خيبة

أفاق المتنبي من أوهامه، وتيقظ من أحلامه، وعلم أنه أخطأ حين ظن أن الناس يرون فيه ما يرى في نفسه، وأنهم يقدرون منزلته كما يقدرها. أفاق وقد ذهبت أمانيه بددًا، وحالت مطامعه رمادًا تذروه الرياح، فلم يبق إلا أن يعلق آماله بفاتك، وأن يتجنب الأسود ويعود إلى ما عوَّده من كبر وأنفة.

أنشأ أبو الطيب قصيدة رائعة في مدح فاتك تلقفها الناس، وسارت بها الرواة، وفهم منها الأدباء أنه يعرِّض بكافور، ويسخر من وعوده حين يقول:

واجز الأمير الذي نعماه فاجئة
بغير وعد ونُعمى الناس أقوال
فربما جزت الإحسان موليه
خريدة من عذارى الحي مكسال

ودخل أبو بكر بن صالح على كافور وقال: إن الناس لا شغل لهم منذ شهر إلا إنشاد قصيدة المتنبي في فاتك، والترنم بأبياتها، وأخشى يا مولانا أن يترك هذا الشعر أثرًا في نفوسهم، فقد خلع عليه الخبيث كل صفات النجدة والكرم، ولم يُبقِ للأمير منها شيئًا، وقد نفى أن يكون له في المملكة مثيلٌ أو نديد حين قال:

لا يُدرك المجد إلا سيدٌ فطن
لما يشقُّ على السادات فعّال
كفاتك ودخول الكاف منقصة
كالشمس قلت وما للشمس أمثال

فزفر كافور وقال: هذا الشاعر كاد يضيق به صدري، وكلما أرخيت له العنان زاد عربدةً وجنونًا. دعه الآن يا ابن صالح فإن يومه لم يأت بعد. خبِّرني، ألا يزال يذكر الولايات، ويتغزل في الإمارات؟

– لا يا مولانا، إنه عدل عن هذا، وعلم أن الله حق. فقهقه كافور، وقال: إني أجازي خيال هؤلاء الشعراء بخيال مثله. راقبه يا أبا بكر. فإني أخشى أن ينتهي أمره إلى شرِّ غاية، وبينما هما في الحديث؛ إذ ثارت جلبة في القصر، وتعالت أصوات الهتاف، ودخل الحاجب وهو يقول: إن شبيبًا العقيلي مات بدمشق يا مولانًا! فوقف كافور اهتمامًا بالخبر، ورفع يديه إلى السماء في تعبد وخشية، وهو يتمتم: الحمد لله! الحمد لله! اللهم إني عبدك المسكين، فانصر عبدك على أعدائه الأقوياء. ثم مال إلى أبي بكر وهمس في أذنه: لقد شرب السم إذًا. الحمد لله! الحمد لله!

– من الذي بعثته إليه بالسم؟

– بعثت إليه الحارث التميمي، وهو شاب مجازف، وقد وعدته بخمسمائة دينار.

– إنه يستحق. كيف توصل هذا الشاب إلى هذا الأسد الهصور يا ترى؟ وكيف استطاع أن يدس له السم؟

– لقد أخبرني قبل رحيله. بما اعتزم فعله، فقد كان ينوي أن ينضم إلى جيش شبيب، ويظهر من الحماسة في الحرب ما يقربه إلى قلب العقيلي، حتى إذا وثق من منزلته عنده، وسنحت له الفرصة، مزج له السم في الطعام.

– هذا توفيق من الله. فكم من دماء حقنتها هذه القطرات القليلة من السم! وكم من أرواح أنقذتها! ونفوس ردت إليها هدوءها وسكينتها! لقد كان العقيلي شجاعًا يا ابن صالح.

– أما وقد مات، فقد كان رجلًا لم تلد الأمهات مثله في الشجاعة والبطولة والكرم، ولقد كدنا نعيا بأمره؛ لأننا كلما أرسلنا إليه جيشًا هزمه وفرّق جموعه، حتى حاصر دمشق ودخلها دون أن يستطيع أحد أن يقف في طريقه، ولولا تلك الحيلة التي ابتكرها مولانا لذهبت منا الشام، وربما ذهبت بعدها ولايات أخرى.

