَّهت،٢١ وستعلم أيها المخالف القاطع رحمه العاصي ربه، أيَّ جناية على نفسك جنيت، وأيَّ كبيرة أتيتَ؛ فتندَم إن كانت لك رويَّة، وفيك فضلُ إنسانية، وتودُّ أنك لم تكن وُلدتَ، ولا في الخلق عُرِفْتَ، إلا أن ترجع٢٢ راغبًا، وتسرع خاضعًا إلى ما قبلنا، فنُقيم الاستغفارَ لك مقامَ اللعن، والرقَّة مقام الغلظة والوهن، والسلام على مَنْ سمع الوعظ فوعاه، وذُكِّر بالله فاتقاه.

وسيَّر من الإسكندرية إليه العساكر، وهمَّ بالنفوذ إليه بعدهم، حتى وافاه الواسطي؛ لأنه تهيأَت له الحيلة عند انهزام العباس من النفوسي فتخلَّص بذلك، وعَمِل الحيلة حتى هرب منه إلى أبيه، فوافاه وقد تمَّ عزمه على اللحوق بالعسكر، فمنعه وقال له: حالُه أصغر من ذلك، وأنا أكفيك أمره مع بعض قُوادك، والصواب أن ترجع إلى بلدك ومقرِّ عزِّك، فقَبِلَ منه، وأنفذ الواسطي مع طبارجي وجماعة من وجوه أصحابه، وطبارجي مؤمَّر على الجيش، وعاد أحمد بن طولون إلى مصر، فلمَّا قرب طبارجي من العباس خرج إليه مُدلًّا بنفسه، ونسي هزيمتَه في أمسه، فلمَّا التقى العسكران استأمن إلى طبارجي جماعةٌ من وجوه أصحاب العباس فقَبِلَهم، وخلع عليهم، وقامت الحرب بينهم على ساق، وتعارك الفريقان، فصبَر أصحاب العباس الباقون هُنيهة، حتى دهمهم ما لا طاقة لهم به، ثم ولَّوا منهزمين لا يلْوون على شيء، فذكرتُ قول البحتري:

لمَّا رأوكَ تبدَّدتْ آراؤهمْ
وغدا مُصارع حدِّهم مصروعَا
فدَعوتَهم بظُبا الصفيح٢٣ إلى الردَى
فأتوك طُرًّا مُهطعين خشوعًا
حتى ظَفِرتَ بعزِّهم٢٤ فتركتَه
للذلِّ جانبه وكان منيعَا
فقتل منهم وأَسَر خلقًا كثيرًا، وولَّى العباس منهزمًا في شرذمةٍ من غلمانه، وسرَّب طبارجي خلفَه الرجال، وبادر فكتَب إلى أبيه كتاب الفتح، وكتب بذلك الواسطي نسخته:

بسم الله الرحمن الرحيم، كتابي هذا وقتَ غروب الشمس، من يوم الإثنين لسبعٍ بقين من جُمادى الآخرة، وقد وضعَت الحربُ أوزارَها، وأظفَر الله، جلَّ اسمُه، عبد الأمير، وجمْعَ أوليائه، وأيَّدهم ونصرهم وأحسن معونتهم، ودمَّر على الملعون العاقِّ الشاقِّ الغادر العباس، وضرب وجهه، وقتل أكثر الفجرة الذين كانوا معه، وأمْكن من خلقٍ كثير منهم، والحمد لله الذي أجرى الأمير، أيَّدَه الله، على عوائده عنده، وجعل أولياءه المنصورين، وحزبه الغالبين، وأعداءه ومن عدل عن أمره المقهورين، حمدًا يكون قضاءً لحقه، وكفاءً لإحسانه، وامتراءً للمزيد من فضله، تبارك اسمُه وجلَّ ثناؤه.

وكنتُ عند نزولنا المنزل المعروف بدي حنى [؟] قد أكملتُ أمر المقدمة والساقة والميمنة والميسرة، وسرنا على تعبئة، حتى وافينا المنزل المعروف بدينار الذي كتبتُ كتابي هذا منه، وكان اللعين قد وافى هذا المنزل من أول النهار، مستعدًّا بجموعه وحشوده، فلمَّا توافت الفئتان تسرَّع إلينا مُدِلًّا بنفسه، متماديًا في غيِّه، فحملَت ميمنتُه على ميسرتنا، فأعان الله، جلَّ اسمُه وله الحمد، الأولياء على فلِّها، وحملَت ميسرتنا على ميمنته، وحملتُ أنا في أثَرها من القلب، محتسبين واثقين بنصر الله، عزَّ وجل، متوكِّلين عليه، فولَّى القوم منهزمين، قد ضرب الله وجوههم، ومنح أكتافهم، وقذف الرعب في قلوبهم، وأتبَعَتهم الأولياء يقتلون فيهم ويأسِرون منهم، وقبل ذلك ما استأمن إلينا جماعة من مشهوريهم، كتابي يرِد على الأمير، أيده الله، بأسمائهم، ولم يُصِبْ أحدًا من الأولياء بحمد الله شيءٌ يكرهه، ومضى اللعين على وجهه في نفرٍ يسير من غلمانه، فأتبعتُه بصيرًا وأنعج وكنجورًا وهم مُدْركوه بمشيئة الله وعونه، وفي غدٍ نكتُب إلى الأمير، أيَّدَه الله، بشرح القصة، وبادرتُ بكتابي بهذه الجملة ليتعجَّل الله، عزَّ وجل، إليه السرور بما منَّ الله، جلَّ اسمُه، ويحمده على ما أوْلى من إنعامه.

قال مؤلِّف هذا الكتاب: وورد الخبر بأن الطائفة التي أنفَذَها طبارجي خلف العباس لحقَتْه، فقُتِلَ من غلمانه جماعة وقبضوا عليه أسيرًا فأتَوا به طبارجي، فقيَّده وحملَه من وقته إلى أبيه، وأمر بصيرًا وأنعج وكنجورًا أن يتقدَّموا به إليه، وأنفذ كتابًا بالشرح، فلمَّا وصل إليه الكتاب حمد الله كثيرًا وتمثَّل، وما تمثَّل بشعر قط:

وبَعَثتَ٢٥ من ولد الأغر مُعتِّبٍ٢٦
صقرًا يلُوذُ حمامُه بالعوسَجِ٢٧
فإذا طبختَ بنارِه أنضَجتَها
وإذا طَبختَ بغيرِها لم تُنضِجِ
وهو الهِزَبْر إذا أراد فريسةً
لم يُنجِها منه صِياحُ الهَجْهَجِ٢٨
ومدَّ طبارجي إلى برقة، فدخلها وأصلح من حالها ما كان فسد، واستخلف فيها خليفةً ورجع إلى مصر، وحمل بين يده الأسرى والرءوس، ودخل إلى البلد على تعبئةٍ حسنة وترتيب، فلمَّا وافَوا بالعباس إلى الجيزة أُخرج إليه جميع الجيش، وذلك في سنة سبع وستين ومائتَين، فلما لقُوه زفُّوه٢٩ بين أيديهم وأدخلوه البلد في قُبةٍ مكشوفة وهو مقيَّد وعليه قرطق ملحم،٣٠ وعلى رأسه عمامة٣١ فشقُّوا به البلد، حتى إذا وافوا به الثلاثة الأبواب، أمر أبوه بإنزاله عن القبَّة، وأرُكب بغلًا بإكاف، وساروا به كذلك حتى إذا بلغ إلى باب الميدان أُوقف موضعه في الشمس.

وأُدخل بصير وأنعج وكنجور وأصحابهم فخلع أبوه عليهم، وأحسن إليهم، وأُخرجوا بين يدَيه وهو يرى ما فعل بهم من الجميل، وهم مسرورون فرِحون، وأمر به إلى حجرة فاعتُقِل فيها، ولم يزل معتقلًا حتى وافى طبارجي.

فلمَّا وافى أمر أحمد بن طولون بإخراج الجيش لتلقِّيه، فخرج بأَسْره وتُلقِّي، ودخل ودخلوا بين يدَيه في أحسن زيٍّ وأجمل تعبية، والأسرى بين يدَيه والرءوس، فشقَّ البلد حتى وصل إلى الميدان، فلمَّا دخل إلى أحمد بن طولون خلع عليه خِلعًا حسانًا، وحمَل بين يدَيه أكياسًا كثيرة دنانير ودراهم، وحملَه على فرسٍ نادر بسَرْجه ولجامه، وخيلٍ تُقاد بين يدَيه، وانصرف إلى داره في أجلِّ حال.

وأمر أحمد بن طولون بالأسرى إلى الحبس، وبالرءوس أن تُنصب على القِسيِّ ليراها مَنْ لم يَرَها ويشاهدها، ويشاهَد منها كل معروف، فيأيس منه مِن أهله مَن خفي عنهم أمره. وأمر بأن تُبنى دكَّة عظيمة السَّمْك عالية خارج الميدان، فبُنيَت فلما فُرغ منها ركِب إليها وصَعِد من سُلَّمٍ عُمل لها [من] حجارةٍ عظيمة، ففُرش له عليها، وجلس عليها وحده، منفردًا من سائر أصحابه إلا خواص غلمانه.

فأول مَنْ دعا به فقُدِّم أبو معشر فضربه ثلاثمائة سوط، وأمَر بالعباس فأُحضِر، وأُوقف بين يدَيه، فأمره بأن يقطع يدَي أبي معشر ورجلَيه، فدفع إليه سيفًا فتقدَّم فقطَع يدَيه ورجلَيه، وأُلْقي من أعلى الدكة إلى الأرض، فما وصل إلى القرار حتى مات، ثم قدَّم إليه المعروف بالمنتوف فأمره أيضًا فقطع يدَيه ورجلَيه، ورمَى به من أعلى الدكَّة إلى الأرض، ثم قدَّم ابن حدار٣٢ الكاتب، وكان غيظُه عليه أشد وحنقُه عليه أعظم؛ لأن كُتب العباس إليه كانت بإنشائه، فأمره فقطَع يدَيه ورجلَيه ورمى به إلى الأرض.
وكان أحمد بن طولون إذا قرأ كتابًا من العباس إليه، تمرُّ به اللفظة البشعة فيقول: هذا من كلام أبي معشر، وهذه اللفظة من كلام الشيخ السوء ابن حدار،٣٣ وهذا من كلام فلان وهذا من كلام فلان؛ لأنه كان يعرف كلام كل واحد منهم ومذاهبهم، ثم ضرب أعناق الباقين من الأسرى، أعاذنا الله من البلاء كله، إلا رجلَين مَنَّ عليهما بالعفو لحرمةٍ كانت لهما به؛ أحدهما جعفر بن يارجوخ؛ لأنه كان زوج ابنته، ولأن أباه كان صاحبه، فأمر بحبسه، ثم أطلقه على أن يطلِّق ابنته ويخرج عن بلدها فطلَّقها، وخرج فمات بنواحي الموصل، ورجل يُعرف بابن عبيد، ذُكر لأحمد بن طولون أنه خلص ابنه العباس من النفوسي بالغرب في وقت محاربته له، وأنه لولاه ودفعه عنه وبذله مجهوده في محاربته عنه، لكان قد أُسِر وقُتِل، فحَفِظ له أحمد بن طولون ذلك في العباس، فعفا عنه وأطلَقه، وأحسَن إليه واصطنَعه.
فلمَّا فرغ العباس من قطع أيدي أصحابه٣٤ دعا به أبوه فقال له: قبَّح الله هذا من رأي وعقل، ويلُ لك بهذا العقل وبهذا الرأي قدَّرت الرياسة؟ يا ويلك لِمَ لمْ تجعل العِوضَ من مبادرتك وتسرُّعك إلى قطع أيدي أصحابك هؤلاء، استلقاءك بين يديَّ وتضرُّعَك إليَّ ومسألتَك إياي الصفح عنهم وعنك، والعفو عن جميعكم؟ فكان ذلك أجلَّ لك وأعظم لمحلِّك وأكبر لمنزلتك؟ وتقضي بذلك حقَّ مَنْ حمَل نفسه في طلب مرضاتك ومساعدتِك على خطَّةٍ الهلاكُ فيها، وقد فارق وطنَه وأهلَه وولدَه وتبعك في هواك فجعلتَ، يا ويلك، مجازاتَه على ما تحمَّله فيك من المكروه قطعَ يدَيه ورجلَيه بيدك، ثم إيتام ولده وإرمال عياله، ولكن ما وفِّقتَ لما تأتيه فتصونهم عما حلَّ بهم منك منةً عليك، وعزيزٌ عليَّ أن يكون هذا وزنك، ومقدار عقلك.

فلمَّا تفرق الجمع أمر به فبُطِحَ وضربه بيده مائة مقرعة، فكان يضربه ودموعه تنحدر، كأنه [هو] المضروب، وأمر باعتقاله في داره!

قال مؤلف هذا الكتاب: وغلَب الحسن بن مهاجر على أحمد بن طولون، فحسَّن له جمع الأموال، ومنعه من سماحته وجريه على عاداتٍ كانت له جميلة؛ فقَبِل رأيه وتغيَّرت سماحتُه، واستقصى ابن مهاجر على الناس، ومنع كل مَنْ كان يبسط عليه عائدته، ويشمله معروفه وفائدته، وظهر ذلك فانحرفت عنه القلوب، وتغيَّرت له النفوس كما قالت الحكماء: تركُ العادات ذنبٌ محسوب.

