لهيب وطيب

لسلامة عبيد، شاعر جبل العرب

يقول المثل: الديك الفصيح من البيضة يصيح، وما مرَّ على سلامة شهران حتى استبشرت بأن سيكون عندي تلميذ ناجح؛ ففي ساعة درسي كان لا يفارقني نظره. عينان ناعمتان، ووجه يفيض نشاطًا وإخلاصًا. نصف ابتسامة تتبعها أجوبة محكمة، ووظائف تنم عن ذكاء واجتهاد، وعبارات شخصية أحيانًا؛ كقوله مرة عن الأخطل الشاعر السياسي هو «غوبلز» اليوم، أي وزير الدعاية والنشر في عهد عبد الملك بن مروان.

قلت له حين كنت أعلمهم العروض: ستكون شاعرًا يا سلامة. فانتشر جلده عليه، ولا عجب فهو من الشعب المعروفي، الأصيل في العروبة. جاءني مرة يسألني عن «حتى» حين سمع العبارة العامية: حتى حتحتت قلوب العلماء، فأجبته: تريد يا ابني شرح العلماء أم الأفهام، وبالاختصار تريد سندويش يشبعك أم تريد طبخة هريسة تتخمك؟ فأجاب: الأكل في زماننا دارج على الماشي. فأفهمته حتى راح آكلًا السمكة حتى رأسها، ولم يعلق في حلقه أقل حسكة.

والآن يحق لنا أن نقول: وقد يجمع الله الشتيتين … فسلامة عبيد رأيته مرة بعدما تخرج حائزًا البكالوريا بتفوق، ثم مرة أخرى سألته فيها: تزوجت يا سلامة؟ فاستضحك وقال: وصرت جدًّا يا معلمي، تعيش وتعلِّم.

وعندما صدر كتابي «الرءوس» بصراحة لا عهد لدارسي الأدب بها، حمل عليَّ الكاتب الشامي زهير مرزا، وأراد أن يجعلني مارقًا من العروبة؛ فهب تلميذي سلامة ووضع النقاط على الحروف، وبعد حين التقيت بزهير، فاعتذر اعتذرًا جميلًا على يد تلميذي القصصي المتفوق السيد شكيب الجابري.

وبعد دفاع سلامة عن معلمه الذي أحبه حبًّا جمًّا كذبت الطغرائي القائل:

غاص الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل

وبعد هذه التوطئة التي جرَّنا إليها المقام، فلنتحدث عن الديوان، ديوان سلامة الذي أراد أن أقدمه إلى القراء، مع أنه في غنى عن هذه المراسيم التقليدية لأن شعره يقدمه.

الديوان عنوانه «لهيب وطيب»، وهو كذلك، فلو لم يحترق سلامة عبيد في جحيم الآلام لما خرج من رأسه الشعر العربي الفصيح الذي لم تفسده رطانة هذه الحقبة وميوعتها، قلنا: إنه تألم، والألم معصرة القلوب والعقول. عفوًا، فلنقل أنبيق؛ لأن الطيب يستقطر استقطارًا على اللهيب، وأي لهيب أحر من لهيب النبك في صحراء نجد التي عرفها سلامة طفلًا مشردًا مع أبيه والعائلة، بعدما وضعت الثورة الدرزية أوزارها؟

ومن العنوان ننتقل إلى «حنين» ليظل لحديثنا سياقه، فسلامة يحن إلى الشقاء إذا فقده، ومعه حق؛ لأن الشقاء محك الأدمغة التي يكمن فيها الشرر، لو جاز لي أن أنقل القصيدة برمتها لنقلتها، ولكني أخاف من غيرة أخواتها، وأن يعلق الشر بينها وبينهن، وأنا كدت أصير شيخًا، ولا قبل لي بإرضاء العذارى، فسنكتفي بشيء منها ثم نعود إلى غيرها.