– إنه خارج علينا يا أبا بكر. لقد وليناه أول الأمر عَمان والبلقاء، فلم يكتف بهما، ولم تقف به مطامعه عند حد، فاستهان بقوتنا، وأدلَّ علينا بكثرة خيله ورجله. ثم ابتسم، كما يفغر الثعبان فاه، وقال: إن الله جنودًا لم تروها، منها السم الزعاف.

سرت البشرى في أنحاء المدينة، وعُين يوم في القصر للاحتفاء بهذا النصر المبين، وجاء هذا اليوم فتوافد على القصر الوزراء والعلماء والقواد والأدباء وسراة المدينة، وأعدَّ المتنبي قصيدة؛ لينشدها في هذا الجمع الحاشد، وكان حاقدًا على كافور، بعد أن حطَّم آماله، وقطع أوتاره، فجاءت القصيدة ثورة محموم، وتنفس غيظ مكظوم، وكان أولها:

عدوُّك مذمومٌ بكل لسان
ولو كان من أعدائك القمران

ولما أنشدها وانفضَّ الجمع، قابله ابن رشدين وهو يقول: الشعر بديع يا أبا الطيب، ولكني في الحق لم أدر، وأنت تنشدها أكنت ترثي شبيبًا أم تمدح كافورًا؟

– كنت أرثي شبيبًا، وأعتقد أن هؤلاء الأوغاد غدروا به، ودسوا له السم.

– وأنا أعتقد كما تعتقد، ولكني إذا طلب إليّ كافور أن أقول قصيدة في ظفره بعدوِّه لا أقول ما قلت.

– وماذا كنت تقول؟

– كنت آتي بأعذب الشعر وأكذبه. ثم جذب منه الورقة، وقال اسمع:

برغم شبيبٍ فارق السيفُ كفه
وكانا على العلّات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه
رفيقُك قيسيّ وأنت يماني
فإن يك إنسانًا مضى لسبيله
فإن المنايا غاية الحيوان
وما كان إلا النار في كل موضع
تُثير غبارًا في مكان دخان
فنال حياة يشتهيها عدوُّه
وموتًا يُشهّي الموت كل جبان
نفى وقع أطراف الرماح برمحه
ولم يخش وقع النجم والدبران
وقد قتل الأقران حتى قتلته
بأضعف قرْم في أذل مكان
أتته المنايا في طريق خفيّة
على كل سمع حوله وعيان
ولو سلكت طرق السلاح لردَّها
بطول يمين واتساع جنان

هذا أبدع رثاء لشبيب، وهذه أكبر تهمة لكافور باغتياله. أين يذهب بك يا أبا الطيب؟ أجننت؟

– إن عيبي عندكم أنني أقول ما في نفسي ولا أتملق تملق الإماء.

– قل ما في نفسك لي وللكثير من أصدقائك، ولكن لا تقله في حشد من النقاد ينتظرون الفرصة للإيقاع بك. لقد نصحك الشريف فلم تنصت لنصحه.

– إن شعري لا يطاوعني على الكذب الصراح، يا ابن رشدين.

– غيِّر من خلقك قليلًا حتى تصرف عنك عين كافور.