حدَّث أحمد بن محمد الواسطي أحمد بن إبراهيم الأطروش بعد وفاة أحمد بن طولون، وقد اجتمعا فتفاوضا أخباره فقال: فارقتُ أحمد بن طولون، رحمه الله، وقتَ رجوعه إلى مصر من الإسكندرية، ورجوعي إلى برقة مع طبارجي للقاء العباس، وهو أميرٌ نبيل سمْح واسع الصدر في العطاء والبذل في أبواب الخير على حسب ما رأيتم منه، وعُدتُ من برقة مع طبارجي إليه وهو أميرٌ ممسك ضيِّق الصدر بخيل مطَّرح لما جرت به عادته، فتطيَّرتُ يشهد الله له بذلك؛ لأني ما رأيتُ سمحًا قط ولا تُحدِّث به انتقل عن سماحته، ودقَّ نظره في توفير ماله، إلا عند حضور منيَّته.

ولمَّا انقضى أمر العباس ابنه وهو كان ابتداء انحلال أمره، تنكَّر عليه لؤلؤ غلامه وكان عُمْدته وعليه كان مُعوَّله، لتتمَّ مشيئة الله، عزَّ وجل، فيه بانقضاء عمره، وزوال ملكه، كما يجري حكمه، جلَّ اسمُه، على سائر خلقه، عند انقضاء المدة، وتكدير المحنة، وتنغيص العيش، وإذا أراد الله أمرًا أتى بعضُه يتلو بعضًا ليؤدِّب بذلك المؤمنين، ويُنبِّه به المعتبرين، ويخفِّف به عن قلوب المتقلِّلين كما قال بعضهم:٣٥
إذا ما كسَاك الدهر سربال صحَّةٍ
ولم تخْلُ من قُوتٍ يحلُّ ويَعْذُبُ٣٦
فلا تغبطنَّ المكثرين٣٧ فإنه
على قَدْر ما يكسُوهُمُ الدهرُ يسلبُ

فلمَّا خلا قلبه من ابنه العباس، واطمأن بالظَّفَر، وأمِنَ ما كان يتخوفُه، تحدَّرت عليه الغِيَر من جهةٍ أخرى، فتنكَّر عليه لؤلؤ غلامه الذي كان أقربهم إلى قلبه محلًّا، وأشدَّهم مكانًا وزُلْفى! ربَّاه صغيرًا، ومدَّه كبيرًا وكهلًا، وعلى حسب ذلك سدَّ به الثُّلْمة التي خاف منها، وجعله المحاميَ والذابَّ عنها، فكان دخول الخلَل عليه من أوكد احتياطه، وانحلال مُبْرَمه من أوثَقِ رباطه.

حدَّث أسامة بن حباب وكان مضمومًا إلى لؤلؤ، قال: حمل أحمد بن طولون غلامه لؤلؤًا في خرجته إلى أعماله بديار مُضَر،٣٨ بما لا يتسمَّح به لأحد من أولاده، ولا غيرهم من خاصة أصحابه المخصوصين به من مال ومتاع، وكُراع وآلة، وكل ما يحتاج إليه وما لا يحتاج، ثم أمر أن يُنادى ونحن يومئذٍ معسكرون بمنية٣٩ مال الله ببراءة الذمة من أي رجل من رجال الأمير أبي محمد لؤلؤ دخل إلى المدينة، وليست معه حجةٌ منه إلا حلَّ به غليظ المكروه. قال:

نفقت لي دابَّة، فاستأذنت لؤلؤًا في الدخول إلى الفسطاط لأعتاض منها، فأذن لي، فأخذتُ كتابه إلى أحمد بن طولون مولاه، ودخلتُ ليلًا، فإني لسائرٌ إذ تعثَّر فرسي بشيء، فنزلتُ أنظر، فأصبتُ كيسًا فأخذتُه وركبت، ووافيتُ منزلي فنظرتُ الكيس فإذا به مملوءٌ دنانير، وكانت لي امرأةٌ صالحة، فحدَّثتُها بخبره فأحضَرَت الميزانَ فوزنَت الدنانير، فكانت سبعمائة دينار، فقالت لي: يا هذا لا تَشْرَه نفسُك إليه، فلعلَّه لمن لا يملك غيره، ولكن عرِّف به وخذ جُعلك منه حلالًا موفَّرًا، يجعل الله لك فيه البركة، فسكنتُ إلى قولها، فلمَّا أصبحتُ أخفيتُ شخصي من أن يراني أحد، فيعرِّف أحمد بن طولون خبري، فأحتاج أن أقيم الحجة في دخولي، فوجَّهت إلى صديقٍ لي في ابتياع دابة عِوضًا من دابتي.

فبينا أنا كذلك إذ سمعتُ النداء: «مَنْ دلَّنا على كيس فيه دنانير جُعْله مائة دينار حلالًا طيبًا وأجره على الله.» فقالت لي زوجتي: كيف ترى؟ مائة دينار حلالٌ خير من سبعمائة حرام. فقلتُ للغلام: أدخل المنادي. فدخل ومعه إنسانٌ من التجار سيماه تدُل على أنه خشِن الطبع، فقلت للمنادي: أين صاحب الكيس؟ فقال: هذا هو. فقال لي: الكيس عندك؟ قلتُ: نعم، وجدتُه في الطريق بموضع كذا وكذا. قال: هاته. فأخرجتُه إليه، فلمَّا رآه لطم وجهه، وقال: ذهب مالي. وصاح: أنا بالله وبالأمير. ثم قال لي: الأمير بيني وبينك. فخشيتُ أن يسمع أصحاب الأخبار، فيذهبوا بي إلى أحمد بن طولون، فبادرتُ بالخروج معه اضطرارًا، وقلت لزوجتي: رضيتِ؟ هذا رأيكِ الحسن ومشورتكِ الجميلة، ولكن ليس العجب إلا مني حيث قبلتُ منكِ. فقالت لي: لا تخف فإن الله، عزَّ وجل، معك.

فحملتُ الكيس معي، وأخذتُ كتاب لؤلؤ إلى أحمد بن طولون حجةً في دخولي، فلمَّا توسَّطنا الطريق قام إليَّ أصحاب الأرباع،٤٠ فأريتُهم كتاب لؤلؤ وعرَّفتهم ذهابي به إلى الأمير، ومضينا حتى دخلنا إلى أحمد بن طولون فقال لي: ألَم تخرج مع لؤلؤ؟ قلتُ: نعم، أيَّدَ الله الأمير. قال: فلِمَ دخلتَ؟ فعرَّفتُه خبري في دابتي ودفعتُ إليه كتاب لؤلؤ، فلمَّا قرأه قصصتُ عليه خبري وخبر الكيس، وما كان من الرجل، فأحضره فقال له: كم كان في كيسك؟ قال: ألف دينار. فأمر بإحضار الميزان ووَزْنِ الدنانير بين يدَيه، فوُزِنَت فكان مبلغها سبعمائة دينار، فأمر بردِّها إلى الكيس، فقال لي: اقبض أنتَ الكيس إليكَ إلى أن يجيئك صاحبه. وقال للرجل، اطلُب أنت كيسك جميع الله عليك. فقال: أيها الأمير اللهَ اللهَ فيَّ، هو والله كيسي. فقال له: لو كان كيسك لَمَا ادَّعيتَ أكثر منه. وأمر بإخراجه فأُخرِج، وقال لي: امضِ لشأنك فانصرفتُ بالكيس وابتعتُ منه الدابة واتسعتُ، فقالت لي زوجتي: كيف رأيتَ مشورتي؟ لو استحقَّه التاجر لما حرَمَه الله إياه، وجعلَه رزقًا لك. فتركتُ باقيةً عند زوجتي، ورجعتُ إلى لؤلؤ فحدَّثته بما جرى، فضحك وأمر لي بفرس. وكانت هذه الخرجة العظيمة التي بلغ أحمد بن طولون بلؤلؤ فيها كل مبلغٍ جليل هي التي خفَر به فيها واستأمَن إلى الموفَّق.

قال مؤلِّف هذا الكتاب: كان أحمد بن طولون إذا أنكر على لؤلؤ شيئًا أوقع بكاتبه محمد بن سليمان، وقال: هذا منك ليس منه. فحمل محمدَ بن سليمان الخوفُ من أحمد بن طولون على أن حسَّن للؤلؤ حَمْل جُملةٍ من المال في الأعمال، والاستئمان إلى الموفَّق، فمنع عاملُ الخَراج لؤلؤًا من المال، واستخف برأي محمد بن سليمان، حتى أخذ جميع ما أراد من أموال الأعمال، فلمَّا حصل له المال قال له محمد بن سليمان: قد علمتَ ما فعَل بابنه العباس، وهو أعزُّ الناس عليه، وقد تخلَّصنا منه، فإن لم تبادر وإلا لم نأمنه. فأجابه إلى ما أشار به عليه.

فكتب محمد بن سليمان إلى الموفَّق عن لؤلؤ كتابًا يُعرِّفه رغبتَه في المصير إليه، والتصرُّف تحت أمره ونهيه، والدخول في طاعته، فاستَبشَر الموفَّق لذلك، لما في نفسه من مولاه أحمد بن طولون، وابتهج له، ورأى أن ذلك إحدى الفرص التي ينتهزها ويبادر إليها، فأجابه بأحسن جواب وأنفذ إليه خِلَعًا وحُملانًا.

وكانت مع لؤلؤ طائفةٌ من خواصِّ أحمد بن طولون، فقدَّر فيهم أنهم يساعدونه على ما اختاره، فلمَّا تبيَّنوا حالَه أنكَروا ذلك ولم يساعدوه، فكان أكثر ما قدَروا عليه، لما خرج الأمر من أيديهم، أن تركوه وانصرفوا عنه إلى مولاه بجملة خبره، فلمَّا وردوا عليه وشرحوا له حاله، وما هو عليه، تكدَّر عليه مشربه الذي كان يشربه فيه، ومرَّ مذاقه الذي كان يستحليه، لنكد الدنيا وأيامها، كما قال ابن الرومي:

تذكَّر ساعةً أُلْعِقْتَ فيها
وأنتَ وليدُها عَسلًا وصَبرًا
لتَعلَم أن هذا الدهرَ يُمسِي
ويُصبِح طعمُه حُلوًا ومُرًّا

وظن أحمد بن طولون أن المخادعة تمكنه من لؤلؤ والملاطفة تَثْنيه، ولم يعلم أن سبب زوال ملكه يكون على يدَي محمد بن سليمان لِمَا حقده عليه من أفعاله به وحقَّقه منه.

فكاتَب أحمد بن طولون لؤلؤًا [وأرسل إليه] كتابًا يلاينه فيه، ويذكِّره تربيته له، وما يجب من حقه، وكان من بعض ألفاظه في مكاتبته له: «وفَّقَك الله لطاعته، وراجع بك إلى ما هو أعوَدُ عليك دينًا ودنيا برحمته، إنه ليس شيءٌ يبلغه والدٌ شفيق، ومستصلحٌ رفيق، من مواصلةِ وعظ، وتنبيهٍ على حظ، أو دلالةٍ على رشد، وحضٍّ على سلوكِ قَصْد، إلا وقد بلغنا أقصى نهايته [معك] وأبعد غايته فيك، ضنًّا بك وشُحًّا عليك، وتأميلًا لمراجعتك، وما تركنا شيئًا ظننَّاه يؤنس وحشتك، ويرفع محلَّك، ويتجاوز به حق حرمتك، إلا وقد أتينا منه، على ما نرجو أن يكون لروعتك مُسكنًا، ولنفسك مؤنِسًا ومُطيبًا، ولك من كل خوف موقِّيًا.

وليس يمنعنا ذلك من تكرير القول عليك، رجاءَ أن تُصادِف مواعظُنا إياك إصغاءً إليها وإصاخة لها، لينفعك الله، عزَّ وجل، بها نفعًا كبيرًا، ويصرف بها عنك شينًا كثيرًا، وقد تبيَّنتَ بما كان من مفارقتك لنا ما قارفتَه من معصية الله، جلَّ اسمُه، فينا، وتعرُّضك لما تعرضتَه من سخطه بانحرافك عن طاعتنا، واختيارك لنفسك ما كنتَ عنه غنيًّا، وعليه ثقة أمينًا، فانظر هل نِلْتَ بذلك فيما بلغتَ عاجل دنيا؟ أو آجل صلاحٍ وجزيل [أجر]؟ بل قد سعيتَ في فسادهما، ثم تأمل الحال التي أنت عليها، والحال التي انتقلتَ عنها، في أيهما كنتَ أرخى بالًا وآمن سِرْبًا وأَروَح بدنًا وقلبًا، لتعلم أنك لم تُوفَّق في ذلك، ولم تُسدَّد في اختيارك؛ لأن الله، عزَّ وجل، وكَلَك إلى نفسك، فاستفزَّك الشيطان وأضلَّك.

