على مسرح الحياة

قصة عالمية!

في منتصف آب اللهاب لبيت دعوة مؤتمر كتاب العرب، ويممنا دمشق وأنا أردد قول حسان: لله در عصابة رافقتهم.

وفي جلق طالعتنا وجوه الشباب العامرة بالإيمان والثقة بالنفس، فسرني من تلك الجماعة ذلك الانسجام الذي لم أشاهد مثله، فيما بعد، في مؤتمر أدباء العرب بيت مري. رأيت في الشام التئامًا وانسجامًا، ولم أر في بيت مري غير عنجهية شيوخ وكهول، وقنفشة شباب طازه، أنف في السماء، واِسْت في الماء، كما عبر أحد السلف. ديوك حبش تتسلطن وتتفرعن، فذكرني ذلك مار بولس في إحدى رسائله: العلم ينفخ والود يبني، ولكن هؤلاء المنتفخين لا علم ولا محبة في براميلهم التي تمشي على الأرض.

وشاء الإخوان الكتاب في دمشق أن لا تفوتني فرصة زيارة المعرض العظيم فزرناه، وكان أول معرض شاهدته في حياتي، فأنا لا أعرف الدنيا إلا في الكتب، ورحت أتنقل بين عظمة الدول المتبرجة في معارضها تبرج الأنثى تصدت للذكر، وأي ذكر أعظم من هذا الشرق الأدنى؟

وبينا نحن نتنقل بين البنايات المزوقة، سمعت واحدة خارجة من معرض لبنان تقول لرفيقتها: هاه. هذا مارون عبود، قولتك إيش جاء به إلى الشام؟

فضحكت وقلت: السيارة يا بنتي، أتوا بي حتى يعرضوني في البناية اللبنانية.

فبهتت، وخفت أن ينقطع خيط الحديث فقلت: جاوبي يا ست، يا آنسة. فأطرقت مستحية، فقلت لها: هاتي ما عندك، جاوبي ولا تستحي. فمطت كلامها وقالت: ما عندي جواب.

قلت: بلى، قولي: هذا معرض لا متحف.

فضحكت ورفيقتها، ولكن ضحكة مَن لم يفهم، وافترقنا، مضت هي في سبيلها وعدت أنا إلى الشيخ عبد الله، فسألني الشيخ العلايلي عن الحمامتين الزائفتين، وكان لسان حاله يقول: أبعد الشيب تتبع الغواني؟

فأجبته: الله يبعث اللحم إلى من ليس له أضراس. الخيِّر مرزوق. خليها على الله يا شيخ.

لقد شط القلم، وعادة البدن لا يغيرها إلا الكفن، فلنعد إلى مؤتمر بيت مري: نحن الآن في باحة الأوتيل الكبير نقيِّل تحت صنوبرة أكبر مني سنًّا، نريح أعصابنا لتقوى بعد قليل على سماع المحاضرات والأمسيات الشعرية … وبينا كنا نتنادر لنقتل الضجر، ونوزع فكاهاتنا على من لا يفهم إلا نصفها أو ربعها، إذا بصبي يرمي على الطاولات برشاقة موزعي إعلانات السينما كتيبًا يتأبط منه حزمة، فقلت في نفسي حين وقعت عيني على نسخة منه: هذا كرم حاتمي حقًّا؛ يوزع كتابه علينا دون أن يعرف من نحن، وهذا أيضًا يصح فيه قول حسان في ممدوحيه الغساسنة: لا يسألون عن السواد المقبل.

فرحت أنظر في الغلاف المرقش وإذا بي أقرأ عليه:
طه محمد القاضي
على مسرح الحياة
الجزء الأول
قصة من مصاف القصص العالمي
تصور حياة شاب أعمى وهو يتخبط في دياجير مجتمعنا أصدق تصوير، قصة أدبية اجتماعية ساقها المؤلف على غرار الأيام، وقد تفوق الأيام.

فقلت: أعمى واسمه طه، إذن الذنب للاسم يا ترى! خير إن شاء الله. ورحت أقلب ذاك الكتاب لأن لا كتاب في ذاك الأوتيل الكبير يسليك إلا لطف مديره.

وشغلت بالي كلمة «قصة من مصاف القصص العالمي، على غرار الأيام وقد تفوق الأيام.» ثم ضممت هذا الكتاب إلى أخيه «ثلاثون قصيدة» لتوفيق صايغ، وقلت: قد تأتي ساعة.

وقرع الجرس، فرحنا إلى القاعة لنسمع محاضرة الأستاذ سامي الكيالي، وموضوعها النقد الأدبي، فقال عني: إني ثبت في ميدان النقد حتى الساعة بينما الآخرون كانوا ينصرفون عنه ثم يعودون إليه، وهكذا دواليك.

