موسم ١٩٢٥-١٩٢٦

بعد انفصال علي الكسَّار عن أمين صدقي — كما مرَّ بنا في الجزء الأول — كوَّن الكسَّار أول فرقةٍ مسرحيَّة كوميدية خاصَّة به، حملت اسم فِرقة علي الكسَّار. وكان مدير إدارتها الخواجة كوستى حاجياناكس، ووكيل إدارتها حامد مرسي. وكانت هذه الفرقة أول فرقة مسرحيَّة كوميديَّة مصريَّة تبدأ الموسم التمثيلي ١٩٢٥-١٩٢٦. وقد افتتحت عملها بمسرحية «الطمبورة» يوم ٨ / ١٠ / ١٩٢٥ على مسرح الماجستيك. والمسرحيَّة عرَّبها عن الإيطالية حامد السيد، وكتب أزجالها بديع خيري، ولحَّنها زكريا أحمد، وقام بتَمْثِيلها علي الكسَّار، وحامد مرسي، ورتيبة رشدي، وزكي إبراهيم، ومحمد سعيد، والشيخ محمد العراقي، وبباوي فرج، وفكتوريا كوهين، وأحمد حافظ، وعفيفة أمين، ونينا ودوللي أنطوان الفرنسية.

وكانت هذه المسرحية امتحانًا صعبًا للكسَّار، فقد أُشِيع أن الكسَّار سيفشل فنيًّا بعد أن انفصل عن أمين صدقي، ولكن الكسَّار نجح نجاحًا كبيرًا في هذا الامتحان، الذي استعدَّ له الاستعدادَ الكبير، حيث أنفق على المسرحية من ماله الخاص، فجاء بمناظرها من محلَّات دانجليس بالإسكندريَّة، وجاء بملابسها من محلَّات تريولو الشهيرة، واستعان بأخصائي للمكياج لأوَّل مرَّة، وهو جبران نعوم.١
ومسرحية الطمبورة لم يقصد الكسَّار من ورائها إضحاكَ جمهورِه وتَسْلِيته فقط، بل أراد أن يُلقِي عليه درسًا اجتماعيًّا بيَّن فيه مضارَّ إرسال الآباء لأبنائهم إلى البلاد الغربيَّة بقصد التعلُّم دون رقابة واهتمام، فينحرف الابن ويهجُر رسالتَه في تلقِّي العِلْم، ويجري وراء ملذَّاته ولَهْوِه. وبجانب هذا الدرس التعليمي، نجد دروسًا أخرى — في المسرحيَّة — منها الوفاء والإخلاص في الحبِّ والصداقة. كلُّ هذا قدَّمه الكسَّار في ثوبٍ كوميدي مُطرِب؛ ممَّا جعل الجمهور يتقبَّل نصائحه بسرور وابتهاج.٢
ومن الإشاعات المُغرِضة التي تعرَّض لها الكسَّار في هذا الوقت، أنه لا يستطيع الفِكَاك من أَسْر شخصيَّة البربري. ودافع جمال الدين حافظ عوض عن هذا الأمر بقوله: «سبع سنين طويلة — وعلي الكسَّار يقوم فيها بشخصيَّة البربري — فما فَشِل يومًا ولا ملَّ منه الجمهورُ لَحْظة. هو روح خفيفة إذا ظهرت على المسرح تَبِعتها أنظار المُتفرِّجين بلهفة، ينتظرون منه النكتة الطريفة والحركة الخفيفة. وهو يفهم تمامًا جمهور النظارة، لا يأتي بحركة إلَّا ويعلم تأثيرَها، ولا يقول كلمةً إلَّا وهو يُكيِّفها كما يجب أن تكون حتَّى تؤدِّي المعنى المراد بها. وهو لا يُحسِن تمثيل دور البربري فحسب، بل جميع الأدوار الكوميدية الأخرى، ولكنه تفوَّق في الأولى وأصبح له في هذه الشخصية من الجمهور عشَّاق؛ ولذا فهو لا يغيِّرها أبدًا ولكن ليس عن ضعف وعدم مقدرة. وربما رأى منه الجمهور شخصيةً أخرى في رواية آتية فيقطع بذلك ألسنة المُتخرِّصين.»٣