لقد تبيَّن لك غرورُ ما أتيتَه بتبديد شملك بعد اجتماعه، وانصداع شَعبك بعد التئامه، واتضح لك ما كنتُ أحذِّرك وقوعَه، من قلة رضا جماعة الأولياء والموالي بك، واستنكافهم من رياستك؛ إذ زالت عنك شمسنا، فحُرِمتَ هيبتَك التي ألبسَك الله، عزَّ وجل، بنا، من تنكُّر[هم] لك وانصرافهم عنك، وما تنتظر الشرذمةُ الباقية معك إلا إمكانَ الفرصة بمثل ذلك، محاماةً منهم على أديانهم، ووفاءً بأيمانهم، فكيف بك إذا صرتَ إلى العراق بحالٍ مع مَنْ لا يدفع عنك عدوًّا، ولا يصرف عنك سوءًا، وقد فارقت العشَّ الذي فيه درجتَ، وموطنك الذي منه خرجتَ، ومولاك الذي في حجره ربيت، وفي نعمته غُذيت، وصرتَ إلى مَنْ لا يرعى فيك إلًّا٤١ ولا ذمة، ولا يُوجِب لك حقًّا ولا حرمة، بل يجعلك مَغْنَمًا وفيئًا٤٢ مقتسمًا، يُدْنيك ويمنِّيك، لا حرصًا عليك بل ليحتوي على ما معك ويستصفيك.

وقد كتبتُ إلى أمير المؤمنين وإلى مَنْ لعلَّك تقصده، أُعلِمُهم أن المال الذي اختزلتَه من أعمالنا هو مما أمرتُك بحمله إلى باب السلطان، أعزَّه الله، ومبلغُه ألفُ ألف دينار، فأي حجةٍ أبلغ لهم من كتابنا إليهم أن المال لهم ومحمولٌ إليهم؟ فهل تكون بعد استنضاف ما معك إلا بين أمرَين؛ إما أن يردُّوك علينا متقرِّبين بك إلينا، أو نبذل لهم في ردِّك إلينا مالًا يرونك عِوضًا منه؟ فيكون مصيرك إلينا على جهة القهر والأَسْر ما الموت أيسر منه، أفهذه المنزلة خيرٌ لك أو مراجعتك الواجب عليك؟ وإنابتك إلى ما هو أوْلى بك، مما تختاره ويرجع إلى محصول، ويئول إلى معقول، فيكون مصيرك إلينا بوجهٍ مُسفِر غير كاسف، وقلبٍ مطمئنٍّ غير خائف.»

والرسالة طويلة، وإنما اقتصرنا على هذا منها.

وكان أحمد بن طولون بإقباله [يصيب] فيما يتخوَّفه من ظن يظنُّه وحَدسٍ يحدُسه مما قدَّمنا ذكره بالمعنى فيه، المنبه على صلاحه، حتى إذا بلغ الكتاب أجله انقلبَت العين، وتتابعَت المِحَن.

حدَّث نسيم الخادم قال: كان مولاي إذا خرج إلى نزهة يُحب الولَع بقوس البندق،٤٣ وكانت نزهته حول الجُبِّ لا يعدُوه، فخرج يومًا إلى النزهة ونزل في مَرجٍ حسَن، وكان قوس البندق بيده، فمَرَّ به حمامٌ طائر فضَربَه فسقَط، وأخذناه فإذا في أصل جناحه رقعةٌ كالكتاب فإذا فيها: «قد استراح مولاي محمد فخذُوا حذركم، وارفعوا كل شيءٍ فقد عصا الأمير لؤلؤ.» فأمر مولاي من وقته بإحضار خادمٍ كان على مخلَّفي لؤلؤ فأُحضر [وقال له]: مَنْ منكم له حمام هدي؟ ومَنْ لكم عليل في عسكر لؤلؤ؟ فقال له: ليس في دارنا يا مولاي حمام هدي، ولكن لعبيد الله بن سليمان أخي كاتبنا محمد طيورٌ تسرح، وقد كان مغمومًا بعلة أخيه محمد بن سليمان، فأمر مولاي بالقبض على عبيد الله بن سليمان من ساعته.
وأسرَّ وَجْدَه بلؤلؤ وأظهر التهاوُن بأمره، وفي قلبه منه أحرُّ من الجمر، وأظهر أن غمَّه بالمعتمد، لما بان للناس من غمِّه بما يلحق المعتمد من الموفَّق من التقصير في أمره والمهانة، وما يخافه عليه من القتل، وأنه لا يسعُه في أيمانه المؤكَّدة عليه في عنقه بالبيعة أن يُغمِض في أمره، وأنه يريد الخروج لنصرته، وليفكَّه من تلاعُب أخيه به، واستيلائه على الأمور دونه، وإنما يقصد في خروجه أن يبلغ كل مبلغٍ يصل به إلى القبض على لؤلؤ، فأنفذ إلى المعتمد بالله رسولًا خفيَّ الشخص، رثَّ الهيئة، إلا أنه كاملٌ محصل، وأنفَذ إليه معه سُفتُجة بمائة ألف دينار، وكتب معه إليه كتابًا هذا منه، وذلك في سنة ثمانٍ وستين ومائتَين:

قد منعني الطعامَ والشرابَ والنومَ خوفي على أمير المؤمنين من مكروه يلحقه، مع ما له في عنقي من الأيمان المؤكَّدة، وقد اجتمع عندي مائة ألف عنان أنجاد، وأنا أرى لسيدي أمير المؤمنين الانجذاب إلى مصر، فإن أمره يرجعُ بعد الامتهان إلى نهاية العز، ولا يتهيأ لأخيه فيه شيءٌ مما يخافه عليه منه في كل لحظة، فإن رأى أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، ذلك صوابًا قدَّمه إن شاء الله، وأظهر الخروج لهذه القَصَبة.

فحدَّث أحمد بن محمد الواسطي قال: قال لي أحمد بن طولون: أليس الرأي عندك أن أخرج بجميع جيشي وعُدَّتي كلها حتى أنتاش أمير المؤمنين من تلاعُب أخيه الموفق به وأنقل كرسي الخلافة إلى مصر؟ فإن بيعته التي في عنقي تقتضي هذا له مني. فقلتُ له: ما تبلغ معرفتي وفهمي الكلام في هذا الباب، ولكن في محبسك مَنْ إن أحضرتَه واستشرتَه أشار، لفهمه ورجحان عقله، عليك بالصواب. فقال: ومَنْ هو هذا؟ فقلت: محمد٤٤ بن إسماعيل بن عمار، فقال لي: صدقتَ إنه لكذلك، ولولا نفوري منه لخوفي من غوائله ودهائه لَمَا كان بحيث هو، وكان معي في أجلِّ حال، فأحضِرنيه. فوجَّهتُ من وقتي فأحضرتُه، فأُدخل إليه وهو بحاله التي هو عليها من المُطبِق، وعليه قميصٌ غليظ، ولم يكن يلبسه أحدٌ سواه، وقد اسودَّ من طول دُخان السراج، وشعره قد طال حتى سقط على وجهه، لمكثه في المُطبِق، فاستدناه فدنا قليلًا، ثم استدناه ثانيةً فدنا، وقال: ما أرضى رائحتي للأمير أيَّدَه الله.

فقال له: «دعوتك لأستشيرك في أمرٍ أردتُ أن أفعله، لعلمي بجودة رأيك وصحة فهمك. فقال له: أين الرأي مني اليوم، أيها الأمير، وهذه حالي؟ فقال له: أنت أوفَى رأيًا، وأذكى قلبًا، من أن يختلَّ عليك ما الْتمستُهُ منك، أو يَعتريَك ما يعتري ذوي النقص. فقال: يقول الأمير، أيَّدَه الله، ما شاء، والله، جلَّ اسمه، الموفِّق. فقال له: إن أبا أحمد الموفَّق قد احتوى على أخيه أمير المؤمنين المعتمد بالله، ونفذ أمرُه في كل ما يريد، وتمكَّن من إعناته بمَن ضمَّ إليه أمير المؤمنين مِن الرجال والجيش الذي استدعاه منه لقتال البصري، فلمَّا حصل ذلك له صارت له عدَّة على أمير المؤمنين، وقد خِفْتُ حنثي في يميني التي له في عنقي، إن قعدتُ عنه، وقد عزمتُ على الخروج إليه بنفسي وجميع جيشي، حتى أنصر دعوتَه، وأنقلَه إليَّ، فما ترى؟»

فقال: «إن من الخطر العظيم أولًا خروج الأمير بنفسه، وجميع جيشه وعُدَّته؛ لأن الحرب سجال،٤٥ والظفر بحسب التوفيق، فأخاف أن يلحق الأمير، وأُعيذه بالله، هزيمة فلا تكون له بعدها قائمة. ولأنْ يكون الأمير، أيده الله، من وراء مَنْ يبعث به إلى هذا الوجه، وهو مادَّة له، أوْلى من أن ينفُذ بنفسه. وبعدَ هذا فأرى كلام الأمير كلام مَنْ قد لهج من نصرة المعتمد، وما يريده من ردِّ أمره إليه، مما لا يراه له المعتمد، ولا يعتدُّ به له؛ لأنه رجلٌ مشغولٌ بلَهوه، منهمكٌ في لذَّاته، بمعْزِلٍ عن حُسن تدبير، وأن يكافئ عن فعلٍ جميل.

أرأيتَ أيها الأمير لو انتقل إليك، وتمَّت للأمير حمايتُه من أخيه، وأجابك إلى ما دعوتَه إليه، أكان له في قصرك دارٌ يسكنها غير دارك؟ فأول ما يستعجل الأمير أن ينتقل عن هذه الدار إلى ما لا يقاربها ولا يدانيها، بل يضيق بمن يحوطُه، بل لا يسع بعضهم، ثم يكون الأمير إذا دخلها كبعض الزوار.

ثم أنت أيها الأمير الآن المتبوع الأمر، فلا تلبث أن تصير التابع المأمور، ولعله أن يكون عنده آثر الناس مُلهٍ أو مغنٍّ أو نديم، لا يعْشُرُ٤٦ غلام الأمير، وليس له منه منفعة في أمر، ولا يحمل عنه شيئًا من ثقل، ولا يزيد على أن يُلهيه، ويُسهِّل موارد أموره ومصادرها عليه.

وأقلُّ ما في هذا الباب الثاني أنه إذا دخل الأمير للسلام يكون قائمًا، وذلك النديم أو المُلهِي جالسًا، لموضعه منه، ومنبسطًا إليه. ولعل هذا إذا شاهدَه الأمير أخرجه إلى أكثر مما خرج إليه أخوه الموفَّق فيه، ثُمَّ لا يأمن الأميرُ أن يسألَه بعض غلمانه في ضَيعة من ضياعه أو عملٍ فيه أخصُّ غلمان الأمير، فلا تُمكِنه مخالفتُه في كل ما يستدعي منه، ثم اعتراضات حاشيته في البلد وأصحابه، وكذلك في الأعمال، وطلبهم ما يشقُّ على الأمير ويعظُم، فلا يتهيَّأ له منعهم، فإن منع أغضَب أمير المؤمنين، ثم الأمير بعد هذا غيرُ آمنٍ من أن تحمله المحافظة لمن يسألُه استنزالك عن موضعك فيجيبه، ليكافئه على حالٍ قد تقدَّمت له عنده إلى محبته، ولا يُخالف إرادته.

وحسبُك أيها الأمير أن تستدعيَ رجلًا إلى بلدك وملكك، فإذا بلَّغتَه الغاية القصوى، وسوَّغتَه كل ما كدَحْتَ فيه دهرك، رأى أن ذلك كله له ومن حاله، وأن الذي قد بقي معك مما تتجمَّل به بين يدَيه له دونك، وأن إبقاءه لك تفضُّل عليك.

إن من إقبال الأمير ما يلحق المعتمد من أخيه؛ لأنه يجد بذلك الحُجَّة على خلافه وترك الائتمار له، وإسقاط اسمه والدعوة له وتأليب٤٧ الأولياء عليه، وفي هذا ما يتهيأ له بلوغه من معونة أمير المؤمنين، وما يَثْني أخاه عليه فيعود له إلى إرادته ويزول عنه ما يكرهه، وما أُحب، أيها الأمير، إظهار هذا الاجتهاد العظيم في قهر الموفَّق ونصرته لأخيه عليه، لما يُتخوَّف من مثله لقوة يده وكبَرِ أمره وتمكُّنه، والذي أرى، ولرأي الأمير، أيَّدَه الله، فضلُه، ألا يفعل ما إذا فعله جرى الأمير فيه بينه وبين أمير المؤمنين على ما شرحتُه له، مما يخرج الأمير معه إلى أكثر مما خرج أخوه إليه.»

فقال له أحمد بن طولون: حسبُك حسبُك. وأمر بردِّه إلى محبسه.

قال أحمد بن محمد الواسطي لأحمد بن طولون: أيها الأمير، أكان جزاء هذا الرجل على هذا الرأي السديد الصحيح الذي قال فيه الحق ومَحضَ النصيحة أن يُرَدَّ إلى محبسه؟! قال: نعم، إني تأمَّلتُ أمره فوجدتُه قد نصحني في دنياي وغشَّني في ديني وآخرتي، ثم تأمَّلتُ رأيه وجوْدَته وصحتَه وما حضَره منه بغير فكرٍ ولا استعدادٍ وهو على هذه الحال الصعبة القبيحة المفنية للْحِس فضلًا عن غيره، فكيف لو رأى نفسه مُطلقةً وهو نافذ الأمر والنهي يأكل طيبًا ويلبس لينًا ويشمُّ عطرًا؟ [إذن] لاستدَّ رأيُه، ولبَعُدَ غوره، وتمكَّن من عدُوه، بقوة حيلته، وحزْم رأيه. إن أجهل الأمراء من أعطى مقادتَه للكُتَّاب العقلاء؛ لأنهم أسدُّ الناس رأيًا وأقلُّهم دينًا، بل يقبل رأيهم من غير أن يُظهِر لهم فيه استصابة!

