أحمد فارس الشدياق

للدكتور محمد أحمد خلف الله

خلَف الله عليك يا خلف الله؛ فقد تعبت كثيرًا حتى نبشت ما في زوايا دماغ الشدياق من خبايا. إنها سراديب لا يحسن التغلغل فيها إلا ذو عقل نير مثلك، لا الذي أعمى قلبه الغرض، وعشش في حنايا صدره غل قديم، قديم كأنه الخطيئة الأصلية التي لا يمحوها إلا العماد عند النصارى.

إن محاضراتك النفيسة تحملنا على الثناء عليك، وعلى مصر التي أنبتتك، وعلى جامعة الدول العربية ومعهد دراساتها؛ فقد أنصفتم نابغة العرب في القرن التاسع عشر. لقد كانت مصر سباقة إلى الفضل تليده وطريفه، فمن احتفالها بذكرى رائد المسرح الأول مارون النقاش، إلى الجائزة التي وضعتها منذ سنوات للمُجَلِّي في تأليف كتاب عن أحمد فارس الشدياق؛ المجدد في اللغة والأدب، إلى كتابك هذا الذي أنصف الشدياق، وفتِّ حصرمة في عين من يحاول محو ذكره إذا قدر.

فما أروع هذا الكتاب المنصف يطل علينا بمناسبة ذكرى مائة وخمسين سنة مرت على ميلاد الشدياق. وبمناسبة مائة سنة مرت على طبع كتابه الفارياق. إن كتاب الساق على الساق فيما هو الفارياق لهو الكتاب الأدبي الأول، وهو ليس ككتب معاصريه الملمومة من هنا وهناك. وقد قلت أنت فيه يا دكتور، وما أجمل الصدق في الدراسة والنقد: والكتاب، أي الساق على الساق فيما هو الفارياق، يعتبر ترجمة أدبية صادقة لمرحلة من مراحل حياة المؤلف، وهو من هذه الناحية يعتبر من أقدم الترجمات الأدبية التي قام بها المؤلفون لأنفسهم. إنه أقدم من كتاب الأيام للدكتور طه حسين، الكتاب الذي عده بعض المؤرخين للأدب أقدم ترجمة من هذا النوع.

ويمكنني أن أزيد: إنه كتاب أدبي كما يفهم الفن اليوم، صنعه الشدياق أبو نهضة اللغة العربية وجدها، وطبعه في فرنسا منذ قرن. فتح الشدياق أبوابًا وشبابيك وشرفات في حصن العربية المنيع المنيف لتدخل إليه أنوار شمس الحياة الجديدة، وقد دخلت. والشاهد على ما أقول قد أذعته أنت في كتاب محاضراتك هذا، قلت: إن هذا الإحساس القوي العميق هو الذي امتلأت به نفس أحمد فارس الشدياق بفعل البيئة الثقافية في أوروبا، وهو الذي دفعه إلى أن يقدم هذه النصائح الغالية إلى بني قومه العرب، ثم هو الذي دفعه إلى أن يأخذ نفسه بما يفرضه على غيره، ومن هنا كان أخذه من الثقافة الأوروبية ما ظل في الغرب، وكان أخذه من الثقافة العربية ما أقام في بلاد العرب، وكانت نتيجة هذه الدراسة هذه الكتب الكثيرة التي أخرجها للناس، [جئناك يا شدياق].

إن محاضرات الدكتور محمد أحمد خلف الله قد أعطت القوس باريها، وأرت الناس، وخصوصًا المماحكين الموتورين، أن أحمد فارس هو زعيم التجديد، بل ركن النهضة الحديثة، وأن الذين يحاول بعضنا زورًا أن يجلسوهم على كرسي مجد الأدب الحق لا تحملهم سيقانهم حتى يصلوا إلى أقدام عرش هذا العبقري. إن من يخلق ليس كمن يجمع ويصنف، ناهيك بأنه ليس لنا خلاق في ذلك الزمان غير هذا الجبار، فهو المعلم والأديب اللبناني الأول الذي ليس قبله قبل.

