بيني وبين نور الدين بيهم

من نور الدين بيهم إلى مارون عبود

إلى «الصديق» الكريم — مكره أخاك لا بطل — الساحر الساخر، والنقاد الوقاد، والعملاقي العلقمي، والعبقري العقربي، والحلو المبنى، والمر المعنى، الأستاذ مارون عبود. هداه الله. آمين.

أتذكر أيام الروضة والنصير، يوم كنت تدبج المقالات النارية، وكنت كالبركان الثائر تقذف الحمم وتنثر الرمم طالبًا تقييد الأسياد وفك قيود العبيد، ويوم كنت نسرًا على الطاغي، وصقرًا على الباغي، وذلك منذ خمسين سنة؛ يوم كان قد دب بك الشيب وبدا بي الشباب؟

ولا تزال اليوم كما كنت بالأمس الصاروخ الصارخ تساجل وتناضل وتصارع وتقارع، معلنًا حربًا لا هدنة فيها ولا هوادة على كل من يصدر كتابًا أو ينشر مقالًا، عاملًا فيه مبضعك، ومنشبًا فيه مخلبك.

ولعلي أول من أصابهم رشاش سهامك، وذلك يوم أسمعتك أبياتًا نظمتها منذ ما يقارب الخمسين سنة، فقلت لي عند سماعها: هذا ليس بشعر، هذا «شوربا بشعيرية». ومن المؤسف أنه كان الحق معك.

أما الآن وقد بلغت من العمر ما بلغت، عمر أحنى منك الظهر وما أحنى منك الجبين، أمد الله بعمرك، وخفف حدة قلمك؛ فإنك لا تزال ذلك الجبار النقاد الوقاد، وهكذا هي حياتك كلها نصال ونضال، ومصارعة ومقارعة، ورماح وسلاح وكفاح، وغارات وثارات، فماذا تركت لأهل شارون يا مارون؟

وبعد هذا الإكثار، أريد القول باختصار: إنك قضيت على كل من كتب أو نشر؛ فارفق بالكُتَّاب والأدباء، واستبق بعضهم كي لا تكون وحدك في الميدان، حتى إذا اعترتك «الكريزة» تجد من تصارعه وتقارعه. ومع ألف اعتذار أقدم ألوف السلامات يا عاصفة في الحرب وعاطفة في السلام.

صديقك
نور الدين بهيم

الجواب
أخي نور الدين

خيل إليَّ أنك تفتتح يوبيلي الخمسيني بهذه الكلمة الممتعة، وأن هذه الجيوش الجرارة من أفاعيك هي كوكبة أوفدتها من جحرك لتحتفي بي.

قال المتنبي: والشيب من قبل الأوان تلثم، وقال جرير:

تقول العاذلات علاك شيب
أهذا الشيب يمنعني مراحي؟

إن العمر، يا أخي نور الدين، لم يحنِ مني بعد، لا الظهر ولا غير الظهر … لقد بدأت حياتي كاتبًا وصحافيًّا ومناضلًا، وكما بدأنا هذا الأمر نعيده.

وأنت ما لك أراك تخاطبني كأنني من بقايا ثمود وعاد؟ حنانيك يا أخي! ألا تذكر أننا يوم تعارفنا كنا وليدات؟ فما أصدق قول جرير بن الخطفي فيك وفيَّ:

وتقول بوزع قد دببت على العصا
هلَّا هزئت بغيرنا يا بوزع
ولقد رأيتك في العذارى مرة
ورأيت شعري وهو داج أفرع

ومع ذلك أية قيمة لسواد الشعر وبياضه؟ أما قال شاعر آخر:

يا هند لا ترهبي شيبي ولا كبري
فهمتي مثل حد الصارم الذكر

وهكذا نحن إذا شئنا أن نحدث بنعمة الحياة … أما علقميتي وعبقريتي، ونصالي ونضالي؛ فثق أنه لا بد لي منها، قال نحوي كبير — بعد أن أعجزه تعليل «أي» كما يحاول الأب مرمرجي اليوم تعليل الألفاظ ثنائيًّا — قال: أي كذا خلقت. والحق أقول لك: مارون كذا خلق.