وفي مقابل نجاح الكسَّار بعرضه لمسرحيته الأولى، نجد الإشاعات تُطارِد شريكَه السابق أمين صدقي. فقد قِيل إنه سيؤلِّف فرقةً مسرحية يطوف بها البلاد والأقاليم، وقِيل إنه يستعدُّ لاختراع مسرح لم يسبق له مثيل، وقيل إنه سافر إلى أوروبا ليتفقَّد مسارحها.٤ وكما نالت الأقاويل من شَرِيك الكسَّار السابق، نالت الأقاويل أيضًا من مُنافِسه الكبير نجيب الريحاني، حيث عاد الأخير في هذه الفترة من أمريكا بصُحْبة زوجته بديعة مصابني. وقد قيل إن الريحاني ينوي اعتزال المسرح، وقيل أيضًا إن أمين صدقي اتَّفق معه على شراكة فنيَّة مسرحية مُستغلِّين غياب مُنيرة المهديَّة، من أجل التمثيل على مسرحها برنتانيا، وقِيل كذلك إن الريحاني رفض هذه الشراكة، وينوي العودة إلى المسرح بدافع من زوجته.٥
وأثناء انتشار هذه الأقاويل، كانت فرقة الكسَّار تسير بخطًى ثابتة نحو هدفها المنشود. فبعد شهر تقريبًا، من تقديمها لمسرحيتها الأولى، قدَّمت الفرقة مسرحيتها الجديدة الثانية «الخالة الأمريكانية» يوم ١٢ / ١١ / ١٩٢٥ على مسرح الماجستيك. وقد عرَّبها عن الإيطالية حامد السيد، ولحَّنها زكريا أحمد، ومثَّلها: علي الكسَّار وحامد مرسي ورتيبة رشدي وزكي إبراهيم ومحمد سعيد وشفيق ودوللي أنطوان وفكتوريا كوهين وجانيت حبيب.٦
وهذه المسرحية نجحت أيضًا جماهيريًّا، وخيَّبت آمال مَنْ وقفوا ضدَّ الكسَّار، ووصَمُوا مسرحه بالمسرح الشعبي الذي يجب أن يتجنَّبه الجمهور، دون أن يفسِّروا معناه. فقام الناقد المسرحي محمد عبد المجيد حلمي، بإيضاح المعنى الذي أضاف مجدًا جديدًا للكسَّار، حيث أبان أن احتقار المسرح الشعبي يعني احتقار الشعب الذي ينتمي إليه المسرح، ذلك المسرح الذي يتمشَّى مع عقليَّة الشعب ويقدِّم له ما يستسيغه ويتقبَّله، ولا يقدِّم له تدليسًا أو تهريجًا مثلما تفعل المسارح الأخرى في ذلك الوقت. ويختتم الناقد رأيه هذا بقوله: «لي نظرةٌ خاصة في مسرح الماجستيك، فهو في اعتقادي المسرح «الإعدادي» الوحيد في البلد الذي يُعِدُّ الشعب لما يسمُّونه المسرح الراقي! وهو المسرح الذي يهذِّب عقليَّة الشعب، ويتمشَّى معه حتى يرتفع به إلى المستوى الفني الذي نتطلَّبه وبعد ذلك تتسلمه المسارح الأخرى مكتمل العقليَّة المسرحية مُستعدًّا لفَهْم ما يُلقَى عليه، واستقباله أحسن استقبال.»٧
أما المسرحية الجديدة الثالثة التي قدَّمتْها الفرقة، فكانت «ابن الراجا». وعُرِضت على مسرح الماجستيك يوم ١٠ / ١٢ / ١٩٢٥. وهي من تأليف بديع خيري وتلحين زكريا أحمد، وتمثيل: علي الكسَّار وحامد مرسي ورتيبة رشدي وفكتوريا كوهين وزكي إبراهيم ومحمد سعيد ومحمد العراقي وجبران نعوم وسيد مصطفي وعبد القادر قدري. وكانت هذه المسرحية نَقْلة جديدة في مشوار فرقة الكسَّار، حيث تميَّزت بالفخامة والإبهار، فقد أنفق الكسَّار على الديكور والملابس ٦٠٠ جنيهًا مصريًّا — في ذلك الوقت — ممَّا كان له أكبر الأثر في نجاح المسرحية فنيًّا وجماهيريًّا.٨
figure
إعلان رواية «ابن الرجا» من جريدة كوكب الشرق. 
