الفصل السادس عشر

كانت القاهرة يلفها غبش الظلام، حينما انطلق جنود الفرنسيين في أنحائها غاضبين مهددين بمحو القاهرة من صحيفة الوجود، وقد تسابقوا إلى القلاع والتلال، وصوَّبوا مدافعهم نحو المدينة المسكينة، واعتزموا أن يجعلوها نسفًا وألا يُبقوا بها نَفسًا، ووصل الخبر المشئوم إلى السكان المنكوبين فهُرِعُوا إلى ديارهم ليفروا من الموت إلى الموت، وعلا الضجيج، وصاح النساء من نوافذ المنازل مولولات ناعيات، وبكى الأطفال مفزوعين لهذا الهول العظيم، وتذكر الناس ما أصابهم في الثورة القريبة العهد من فوادح فأخذتهم الرجفة، وانطلقوا في الطريق يصيحون: يا لطيف … يا لطيف!

وكان نيكلسون ومحمود بقهوة بخطة سيدنا الحسين، فلما وصل إليهما الخبر بهتا وأخذهما أول الأمر ما يشبه الذهول، ثم قال نيكلسون: من يكون القاتل يا تُرى؟

– يكون من يكون، فلن تُفْلِتَ مصر من أكبر نكبة في تاريخها، وتكون النازلة أعظم إذا لم يعثروا على القاتل.

– ويل للقاهرة ثم ويل لها! لقد أصبحت منذ دخل الفرنسيون غرضًا لا تخطئه السهام، هلمَّ بنا إلى الدار فقد تركنا بها لورا وحيدة، وأخاف أن يمسها سوء.

وبينما هما في الطريق قابلهما السيد أحمد المحروقي، وصاح بهما: لقد وجدوا القاتل، فعاجله نيكلسون: وأين وجدوه؟

– الحق أنه هو الذي أوجد نفسه، فإنه — كما يبدو لي — لم يحاول الفرار، ولم يغادر حديقة القصر، وقد علمت أنه طالب علم حلبيٌّ، والفرنسيون يعتقدون أن وراء الأكمة ما وراءها.

فقال محمود: غدًا يتبلج الصبح لذي عينين، إن القاهرة في هذه الليلة لن تنام، وكيف تنام من تنصب له أشراك الحمام؟!

ثم انطلقا حتى بلغا دارهمَا، فوجدا لورا لدى الباب والِهَةً حزينة، حتى إذا رأت محمود سقطت بين ذراعيه، وأخذت تبكي وتضحك في آن، ثم اتجهت إلى أبيها وقالت: لقد قتلني طولُ انتظاركما في هذه الليلة الليلاء، وقد أصمَّت صفارات الفرنسيين أذنيَّ وهم يجوسون خلال الطرق في شبه جنون محموم، هل قُتِلَ كليبر حقًّا؟

فقال محمود: نعم قُتِلَ حقًّا، وهو فيما أعتقد آخر ركن للفرنسيين في مصر، قتله شاب حلبي فدائي فيما يظهر، وإني أمقت الوسيلة وإن ارتحت إلى الغاية.

– حسنًا يا محمود، وإن كان بعض الناس يرى أن الغاية تبرِّئ الوسيلة.

فقال نيكلسون: هذا رأي فائل شديد الخطر، لو أخذ به لهدمت الأخلاق جميعًا، ولَتَحَوَّلَ الناس إلى ذئاب وثعالب، إن الغدر ليس من الشجاعة في شيء، وإن من الرجولة أن يَجْبَهَ الرجل خَصْمَهُ في نِزال شريف، لا أن يكمن له كما تكمن الصِّلَالُ.