طبعت على ما فيَّ غير مخير
ولو أنني خُيِّرتُ كنت المهذبا

هذا من كلام بشار، ولله في خلقه شئون.

لقد ذكرتني، يا نور العين، وكنت ناسيًا ولا أزال، أن السبعين التي دخلت بابها منذ شهر لم توح إليَّ بشيء.

أنت عرفتني في جريدتي الروضة والنصير، ويا ليتك عرفتني في المدرسة، فهذا اللسان المر رفيقي منذ الأزل؛ كنا تلاميذ في قاعة، وإذا بجحش يطل علينا من الباب، فهرج التلاميذ ومرجوا، وقاموا إليه فتعنفص وراح، فقلت الآية الإنجيلية: جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله! فظنوا أني أهزأ بالمخلص، وقامت القيامة عليَّ، وخرجت من تلك المعركة بعد حبس وركوع مدة أسبوعين.

وبعد عام أصدرت مجلة مدرسية سميتها «الصاعقة»، وطبعتها على «الجلاتين» فكانت معرضًا لأول بضاعتي المشئومة، فرفعت شكوى بعض مَن تندرتُ عليهم إلى رئيس المدرسة المونسنيور بطرس أرسانيوس، فاستدعاني إليه، وكانت أول كلمة بادرني بها: ضب لسانك أو ضب فرشتك. صواعق ما «بدنا» في المدرسة. أما خليفة تشيل الراس! يا ذل خوري حنا عبود. بعدك واقف، اركع واستغفر.

فركعت واستغفرت، ولكني ما تبتُ ولم يكن في نيتي أن أتوب، وظللت سائرًا في طريقي، هائمًا على وجهي، حتى رأيتني، بعد عامين، أحرر جريدة الروضة ثم جريدة النصير.

أجل كنت صحفيًّا، ولكن في أيام البشالك والمتاليك والزهراويات، يوم لم يكن في لبنان إلا أربع صحف: الروضة والنصير والصفا ولبنان، ويوم كان المراقب حاكمًا بأمره، ومع ذلك كنت ألغم المقال الافتتاحي فيمر به المراقب ولا يحس، ثم لا ينفجر اللغم إلا بعد أيام من صدور العدد. وهذا ما حصل في النصير أكثر من مرة، فنحتج بموافقة المراقب ونخلص بريشنا.

أجل كنت صحافيًّا ثائرًا يوم كان الصحافي منتوفًا يعد نهاره سعيدًا إذا دعي إلى غداء أو عشاء، وكانت العصي والخناجر مرفوعة ومسلولة فوق رأسه وصدره، ومع ذلك عملت ما عليَّ ولم أبالِ، لا أَرحم ولا أُرحم، وهكذا دواليك.

يقول المثل: من يفتقر يرجع إلى دفاتر جده العتاق، وأنا، والحمد للمعمل الذي أنتجني، لم أفتقر بعدُ، ولكنني، لكي أصدق ما قلته بي، أعود إلى جريدة النصير لأنقل إلى الفقراء بعضًا من مقالة أولى أسقطت الأعزاء عن الكراسي، وأرغمت يوسف باشا فرنقو على النزول عند إرادة الشعب.

لقد لقيت غب هذه المقالة ضربًا واضطهادًا، فغادرت بيروت إلى جبيل لأحرر جريدة الحكمة، وهناك لم أسلم من غارة مسلحة بسبب مقال.

هكذا كانت الردود علينا في ذلك الزمان. كان خصومنا يحررون مقالاتهم بزنود رجالهم، وكان حبرنا دم قلوبنا، ومع ذلك لم نتراجع ولم ننثن.

قال المتنبي: وفي الماضي لمن بقي اعتبار، وقال آخر: ما أشبه الليلة بالبارحة. ولست أدري أي القولين أصح في هذا الموقف. أما المقال فهذا بعضه ننشره للعبرة لا للتبجح، ومزيد الاعتبار: «ما بين حانا ومانا ضاعت لحانا.» مقالة عمرها نصف قرن.