قال أحمد بن محمد الواسطي: فعجبتُ من قوله، وازددتُّ حذرًا له وخوفًا منه، وكان ابن عمار البائس قد ظن بإخراجه إياه إليه، ومشاورته له وما مَحضَه من النصيحة في مشورته، أن في ذلك فرجَه وخلاصَه وانحلالَ عقدته، فلمَّا ردَّه إلى الحبس أيس مما كان يتوقَّعه من الفرج، وصدَع قلبَه الغمُّ فمات.

قال مؤلِّف هذا الكتاب: ووَرَد كتاب طيفور خليفة أحمد بن طولون من الحضرة يذكُر وصول رسول أحمد بن طولون وكتابه إلى المعتمد والمال المُسفتَج،٤٨ وأنه خارج إليه مع المعتمد، ويذكُر في كتابه أن يتأهب لموافاته إليه كما استدعاه، فقد تمَّ عزمُه على المسير إليه، وأنا بين يدَيه أخدمه إلى أن يصل إليك إن شاء الله.

فلمَّا قرأ أحمد بن طولون كتابه بذلك، أحضر شيوخ كُتَّابه وقُوَّاده وشيوخ البلد، وأحضَر ابنه أبا الجيش فاستخلَفه على البلد، وخلَّف معه جماعةً من شيوخ قُوَّاده منهم محمد بن أبَّا وغيره، ووصَّاه باتباع أمرهم ووصَّاهم به، وأكَّد على الجماعة في مراعاة البلد والرعية، والمحافظة على ما يكون منه تمامُ السياسة واستقامة الحال وحُسن الأُحدوثة، وحذَّر ابنه من التشاغُل بلهو أو بشيءٍ غير ما قلَّده إياه، وخرج إلى الشام وحمل معه ابنه العباس مقيَّدًا في قُبَّة، وهو يُظْهِر في قوله وفعله أن خروجه لنصرة المعتمد، والكامنُ في صدره لؤلؤ غلامه، وهو يودُّ أن الأرض طُويَت له إليه، أو قذفَتْه بين يدَيه، وهو على غاية من الكآبة والغمِّ بأمره، وكان قد استقر عنده أن الموفَّق قد أنفذ إليه الخِلَع، وأنها قد وصلَت إليه، ولم يتحقَّق وصوله هو إليه، فلمَّا بلغ الرملة صَحَّ عنده دخولُ لؤلؤ العراق، وذلك في آخر سنة ثمانٍ وستين ومائتَين.

وكان محمد بن سليمان كاتب لؤلؤ مَنْ أَحْذَرِ الناس من أحمد بن طولون وأشدِّهم فزعًا منه، لمقدِّمات كان يعرفها منه؛ منها أن أحمد بن طولون كان يؤدِّب الكاتب كثيرًا على ذنب الصاحب، ومنها أنه رأى فيما يرى النائم كأنه يكنسُ قصره داخله وخارجه بمكنسةٍ في يده، فلمَّا انتَبه طلَبه ليبدأ به، فلخوف لؤلؤ عليه من حالٍ لعلها تأتيه ولم يعلم بالرؤيا أخفاه، وقال: وجَّهت به في مهمٍّ لي وأنا أوجِّه أُحضره. وأمره بالخروج إلى الشام يتقدَّمه.٤٩
وإنما أراد أحمد بن طولون أن يعمل في أمر محمد بن سليمان، كما صنع في أمر صنم كان في عين شمس،٥٠ وذلك أنه كان بعين شمس صنَم على مقدار الرجل المعتدل الخَلْق من كذَّان٥١ أبيض حسن الصورة، يُخيَّل لمن استَعرضَه أنه ينطق. فحدَّث إبراهيم بن كامل المصوِّر٥٢ أنه وُصِفَ لأحمد بن طولون فأحبَّ رؤيته، فقال له خادم له نصراني ثقة عنده في جميع أحواله في داره، يقال له ندوسة: ما أختار [أن] يراه الأمير، أيَّدَه الله. فقال له: ولمَ؟ قال: لأنه ما رآه والٍ قط إلا عُزِل. فرَكِب إليه في سنة ثمانٍ وخمسين ومائتَين فتأمَّله، فلما رآه أحضر القطَّاعين وأمرهم أن يجتثُّوه من الأرض، فوضعوا الفئوس عليه، فلم يتركوا منه عضوًا صحيحًا على الأرض، حتى درس وعفا خياله وذرَّى ما بقي حياله في الصحراء، ثم دعا بندوسة خادمه فقال له: يا ندوسة، مَنْ صرف [منا] صاحبه؟ فقال: أنت أيها الأمير، صرف الله عنك كل محذور. وعاش أحمد بن طولون بعده اثنَتَي عشرة سنة [أميرًا]، وإنما حمل محمد بن سليمان الخوفُ منه والحذَر على أن حسَّن لصاحبه لؤلؤ الذهاب عنه إلى الموفَّق، لتسْلَمَ منه نفسُه ويأمنَ عليها من مكروهه.

قال مؤلِّف هذا الكتاب: فلمَّا بلغ أحمد بن طولون إلى دمشق، وشاع الخبر بحركة المعتمد إلى مصر، أقام أحمد بن طولون بدمشق مترقِّبًا له، حتى وافاه خبر المعتمد مع رسوله النافذ كان إليه بالمال، يخبره بحركته إليه، وقد فَصَل من الحضرة، وأنه يسلك على طريق البرِّية إلى مصر بمن خفَّ معه من ثقاته، فاضطرب أحمد بن طولون لذلك، وتندَّم على مكاتبته بما حرَّكه على المسير إليه، وتبيَّن كلَّ ما ذكره له ابن عمار أنه يكون كله، فقَلِق لذلك وتصبَّر له، حتى أتى من إقباله ما لم يكن في حسبانه، وبما جرت به عادة الله، جلَّ اسمُه، عنده.

ورَدَ عليه كتاب طيفور خليفته يقول: قد كنتُ على المسير إليك مع أمير المؤمنين المعتمد حتى جرى ما أوجب تأخُّره، فتأخَّرتُ بتأخُّره، وأرجو أن تكون الخيرة للأمير، أيَّدَه الله، في ذلك إن شاء الله؛ وذلك أنه لمَّا قرأ كتابك، ووقف على ما دعوتَه إليه من المسير إلى ناحيتك، سَرَّه ذلك وشكره لك، وأظهر الخروج إلى النزهة، وأخرج معه أخاه أبا عيسى وإبراهيم بن مدبَّر وأحمد بن خاقان وخطارمش وتينك،٥٣ وسار على كتيبة يريد مصر، فبلغ أخاه أبا أحمد الموفق خبرُه، فكتب إلى إسحاق بن كنداج الخزري يعرِّفه أن أخاه قد خرج قاصدًا إلى أحمد بن طولون، ومتى تمَّ هذا الأمر استولى أحمد بن طولون على أمره، فلم يكن لكم ولا لأحدٍ منكم مقدار، ولم يلتقِ اثنان في عسكر الموالي، إن صَحَّ ذَهابُه وتم إلى ابن طولون يتجنَّب عن وجه العدو، ويتمكَّن٥٤ من الدخول إلى السلطان، فيكون ذلك سببًا لزوال دولة بني العباس. ويناشده الله، جلَّ وعز، في كتابه في تجديد العناية في ردِّه، ووعدَه إن ردَّ المعتمد أقطَعه إقطاعًا واسعًا ووصلَه بالمال الجزيل، وزاد في رياسته ومحله، وذلك في جمادى الأولى سنة تسع وستين ومائتَين.
فلمَّا قرأ إسحاق بن كنداج الكتاب حرَّكه على ما استدعاه منه الموفقُ الحسدُ لك أيها الأمير، والطمعُ فيما وعده به، ورحل إليه راغبًا راهبًا في خيل جريدة في أربعة آلاف غلام، من نصيبين٥٥ إلى الموصل، فسأل عن المعتمد، فقيل له إنه قد رحل عنها في أمس ذلك اليوم. ووجد له مراكب وحُرَّاقات وسفينتَين، فيها متاعُه وحرمُه بموضعٍ يُعرف بالدواليب، ووكَّل بهم ومنَع من سَيرِهم، وأمر الموكَّلين ألا يُطلِقوا لأحدٍ من أسباب المعتمد أن يتجاوز الموصل، وسار حتى لحِقَ المعتمد بين الموصل والحديثة، فضرب مضربه دون مضارب أصحاب المعتمد، وسار إليه فلم يلْقه أحدٌ من أصحاب المعتمد، حتى وقف بباب مضربه، فخرج إليه نحرير الخادم فسلَّم عليه، ودخل فاستأذن له، وأمره بإدخاله إليه، فدخل إليه ومعه محمد ابنه وحبشي ووصيف ابنا أخيه وطيب بن صفوان وجماعة من وجوه قُوَّاده، فسلَّم على المعتمد، ووقف بين يدَيه، فقال له المعتمد: يا إسحاق، لِمَ منعتَ الحشَم من دخول الموصل؟ — لأن الخبر بلغه، وكان بين يدَيه يومئذ أحمد بن خاقان وخطارمش وتينك — فقال: يا أمير المؤمنين، وما دخولُ الحشَم الموصل؟ قال: لأني آثرتُ دخولها. قال: لا والله، أيَّدَ الله أمير المؤمنين، ما إلى ذلك سبيل؛ أخوك في وجه العدو، عدوك وعدو دولتك يقف على زوالك عن مستقرك، ومدينة آبائك، فينصرف عن مقاومته ويخلِّي بينه وبين دار ملكك، وبهذا جاءني كتابه. فقال له المعتمد: أفغلامي أنت أم غلامه؟ فقال: كلنا يا أمير المؤمنين غلمانك ما أطعتَ الله، فإذا عصيتَه فلا طاعةَ لك علينا. فقال له: وما معصيته؟ فقال: تخلِّيك عن دار ملكك ودار آبائك وتركُك أخاك وهو مجاهدٌ عنك وعن دولتك لعدُوِّك فتظعن عن مستقرك، وفي هذا عصيانُ الله، عزَّ وجل. ثم خرج من المضرب، وخلَّف أصحابه معه بين يدَيه.
ووجَّه إلى المعتمد يقول: إن رأى مولاي أن يبعث إلى أحمد بن خاقان وخطارمش وتينك لنتشار فيما نحن فيه فعل. فوجَّه بهم إليه ومعهم إبراهيم بن مدبَّر، وسار معهم إلى مضربه، فلمَّا حصلوا فيه قال لهم: علمتم أنه ما جنى أحدٌ على الإسلام جنايةً أعظم من جنايتكم، قالوا: وكيف؟ وما هذه الجناية؟ فقال: أولها إخراجكم الخليفة في عدَّة يسيرة، وهذا هارون الشاري٥٦ في جمعٍ عظيمٍ ما رآه، فلو عَلِم به لأَسَرَه، فكان قد حصل الخليفة مأسورًا في يدَي الشاري، فكانت تكون فضيحة ليس أعظم منها، فلولا تحصُّنكم الساعة في عسكري لكان هذا، ولقُتِلْتُم وذهب الخليفة. وأحضر القيود وقُيِّد الجماعة، ووجَّه فقبض على مضاربهم، بجميع ما كان لهم فيها.

فلمَّا أمسى الليل بعث ابنه محمدًا وبابنَي أخيه في جماعة ليحفظوا المعتمد، فلمَّا أصبح دخل على المعتمد فسلَّم عليه وقال له: يا أمير المؤمنين، الأمر مضطرب بناحية أخيك لانزعاجك عن مستقرك، وما مقام مولاي ها هنا معنا؟ فقال له: احلف لي أنك تنحدر معي ولا تسلِّمني. فحلف له وانحدر به إلى سُرَّ مَنْ رأى، فقال المعتمد في ذلك:

أصبحتُ يَمْلِكُني مَنْ كنتُ أملكُه
وصار يأمرُني جهرًا وينهاني
وصرتُ في حَجْره طفلًا يروِّعني
أخشاه حقًّا كما قد كان يخشاني
فالحمدُ لله شكرًا لا شريكَ له
على الذي خصَّني منه وأولاني٥٧
فلمَّا بلغوا سُرَّ مَنْ رأى تلقَّاه أبو العباس بن الموفق وصاعد بن مخلد فسلَّمه إسحاق إليهما، وانصرف إلى دار الخليفة ينتظر عودتهم، فأنزلا المعتمد دار أبي أحمد بن الخصيب التي في طَرف الجسر، ومُنِعَ من نزول الجوسق والمعشوق،٥٨ ووكَلَا به قائدًا في خمسمائة رجل، يمنعون أن يدخل إليه أحد، فقال المعتمد للموكَّل به: ما أنت؟ قال: أخدم أمير المؤمنين. قال: هذا توكيلٌ مليح.
وعاد أبو العباس بن الموفق وصاعد كاتب الموفق إلى إسحاق بن كنداج، فخلعا عليه خِلَعًا حسانًا، ورَكِب من دار الخليفة وعليه تاج ووشاح وسيفان، ولُقِّب بذي السيفَين، و[كل] ذلك غُرِّق بالجوهر،٥٩ وعقَد له على مصر مكان أحمد بن طولون، وأقْطع ضياعَ القُواد الذين كانوا مع المعتمد، ومبلغ مالها عشرة آلاف دينار في السنة، وسُلِّمت إليه نعمُهم.
فلمَّا وقف أحمد بن طولون على هذا كله من كتاب صاحبه إليه، وتواتَرَت الأخبار أيضًا به، والكُتب إلى سائر الناس، أقام بدمشق ووجَّه فأحضر قُضاةَ أعماله، وفيهم العمري وأبو حازم وبكار بن قتيبة فاستفتاهم في خلع أبي أحمد الموفق، فكلٌّ أفتاه بخلعه إلا بكار٦٠ بن قتيبة فإنه تلكَّأ في ذلك، فتغافل عنه أحمد بن طولون، وحقدَها في نفسه، وكتب كتاب الخلع على نُسَخ، وأنفذ إلى كل عملٍ من أعماله نسخةً تُقرأُ على المنبر في جميع أمصاره وتُخلَّد، فمن جوامع ذلك:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أجمع عليه القضاة والأولياء ووجوه أهل الأمصار، حين أحضرهم أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين مجلسه، بمعسكره في مدينة دمشق سنة تسعٍ وستين ومائتَين، وسألهم عما يُوجبه ما أقدم عليه الناكثُ أبو أحمد في أمير المؤمنين المعتمد على الله، من إيقاع الحيل على فضِّ جيوشه، وتشريد حُماته، بحملهم على السيف مرة وقتْلهم بالسُّم أخرى، ثم تخطَّى ذلك إلى إخافة سِرْبه، وحمله على الائتمار له في كثيرٍ مما يؤثِره، مما يضعُ به من منزلته، وينقُص من محله، فلمَّا كثُر هذا عليه، وخافه على نفسه؛ أجمع على النفوذ إلى أحمد بن طولون للاعتصام به؛ إذ هو ثقتُه وعمدتُه وممن خلص له على التجربة، بتوقُّفه عن مكاره الخلفاء قبله، وإن أبا أحمد لمَّا رأى ذلك خاف أن يظلَّ مأمورًا بعد أن كان آمرًا، وكتَب إلى إسحاق بن كنداج في قصده وردِّه، فشخص إليه في جمعٍ كثيف حتى وافاه بين الموصل والحديثة فردَّه، وأمير المؤمنين يُناشِده الله ويذكِّره به، ويخوِّفه مروقه عن الدين، ونقضَه ما أكَّدَتْه عليه البيعة، وإنما قدِم عليه وقد فارق الطاعة، وبرئ من الذمة، ووجب جهادُه على الأمة، فلم يُصغِ إلى ذلك، ولا اكترث به، لما جُعِل له على ما يأتيه من أمرِه من الحُطام، فشرهَت نفسُه إليه، وإلى ما استباحه من مال مَن أقام على الطاعة، ووفى بالعهد والذمة، حتى أدخله سُرَّ مَنْ رأى مأسورًا، وسلَّمه إلى صاعد بن مخلد فحبسه ووكَّل به، ومُنِع من جميع أهله وولده وشَمْله، فأصلح مقبوض اليد، بعيد الناصر، يخاف على نفسه آناء ليله ونهاره، عرضةً لسوء القول وقبيح الفعل، فالأمة في حَرَجٍ من القعود عن نصرته، والأولياء في حَنْثٍ من نقض بيعته، والسنن دائرة، والأحكام ضائعة، والحق منتبذ، والعدل شارد، وغِيَر الله، عزَّ وجل، تنتظر، فرأى كل من حضَر خلعه مما كان أمير المؤمنين بتَّه له من ولاية عهده، والتبرِّي منه، والجهاد له؛ إذ كان قد مَنعَ حقوقًا ثلاثة؛ أولها حق الإمامة، والثاني حق الأُخوة، والثلث حق النعمة عليه. وأوقع مَنْ حضر من الحكام شهادتَه عليه وفتياه به، فكتب بذلك عشر نُسَخ نسَقًا واحدًا لا يغاير بعضها بعضًا، وفيها خطوط القضاة بما نسخته:
يقول عبيد الله بن محمد العمري القاضي بجندَي قنسرين والعواصم والثغور الشامية، وجندي حمص٦١ [وأنطاكية]: قد قُرِئَ عليَّ هذا الكتاب، وهو قولي، والحق عندي، والذي أفتيتُ به، لما صحَّ عندي من غَدْر الناكث المعروف بأبي أحمد، وتعدِّيه وخروجه عن طاعة أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، وأنه قد استوجب بما كان منه، مما سُمِّي، ووُصِف في هذا الكتاب، إسقاطَ اسمه وخلعَه وترْكَ الدعاء له، وأنه غير مستحقٍّ لإمامة المسلمين، ولا مأمون عليهم، ولا موثوق به في ذلك، وأشهدتُ عليَّ وعلى فتياي مَنْ أثبَت شهادتَه في هذا الكتاب. وكتب عبيد الله بن محمد القاضي بخطِّه، في يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خَلَتْ من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتَين.

وكتب عبد الحميد: يقول عبد الحميد بن عبد العزيز القاضي بدمشق والأردن وفلسطين: قد قُرئ عليَّ هذا الكتاب وهو قولي، والحق عندي، وهو الذي أفتيتُ به، وقد صح عندي غَدْر الناكث المعروف بأبي أحمد، وتعدِّيه وخروجه عن طاعة أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، وأنه قد استوجب بما كان منه إسقاطَ اسمه وخلعَه، وكتب بخطه.

وكتب أحمد بن أبي العلاء قاضي ديار مصر بمثل ما كتب صاحباه حرفًا بحرف.

وتوقَّف بكار بن قتيبة في شهادته، فغضب أحمد بن طولون لأنه لم يشرح كما شرحوا، ولا شهد كما شهدوا، وتوقُّفُه كان لموضعه من الورع والدين، فكتب: شهِدَ بكار بن قتيبة القاضي بمصر والإسكندرية ونواحيهما على ما سُمي ووُصف في الكُتب من أولها إلى آخرها من إحسان أمير المؤمنين، أيَّدَه الله، إلى الناكث أبي أحمد بن جعفر المتوكل على الله وتفضُّله عليه، وبما كان من تعدِّيه على أمير المؤمنين، وأن الناكث أبا أحمد قد استحق بما كان منه خلعَه وتركَ الدعاء له. وكتب بكار بن قتيبة بيده.

وأُنفِذَت النُّسَخ، فكان الخاطب إذا دعا للمعتمد في أعمال أحمد بن طولون قال بعد ذلك: اللهم استنقذه ممن أَسَرَه وجار عليه وقَصَده، يريد الموفق، ثم يدعو للمفوَّض ثم لأحمد بن طولون. وكتب إلى ابنه أبي الجيش يأمره بأن يبعث إلى مكة قائدًا جلْدًا في عسكرٍ كثيف، يمنع من أن يُدعى لأبي أحمد على منابر مكة أو بالموقف أو عرفات، فأخرج لذلك المعروف بالغنوي وابن السرَّاج في جيشٍ ضخم، وأقبل من العراق مع الحاج قائدٌ يُعرف بابن الناعمودي،٦٢ وكان على مكة يومئذٍ هارون بن محمد العباسي، فعاون أهل مكة أهل العراق فكانت الهزيمة على المصريين، فجرى من ابن السراج كلامٌ كتب به أصحاب الأخبار إلى أحمد بن طولون فأنكره، فلمَّا قدِم أمر به إلى المُطبِق.٦٣
قال مؤلِّف هذا الكتاب: فلمَّا بلغ الموفَّقَ ما عَمِله أحمد بن طولون من إسقاط اسمه وترك الدعاء له، أمر بلعنه على المنابر، وخرجَت براءةٌ بلعنه إلى سائر الأمصار جميعًا، فكانت نسختها:
إن الله، عز وجل، قَرنَ بطاعته طاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، انتخبهم لإعزاز دينه، وإقامة معالمه، فقال جلَّ مِن قائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فإن عدوَّ الله المباين لجماعة المسلمين، المعروف بأحمد بن طولون، أظهر ما كان منه من معصية وشقاق، فيما بين أقاصي المغرب إلى أكناف العراق،٦٤ ومَرَق من الدين، وخالَف أمير المؤمنين، وأخرب ثغور المسلمين، وقاتل فيها المجاهدين بأهل الفسق الملحدين، واستباح حريمَهم، وسفَك دماءَهم، فلمَّا تبيَّن أمير المؤمنين أمره، وعرف كُفره، تبرَّأ منه إلى الله، عزَّ وجل، ولعنه لعنًا ظاهرًا وأمر بلعنه ليلحقه ذلك من خواص الأولياء وعوامِّ الرعية، اللهم فالعنه لعنًا يفلُّ حدَّه، ويُقلُّ جنده، ويُتعس جَدَّه، واجعله مثلًا للغابرين، إنك لا تصلح عمل المفسدين، يا رب العالمين.

وكان أحمد بن طولون لمَّا أسقط اسمه والدعوة له على المنابر، أمر أن يمحُوا اسمه عن الطُّرُز التي قد كُتِبَت قبل ذلك، ولا تُكتب فيما يُستأنف، فلم يبقَ بمصر ولا بنواحيها ثوبٌ على طرازه اسم الموفق إلا نُقِض، فلَحِق الناس في ذلك مشقة.

وعمل شعراء الشام في حضرة الخليفة أشعارًا كثيرة، فمن ذلك ما قاله إسحاق بن طريف المخزومي في شعرٍ له طويل:

كيف يُرجى للعهد مَن نَقَضَ العَهـ
ـدَ ولم يَرعَ حُرْمةَ الأجدادِ
ناكثٌ قد أضلَّ قومًا أطاعُو
ه على نكثِ بيعةٍ وفسادِ
أيُّ صومٍ لنا وأيُّ صلاةٍ
وإمام الهدى أسيرُ الأعادي؟!
أي عذرٍ لكم بخذْل إمامٍ
لابسٍ ثوبَ خيفةٍ واضطهادِ؟!

وقال عبد الرحمن بن سلامة الشيباني:

هذا الخليفة في فِنا أعدائه
متذللٌ لهمُ أخو استسلامِ
متوقِّعٌ للقتلِ كلَّ عشيةٍ
وصباحِ يوم غدٍ من الأيامِ
يبكي على أولادِه وعيالِه
كبُكاء ذات الثُّكلِ والأيتامِ
غدَروا به غدْر الجَحُود لكلِّ ما
قد كان أَوْلاهم من الإنعامِ

وقال منصف بن خليفة الهُذَلي في شعرٍ طويل له:

أمسى الخليفةُ بعد العز مأسورًا
وأصبح اليومَ مقهورًا ومحزونَا
لم يرَعَ ذمته أهلُ العراق ولا
حَمَوه حين غدَوا لله عاصينَا
سلُّوا عليه سيوف الغَدر [مُشْرَعةً
لقتله] وأبانوا ما يُسِرُّونا
يُكلِّفون وليَّ الله داهيةً
والله يكرهُ فيها ما يحبُّونا
خليفة الله مأسورٌ ومُضطهَدٌ
والناسُ في دار لهوٍ ما [يبالونا]

وقال النابلسي الضرير من شعرٍ له طويلٍ يُخاطب فيه أحمد بن طولون:

يا سميَّ النبي لا نَسيَ الله
لكَ الذبَّ عن حريم النبيِّ
دولة الدينِ والخلافةِ عزَّت
بك لا بالطريدِ عنها البغيِّ

يعني أبا أحمد الموفَّق لمَّا نفاه المهتدي فردَّه المعتمد:

أيزال اسمه على الرغم من كلِّ
مقامِ امرئٍ كريمٍ سنيِّ
رامَ ما لن ينالَه فلقد خا
فَ وخابَ اعتصامُه بالخصيِّ

يعني اعتصامه بيازمان الخادم.

ولَبُعدًا له و[سُحقًا] لإسحا
قَ اليهوديِّ دينُه الخَزرِيِّ

يعني إسحاق بن كنداج في معاضدَته له على المعتمد.

وقال محمد بن بشر العنسي:

يا بني الدينِ من مرادٍ وقحطا
نَ وأكفَائهِم من الأقوامِ
ضارِبوا عن خليفةِ الله بالبِيـ
ـضِ وقوموا به قيامَ الكِرامِ
حسبُكُم سُبَّةً عليكم وعارًا
دائمًا عَيبُه مدى الأيامِ
ما أصابَ الإمامَ يومَ ابن كندا
ج وقد [جدَّ] أمرُ أهلِ الشآمِ

قال مؤلِّف هذا الكتاب: وتواتَرَت الأخبار من الحضرة إلى أحمد بن طولون ظهر أبي أحمد الموفَّق على الناجم البصري، وأنه قد شارفَ القبضَ عليه في آخر سنة تسعٍ وستين ومائتَين، فخزلَه ذلك وأقلَقه، وكان الموفق قد أراد لما كان فيه من الفضل والعقل، وجودة التحصيل، أن يستشفَّ أمر لؤلؤ في مولاه أحمد بن طولون، فقال له: تخرج إليه لتقاتله. فأسرع الإجابة إلى ذلك فنقَصه ذلك عنده ووضَعه من عينه؛ لأن جميع ما كان يفعله الموفَّق بأحمد بن طولون إنما كان غيرةً عليه ألا يكون له كما هو لأخيه، وكان يقف على فضلِه ومحلِّه فيتأسَّف ألا يكون له ومعه.