هذا النجاح الكبير للكسَّار، جعل منافسه الريحاني يستعدُّ لخوض معركة فنيَّة يستعيد فيها مجده السابق، فحقَّق أمنيَّة أمين صدقي، وأعاد التاريخ للوراء مرة أخرى، حيث اتَّحد الريحاني مع صدقي وكوَّنا فرقةً مسرحيَّة كوميدية عِمادها بديعة مصابني البارعة في تمثيل الدلال، وفتحية أحمد البارعة في الغناء. وربَّما ظنَّت مجلة روز اليوسف أن الجمهور نَسِي الريحاني ونَسِي شخصيته كشكش بك، بسبب غيابه الطويل في أمريكا. وربَّما أرادت أن تعلن عن عودته المسرحية، فكتبت مقالة كبيرة سردت فيها تاريخ الريحاني وزوجته منذ اشتغالهما بالمسرح حتى ظهورهما مرة أخرى في هذه الفترة.٩ كذلك قامت الصحف بالإعلان عن عودة الريحاني وأمين صدقي، وأشارت إلى مسرحية الافتتاح «قنصل الوز». التي عُرِضت على مسرح دار التمثيل العربي يوم ١٧ / ١٢ / ١٩٢٥، وهي من تأليف أمين صدقي.١٠
ومسرحية «قنصل الوز» نجحت نجاحًا كبيرًا، حيث امْتدَحها معظم النقَّاد المسرحيين في هذا الوقت، ووضعوا أيديَهم على أسباب هذا النجاح، الذي تمثَّل في اجتماع كوكبة من رموز الكوميديا أمثال محمد كمال المصري «شرفنطح» وعبد اللطيف جمجوم وعلى رأسهما كشكش بك. كذلك تمثيل بديعة مصابني، وغناء فتحية أحمد، وتلحين الموسيقار الشاب محمد عبد الوهاب.١١
هذا النجاح للريحاني وأمين صدقي أغراهما على إخراج عملٍ جديد آخر، فوقع اختيارهما على نصٍّ مسرحيٍّ فرنسيٍّ لتعريبه، كانت منيرة المهدية تستعدُّ لإخراجه بواسطة فرقتها. وعلم الكسَّار بهذا وحذَّر منيرة من إخراج هذه المسرحيَّة؛ لأن فرقة أخرى تعمل على إخراجه، فوافقته منيرة الرأي، فطلب منها السماح له بإخراج هذه المسرحية إذا سنحت له الظروف فوافقتْ على ذلك. هنا عزم الكسَّار على وضع النقاط فوق الحروف، والدخول في منافسة فنيَّة مباشرة بين شخصية البربري عثمان وشخصية كشكش بك.١٢ فقد عزم الكسَّار على إخراج هذه المسرحيَّة الفرنسية باسم «٢٨ يوم»، وهي المسرحية نفسها التي سيخرجها الريحاني باسم «مراتي في الجهادية». ومزيدًا في التحدِّي قرَّر الكسَّار افتتاح مسرحيته في يوم افتتاح الريحاني لمسرحيته أيضًا.
وكما يُقال: يوم الامتحان يُكرَم المرء أو يُهان! ففي يوم ٧ / ١ / ١٩٢٦ افتتح الكسَّار مسرحيته الجديدة الرابعة «٢٨ يوم»، التي عرَّبها عن الفرنسية أحمد البابلي وحامد السيد، ووضع أزجالها بديع خيري، ولحَّنها زكريا أحمد، ومثَّلها: علي الكسَّار، وحامد مرسي، ورتيبة رشدي، وزكي إبراهيم، ودوللي أنطوان، وفكتوريا كوهين، وجبران نعوم، ومحمد سعيد.١٣ وفي اليوم نفسه قدَّم الريحاني مسرحيته الجديدة «مراتي في الجهادية» على مسرح دار التمثيل العربي.١٤ وكما ذكرنا أن المسرحيَّتَيْنِ مُعرَّبتان عن أصل واحد، وشخصيَّاتهما واحدة وموضوعهما واحد. وهنا كان الامتحان الصعب للكسَّار والريحاني — أكبر رَمْزين للكوميديا المسرحية في ذلك الوقت — خصوصًا وأن الامتحان كان بين شخصيَّتَيْهما الفَنيَّتينِ؛ أي بين البربري عثمان وكشكش بك. وعلى الرغم من أنَّ نصَّ الكسَّار بين أيدينا، إلَّا أن نصَّ الريحاني لا نملكه. وهنا يصعب علينا المقارنة، خصوصًا أن النصَّ شيء والعرض شيء آخر.
figure
الصفحة الأخيرة من مخطوطة مسرحية «٢٨ يوم».