لقد التقطت مصر ربيبها الذي التجأ إليها فارًّا من بحر ظلمات الاضطهاد، فكان لها ابنًا برًّا لا كما كان موسى لآل فرعون. وهذا الإخلاص الذي لم تأخذ منه تقلبات الدهر مقدار ذرة قد أشار إليه الدكتور خلف الله، وأكبر في الشدياق ثباته على وداد الخديوي إسماعيل حين تنكر له الناس.

أما نحن فقد صح فينا قول الإنجيل: لا يكرم نبي في بلدته. وها نحن نحتفل بذكريات وذكريات ولا يعنينا شيء من أمر مواطن أذاع لغتنا في الشرق والغرب، وفي كل ميدان من ميادين الأدب الجديد، فكأنه ليس منا!

لقد ذكرتك مصر مرتين يا شدياق، أحببتها فبادلتك حبًّا بحب يوم لم يعد يرجى خير من لسانك ولا يخشى شر. وهذا هو الإنصاف الرفيع المنزه، الإنصاف الذي لا تشوبه غاية ومآرب. لقد نبع الإشعاع من هذا الكتاب الذي أنت عنوانه، كما كنت فيما مضى، والآن وكل أوان، عنوان الإشعاع لأصحاب القناديل المطفية … لقد طفئت عيونهم فلم يروك، ولكن للتاريخ عينًا لا تنطفئ.

أشار الدكتور خلف الله إلى كل جبهة فتحتها في حربك العوان لأجل حرية الفكر؛ فشكرًا له على ما أسدى.

نعم يا دكتوري العزيز، فالشدياق لنكولن لبنان، وإن لم يكافأ بالقتل مثله فقد كوفئ — ولا يزال يكافأ — بالجحود ونكران الجميل وطمس الذكر؛ ولهذا ما خطر لواضعي برنامج البكالوريا ببال.

كافح الشدياق تجارة الرقيق منذ ثمانين عامًا فألغاها، وكافح الركاكة والرطانة في أساليب معاصريه ولكنه لم يفلح، وكافح عبودية المرأة يوم كانت رهينة المحبسين: بيتها والحجاب؛ أفليس من الوفاء يا سيداتنا وآنساتنا، أن تنهضن أنتن لإحياء ذكرى الفارياق؟ فالعلم لم يعد ينقصكن، والحمد لله، ففيكن الشاعرات والأديبات وصاحبات الألقاب العلمية والأدبية الضخمة!

لقد عجزنا عن إيجاد الرجال، فما رأيكن لو نهضتن بهذا العبء الخفيف الشريف؟ كافح الشدياق عبودية الفكر في كل مقام، وكان لتعاليمه ثمرها الذكي في كل قطر إلا في لبنان، مسقط رأسه؛ فإنها لم تستطع أن تحرر الطائفيين منا، فعقولهم ما زالت بخواتم ربها.

كافح هو الشلال وهم يكافحونه ولا يخجلون. يريدون أن يضعوا السراج تحت المكيال، ولكن هذا السراج الوهاج الذي أحرق المكيال في شرخ شباب جبروته سيرسل ناره ونوره.

يقول مثلنا: الدنيا وجوه وأعتاب، وامشِ على قدم السعيد تسعد، وها إن احتلال ابنك بالروح جيرتك سوف يعطي الحق صاحبه. كان صياد جعبة فصار صياد شبكة لا تفزعه التنانين والحيتان.

قضي عليك أن يشرد جسدك حيًّا، ورفاتك ميتًا، ولكن جارك الأستاذ فريحة قد استيقظ. لقد طما الخطب حتى غاصت الركب، ومن العار علينا أن يزين ضريحك بالسراويل، وأن يرقص الصبيان على قبرك، وأن يقذف بالزبالة وأنت أعظم أدباء العرب.