فتقدَّم الموفق بأن يكتب جريدةً بأسماء مَنْ شَخَص مع لؤلؤ، وأن تكون عِدَّتهم مائة ألف رجلٍ فارس وراجل. وتقدَّم سرًّا إلى الكُتَّاب بأن يدافعوا عن ذلك، فظنَّ لؤلؤ أن الأمر حقٌّ؛ فجدَّد آلته واستبدَل بدوابِّه وزاد منها في عِدَّتها، وشمَّر ذيلَه لمحاربة مولاه، والموفَّق يتأمل من حاله في كل وقتٍ ما قد عَمِي لؤلؤ عنه، ويُقدِّر أنه لا ينتقد عليه قُبْح ما قد عَمِل على أن يَحمِل نفسه عليه.

حدَّثنا عبد الله بن الفتح عن ابن الداية، وكانت له من أبي أحمد الموفَّق منزلة، قال: لمَّا تأمَّل الموفَّق أمر لؤلؤ وما عزم عليه في أمر مولاه؛ نغَّصه بعد سروره كان لمجيئه إليه، فتوقَّف عن إنفاذه، وأمر كاتبه صاعد بن مخلد وجماعةً من خاصته بمكاتبة أحمد بن طولون، وتوبيخه على المبادرة بخلعه، وإسقاط اسمه، ويقولون: إنه إنما كان يجب أن تفعل ذلك لو رأيتَ بالخليفة حادثًا، فأما ولم يجرِ إلا منع أمير المؤمنين من فعل شيء آثَرَه لو بلغَه لعاد عليه وعلى مملكته ضرَر، فذلك غيرُ منكرٍ يُوجِب ما تسرَّعت إليه؛ لأنه ليس قادحًا في يمين، ولا مُخْرجًا عن بيعة، ولا عادلًا عن طاعة، وأنت تعلم أن خواصَّ الملوك يردُّون أمرهم في كثيرٍ مما يُحبونه احتياطًا لهم وعليهم، ولا يخرجون به عن طاعة، ولا يحنثون في بيعة، وأنه قد كان يجب عليك أن تصونَ نفسَك عن سوء الظن بنا، في أننا نستجيز أن نحدِث في أمير المؤمنين حادثةً نبرأ إلى الله الكريم منها، ويحلفون أن اللعن الذي خرج عن غير إرادةٍ مني ولا محبة ولا اختبار، وأني لكارهٌ لما جرى من ذلك، ويُشيرون عليه بأن يكاتبني بما يُزيل به ما قد وقع بيننا وبينه.

قال: وكتب بما أمرهم به إليه عن أنفسهم، وحلَفوا له على كراهية الموفَّق لما جرى من اللعن وغيره، ويقولون في كتبهم إليه إن الأحسنَ بك والأجمل، لما خصَّك الله به من الفضل، والمحل الجليل، والمروءة المقرونة بالدين، أن تكتب إليه تذكُر فيه ما أنت مؤثِرٌ له من طاعته، وما تُوجِبه من حقه ورعايته، وما يُشاكِل ذلك مما أنت، بجميل فعلك ووافر تحصيلك، أهدى إليه إن شاء الله.

وضُمِّنَت الكُتب ما لا زيادة عليه من استعطافه، وما يبعثه على إجابتهم إلى ما حبُّوه وأُنْفِذَت إليه بذلك، فلما وصلَت إلى أحمد بن طولون الكُتبُ علم أنهم لم يكتبوا إلا بما اختاره الموفَّق وأمرهم به؛ فسرَّه ذلك وأجاب جماعتهم يقول: إن الموفَّق أحد مواليه، وإنه إنما انحرف عنه لحصره الخليفة وأسْره إياه، وأنه لو خلَّاه مع اختياره، وأزال عنه الموانع التي ألزمَه إياها، ولم يَحُلْ بينه وبين أمره ونَهيه، وامتثل أمره على رسمه كان، ولم ينحرف عن طاعته، ولا عَدَلَ عن محبته وإرادته، لكان كبعض خدَمه، وإن جميع ما في يده من مال عمله محفوظٌ للخليفة، وإن أقام على ما هو عليه من حَصْره إياه في يده وتوكيله به، حاربتُ عنه ولو لم يبقَ معي أحد، فإني أرجو أن أُرْزَقَ الشهادة على حُسن الطاعة.

وكانت الكتب قد وردَت عليه سرًّا فأنفَذ الجواب عنها سرًّا، فلمَّا وصلَت إلى الموفَّق ووقف عليها سَرَّه ما تضمَّنَته، واستحسَن هذا الفعل من أحمد بن طولون، وأن ذلك منه إنما هو عن إرادةٍ قوية في طاعتهم، ونيةٍ صحيحة في موالاتهم، وكان الموفَّق كامل العقل، متمكِّنًا من نفسه، حَسَن المعرفة، ذكي الروح، فسكَّن ذلك منه ما كان في نفسه على أحمد بن طولون، وأمال قلبه إليه في كليته، وأيس من أن أحمد بن طولون يتخلَّى عن القيام بأمر المعتمد، ففَعل للمعتمد كل ما اختاره، ونقَله إلى قصره، وبلَّغ له كل ما يُحبه، وأزال الموكَّلين عنه والتشديد عليه، فأضرب عن كل ما قد عزَم عليه في أمره، كل ذلك [رعايةً] لأحمد بن طولون، ولكبره في نفسه وحاله وقوة يده، وفضله في قلبه، وامتثل كل ما رسمَه في كُتبه وزيادةً عليه رضًا له، وراسَل الموفَّق المعتمد يقول له ما اختار لعنه وإنه لنادمٌ عليه، وعلى كل ما جرى في أمره، وشَكَر له حسن محافظته عليه، وحسن طاعته له، وسأله مكاتبتَه بما يزول به ما بينهما، فسَرَّ المعتمدَ هذا من أخيه الموفَّق.

وكتب إلى أحمد بن طولون كتابًا بخطه يسأله الرجوع عما هو عليه لأبي أحمد الموفَّق، ويعرِّفه ما جرى في أمره، وما فعله ورجع عنه، ويشكُره على ما كان منه حتى عاد له الأمر كما أحبَّ، ويسأله أن يردَّ الدعوة له على المنابر، وإعادة اسمِه إلى الطرز، ويعود إلى ما كان عليه من استقامة الحال، وأنفَذ الكتاب إليه مع الحسن بن عطاف، وأنفَذ معه كتاب الموفق بخطِّه بإسقاط اللعن عن أحمد بن طولون، فلمَّا بلغ الحسن بن عطاف الرقَّة بَلَغَتْه وفاة أحمد بن طولون فرجع إلى الحضرة.

وكان قد اتصل بلؤلؤٍ غلامِه أن مولاه قد باع نساءه وأولاده في سوق الرقيق بمصر، وقبض على جميعِ ما كان له في داره، فبلَغ ذلك منه كلَّ مبلغ، وأقبل إلى الموفق فبكى بين يدَيه وقبَّل الأرض وعرَّفه ما بلغه عن حَرَمِه وأولاده، وسأله إنفاذ الجيوش معه على ما كان عزَم عليه، وضَمِن له أنه المجهود في طاعته، حتى يأخذ له البلد، وبسط لسانه في مولاه، ولم يَدَعْ شيئًا يُغْري به الموفَّق ويوحِش به قلبَه على مولاه حتى نقلَه، فوعده الموفَّق بإنفاذ الجيوش معه وخلَع عليه، وحُمِل على دابَّة من دوابِّه، وتقدَّم إلى الكُتَّاب بتجريد الجيوش معه، كل ذلك سخريةً به ومدافعةً، إلى أن يَرِدَ الجواب مع الحسن بن عطاف، فيقبض حينئذٍ على لؤلؤ رضًا لأحمد بن طولون لما شاهده من انحرافه عن مولاه، وقُبْح فعله بمن ربَّاه وأحسن إليه، وكان هذا الفعل من الموفَّق لما فيه من العقل والرياسة والمروءة، وعَمِل على أن يوُكِّل به ويرُدَّه إلى أحمد بن طولون عند ورود جوابه عليه.

قال مؤلِّف هذا الكتاب: و[ما] كان فعل لؤلؤ في أمر مولاه كفعل الخارجي في الحجَّاج بن يوسف، على أن رأي الخوارج في الحجاج وغيره من الولاة معروف، حدَّث مروان بن الحكم الأردني قال: أُتي الحجاج بن يوسف بخارجي خرج عليه فقال: اضربوا عنق ابن الفاعلة.٦٥ فقال له الخارجي: بئسما أدَّبَك أهلُك يا حجَّاج، أبعد الموتِ منزلةٌ أصانعك لها؟ ما كان يؤمنك أن ألقاك بمثل ما لقيتَني به؟ فقال له الحجاج: صدقتَ، لله درُّك! وأطلقه، فرجع الخارجي إلى [أهله]، فلما كان بعد وقتٍ من الزمان عزم الخوارج على قتال الحجاج، فقالوا لذلك الخارجي: ارجع معنا إلى قتال الحجاج ابن الفاعلة، فوالله ما أطلقَك هو بل الله، عزَّ وجل، الذي أطلقك. فقال لهم: هيهات! غلَّ يدًا مُطلِقُها، واستَرقَّ نفسًا مُعتِقُها٦٦ وأنشأ يقول:٦٧
أأُقاتِل الحَجَّاجَ عن ملَكوتِه٦٨
بيدٍ تُقِرُّ بأنها مولاتُهُ
[إني إذن لأخو الدناءة والذي
عفَّت على عرفانِه جهَلاتُهُ]
ماذا أقولُ إذا وقفتُ حِيالَهُ
في الصفِّ واحتجَّت له فعَلاتُهُ
وتحدَّث الأقوام أن صنيعةً
غُرِسَتْ لديَّ فحنظلَت نخَلاتُه
أأقول جارَ عليَّ؟ إني فيكُمُ
لأحقُّ مَنْ جارت عليه وُلاتُهُ
واللهِ لا خُنْتُ الأميرَ بآلةٍ
وجوارحي وسلاحُها آلاتُه
أجدُ الخزايةَ أن أكونَ مُصعِّرًا
خدِّيَّ أو مكفورةً حسَناتُه٦٩
فهذا على أنه خارجي لا عهد له ولا عقد، شكَر الحجاجَ على ما فعلَه في أمره، وما منَّ به عليه، فمنعه ذلك من الإساءة إليه والعودة إلى ما يكره، ولؤلؤ كفَر أيادي مولاه، وإحسانَه إليه، وإنعامه عنده، ولم يشكُر شيئًا منها ولا رعاه، وقد منَّ عليه بالأموال، وصيَّر له الجاه العظيم، بعد أن ربَّاه صغيرًا في حجره كأحد ولده، وأوطأ عقبه٧٠ الرجال كثيرًا، وأمَّره على مَنْ هو خيرٌ منه أمًّا وأبًا وحالًا ومحلًّا، لشتانَ بين الرجلَين، والحديث شجون.

قال المنصور للربيع حاجبه ومولاه، وإنما ملَكَه كبيرًا وقدَّمه واصطفاه رجلًا: يا ربيع، سَلْ حاجتك؛ فلقد سَكتَّ حتى نطقْت، وخففتَ حتى ثقلْت، وقلَّلتَ حتى كثَّرت. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أرهبُ بخلك، ولا أستقصرُ عمرك، ولا أغتنمُ مالك، وإن يومي بفضلك عليَّ لأحسنُ من أمسي، وغدي في تأميلك أحسنُ من يومي، فلو جاز أن يشكرك شاكرٌ بعين الخدمة والمناصحة لَمَا سبقني إلى ذلك أحد. فقال له: صدقت، علمي بذلك أحلَّك مني هذا المحل، فسَلْ حاجتك؛ فإني أُقسِم عليك لتفعلنَّ. فسأله أشياء، فوقَّع له بها، وبجائزة حسنة.

وما يُشَكُّ في أن لؤلؤًا قد وصل إليه من مال صاحبه أكثر مما وصل إلى الربيع؛ لأن المنصور كان رجلًا متقلِّلًا قنوعًا، فكان في عطائه على قَدْر ذلك، ثم ازدادت حال الربيع حتى قلَّده وزارتَه بلزومِه مناصحتَه.

قال: ونزلَت حال لؤلؤ عند الموفَّق ببغيه الوبي، وأصله الدَّني، وفعله الرديِّ، حتى قبض عليه، وأخذ جميعَ ما كان في يدَيه، فلمَّا صيَّره ظرفًا فارغًا، أطلَقه كلبًا والغًا،٧١ كل ذلك كان من الموفق غيظًا عليه، لما شاهدَه منه في أمر مولاه.

ولَعَهدي بلؤلؤ في آخر أيام هارون بن أبي الجيش خُمارويه، وقد دخل إلى الفسطاط فما رأوه إنسانًا، ولا أوْلوْه إحسانًا، ومنعوه أن يلبَس سيفًا ومِنْطَقة، فكان يركب بدُرَّاعة وغلامٌ واحد بين يدَيه، كأنه من بعض وكلاء الريف، فكان ما نزل به ثمرة العقل السخيف والفعل القبيح.