ولكن لحُسن الحظِّ أن قام بهذه المقارنة — في ذلك الوقت — الناقد محمد عبد المجيد حلمي، الذي شاهد العَرْضَين فكتب بحثًا نقديًّا مهمًّا، شغل صفحاتٍ عديدةً من جريدة كوكب الشرق، ونُشر على مدار أربعة أيام، قارن فيه بين العرضين من حيث التعريب والديكور والموسيقى والإضاءة والتمثيل والتلحين والملابس والغناء وشخصيَّتَي البربري وكشكش بك، وكانت المقارنة في صالح الكسَّار وضد الريحاني.١٥ وقد اختتم الناقد بحثه هذا بقوله: «بذلْتُ مجهودًا كبيرًا في أن أكون عادلًا، وأظنُّني أرضيتُ ضميري الآن. سيغضب قومٌ ولكنَّني أزدري الغضب، وخيرٌ لهم أن يكونوا هادئين سواء في الماجستيك أو في دار التمثيل العربي. لقد حكمت على الروايتين إجمالًا، والآن أريد أن أُفصِّل باختصار. رأيي أن رواية «٢٨ يوم» نالت نجاحًا أكبر من رواية «مراتي في الجهادية». المناظر والملابس عند الماجستيك أكثر إتْقانًا من دار التمثيل العربي. الألحان في دار التمثيل العربي أقلُّ روعةً وتأثيرًا وتمشِّيًا مع الرواية، بعكس الماجستيك فقد كانت الألحان أقوى وأوفق. كانت هناك منافسة بين أمين صدقي وعلي الكسَّار، فانتصر علي الكسَّار انتصارًا مزدوجًا على منافسه.»١٦
وهكذا سقطتْ مسرحيَّة «مراتي في الجهادية»، وهذا السقوط أسفر عن انفصال الريحاني وزوجته عن فرقة أمين صدقي.١٧ وفي المقابل سار الكسَّار في نجاحه المُتواصِل، فعرض يوم ٤ / ٢ / ١٩٢٦ مسرحيَّته الجديدة الخامسة «أنوار»، من تأليف أحمد توفيق وأزجال بديع خيري وألحان زكريا أحمد وتمثيل: علي الكسَّار وحامد مرسي ورتيبة رشدي وزكي إبراهيم ومحمد سعيد وجبران نعوم وفكتوريا كوهين. ونجحت هذه المسرحيَّة بشكلٍ ملحوظ، فأشارت إلى ذلك جريدة مصر، وأبانت أن الكسَّار يسير بخطواتٍ مُتقدِّمة نحو خطَّته في التطوير الأخلاقي للكوميديا، باختياره الموضوعات ذات الدروس المُفِيدة أخلاقيًّا، وتقديمها في ثوب كوميدي وبشكل جذَّاب. ومسرحية أنوار من هذا النوع؛ لأنها تحثُّ الجمهور على الجدِّ والسعي في تنمية حياته الاجتماعية، وتحذِّر من أعمال الدجل والشعوذة، وتبين عن قيمة الحبِّ النقيِّ الذي يُعتبَر أساسًا متينًا للحياة الزوجيَّة.١٨
أمَّا أمين صدقي فقد صَمَد بعض الشيء، بعد انفصال الريحاني عنه، فمثَّل بفرقته عُروضًا مسرحيَّة على دار التمثيل العربي منها «بنت الشبندر» و«ناظر المحطَّة»، بطولة: محمد بهجت وفوزي منيب وعبد اللطيف جمجوم وفتحيَّة أحمد وشرفنطح، ورتيبة أحمد ودوللي أنطوان وعبد الحميد زكي وحسن كامل.١٩ ومسرحية «ناظر المحطة» من تأليف أحمد كامل المحامي، وقد استعان فيها أمين صدقي بفوزي منيب لِيمثِّل دَوْر البربري، في محاولةٍ منه لِينافس الكسَّار في شخصيَّته الفنيَّة. فكتب الناقدُ جمال الدين حافظ عوض كلمةً في هذا الشأن، قال فيها:
… وقام فوزي منيب بدور البربري عثمان. وهنا أرى أنَّه لا بُدَّ من كلمةٍ بسيطة في هذا الموضوع. شخصيَّة البربري هذه ابْتكرَها علي أفندي الكسَّار وأخرجها بنجاح كبير، وهو لا يزال يخرجها إلى اليوم بنجاح مُستمِر. ومن العدل أن نقول إنَّ ليس في البلد مَن يستطيع إتْقان هذا الدور مثله حتَّى لتظنه بربريًّا بالفطرة خفيف الروح سريع الحركة يدرس كلَّ حركة من حركاته. أما صديقنا منيب أفندي «البربري النونو»، فهو شابٌّ حديث العهد بالمسرح، أُغرِم بهذا الدور وعَمِل على إخراجه من مدَّة. هو في الواقع صورةٌ صغيرة لعلي أفندي الكسَّار، لايزال ينقصه الشيء الكثير لإتقان هذه الشخصيَّة، وإخراجها كما يخرجها علي الكسَّار.٢٠