ما بين خمول مجلس الإدارة وارتشاء رجاله، وتداخل رؤساء الدين بأحكام الدنيا، وانقياد المأمورين إلى الوسائط والتوصيات، تلاشت حقوق لبنان وسقط تحت صليبه الثقيل صارخًا من أعماق قلبه: اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي اقترعوا.

وما بين جدران الهيكل وتحت أقدام العرش سحقنا باسم الدين والحكومة، فكان مثلنا ومثلهم كجزار يذكر الله ويذبح.

ومن تلك الأيدي الطويلة تسربت أموال الشعب وغارت في منعطفات الجيوب الواسعة، فأنبتت له الأرض شقاء وأثمرت ويلًا وبلاء، فأفلت من قبضة فرعون وطفر إلى أرض الميعاد الجديدة — أرض كولومبوس — لا يقوده موسى جديد، بل يقود بعضه كخراف فرت من وجه الذئاب.

قرون عديدة توالت على هذا الشعب وهو في قبضة دولة القوة والاستبداد، لا يعرف النظام ليشتكي ويتألم؛ لأن الشريعة كانت في فم الحاكم. قد كان هذا صبيًّا ووصيه رؤساء دينه ونوابه الذين بددوا أمواله في سبيل أهوائهم وأغراضهم، وضحوا بحقوقه على مذبح أنانيتهم وسيادتهم، ولم يبقوا منها على شيء لنقول لهم آية الكتاب: وَآتُوا الْيَتَامَىٰ أَمْوَالَهُمْ.

من عهد الإقطاعات المظلم إلى زمان المتصرفية ولبنان صبي قاصر تلعب به الأهواء والأغراض، لا يعرف ما ورثه عن أبيه ليطالب به من أنفقوه على ملذاتهم، ليطالب أولئك الذين جعلوه خادمهم مع أنهم خدامه، وأطعموه فضلاتهم وهو رب البيت ومن ماله يأكلون.

منذ أعوام ونحن في الظلمة ولم يطلع علينا الفجر، منذ أعوام ونحن نحمل الحجارة على ظهورنا والطين على أكتافنا لنبني لهم القصور ولم نزل نسكن الأكواخ، منذ أعوام وهم يلعبون بنا لعب الصبي بالأكر، ويفرقوننا عصابات ليحفظوا سلطتهم ويوطدوا دعائم سيادتهم.

سدوا بوجهنا البحر فلم يعد لتجارتنا مخرج، واحتكروا مياهه فصرنا نأكل طعامنا غير مملح، وهم ملح الأرض وقد فسدوا، وإذا فسد الملح فبماذا يملح؟

والتنباك والدخان قد احتكروهما كذلك، وسدوا في وجهنا كل أبواب الارتزاق، ووهبوا ملكنا لغيرنا والملك حق مقدس غير قابل الاغتصاب.

يرتفع الظالم على كرسي الحكم فيعمل في رقابنا سيف ظلمه؛ فنتوجع قائلين: من يصبر إلى المنتهى يخلص، وها نحن اليوم كما كنا في الأمس، فمتى يكون المنتهى؟ وأين الخلاص يا ترى؟

أما اليوم فممن نطلب حقوقنا المهضومة؟ أمن هؤلاء النائمين على الكراسي؟ وهي لو شعرت بثقل ما تحمل لطرحتهم عنها. من نطالب بكل ما سلب منا؛ فقد أصبحنا عراة وهم يلبسون الحرير والديباج؟

رحم الله عظام عمون عمون؛ فقد كان يعترض على المتصرف بكل ما يراه حقًّا، وكان عيد أبو حاتم يدافع عن حقوق الشعب ويجيب صوت الحق.

جاءه كاهن من أصدقاء عيد أبي حاتم وقال له: أؤمل أن تفعل لي كذا — وكان الكهنوت في عز شبابه — فأجابه بخشونة: احك مثل لبسك، أو البس مثل حكيك.

فمن يفعل مثله اليوم يا ترى؟ فوالله إنهم داسوا ويدوسون الشعب إرضاء لكل كبير، ويقبلون أذياله.