ويا دكتور خلف الله، أرأيت أننا نحن في واد وأنتم في واد؟ أنتم ترفعون علم الشدياق وتفتشون عن كل عربي يستحق لترفعوا ذكره، ونحن نفتش عن الأعاجم.

أنا من عشاق فن دوستوفسكي، والفن لا يعرف الملل والنحل، ولكن هل أُلام إذا طالبت بإحياء ذكرى مزدوجة لأديب عربي لبناني لا تقل منزلته عن دوستوفسكي بالنسبة إلينا؟

ويا أخي سعيد فريحة، يا صياد المكرمات، تشبث بها أكرومة قبل فوتها. أطلقت صفارة الإنذار فإلى الأمام. لا تنس أن الشدياق كان ساخرًا بكل شيء حتى السلاطين يوم كانوا أصنامًا تعبد. وها قد ثرْتَ أنت مثله وانتفضت حين قرأت اسم كوبليان عنوان الرشوة التي أفسدت نفوس اللبنانيين وعطلت الضمائر، فكمل جهادك وأتمم سعيك المشكور.

والكلمة الأخيرة للدكتور خلف الله محيي آثار أحمد فارس الشدياق، داعي دعاة العروبة والإسلام: لقد كنت يا سيدي الدكتور لا ثرثارًا ولا لاهيًا. قرأت مخلصًا آثار هذا اللبناني العربي المخلص فمحصتها وفلسفتها جميعًا في وقت يهم فيه بعضنا بهدم هذا البرج ليبني بحجارته المهشمة بيتًا حقيرًا.

يا دكتوري العزيز، لو كان عندنا من يقدر لاحتل كتابك كل بيت، وانتشر في كل مكتبة، وخففنا إلى تكريمك وتقديرك. اللهم بغير بضاعتنا التي ابتذلت … فسميك أحمد فارس كان يسخر من مولاه السلطان حين يهدي إليه شيئًا من هذه الزخارف التي سماها جلاجل، كما تقرأ في «صقر لبنان».

فلله ذلك الجبار ما كان أعظم كفاحه ونضاله في كل ميدان، في الصحافة وهو أبوها، والتأليف وهو أول من جدد فيه، والسياسة وهو من مشى إليها على مستوى رفيع.

كافح، كما قلنا، تجارة الرقيق منذ ثمانين عامًا، وطالب بإصرار بحرية المرأة، ثم سخر بكل شيء حتى السلاطين، فقوَّم المعوجَّ إلا نحن، فما زلنا كما تركنا. وتعاليمه الحرة لم تؤثر في هذا المحيط الموبوء لأن الطائفيين منا، من أصحاب النفوذ السري الخبيث، يأبون على كتبه أن تنتشر عندنا، فما جاءوا على ذكر اسمه في المنهاج لئلا يعرفه الجيل الطالع ويتمرد وينبذهم وينبذ أولياء أمرهم.

يقولون: إن لبنان دول علمانية، أما أنا فأرى أنه بعيد جدًّا عن العلمانية، وهو إلى الطائفية أقرب. أصبح شعبه كقطيع له عدة رعيان، وكل راعٍ ينتجع غيثًا.

أما هذا الكتاب، كتاب الدكتور خلف الله في الشدياق، فلا عيب فيه إلا هذه الأخطاء المطبعية التي تفسد معنى العبارة أحيانًا، فليت طبعه يعاد ليخرج سليمًا صحيحًا معافًى.

أما الكاتب الكبير الأستاذ سعيد فريحة الذي يتحفنا بكل طريف ظريف، فنرجو ألا تذهب صرخته الكوبليانية سُدًى، لقد تأخر سعيد قليلًا، ولكننا نقول كما قال الفرنج: أن يجيء الخير متأخرًا أفضل من أن لا يجيء أبدًا.

إن صباح القبور ومساها لحجر عثرة في طريق الدعابة يا سعيد، فالبدار البدار! والله معك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