وفي مقابل ذلك النشاط لأمين صدقي، واصلت فرقة الكسَّار نجاحَها، فعرضت مسرحيتها الجديدة السادسة «آخر مودة»، يوم ٤ / ٣ / ١٩٢٦، تعريب أحمد البابلي وأزجال بديع خيري وتلحين زكريا أحمد وتمثيل: علي الكسَّار وحامد مرسي ورتيبة رشدي وفكتوريا كوهين ومحمد سعيد ومحمد العراقي وبباوي فرج الله وليلى وزكية إبراهيم.٢١ والمسرحية تعالج مضارَّ ظاهرةٍ اجتماعيَّة جديدة ظهرت في هذا الوقت، وهي انتشار إعلانات وطلبات الزواج بين الجنسين في الصحف المصريَّة. وقد نجح الكسَّار في تمثيل دور البربري في هذه المسرحية، ذلك الدور الذي قال عنه الناقد محمد عبد المجيد حلمي:
مثَّل علي أفندي الكسَّار دور عثمان كما هي العادة، وعثمان هذا شخصيَّة أزليَّة ضمن الله لها الخلود بفضل علي أفندي الكسَّار. فقد اجتازت عصور التاريخ، وبَنَت الهرم الأكبر من خوفو، ووقفت إلى جانب رمسيس في فتوحاته، وانحدرت مع الإسكندر الأكبر إلى قوم يأجوج ومأجوج، وعَبَرت البحر مع سيِّدنا موسى يوم شقَّه بعصاه، واحْتَملَتْها فُلْك سيِّدنا نوح فوق أمواج الطوفان، ومثَّلت مع شكسبير، ثم عادت فتسلَّقت جبال الألب مع نابليون، بعد أن فَرَغَتْ من مصاحبة السلطان محمد الفاتح يوم سَيْر السفن على ظهر الأرض ففتح القسطنطينية، واكْتَشَفت أمريكا مع كريستوف كولمبس، وأقامت أُسُس الولايات المتحدة مع واشنجتون، وفَتَحت السودان مع كتشنر، وأعلنَتِ الحرب الأوروبيَّة مع غليوم الثاني، ودَعَتْ إلى السلام مع ولسن، ودَحَرت اليونان مع مصطفى كامل، وقاومت الإسبان والفرنسيس مع عبد الكريم، وثارت في الجبل مع الدروز، وحضرت اجتماع المؤتمر الوطني مع سعد. هذه شخصيَّة أزليَّة خالدة.٢٢
بعد ذلك أخذت الفرقة راحةً يَسِيرة، تستعدُّ فيها لتقديم مسرحيَّتها الجديدة التالية، فقدَّمت طوال شهرين مجموعةً كبيرة من مسرحيَّاتها السابقة — التي عُرِضت أيام جوق صدقي والكسَّار — مثل: «ناظر الزراعة»، «عثمان حيخش دنيا»، «دولة الحظ»، «إيدك على جيبك»، «إمبراطور زفتى».٢٣ وفي يوم ٢٩ / ٤ / ١٩٢٦ عرضت الفرقة مسرحيَّتها الجديدة السابعة «نادي السمر»، اقتبسها من الفرنسية حامد السيد وكَتَب أزْجالها بديع خيري ولحَّنها زكريا أحمد، ومثَّلها: علي الكسَّار وحامد مرسي ورتيبة رشدي وفكتوريا كوهين وعبد الحميد زكي وعبد العزيز أحمد ومحمد العراقي وسميرة محمد وجانيت حبيب. والمسرحية تُعالِج مشكلة الخيانة الزوجية، وتبيِّن أنَّ مَن يَعْبث بشَرَف الآخرين، لا بدَّ أن يتجرَّع من الكأس نفْسِه. وتمَّ عرضُ المسرحيَّة على مسرح الماجستيك بعد تحديثه بوضْعِ مراوح كهربائيَّة من أجل راحة الجمهور.٢٤
وقد كشف الناقد المسرحيُّ محمود طاهر العربي جانبًا مهمًّا من شخصيَّة الكسَّار الفنيَّة، عندما كتب نقدًا للمسرحيَّة بدأه بقوله:
قبل أن أبدأ بكلمة عن هذه الرواية أذكر عبارةً وَعِيتُها عن علي أفندي الكسَّار عقب النهاية من مشاهدة رواية «نادي السمر» سألني رأيي، فأبدَيْتُ له الاستحسان بموضوع الرواية، فقال في حِدَّة: أنا مش عايز كِدَه، أنا أنتظر كلمةَ النقد قبل الحمد والتشجيع. دُلَّنِي على خطأٍ أو مَوضِع مَلَل. أَصْلِحْ لي عَيْبًا أكُنْ لفضلِك شاكرًا. ثم أشاحَ مُشكِّكًا غير مرتاح الضمير. وكم كان لهذه العبارة أثرٌ عميقٌ في نفسي؛ فأكْبَرْتُه من أجْلِها، وأدركتُ منها سرَّ نجاحِه المُدهِش وظفرةَ نبوغِه السريع الذي لا يتسنَّى إلَّا للنَّذْر القليل من العبقريِّين الذين يَهَبهم الله بهباتٍ خاصة.٢٥
في هذه الفترة ظَهَر الريحاني ظهورًا مُتواضِعًا — بعد سقوط مسرحيَّته «مراتي في الجهادية» — حيث قرأنا أنَّ مصطفى حفني مدير مسرح برنتانيا فسخ العقد المُبرَم بينه وبين الريحاني؛ لأنَّ الأخير لم يلتزم ببعض بُنودِه ومنها عدم الاستعداد بأيِّ شيء لافتتاح التياترو، ولم يؤلِّف أيَّة مسرحية جديدة، ولم ينشر في الصحف كلمةً واحدة تدلُّ على رجوعه إلى المسرح. وهكذا أصبح الريحاني وفرقته بلا مسرح! فراح يعرض بعض مسرحياته القديمة على تياترو محمد علي بالإسكندرية، ويستغلُّ سَفَرَ أيَّة فِرقة مسرحية كي يعرض على مسرحها الثابت؛ مِثْل فرقة عكاشة عندما سافرت إلى الإسكندرية فعرض بعض مسرحياته القديمة على مسرح الأزبكية، كذلك عرض على مسرح دار التمثيل عندما هجره أمين صدقي، ثم نجده يعرض على صالة سينما راديوم، وعلى مسرح الكورسال. كلُّ ذلك في غضون شهرين تقريبًا. ومن المسرحيات التي عرضَتْها فرقة الريحاني في هذه الفترة: «البرنسيس»، «أيام العز»، «الليالي المِلاح»، «الشاطر حسن». كذلك كان يمثِّل أمين صدقي بفرقته بعضًا من مسرحياته القديمة على مسرح كازينو مونت كارلو بروض الفرج، ومنها مسرحية «اسم الله عليه»، التي عُرِضَت يوم ٢٦ / ٤ / ١٩٢٦.٢٦
في مقابل تشتُّت الريحاني وصدقي بين المسارح المُختلِفة، وإعادة عروضهما القديمة، قدَّم الكسَّار مسرحيته الجديدة الثامنة والأخيرة لهذا الموسم يوم ٣ / ٦ / ١٩٢٦ بالماجستيك، وهي مسرحية «الكرنفال»، تأليف حامد السيد وتلحين زكريا أحمد، وتمثيل: علي الكسَّار ورتيبة رشدي وحامد مرسي وأنصاف رشدي. وكانت المطربة أم كلثوم تغنِّي في بعض عروض هذه المسرحية.٢٧
figure
طلب الحصول على تصريح الرقابة لتمثيل مسرحية الكرنفال.
figure
الصفحة الأولى من مخطوطة مسرحية الكرنفال.
وإذا كانت مسرحية «الكرنفال» هي آخر مسرحية جديدة قدَّمتها فِرقة علي الكسَّار في هذا الموسم، فإن نشاط الفرقة الفنِّي استمر ثلاثة أشهر أخرى، فيما يُعرَف بالموسم الصيفي، الذي قدَّمت فيه الفرقة إعادةً لأشْهَرِ مسرحيَّاتها السابقة، بالإضافة إلى مسرحيات هذا الموسم، ومنها: «إمبراطور زفتى»، «ألف ليلة»، «البربري في الجيش»، «الطمبورة»، «ابن الراجا»، «أنوار». وهذه العروض قُدِّمت على مسارح السويس وبور سعيد وميت غمر وطنطا والمنصورة والإسكندرية. بالإضافة إلى سفر الفرقة إلى سورية وفلسطين وعرض مسرحيَّاتها هناك.٢٨
هذا النجاح الكبير الذي حقَّقه الكسَّار، أثار غَيْرة مُنافِسيه، فكتبوا خطابًا مُوقَّعًا بالأحرف الأولى «ز. م. أ.»، ونشروه في مجلة المسرح تحت عنوان «خطاب مفتوح إلى علي أفندي الكسَّار». وهذا الخطاب مِن أَلِفِه إلى يائه يُقطِّر حِقدًا وحَسَدًا من منافسي الكسَّار؛ بسبب نجاحه الكبير بفضل شخصيَّته الفنيَّة «البربري»، وقد ردَّ على هذا الخطاب الناقد محمد عبد المجيد حلمي مُفنِّدًا ما فيه من مُغالَطات.٢٩