موضوع القصيدة حياة سلامة المنبثقة من صميم قلب الشقاء، وسلامة كما قال ابن المعتز: وأرحم القبح فأهواه، ولذلك يحن إلى بلاياه في النبك فيقول:

ربى النبك هل تذكرين
الخيام لديك مبعثرة جاثيه
تحاول شمسك إحراقها
وتصفعها ريحك السافيه
وقومًا عرينهم شامخ
رهيب بسمرته القانيه
أتوك ويا حبذا واحة
من القيد أو ظلة عاريه
وطفلًا سباه جلال القفار
وأفياؤها في المسا ضافيه
صغيرًا بلا مئزر أشعثًا
يروح ويغدو مع الماشيه؟

ويقتضينا السياق الفكري أن ننتقل من النبك إلى «أبو رمانة» التي كانت حافلة بأردأ الشجر، فيصفها وصف قصاص ماهر ولا يتخلى عن خياله الشعري حين يتحدث إلى بنته واصفًا الصبير بلسانها فيقول:

فهل هذي القصور البيض
يا ربي أساطير؟
أما كنا هنا أمس
وكانت ملعبًا قفرًا
وغابات من الصبار
يبدي شوكها الشرا
يخاف النهر مرآها
فيلوي ضائقًا يجري؟

ثم يجيب تلك البنية عما حدا بها إلى التساؤل فيقول لها:

ذكرت الأمس يا بنتي
فماذا كان في أمس؟
أما عضك ناب الجوع
والحرمان واليأس
فبعنا ما تبقى من
طيور القن للجار
لأنا لم نعد نلقى
لنا في بيتنا حبا؟
أما أدمت سياط الريح
ورد الخد والبرد
وعاد المعطف البالي
على جنبيك ينقد
فأشعلنا لك الموقد
من كراس أشعاري؟!

وفي هذه القصيدة التي تعصر القلب يصف ذهابه وبنته إلى الفرن فيلقاهما الخباز بوجهه الصفيق ويتبعانه ذليلين:

وللشرطي إرعاد
وللحوذي تجديف

ثم ينتهي إلى إجابة بنته عن القصور الشاهقة التي سألته عنها وقد حلت محل الصبار، فتبلغ التجربة — كما يعبر شعراء اليوم — حدها الأعلى، فيهتف في الختام:

نعم هذي القصور البيض من أكبادنا تُبنى
فلن نبقى كما كنا عبيد الذل والجوع

إن وصف الجوع بهذه الصراحة لم نقرأ له مثيلًا إلا في العصر العباسي. وهذا نموذج من ذلك الطراز الفريد، وهو لأبي الشمقمق الذي قال يصف أولاده في العيد:

وقد دنا الفطر وصبياننا
ليسوا بذي تمر ولا أرز
وذاك أن الدهر عاداهم
عداوة الشاهين للوز
كانت لهم عنز فأودى بها
وأجدبوا من لبن العنز
فلو رأوا خبزًا على شاهق
لأسرعوا للخبز بالجمز

لكأني بالأستاذ عبيد قد جعل من حياته ملحمة من حيث لا يدري، وهو مع كل ما قاسى من شقاء ظل شامخ الرأس كالسنديانة التي لم تطأطئ رأسها للعاصفة، وحسبك من قوله في قصيدة «غدًا» الجبارة الحافلة بالرجاء والطموح حيث يقول:

غدًا، في غد تهدأ العاصفه
وتبسم جنتنا الوارفه
ويطوى الحديد على نفسه
وينتحر السوط من بأسه

وهو في هذه القصيدة الصغيرة يتخفف من القافية المقيدة الطويلة النفس، ولكنه يظل متأبطًا ذراع الخليل وكأنه من المؤمنين بقول أندره جيد: يعيش الفن في القيود، ويموت إذا أطلقت حريته.

وشاعرنا موضوعاته متعددة، وحماسي حتى في وصف بلواه، وله تعابير خاصة، وكم كنت أرتاح حين كنت أقرأ له وظيفة الدراسة والنقد حين كان عندي في المدرسة!

إن موضوعات هذا الديوان متنوعة، وهي مرتبطة بشخصية الشاعر وميوله أشد الارتباط، وعاطفته العربية متقدة مشبوبة. نشأ في كنف والد مجاهد أبيٍّ، وفي ظل أستاذ، ولا فخر، كان للعروبة يوم لم يكن لها أحد، إلا بعض أشد شعراء مهجريين، وقيدوم هذه الحملة كان الشاعر الملهم رشيد سليم الخوري، الشاعر القروي الذي ملأ الخافقين رنين قوافيه، وظل شاعرًا قرويًّا.