فقالت لورا: هذا صحيح يا أبي، ولكني أظن أن الأمر يختلف إذا اختلف الخَصمان في القوة، تصوَّر يا أبي عدوًّا يسلِّط عليك السيف وأنت أعزل حتى تخضع له مرغمًا مقهورًا، ثم يأخذك بأساليب الإذلال والقسوة، أليس من حقك في هذا الحين أن تكيد له، وأن تثب عليه في الظلام؟ هؤلاء الفرنسيون غَزَوْا بني مصر بسلاح جديد، وأذلُّوهم بالمدافع الحديثة الابتكار، وقد كان قُصارى ما يعرفه المصريون من الحرب، أن يجول الفارس من المماليك بفرسه مزهوًّا متحديًا، ثم يثب على خصومه ليجالدهم بالسيف، فهل من العدل أن نَصِمَهم بالخيانة والغدر، إذا هبَّ أحدهم من وراء جدار فأغمد خنجره في ظهر خصمه العنيف الجبار؟ ليس للأخلاق يا أبي ميزان واحد؛ لأنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان والحوادث، فالعمل الشريف في حال، قد يكون دنيئًا في أخرى، وإنما هو العقل الحكيم الذي يقدر الأمور، ويحكم على الأحوال.

فقال نيكلسون: لم نتمتع بسماع فلسفتك منذ عهد بعيد يا لورا، ولكني أعتقد أن القتل الشريف لا يكون إلا في القصاص، وفي ميدان القتال.

– إن مصر لم تكن منذ دخلها الفرنسيون إلا ميدان قتال، وهذا الشاب الحلبي قتل كليبر في ميدان القتال.

فقال محمود: إنه قتله غدرًا، فقالت لورا: وأكثر القتل في الميدان لا يكون إلا غدرًا، إن الفارس يتحين غفلة من صاحبه فيفجؤه بالطعنة، أسمعت فارسًا يقول لخصمه: خذ حذرك يا صاحبي فإني سأضربك في جنبك الأيسر؟ ما هذا الكلام يا محمود؟ إن الحدود بين الأخلاق مائعة متموجة، فقال أبوها: أنت تحكّمين العقل يا لورا، ونحن نحكّم الضمير.

– ما الضمير؟ كلمة جديدة أخرى من الكلمات التي ابتدعوها، لو طلبت من «سقراط» تحديدها ما استطاع، هذا ضميره يؤنبه؛ لأنه قبض على قاتل وساقه إلى القضاء، وهذا ضميره يؤنبه؛ لأنه لم يقبض عليه، وهذا ضميره يحزنه؛ لأنه ضرب ابنه وعنف عليه، وهذا ضميره يخزه؛ لأنه لم يضربه، ما هذه الفوضى وما هذا الارتباك الخلقي؟ وأظن أنني سمعت منك يا أبي، أن القضاء الإنجليزي لا يصدر أحكامه عن قانون مدون، وإنما يحكم القاضي في كل مسألة على حسب الأحوال المحيطة بها؛ ذلك لأن لكل حال حكمًا، فقال نيكلسون: هوني عليك يا بنيتي، ودعينا — كما يقول الإنجليز — نتفق على أن نختلف، أتظنين أن الفرنسيين سيصبون نقمتهم على البلد؟

– ما أظن بعد أن قبض على القاتل وتبين أنه حلبي.

وقال محمود: أخشى أن يجرهم البحث إلى تتبع المتآمرين الذين كانوا يغشون بيت الشيخ السادات، وحينئذ فعليَّ وعلى نيكلسون وعلى السيد عمر مكرم، والسيد المحروقي – السلام، فقال نيكلسون: لا يا محمود إننا كنا نتآمر على إخراجهم من البلد لا على قتلهم غيلة، الذي أظنه أن موجة العذاب ستزحف على الأزهر؛ لأن القاتل كان أحد طلابه، ثم دلفوا إلى مضاجعهم، والقاهرة ساهدة ناصبة، ومرّ يومان تم فيهما تحقيق الحادث الجلل، وحُكم على سليمان الحلبي بقطع يمينه التي صوّبت الخنجر إلى صدر القائد العظيم، وبصلبه فوق مخْزَق وترك جسمه لجوارح الطير تتخطفه، وبقتل الطلبة الأربعة الذين أفضى إليهم بسره، ثم احتفل الفرنسيون بجنازة المقتول احتفالًا ضخمًا، ودفنوه بحديقة قصر العيني.