وفي مقابل نجاح أوَّل موسم مسرحي لفرقة الكسَّار، نجد الريحاني مُشتَّتًا حائرًا، يحاول تجميع أعضاء فرقة مسرحيَّة يعمل بها في الموسم الجديد. فنجده يُعلِن في الصحف عن حاجته لمُمثِّلات هاويات، ثم نجده يصرِّح بأنه سيتخلَّى عن تقديم المسرحيات الكوميدية، وسيقدِّم المسرحيات الجادة. ثم نجد المشاكل تدبُّ بينه وبين زوجته بديعة مصابني، لدرجة أنه فكَّر في اعتناق الإسلام كي يُطلِّقها، ثم نجده يتَّفق مع روز اليوسف للانضمام إلى فرقته، ونسمع أنه اتَّفق أيضًا مع عزيزة أمير بخصوص انضمامها إلى فرقته كذلك.٣٠
أما أمين صدقي فكان حظُّه أفضل من الريحاني في اختتام هذا الموسم، حيث وجدناه مازال يعمل بمسرح المونت كارلو بروض الفرج، استعدادًا لافتتاح مسرحه الجديد — تياترو سميراميس — بعماد الدين. وإن فرقته تتكوَّن من: فوزي منيب، فؤاد شفيق، سيد فوزي، حسين المليجي، أحمد حافظ، أحمد جمال، حسن راشد، ماري منيب، أديل ليفي، ليلى خريستو، عزيزة توفيق.٣١
وبطبيعة الحال لم يكن التمثيل الكوميدي قاصرًا على فِرَق الكسَّار والريحاني وصدقي، بل كانت هناك فِرَقٌ كوميدية أخرى تعمل في هذا الموسم. ومنها على سبيل المثال فرقة فوزي الجزايرلي التي كانت تعرض مسرحياتها بكازينو البوسفور، ومن أهمها مسرحية «كشكش في الجيش».٣٢ وفرقة عبد اللطيف جمجوم التي كانت تعمل على مسرح ليلاس بروض الفرج مُعتمِدة على تمثيل عزيزة زمبلك وغِناء شفيقة القبطية.٣٣ وفِرقة حسن فايق التي كانت تعرض أعمالها الكوميدية في حديقة كازينو حمامات مصر الجديدة.٣٤ وفرقة فوزي منيب التي كانت تعرض أعمالها صيفًا بكازينو البلفي بالإسكندرية وبمسارح روض الفرج.٣٥ وأخيرًا نجد فرقة يوسف عز الدين التي كانت تعرض أعمالها بكازينو سان أستفانو بروض الفرج، مُعتمِدة على غناء فاطمة قدري.٣٦
١  يُنظَر: جريدة أبو قردان ٨ / ١٠ / ١٩٢٥، جريدة كوكب الشرق ١٢ / ١٠ / ١٩٢٥، ١٩ / ١٠ / ١٩٢٥.
٢  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ١٩ / ١٠ / ١٩٢٥، جريدة أبو قردان ٢٢ / ١٠ / ١٩٢٥.
٣  جريدة كوكب الشرق ١٢ / ١٠ / ١٩٢٥.
٤  يُنظَر: جريدة أبو قردان ٨ / ١٠ / ١٩٢٥، جريدة المقطم ٨ / ١٠ / ١٩٢٥.
٥  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ٢٠ / ١٠ / ١٩٢٥، ٣٠ / ١٠ / ١٩٢٥.
٦  يُنظَر: جريدة السياسة ١٢ / ١١ / ١٩٢٥، جريدة المقطم ١٢ / ١١ / ١٩٢٥، مجلة خيال الظل ١٤ / ١١ / ١٩٢٥، جريدة كوكب الشرق ١٨ / ١١ / ١٩٢٥.
٧  جريدة كوكب الشرق ١٨ / ١١ / ١٩٢٥.
٨  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ١٧ / ١٢ / ١٩٢٥.
٩  يُنظَر: مجلة روز اليوسف ٢٣ / ١١ / ١٩٢٥.
١٠  يُنظَر: جريدة المقطم ١ / ١٢ / ١٩٢٥، جريدة كوكب الشرق ١ / ١٢ / ١٩٢٥، مجلة المصور ٤ / ١٢ / ١٩٢٥، جريدة مصر ١١ / ١٢ / ١٩٢٥، جريدة البلاغ ١٧ / ١٢ / ١٩٢٥.
١١  يُنظَر: جريدة البلاغ ٢٦ / ١٢ / ١٩٢٥، مجلة روز اليوسف ٤ / ١ / ١٩٢٤، مجلة التياترو المصورة، يناير ١٩٢٦.
١٢  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ١٣ / ١ / ١٩٢٦.
١٣  يُنظَر: جريدة السياسة ٨ / ١ / ١٩٢٦، جريدة البلاغ ١٠ / ١ / ١٩٢٦، جريدة الأفكار ١٨ / ١ / ١٩٢٦، جريدة مصر ٢٦ / ١ / ١٩٢٦.
١٤  يُنظَر: جريدة الأهرام ٥ / ١ / ١٩٢٦، جريدة مصر ٥ / ١ / ١٩٢٦.
١٥  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق، من يوم ١٣ / ١ / ١٩٢٦ إلى يوم ١٦ / ١ / ١٩٢٦.