ولما قال: إن النقد أفقد مارون عبود ثلاثة أرباع أصحابه، رأيت الأستاذ أمين نخلة يلتفت صوبي ويشير بسبابته إلى صدره وكأنه يقول: وأنا آخر واحد.

وكنت إذ ذاك أفكر في طه محمد القاضي القائل: إن قصته قصة من مصاف القصص العالمي، فقلت في نفسي: إن هذا الشاب البالغ الثالثة والعشرين ما زال في عمر الشعر، ولم يبلغ بعد عمر القصة، فأنَّى له هذا الغرور والادعاء؟ هل استأذن في هذا التبجح من الأستاذ سعيد تقي الدين؟ ألا يعلم أن الحقوق محفوظة … والنقل والترجمة ممنوعان؟ ثم ماذا عند هذا المسكين من طراز طه حسين ليقول: إنه ساق قصته على غرار «الأيام» وقد تفوق «الأيام»؟ هذه التعابير الكلاسيكية أو الرواسم «الكليشهات» القديمة. مسكين طه حسين. شابَ …

إن من يقول: وكان الدهر قد عض جوليت بنابه العطبة، وظللها بكلكله، وأمطيت سفينة الحياة، هو بعيد جدًّا عن قمة ذلك العلم المعصب بالغيوم.

اسمع أيها العزيز طه محمد القاضي: إن هذه الوريقات لا تستحق أن تحمل اسم القصة؛ فهي سيرة حياتك بقلمك، وسيرة حياة الرجل لا يعدها العارفون بهذا الفن قصة مهما بلغت من الروعة الفنية. أما سيرة حياتك هذه فلا تستحق النقد؛ لأن أسلوبها ثمودي عادي، وتفكيرها السخيف لا أدري ماذا أقول فيه، ومع ذلك أسمعك تقول: نظرت إلى الوجود من خلال اللانهاية فعرفت معنى الوجود، وبعد تروٍ قليل ونظر صائب حكيم أدركت سر الخلود واللانهاية، وأعاجيب الكون وأسرار الحياة.

هذا كثير، يا أستاذ، فابن ثلاث وعشرين ماذا يعرف من اللانهاية وهو ما يزال في اللابداية؟

وبعد، فأيام طه حسين، وأين أنت منها، لا تعد قصة؛ لأنها سيرة حياة، فكيف بسيرة حياتك البعيدة عن كل فن؟ وإذا كانت سيرة الحياة قصة، فالفارياق أسمى القصص.

إن للقصص أسلوبًا أنت لا تحسنه، وإذا ظللت هكذا تؤلف وكأنك تكتب فرضًا مدرسيًّا، فنصيحتي لك ولأمثالك أن تكفوا عن إغراق السوق بمثل هذه الكتب، فقد خشينا الطوفان.

عليك يا طه أن تنقي لغتك من أدرانها، واعلم أن الخطأ لا يليق أن يأتي «قصاصًا من مصاف القصاصين العالميين مثلك …» أما الحوار الذي تنعته أنت بالجميل، فهل تدلني أين هو؟ وأحداث حياتك ماذا يجد فيها القارئ؟ إنها لا أحداث رصينة ولا طريفة، فليتك تأنيت وأرجأت هذه العبقرية إلى حين … أما الآن فما قدمت إلا طعامًا غير ناضج، فأعد القدر إلى الموقد ودب لها بالحطب، فربما تقدم شيئًا يستحق أن يسمَّى عليه.

أما إذا كنت تحسب أن فعلتك بمراقبة القسم الداخلي في المدرسة العلائية للمكفوفين في فلسطين هي التي ترفع سيرة حياتك إلى مصاف القصص العالمي، فأنا أقول لك: إن البشر وغير البشر تفعل ما فعلت، ولا تبتهر.

إن هذه العورة التي كشفتها لنا كان عليك أن تغطيها، ولو بورقة تين، كما فعلت حواء حين غطت شيئها، أفتكون حواء، تلك المرأة البدائية، أوسع حيلة من سبطها ابن القرن العشرين؟ عندك يا ابن أخي بدل ورقة التين ألف تعبير وتعبير، فلماذا جئتنا عاريًا بهذا «السموكن» الآدمي؟

فلو كنت تكتب مغامرات كمغامرات كازانوفا لعذرناك، ولكنك قلت: إنك تكتب قصة على غرار الأيام، فلماذا هذا؟! أهذا هو معنى الوجود الذي عرفته من خلال اللانهاية؟

واسمح لي أخيرًا أن أقول لك: إن «مسرح حياتك» تنقصه الكياسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