وحينما قُتل كليبر، أطل الجنرال مينو برأسه من الغمرة التي كان فيها ووثب إلى قيادة الجيوش الفرنسية، وأصبح حاكم مصر المطلق، لا لموهبة ممتازة أو لعبقرية نادرة أو لنبوغ في ميدان الحرب أو ميدان السياسة، ولكنه وصل إلى هذه القمة قضاء وقدرًا، كما وصل من قبل إلى المراتب السامية في الجيش، دون أن يفتح فتحًا، أو يحرز انتصارًا، وصل إليهما كما نقول اليوم بالأقدمية لا بالكفاية؛ لأنه كان أقدم قواد الفرق في الخدمة، وانتقل من القلعة إلى قصر القائد العام بالأزبكية، وأظهر من العظمة والبذخ والتباهي ما لا يستطيعه غير «مينو».

أما زبيدة: فإنها حينما وصل إليها الخبر، وعلمت أن زوجها أصبح حاكم البلاد، وأنها أصبحت ملكة مصر كما زينت لها «رابحة» العرافة منذ سنتين – أخذتها نوبة مبهمة مختلطة، يمتزج فيها السرور بالحزن، والرضا بالسخط، والتصديق بالسخرية والازدراء، وفتحت عينيها كأنها تستيقظ من حلم مخيف مفزع، وأخذت تناجي نفسها في أسى ممض قاتل: أهذه غاية المطاف؟! وتلك هي الأمنية الخدّاعة التي أطفأت بها سراج حياتي؟! ولهذه الصفقة الخاسرة بعت جسمي ونفسي؟! ولذلك الاسم الأجوف ضحيت بحب محمود الطاهر النقي؟! ذلك الحب الملائكي الذي لو مس الهاجرة لعادت نسيمًا، أو امتزج بالماء لكان تنسيمًا؟! كيف صدّقت هذه الخرافة؟ وكيف أغواني الشيطان بتصديقها؟! أنا ملكة مصر؟! ثم أخذت تضحك كما يضحك الأبله المأفون، أنا ثانية شجرة الدر بمصر؟! مرحى!! مرحى!! مرحى!! أين عرشي، وأين وزرائي، وأين جيشي وأين أمري ونهيي؟ ملكة من أوهام، وعرش من أحلام، وجيوش من حطام، ثم أين مصر التي أنا ملكتها؟ رسوم وأطلال، وأخلاق بالية وأسمال، وأشباح كالظلال، أنا ملكة مصر؟ ولن أستطيع أن أخرج من داري، أو أجرِّد حملة على طاهي مطبخي الفرنسي!! يا لضحك القدر ويا للسخرية ويا للعار!! كيف صدقت أن أكون ملكة مصر؟ حقًّا إن بين من يدّعون العقل كثيرًا من المجانين، وإن شر الجنون ما كان خفيًّا مستورًا، وهذه العرافة «رابحة» — قطع الله لسانها — هي التي خدعتني، ورأت في عقلي مسلكًا إلى الجنون فسلكته، هؤلاء العرافون قد تكون لهم لمحات من الغيب، ولكنهم لا يحسنون تفسيرها، يقولون لرجل: أبشر ستكون لك شهرة ولاسمك ذيوع، فيذيع اسمه في جريمة! ويقولون لآخر: إنك ستنزل في بيت الحاكم، فيسجن! قالت رابحة: إنك ستكونين ملكة مصر، ولم تقل: إنك ستعتقلين في بيت حاكم مصر الأجنبي، ويحي على شبابي، وويلي من خيالي وأوهامي!! لقد فقدت كل شيء، ونكبت بكل شيء، وحصلت وأنا ملكة على غير شيء.

ودخل «سرور» فرآها باكية حزينة فقال لها: ما هذا البكاء يا سيدتي؟ نحن مؤمنون، وإن الله لا يغير في لوح القدر ما كتب فيه.

– أعلم ذلك يا سرور، ولذلك أبكي.

– هوّني عليك يا سيدتي، إن الله مع الصابرين.

هكذا كانت حال زبيدة عندما أصبحت سيدة نساء مصر، وقد روّح عنها قليلًا أن زوجها انصرف عنها إلى شئون الدولة، وترك لها وقتًا غير قصير تنعم فيه بالبعد عنه.