وفي قصيدة عيد الجلاء ينحو سلامة نحو الأستاذ ميخائيل نعيمة في قصيدته المشهورة: أخي إن ضج بعد الحرب إلخ. يجب أن نقول: إنه عارض لا نحا؛ لأن الأستاذ نعيمة سلبيٌّ وسلامة إيجابي، ميخائيل حفار قبور يحمل الرفش والمعول، وسلامة كصخر الخنساء حمَّال ألوية، هباط أودية … فاسمعه يقول في ساعة النصر:

أخي، هذا لوانا اليوم في أوجِ السَّمَا حُر
خفوق حوله الآمال والأحلام تفتر
فقد شئناه للعزة والإيمان عنوانا
وكان الحق يرعاه
فرفَّ على جبين الشمس بعد اليأس نشوانا.

وبعد أن اشرأب شاعرنا سلامة واشمخر، انتهى إلى حني الرأس تمجيدًا لذكرى شهداء الثورة التي رافقها سلامة حين شبَّ عن الطوق. ذكرنا صديقنا فيلسوف الشخروب بهذه المناسبة، فلا بد من الإتمام فنقول: قصيدة نعيمة طرية، وقصيدة سلامة أفصح وأقرب إلى لسان العرب منها إلى لساننا اليوم.

أما قصيدة «أغنية أم» فكان أحرى أن تعنون «مناحة صامتة»، وما أروع صرخة تلك الأم حين تهتف بولدها الباكي:

جوعان ما ذنبي
ثديي غدا خرقة!

وفي قصيدة الخريف يذكرني بالتشبيه اللبناني حين يصف فوعة الأغربة فيقول:

وعلى شريط الكهربا
أسراب رهبان صغار

وفي قصيدته «الحدود المحطمة» كأنه يتنبأ:

وغدًا سنمشي أمة عرباء
رائدها النظام

وفي قصيدة «الحداد» يعجبني عشق الجماد الحامي كقوله يخاطب القيون:

يا مضرم النيران زدها لظى
واضربْ فبِئْسَ الضربة المشفقه
يَهوَى الحديد النار وهاجة
ويشتهي السندان والمطرقه

ولا عجب في هذا الرأي بعدما علمتنا الكتب أن بعض النساء يلذ لهن لسع الكرباج متى حمي تنور الهوى. ولما كنت أفتش دائمًا عن العبارات الشخصية وأكلف بها، يعجبني قوله مخاطبًا جبل حوران أو جبل الدروز:

فديتها كل فتى باسل
أتقن فن الميتة الصالحة

وكان العهد أن في سلامة شيئًا من السخر، والظاهر أن المجال لم ينفتح له؛ لأنه شغل نفسه بالفتوة. وهو ينقر على وتر لا ينقر عليه أحد في هذه الأيام؛ لأن الأدباء ينشغلون بالرموز عن الحقائق.

وبقي الرثاء، وفيه يبدو سلامة أتونًا مضطرمًا، وتنورًا مسجورًا ببيان شهي، وعبارات كالبنيان المرصوص مع رطوبة اللؤلؤ وبريق الماس.

وما أخذت عليه إلا تأنيث «الرفات» وتذكير الخمر، كما أن لفظة «تتقفقف» لم تعجبني قافاتها وفاءاتها، ولكن الديوان رغم هذه الملاحظة، التي كان يجب أن يبرأ منها، يظل في صدر ديوان العرب، وهو كتاب الموسم الرفيع. وكم كنت أتمنى لو تغنى سلامة بوقعة «الوعرة» كما ذكر اليرموك، فذكرى بطولة الأجداد في تلك المعركة الضارية ما زالت على ألسنة الأحفاد التي تردد نداء الدروز لإبراهيم باشا بعد مائة عام ونيف:

برهون وايش لك عندنا
حوران والوعرة لنا

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