١٦  جريدة كوكب الشرق ١٦ / ١ / ١٩٢٦.
١٧  يُنظَر: مجلة روز اليوسف ١ / ٢ / ١٩٢٦، جريدة كوكب الشرق ٤ / ٢ / ١٩٢٦.
١٨  يُنظَر: جريدة الأهرام ٤ / ٢ / ١٩٢٦، جريدة المقطم ٤ / ٢ / ١٩٢٦، جريدة مصر ٩ / ٢ / ١٩٢٦.
١٩  يُنظَر: جريدة المقطم ٢٠ / ٢ / ١٩٢٦، جريدة البلاغ ٣ / ٣ / ١٩٢٦.
٢٠  جريدة كوكب الشرق ٩ / ٣ / ١٩٢٦.
٢١  يُنظَر: جريدة المقطم ٢٧ / ٢ / ١٩٢٦، جريدة البلاغ ٣ / ٣ / ١٩٢٦، جريدة كوكب الشرق ١٠ / ٣ / ١٩٢٦.
٢٢  جريدة كوكب الشرق ١٢ / ٣ / ١٩٢٦.
٢٣  يُنظَر: جريدة البلاغ ٥ / ٤ / ١٩٢٦، ٨ / ٤ / ١٩٢٦، ١٧ / ٤ / ١٩٢٦، جريدة الأهرام ١٧ / ٤ / ١٩٢٦، ٢٢ / ٤ / ١٩٢٦.
٢٤  يُنظَر: جريدة البلاغ ٢٩ / ٤ / ١٩٢٦، ٩ / ٦ / ١٩٢٦، جريدة الأهرام ٩ / ٥ / ١٩٢٦.
٢٥  مجلة ألف صنف وصنف ٤ / ٥ / ١٩٢٦.
٢٦  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ٩ / ٣ / ١٩٢٦، مجلة المسرح ١٢ / ٣ / ١٩٢٦، جريدة الأهرام ٢٨ / ٣ / ١٩٢٦، ١٣ / ٤ / ١٩٢٦. ٢٤ / ٤ / ١٩٢٦، جريدة البلاغ ٢٩ / ٤ / ١٩٢٦.
٢٧  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ٣ / ٦ / ١٩٢٦، جريدة البلاغ ٦ / ٦ / ١٩٢٦.
٢٨  يُنظَر: مجلة ألف صنف وصنف ١١ / ٥ / ١٩٢٦، ٢٩ / ٦ / ١٩٢٦، جريدة الأهرام ٢٩ / ٦ / ١٩٢٦، ٢١ / ٧ / ١٩٢٦، ١٢ / ٨ / ١٩٢٦، جريدة كوكب الشرق ٢١ / ٦ / ١٩٢٦.
٢٩  يُنظَر: مجلة المسرح، عدد ٣٦، ٣٠ / ٨ / ١٩٢٦، ص١٢.
٣٠  يُنظَر: مجلة ألف صنف وصنف ٨ / ٦ / ١٩٢٦، ٢٩ / ٦ / ١٩٢٦، ٦ / ٧ / ١٩٢٦، ١٣ / ٧ / ١٩٢٦، ٣ / ٨ / ١٩٢٦، جريدة الأهرام ١٩ / ٦ / ١٩٢٦، مجلة روز اليوسف ٢١ / ٧ / ١٩٢٦، ١٨ / ٨ / ١٩٢٦، ١ / ٩ / ١٩٢٦.
٣١  يُنظَر: مجلة المسرح ٥ / ٧ / ١٩٢٦، مجلة ألف صنف وصنف ٣ / ٨ / ١٩٢٦.
٣٢  يُنظَر: جريدة أبو قردان ١٥ / ١٠ / ١٩٢٥، جريدة كوكب الشرق ٢٨ / ١٢ / ١٩٢٥.
٣٣  يُنظَر: مجلة ألف صنف وصنف ٨ / ٦ / ١٩٢٦، ٦ / ٧ / ١٩٢٦.
٣٤  يُنظَر: جريدة كوكب الشرق ٢ / ٧ / ١٩٢٦، جريدة السياسة ٥ / ٧ / ١٩٢٦.
٣٥  يُنظَر: مجلة التياترو المصورة، عدد ٣، ديسمبر ١٩٢٥، ص١٨، جريدة كوكب الشرق ٢٨ / ١٢ / ١٩٢٥.
٣٦  يُنظَر: جريدة ألف صنف وصنف ٢٣ / ٢ / ١٩٢٦، ٨ / ٦ / ١٩٢٦، ١٥ / ٦ / ١٩٢٦، ٢٢ / ٦ / ١٩٢٦، ١٠ / ٨ / ١٩٢٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