وتوالت الأيام، وأظهر كل يوم منها تعثر «مينو» في سياسته، وأبان كل حادث «خلقًا من أبي سعيد عجيبًا»: فقد عبث بقواد الجيش كما شاء حقده، فعزل منهم من عزل لسخائم في نفسه، ورفع من رفع من غير حق، فذعر القواد لهذه الفوضى وسخط الجنود، وتبددت وحدة الجيش، وألف ديوانًا جديدًا للأحكام، جعل بين أعضائه صهره العزيز السيد عليًّا الحمامي، ثم اتجه إلى أهل مصر فأرهقهم بالضرائب الفادحة، وأكثر من المصادرة وسجن الأبرياء وهدم الدور، حتى محيت أحياء بأكملها، وأصبح معظم القاهرة قفرًا يبابًا، وبلغت القلوب الحناجر، وضاق بالناس الخناق، فأخذوا يهجرون القاهرة أفواجًا، وزاد في سخط الجيش أن زبيدة وضعت له غلامًا فسماه: سليمان، شماتة في كليبر، وتنويهًا باسم قاتله.

وفي مارس سنة ١٨٠١م ذاعت بين الناس ذائعة تلقفتها الأفواه ورددتها المجامع، وتنفس الناس لها الصعداء، وكان نيكلسون ومحمود العسال يزوران السيد المحروقي في داره، فوجدا عنده الشيخ عبد الرحمن الجبرتي، فسأله نيكلسون: ما هذا الخبر الغريب يا مولانا؟

– لم يصبح الخبر غريبًا يا سيدي السوسي، فقد وصلت عمارة إنجليزية إلى أبي قير، فهزمت الفرنسيين ونزلت إلى البر، ودارت معركة بالإسكندرية بالمكان الذي يدعونه بقصر القياصرة، كانت الغلبة فيها للإنجليز أيضًا، وسافر «مينو» إلى الإسكندرية، لتتم الهزيمة.

– أواثق أنت من هزيمة الفرنسيين.

– كما أثق بالعدل الإلهي، إن الفرنسيين ليسوا كما كانوا أيام بونابرت، وقد قضى مينو على البقية الباقية من حماستهم واجتماع كلمتهم، وراح يبدد جيشه في كل أنحاء مصر، فكيف يستطيع بفئة قليلة أن يلاقي جيشًا عظيمًا؟

– ما رأي سيدنا الشيخ في الإنجليز؟

– أخاف أن تكون لهم نية في مصر، وأنهم يركبون الترك مطية لأغراضهم.

– إن الإنجليز قوم شرفاء.

– وما شأن هذا بالشرف؟ إن للكون نظامًا، والفوز دائمًا للقوي يا سيدي.

– هذا الذي يسميه أهل أوربا: نظام بقاء الأصلح.

– سبقهم إلى ذلك القرآن الكريم: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، وقال عز شأنه: إِنَّ الْأَرْضَ لِلهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

وانفض المجلس وتوالت الإشاعات في كل يوم، ورقص عوام القاهرة وطربوا لكل خبر جديد، وأنشد الصبيان الأناشيد في المكاتب والطرق، وخرج شذّاذ «الحسينية» و«العطوف» و«الرميلة» في جموعهم يتحدّون الفرنسيين، ولم تمض أيام حتى وثب جيش من الترك والإنجليز على أرباض القاهرة، فذعر الجنرال «بليار» نائب «مينو» وعقد مع المغيرين معاهدة من شروطها أن يغادر الجيش الفرنسي بلاد مصر في أقرب ما يكفي من الزمان لرحيله.

أما مينو فاضطرب أمره بالإسكندرية وركب رأسه، وقذف بجنوده في غير حزم إلى موت محتوم حتى إذا سقط في يده، ورأى أنه ضلّ الجادة وتقطعت به وسائل الدفاع سلّم سيفه مهزومًا، وعاهد الترك والإنجليز في السادس والعشرين من أغسطس سنة ١٨٠١ على مغادرة مصر، فأقيمت معالم الأفراح في كل مكان، وأشرقت الشمس بنور ربها فبددت غياهب الأحزان، ونظر الفرنسيون إلى الجنوب وهم مبحرون من الإسكندرية، بعد أن تمزقت آمالهم، فإذا أبو الهول لا يزال يبتسم!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