١  في قضاة مصر وولاتها: علي بن أعور، وفي ابن الداية: علي بن الحزور.
٢  اختلفَت المصادر؛ فمنها ابن جدار بالجيم، ومنها ابن حدار بالحاء، ومنها ابن خدار بالخاء، ومنها ابن جرار [انظر هامش ص١٧٢ من هذا الكتاب].
٣  في ابن الداية والكندي: سهل بدل أزهر.
٤  تُزري عليه: تعيبه.
٥  يلصق ويعلق.
٦  تونس.
٧  صدر الشيء: طائفة منه.
٨  الإباضية: فرقة من الخوارج تقول بإمامة عبد الله بن إباض، وجمهرتهم اليوم في تونس وطرابلس وعُمان وزنجبار. والخوارج هم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب لما رضي بالتحكيم بينه وبين معاوية بن أبي سفيان. وأنشأ الإباضية دولًا في إفريقية وعُمان في القرون الأولى للإسلام.
٩  كذا في خطط المقريزي وتاريخ ابن عساكر، وفي الأصل: من آل طولون، فاعلم إن علمت فما … إلخ.
١٠  في معجم البلدان: أن لبدة مدينة بين برقة وإفريقية «تونس»، وقيل: بين طرابلس وجبل نفوسة، وهو حصن من بنيان الأول بالحجر والآجر وحوله آثارٌ عجيبة. وذكر أنه كانت فيه وقْعة بين أبي العباس أحمد بن طولون وأهل إفريقية. وذكر ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار أن هذه المدينة ببرقة مما يقابل أطرابلس الغربية، وأنها أصبحَت خرابًا يبابًا في عهده.
١١  رجل بيِّن الرجولة والرجلة والرجولية بضمِّهنَّ والرجولية بالفتح.
١٢  تداكَّ عليه القوم: إذا ازدحموا عليه، وفي حديث علي، رضي الله عنه: «ثم تداككتم عليَّ تداكُك الإبلِ الهيمِ على حياضها.» أي ازدحمتم.
١٣  عارَضْنا هذه الرسالة على رواية صبح الأعشى وقد جاءت فيه مطوَّلة، وقال القلقشندي: إنها من قلم ابن عبد كان من كُتاب الدولة الطولونية.
١٤  في الصبح: الملم بذنبه.
١٥  هبِلَتْه أمه تهبله هبلًا: ثكلته، وهبلتهم الهبول؛ أي ثكلتهم الثكول، وهي بفتح الهاء من النساء التي لا يبقى لها ولَد، والثُّكْل بضم الثاء: فقْد الولد.
١٦  في صبح الأعشى هذه الزيادة: وإنا كنا نقرِّبك إلينا وننسبك إلى بيوتنا؛ طمعًا في إنابتك، وتأميلًا لفيئتك، فلمَّا طال في البغي انهماكك، وفي غمرة الجهل ارتباكك، ولم نَرَ الموعظة تُلين كبدك، ولا التذكير يُقيم أوَدَك، لم تكن لهذه النسبة أهلًا، ولا لإضافتك إلينا وضعًا ومحلًّا، بل لا نُكنى بأبي العباس إلا تكرهًا، وطمعًا بأن يهب الله منك خلفًا نقلِّده اسمك، ونكتني به دونك، ونعُدُّك كنتَ نسيًا منسيًّا، ولم تكُ شيئًا مقضيًّا، فانظر، ولا نظرَ بك، إلى عارٍ نسبته تقلَّدتَ، وسخطٍ من قبلنا تعرَّضتَ.
١٧  تفرَّى: انشق.
١٨  وردَت في صبح الأعشى هذه الجملة بعد ذلك: وإن مما زاد في ذنوبك عندي، ما ورد به كتابك عليَّ بعد نفوذي إلى الفسطاط من التمويهات والأعاليل، والعِدَات بالأباطيل، من مصيرك بزعمك إلى إصلاح ما ذكرتَ أنه فسد عليَّ حتى مِلْتَ إلى الإسكندرية، فأقمتَ بها طُول هذه المدة، واستظهارًا عليك بالحجة، وقطعًا لمن عسى أن يتعلق به معذرة علم بأن الأناة غير صادَّة، ولا أنه خالجني شك ولا عارضَني ريب في أنك إنما أردتَ النزوح والاحتيال للهرب، والنزوع إلى بعض المواضع التي لعل قصدك إياها يوديك، ولعل مصيرك إليها يكفينيك، ويبلغ إليَّ أكثر من الإرادة فيك؛ لأنك، إن شاء الله، لا تقصد … إلخ.
١٩  وهنا زيادةٌ كبيرة في رواية صبح الأعشى منها: ولما ما منَّيتَناه من مصيرك إلينا في حشودك وجموعك، ومَن دخل في طاعتك، لإصلاح عملنا، ومكافحة أعدائنا، بأمرٍ أظهَروا فيه الشماتة بنا، فما كان إلا بسببك، فأصلِحْ أيها الصبيُّ الأخرق أَمْر نفسك قبل إصلاح عملنا، واحزم في أمرك قبل استعمالك الحزم لنا، فما أحوجنا الله، وله الحمد، إلى نصرتك ومؤازرتك، ولا اضطُررنا إلى التكثُّر بك على شقاقك ومعصيتك وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا.
وليت شِعْري على من تُهوِّل بالجنود وتُمخرِق بذكر الجيوش، ومَنْ هؤلاء المسخَّرون لك، الباذلون دماءهم وأموالهم وأديانهم دونك؟ دون رزقٍ ترزقهم إياه، ولا عطاء تُدِرُّه عليهم، فقد علمتَ، إن كان لك تمييز أو عندك تحصيل، كيف كانت حالك في الوقْعة التي كانت بناحية أطرابلس، وكيف خذلك أولياؤك والمرتزقة معك حتى هُزِمْتَ؟ فكيف تغترُّ بمن معك من الجنود الذين لا اسم لهم معك، ولا رزق يُجرى لهم على يدك؟ فإن كان يدعوهم إلى نصرتك هيبتُك والمداراةُ لك والخوفُ من سلطانك، فإنهم ليجذبُهم أضعافُ ذلك منا، ووجودهم من البذل الكثير، والعطاء الجليل، عندنا ما لا يجدونه عندك، وإنهم لأحْرى بخذلك والميل إلينا دونك، ولو كانوا جميعًا معك ومقيمين على نُصرتك، لرجونا أن يمكِّن الله منك ومنهم، ويجعل دائرة السَّوْء عليك وعليهم، ويُجرينا من عادته في النصر، وإعزاز الأمر، على ما لم يزل يتفضَّل علينا بأمثاله، ويتطوَّل بأشباهه، فما دعاني إلى …
٢٠  زاد في صبح الأعشى: فإن في رفقنا بك ما يعطفُك إلينا، وفي تآخينا إياك ما يردُّك علينا، ولم يسمع منا سامع في خلاء ولا ملأ انتقاصًا بك، ولا غضًّا منك، ولا قدحًا فيك؛ رقةً عليك، واستتمامًا لليد عندك، وتأميلًا لأن تكون الراجع من تلقاء نفسك والموفَّق بذلك لرشدك وحظك.
٢١  وهنا جاء في الأصل الذي نقله القلقشندي في صبح الأعشى ما يأتي: فوالله لأستعملنَّ لعنكَ في دُبر كل صلاة، والدعاء عليك في آناء الليل والنهار، والغدو والآصال، ولأكتُبنَّ إلى مصر وأجناد الشامات والثغور وقنسرين والعواصم والجزيرة والحجاز ومكة والمدينة كتبًا تُقرأ على منابرها فيك، باللعن لك والبراءة منك، والدلالة على عقوقك وقطيعتك، يتناقلها آخر عن أول، ويأثرها غابر عن ماضٍ، وتُخلَّد في بطون الصحائف، وتحملها الركبان، ويُتحدَّث بها في الآفاق، وتُلحِق بك وبأعقابك عارًا ما اطَّرد الليل والنهار، واختلف الظلام والأنوار.
٢٢  في صبح الأعشى: إلا أن تراجع من طاعتنا والإسراع إلى ما قِبلَنا خاضعًا ذليلًا كما يلزمك، فنقيم.
٢٣  في ديوان البحتري: فدعوتهم بظبى السيوف إلى الردى.
٢٤  في الديوان: ببدهم بدل بعزهم وبد مدينة بابك الخرمي الذي أَسَره الأفشين وقتلَه المعتصم، ويمكن أن تكون ببدهم والبدُّ الصنمُّ.
٢٥  هذه الأبيات لعمران بن عصام أوردها في العقد الفريد، وقال: إن عبد الملك سأل عن عمران بن عصام، فقيل له: قتلَه الحجاج، قال: ولِمَ؟ قال: لخروجه مع ابن الأشعث. قال: ما كان ينبغي له أن يقتلَه بعد قوله وبعثت … الأبيات. وفي البيان والتبيين أن عمران بن عصام العرني كان من الشعراء الخطباء وهو الذي أشار على عبد الملك بخلع أخيه عبد العزيز والبيعة للوليد بن عبد الملك في خطبته المشهورة، وقصيدته المذكورة، وهو الذي لمَّا بلغ عبد الملك بن مروان قتْل الحجاج له، قال: ولِمَ قتله ويله؟ هلَّا رعى له قوله فيه، وذكر الأبيات الثلاثة، والأبيات في الأصل كثيرة التحريف، فأصلحناها من البيان والتبيين والعقد الفريد.
٢٦  معتب هو أحد أجداد الحجاج، فهو أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن مالك بن كعب. وفي الأصل: معتبًا صقرًا يكون … إلخ.
٢٧  في البيان والتبيين: العرفج بدل العوسج.
٢٨  قال في البيان والتبيين: صياح الهجهج صياح لطرد الأسد وزجره، وفي الأصل:
وهو الهُمام إذا يريدُ فريسةً
لم ينجها منه محي وهجِ
٢٩  زفُّوه: أسرعوا به.
٣٠  القرطق: القباء، والملحم: ضرب من الثياب ليست لحمتُها من حرير، وبذلك يتميز عن الثياب الديباج [دوزي].
٣١  كذا في ابن الداية، وفي الأصل: معام به.
٣٢  في بعض المصادر: ابن جدار بالجيم بدل الحاء.
٣٣  في بعض المصادر: ابن جدار بالجيم بدل الحاء.
٣٤  كان العباس من أسخف الناس، ورث من أبيه استبداده وقسوته، ولم يرِث إرادتَه وسياستَه. روى ابن الداية قال: حدَّثني أحمد بن يعقوب، وكان يتولى خراج برقة من قِبَل أحمد بن طولون في الوقت الذي خرج فيه العباس فأقره عليه. قال: ما عاشرتُ رئيسًا قَط أجرأ على نفسٍ ونقمة من العباس، ولا أقسى قلبًا عند استرحام منه. ولقد انصرف إلينا من هزيمته وقد تضاعف سُوءُ ظنه وندِم على تفريطه فيما كان بذله أبوه ببرقة فأبكى العيون. ولاحظ ثلاثةُ خدمٍ صغار يتشاورون فأمر بالتفرقة فيما بينهم، سأل كل واحد منهم عما حاوره صاحباه، فاختلفَت أقوالهم لصغيرهم، وضعفهم عن الإحاطة بما جرى بينهم، فأمر بأن تُحفر لهم حفيرة وأُلقوا فيها، وألقى التراب عليهم وهم أحياء وطمَّ الأرض عليهم. وقال لي: لم يكن في داره إلا خادم يُعرف بأبي نصر، ذهب عني اسمه، وإني معه لجالس إذ خرج خادم معه قطنٌ مندوف، فقال للخادم: خذه، فجئ بالقطن مثل اللحاف. وقام فما بعُد حتى رجع إليَّ، فقال: والله لا تأخَّرَت عنه العقوبة على هذه الأفعال السيئة. قلت: وما ذاك؟ قال: أنكر على حظيٍّ له ما لا يبالي به، فلفَّه في هذا القطن، وأخذ الشمعة بيده فلم يزل يُشعِلها في جوانبه حتى احترق الخادم واحترق القطن.
٣٥  البيتان لابن الرومي.
٣٦  في رواية: ويقرب.
٣٧  في رواية: فلا تغبطنَّ أهل الكثير، وفي الديوان: المترفين.
٣٨  في تقويم البلدان لأبي الفداء أن الجزيرة تشتمل على ديار ربيعة وديار مضَر وبعض ديار بكر، وحرَّان مدينة الصابئين تُعدُّ من ديار مضر، والرقة المدينة التي على الفرات تُعدُّ كالرافقة من ديار مضر أيضًا، وكذلك الرها وسروج. وقال البكري في معجم ما استعجم: إن الجزيرة هي الكور التي تلي الشام، وهي المعروفة بديار مضر وربيعة وبالجزيرة، وهي كورة الرقة وكورة الرها وكورة سروج وكورة حران وكورة شمشاط وكورة حصن منصور، وسميت الجزيرة لأنه بين الفرات ودجلة مثل الجزيرة، وقال: إن ديار ربيعة تضم عدة كور … إلخ.
٣٩  لم نعرف هذه البلدة، وقد تقدَّم ذكرها في ص١٥١ من هذا الكتاب.
٤٠  المنازل.
٤١  الإل: العهد.
٤٢  الفيء: الغنيمة.
٤٣  البندق: واحدتها بندقة، والجمع بنادق، وهي ما يُرمى به [معرَّب].
٤٤  في ابن الداية: أحمد.