إن لبنان للبنانيين وليس هو لكم، يا من خنتموه بأكلكم أمواله التي ائتمنكم عليها، غركم جهله فأضعتم كل حقوقه، ولم تقرءوا التاريخ لتعلموا كيف تستفيق الأمم المظلومة وتثأر لنفسها. لم تظنوا أن الغد للحق والنور لترجعوا عن غيكم.

إن هذا الشعب كشمشون الجبار، والخونة هم دليلة التي خانته وجزَّت شعره وألقته بين براثن الفلسطينيين، وكما استعاد شمشون قوته سيستعيدها الشعب أيضًا وينتقم من خائنيه وظُلَّامه؛ فكونوا على حذر، أيها الخائنون؛ فيوم الحساب أشد ويلًا على الظالم منه على المظلوم، والويل للذين افترسوا لبنان وامتصوا دمه وصيروه ضعيفًا مهزولًا.

أهكذا كتب لأولياء الأمر عندنا أن يكونوا مستبدين بالشعب؟ أهكذا يظل يوظف الجاهل الذي يساعده ذاك المقام وهذا الرئيس؟ وهكذا يظل الشعب ممجدًا الخونة الذين باعوه ويبيعونه كل يوم بثمن بخس؟ أيظل دائمًا يلثم اليد التي صفعته على خديه وملأت فمه دمًا؟

مسكين هذا الشعب، وأي مسكين؟! لا يزال يجهل أن أولياء أموره مسئولون لديه، لا لدى الدولة العظمى والدول الست، ويستطيع محاكمتهم متى حادوا عن الجادة المثلى، لا يزال يجهل أن كل قوة ليس مصدرها الشعب لا تثبت أمام الحقيقة، وكفانا بحالتنا الحاضرة دليلًا، فليعط إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وبهذا صلاح الأمة.

كفانا، يا قوم، ما مضى، فبين عبوسة النمر وابتسامة الذئب فني القطيع، وأنت يا شعب لبنان أفِقْ، فقد استفاقت الروس، واستيقظْ، فقد استيقظت بلاد فارس، واشعرْ، فقد شعرت الصين بالوجود، وانبعثْ من ضريح الخمول، فقد بعث الدستور من قبره بعد ثلث قرن. ارفع صوتك وطالب بحقوقك، فما حكَّ جِلْدَك مثلُ ظُفْرِك؛ فتوَلَّ أنت جميعَ أمرِك.

ما ضرك لو انضممت حزبًا شعبيًّا واحدًا، وطلبت إسقاط كل مرتكب مهما علا مقامه؟ قوي أنت أيها الشعب، فاستعمل القوة وكن عادلًا.

اصرخ: فلتسقط أسوار الاستبداد على رءوس المستبدين، فلتنقض صواعق النميمة على الظُّلَّام المرتكبين، واختر لك ولاة من رجال الوطنية الأحرار؛ فهؤلاء يخدمونك خدمة صادقة، وما أشد احتياجك إلى الصادقين! سيجاب طلبك إذا ميزت بين المجرم والبريء، أما إذا رجوت إصلاحًا عن غير هذه الطريق فعبثًا تتعب.

فأقدِمْ ولا تخشَ رئيسًا أو عضوًا — نائبًا — أو قائمقامًا أو مديرًا أو قاضيًا، بل اطلب إسقاط الخائنين كلهم.

عسى أن تستفيق يا لبنان من نومك العميق وتصرخ في المستبدين: الظلم يولد الاستقلال والحرية.

أرأيت، يا أخي نور الدين، أن من شبَّ على شيء شاب عليه؟

كنا للنضال يوم لم يكن أحد له، ثم توجهنا إلى نضال آخر، وسوف نعود إلى نضالنا الأول لنقول كلمة التاريخ في الذين لا يحسبون له حسابًا، وإذ ذاك تقول: ماذا تركت لي؟ ماذا تركت لأهل شارون يا مارون؟ كما قلت لك أنا بحق: هذا شعر؟ هذا شوربا بشعيرية!

والسلام من أخ بطل لا مكره.

جريدة النصير، العدد ٢٣٠، بتاريخ ١٥ آب ١٩٠٨

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