٤٥  الحرب بينهم سِجال ككتاب أي سجل منها على هؤلاء وآخر على هؤلاء، وأصله أن المستقين بسَجلَين من البئر يكون لكل واحد منهما سَجْل؛ أي دلو ملآن ماء [التاج].
٤٦  لا يبلُغ معشاره.
٤٧  التأليب: التحريض والإفساد، وهم عليه ألبٌ وإلبٌ واحد مجتمعون عليه بالظلم والعداوة.
٤٨  السفتجة كقرطقة: أن تعطي مالًا لآخر وللآخر مالٌ في بلد المعطي فيوفيه إياه ثَمَّ، فتستفيد أمن الطريق، وفعله السفتجة بالفتح، والمال المُسفتَج المُرسَل إلى بلدٍ آخر سفاتج.
٤٩  روى القاضي التنوخي في الفرج بعد الشدة بإسنادٍ ذكره قال: خرج يومًا محمد بن سليمان إلى ظاهر الفسطاط، فانتهى به السير إلى قُبة كانت لأحمد بن طولون يُقال لها قُبة الهواء، مطلَّة على النيل وعلى البَر، فجلس فيها ومعه الحسين بن حمدان وجماعة من القُوَّاد، ثم قال: الحمد لله الذي بيده الأمر كله يفعل كما يشاء. فقال له الحسن بن حمدان: لا شك أن تجديدك الحمد لأمر. قال: نعم، وهو عجيبٌ طريف، ذكرتُهُ الساعة، وهو أني نزعتُ إلى مصر وأنا في حالٍ رثَّة في زي صغار الأتباع، فضاق عليَّ المعاش بها، فاتصلتُ بلؤلؤ الطولوني، فأجرى عليَّ دينارَين في كل شهر، وصيَّرني مشرفًا في إصطبله على كُراعه، فكنتُ هناك من حيث لا يعرف وجهي جيدًا، ولا أُقدِم على الوقوف بين يدَيه، فلمَّا كان بعض الأيام أحضَرني فقال: ويحك من أين يعرفك الأمير؟ يعني أحمد بن طولون. فقلتُ: والله ما رآني قط، ولا وقعَت عينُه عليَّ إلا في الطريق، ولا محلِّي محل من يتصدَّى للقائه. فقال: دعاني الساعة وهو في قُبة الهواء فقال: معك رجلٌ أشقرُ أشهلُ يُقال له: محمد بن سليمان. فقلتُ: ما أعرفه. فقال: بل هو في جنبتك، فأبعِده عنك؛ فإني رأيتُه البارحة وفي يده مِكنَسة يكنسُ داري بها. فتوقَّ ويحَك، ولا تتعرَّف إلى أحدٍ من حاشيته. وأقرَّني على أمري فامتثلتُ،ومضت لهذا الحديث شُهور، ثم دعاني ثانيةً، فقال: ويحك، ماذا بُليتُ به منك وبليتَ أنت به من هذا الأمير؟ دعاني بعدة من أصحاب الرسائل فوافيتُه، وأنا في غاية الوَجل، فقال: أليس أمرتُك بصرف محمد بن سليمان الأزرق الأشقر؟ فقلتُ: قد عرَّفتُك يا سيدي أني ما استخدمتُ من هذه سبيله، ولا وقعَت لي عليه عين. فقال لي: كذبتَ، وهو معك في إصطبلك، فأخرجه عن البلد الساعة؛ فإني رأيتُه في النوم أيضًا وفي يده مكنسةٌ وهو يكنسُ بها سائر دوري وحُجري، ونسأل الله الكفاية. فقلتُ للؤلؤ: أي ذنبٍ لي يا سيدي في الأحلام؟ فقال لي: صدقتَ، فاستَتِر إلى أن يتناسى الأميرُ ذكرك. وكان يُجري عليَّ رزقي في كل شهر وأنا لا أعمل شيئًا.
فلمَّا تهيأ من إنفاذ لؤلؤ إلى الشام ما تهيأ نهضتُ معه، وتخلَّف عنه كُتابه، لما علموا من تغيُّر حاله عند صاحبه، فأدناني وقرَّبني وأجرى عليَّ عشرة دنانير في كل شهر، وحملَني على دابَّة، فلزمتُ خدمتَه ولقيتُه واستحمدتُ إليه فزادني من برِّه. ولم ينتبَّه أحمد بن طولون من استيحاش لؤلؤ، فكتَب له بالرجوع إلى مصر، فشاورَني فأشرتُ عليه بالانحدار إلى نواحي ديار مضر، وأخْذ كل ما استخفَّ نقلَه من المال، ولم أترك غايةً إلا أتيتُها في تضريبه وتأليبه، حتى أوردتُه مدينة السلام.
ثم تقلَّبت بي الأحوال في خدمة السلطان وخدمة الدول، وتُوفي أحمد بن طولون وحُبس ابنه وقُتل أبو الجيش، وتولَّى بعده هارون بن خمارويه بن أحمد، وضم إليَّ القُواد والرجال، وكان فيهم لؤلؤ صاحبي، وكان أصغرهم حالًا، فلم أُقصِّر في صلاح حاله والإحسان إليه ومعرفة حقه، فلم أدنُ من الشام حتى تلقَّاني بدر الحمامي مطيعًا، وتلاه طغج بن جف مسرعًا، وصرتُ إلى مصر فلمَّا شارفتُها وثب شيبان بن أحمد بن طولون ومن معه من جند مصر، فقتلوا هارون، وتولَّى شيبانُ الأمر أيامًا، وانثال إليَّ القواد في الأمان، ولحق بهم شيبان، وتخلَّف الرجَّالة وقطعةٌ من الفرسان، وأظهروا الخلاف، فأوقعتُ بهم وأفنيتُهم قتلًا وأَسْرًا، ودخلتُ الفسطاط عَنوةً وحَويتُ النعَم والمُهَج، وأشخصتُ الطولونية من البلد إلى الحضرة، حتى لم يبقَ فيها منهم أحد، وصحَّ بذلك منام أحمد بن طولون، فسبحان الذي ما شاء فعل وإياه نسأل خيرَ ما تجري به أقداره، وأن يختم لنا بخير رحمته. ا.ﻫ.
قلنا: وقد كان لمحمد بن سليمان الكاتب هذا أثرٌ عظيم في القضاء على الدولة الطولونية، ذكر القلقشندي أنه سار بالعساكر من العراق من قِبَل المُستكفِي بالله، ودخل إلى مصر في سنة اثنتَين وتسعين ومائتَين، وقد ولَّى الطولونية عليهم ربيعة بن أحمد بن طولون، فتسلَّم البلد منه، وخرَّب القطائع وهدم القصر، قصر بني طولون، وقلَع أساسه وخرَّب موضعه حتى لم يبقَ له أثَر.
٥٠  يقول العلامة أحمد زكي باشا في قاموس الجغرافية القديمة: المطرية وعين شمس جهتان قريبتان من مصر القاهرة تُعْرفان عند الفراعنة باسم أون، وعند اليونان باسم هيليوبوليس Héliopolis.
قلنا: وهما لعهدنا عامرتان زاهرتان.
٥١  الكذان: حجارة رخْوة كلدَر.
٥٢  في ابن الداية: المصري.
٥٣  كذا في الطبري، وفي الأصل بلا نقط، وفي ابن الأثير: نيزك.
٥٤  في الأصل: ومكنته وفي الجملة تشويش.
٥٥  قال ياقوت: إنها مدينةٌ عامرة من بلاد الجزيرة على جادَّة القوافل من الموصل إلى الشام، وهي اليوم أشبه بقريةٍ كبيرة.
٥٦  أحد الشراة وهم الخوارج.
٥٧  قال ابن الأثير في الكامل: وكان [أي المعتمد] في خلافته محكومًا عليه، قد تحكَّم عليه أخوه أبو أحمد الموفق وضيَّق عليه حتى إنه احتاج في بعض الأوقات إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها في ذلك الوقت فقال:
أليسَ من العجائبِ أن مثلي
يَرَى ما قلَّ ممتنعًا عليه
وتؤخَذُ باسمِه الدنيا جميعًا
وما من ذاك شيءٌ في يدَيه
إليه تُحمَّل الأموالُ طُرًّا
ويُمنَع بعضَ ما يُجبى إليهِ
وكان أول الخلفاء انتقل من سُرَّ مَنْ رأى مذ بُنيَت، ثم لم يعُد إليها أحدٌ منهم.
٥٨  الجوسق: القصر، وهي فارسية، وهو اسم أحد قصور الخلافة، والمعشوق: اسم لقصرٍ عظيم كان بالجانب الغربي من دجلة قبالة سامرَّاء، عَمَرَه المعتمد على الله وعَمَرَ قصرًا آخر يقال له: الأحمدي.
٥٩  في الطبري: كل ذلك مفصَّص بالجوهر، يقال: غرَّق اللجام بالفضة وأغرقه: حلَّاه.
٦٠  قال القضاعي في تاريخه: كان المعتمد قد سار في جمادى الآخرة سنة تسع وستين ومائتَين يريد مصر، بمكاتبةٍ جرت بينه وبين أحمد بن طولون في ذلك، وكان ابن طولون بدمشق، فلمَّا بلغ الموفَّق ذلك وهو في قتال صاحب الزنج، أنفذ إسحاق بن كنداج فردَّ المعتمد وسلَّمه إلى صالح بن محمد فأنزلَه دار ابن الخصيب بسُرَّ مَنْ رأى وحَجَر عليه، ولقَّب الموفق إسحاقَ ذا السيفَين، وولَّاه أعمال بن طولون، ولقب صاعد بن مخلد ذا الوزارتَين، وكتب ابن طولون من دمشق أن الموفق نكَث بيعة المعتمد، وأمَر بجمع القضاة والفقهاء والأشراف، وسار إلى دمشق فاجتمعوا وخلع الموفَّق، وكان الفقهاء أفتَوا بخَلْعه إلا بكار بن قتيبة، فإنه قال: أنتَ أوردتَ عليَّ كتابًا من المعتمد بأن الموفَّق ولي عهده، فأورِدْ عليَّ كتابًا منه بخلعه. فقال: هو الآن مغلوبٌ مقهور، وأنا أيضًا أحبسُك حتى يرِد كتابُه بإطلاقك. فقيَّده وحبَسَه واسترجع منه ما كان دفعَه إليه من جوائز، فوجدَها في منزله بخواتيمها ستة عشر كيسًا، فيها ستة عشر ألف دينار. وسلَّم ابن طولون القضاء إلى محمد بن شاذان الجوهري وجعله كالخليفة لبكار، وكان بكَّار يحدِّث في السجن من طاق، ولم يزل بكار محبوسًا، وابن طولون يُخرِجه كلما خرج للمظالم ويأمر بأن يُقامَ بين يدَيه إلى أن مرض ابن طولون فأخرجه إلى دارٍ عند مُصلَّى الجنائز القديم. ا.ﻫ. وقال ابن عساكر: قال الطحاوي: وكان الأمير أحمد بن طولون من المعرفة بحقه [بحق بكار بن قتيبة] والميل إليه والتعظيم لقَدْره على نهاية، وكان يأتي إليه بمحضرنا وهو يُملي على الناس الحديث، على كثرة مَنْ كان يحضُر مجلسه، وأمر حاجبه ألا يقطع مستمليه عن الاستملاء عليه ثم يصعد إليه إلى المجلس الذي كان يحدِّث فيه فيقعُد مع الناس فيه ويستتم بكار مجلسه وهو حاضر لا يقطعه بحضوره إياه.
٦١  في تاريخ ابن عساكر: عبيد الله بن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أبو بكر العمري القاضي من أهل المدينة، ولي القضاء بحمص وقنسرين وأنطاكية والثغور الشامية، وقدِمَ دمشق أيام ابن طولون، وكان ممن خلَع أبا أحمد الموفَّق بدمشق.
٦٢  كذا في ابن الأثير، وفي الطبري: الباغمودي، وفي الأصل: مابردي.
٦٣  يقول المؤرخون: إن جعفر بن الناعمودي قتل من أصحاب ابن طولون مائتَي رجل وانهزم الباقون وسُلبوا وأُخذِتْ أموالهم، وأخذ جعفر من قائدَي ابن طولون نحو مائتَي ألف دينار، وأمَّن المصريين — والجزَّارين والحنَّاطين — وكان المصريون فرَّقوا في هؤلاء مالًا ليعاونوهم، وقُرئ كتاب في المسجد الجامع بلعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
٦٤  روى السيوطي أنه كان لابن طولون ما بين رحبة مالك بن طوق إلى أقصى المغرب، ورحبة مالك بن طوق كانت بين الرقة وبغداد على شاطئ الفرات بينها وبين بغداد مائة فرسخ وبينها وبين دمشق ثمانية أيام ومن حلب خمسة أيام.
٦٥  في زهر الآداب: ابن الفاجرة.
٦٦  في أمثال الميداني: واسترقَّ رقبةً مُعتِقها. قال: وهو مَثَلٌ يُضرب لمن يُستعبَد بالإحسان إليه.
٦٧  صحَّحتُ هذه الأبيات على تاريخ ابن عساكر وعلى زهر الآداب للحصري. وفي ابن عساكر زيادة بيتٍ غير مفهوم. وقيل: إن هذه الأبيات لعمران بن حطان أحد رؤساء الخوارج البلغاء.
٦٨  في ابن عساكر وزهر الآداب: عن سلطانه.
٦٩  ليس هذا البيت في ابن عساكر ولا الزهر، وهو في الأصل:
أحب الحرافة أن أكون مصعِّرًا
خدِّي أو لعداه كافرًا حسناتُه
٧٠  أي كثر أتباعه.
٧١  ولَغ الكلب في الإناء وفي الشراب، ومنه وبه يلغ كيهب ويالغ، وولِغ كورِث ووجِل ولغًا ويُضم، وولوغًا وولَغانًا محرَّكة: شرب ما فيه بأطراف لسانه أو أدخل لسانَه فيه فحرَّكه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