– أنا لا أبالي بكافور، ولا آبه لجبان يقتل الناس بالسم، وسأصون شعري عن هذا الأحمق حتى يصدق في وعده، أو يأذن الله برحيلي عنه. فجذبه ابن رشدين من يده، وقال: هلم بنا إلى الدار، وانطلق الاثنان صوب دار ابن رشدين فلاقتهما عائشة مرحة ضحوكًا، وهي تقول: لا أشك في أنك أبدعت اليوم يا أبا الطيب؛ لأنك تعود اليوم إلى فنك الذي امتزت فيه، وهو وصف الوقائع وتمجيد الظافرين، وقد عشت بيننا عيشة هادئة ليس فيها إلا سلم دائم، واستقرار هنيء، وهذا الجو لم يخلق له شعرك الذي لا يجلجل إلا في قتام الحروب، وصليل السيوف، وكلما قرأت شعرك في وقائع سيف الدولة أسفت لأنك فارقته، ولكني لا ألبث أن أعود إلى الأثرة فأستهين بالشعر كله في جانب الظفر بمودتك. ليس عندنا هنا روم يغيرون على تخومنا، وليس عندنا قبائل متناكرة يخلعون طاعة الأمير كلما صاح بهم صائح. فنحن نعيش في جنة عالية، قطوفها دانية، لا تسمع فيها لاغية، وقد جبلنا على السمع والطاعة لأمرائنا، واجتمعت كلمتنا على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ لذلك كنت أفكر في شأنك يا أبا الطيب آسفة معتقدة أنك لم تخلق لهذا السكون الشامل، والأمن الوارف، وأتخيل أنك ولدت في ليلة عاصفة كثيرة الأنواء والأعاصير، كان الرعد فيها يصدع أقطار السماء، والصواعق تنقضّ كأنها رؤوس الشياطين! لقد صدئ سيفك في غمده هنا يا أبا الطيب، ومل جوادك من طول الوقوف. إن مثلك لم يخلق ليجلس في شمس الشتاء، أو يقضي أصيل يوم الصيف في زورق يقذف به نسيم النيل الواني من مصر إلى حلوان، وإنما خلقت للصراع والصدام، وأن تدخل من قتام في قتام؛ لهذا حين علمت أنك ستنشد اليوم قصيدة في تهنئة كافور بالظفر بشبيب، قلت في نفسي لقد جاء أوان صاحبي، وستسمع مصر اليوم شعرًا جمعت تفاعليه من أسنة الرماح وشفار السيوف. فماذا قلت يا فارس الهيجاء؟

– قلت يا سيدتي قصيدة كان كل ذنبي فيها في رأي أخيك أنني كنت صادقًا.

– ما عليك من أخي. هات القصيدة. ثم جذبت الورقة من يده، وأخذت تقرأ، فلما أتمت قراءتها صاحت: إني لأجد ريح يوسف، وإني لأرى في هذا الشعر صاحبي القديم وهو يعود ثانيةً إلى عترته، فيصف الحرب ومواقع القتال، ولن يستطيع شاعر من شعراء الإنس والجن أن يصوّر قدرة ملك كما يصورها هذا البيت:

لو الفلك الدوار أبغضت سعيه
لعوَّقه شيءٌ عن الدوران

– ماذا تقول في هذه القصيدة يا صالح؟

– أقول: إنها ملأى ببدائع الفن، ولكنها فارغة من السياسة. فقهقهت عائشة طويلًا وقالت: أنت يا صالح منذ لحقت بديوان الرسائل وأنت تخشى من كل شيء، وتتهم كل شيء. قاتل الله المناصب، فكم أذلت أعناقًا، وأخرست أفواهًا. ليس في القصيدة شيء إلا أن يخرج بها المتعنتون إلى غير مخرجها، إن فيها مديحًا رائعًا لكافور لم يظفر الرشيد والمأمون بمثله. فماذا فيها يا صالح مما تراه خارجًا عن سياج السياسة؟

– فيها يا أديبتي البارعة أبيات إلى الذم أقرب منها إلى المديح، ولا يعلم إلا الله ما تكون العاقبة لو تطفل خبيث ففسر لكافور معنى هذا البيت:

ولله سرّ في علاك وإنما
كلام العدا ضرب من الهذيان

ثم إن فيها عشرة أبيات كلها ثناء وبكاء على شبيب، وليس فيها من الإشارة إلى الانتصار شيء. لقد حادثت أبا الطيب في هذا وحذّرته من الانسياق وراء سوء عقيدته في كافور. فإن الرجل غادر ماكر، ونخشى أن يثب وثبة مفاجئة، وأبو الطيب أعز علينا من أنفسنا، فليس من الوفاء له أن نتركه يقذف بنفسه في هذه الفتن الهوج، وأن يسقط فيما ينصب له من فخاخ، وهنا ظهر الحزن على وجه عائشة وقالت: صدقت يا أخي، إن الناس جميعًا يداجون، ولا يظفر بحاجاته منهم إلا أبرعهم في المداجاة، ثم نظرت إلى أبي الطيب وقالت: إننا نعيش في جو كله سموم، حتى إن سمومنا جاوزت مصر ووصلت إلى قدح السويق الذي شربه شبيب بدمشق. إنك لا تستطيع أن تصاول الأسود في ميدان؛ لأنه يحارب بأسلحة لا تعرف منها سلاحًا، والخروج اليوم من مملكته محال؛ لأنه لو أراد لجعل لك من مصر كلها قفصًا قضبانه من الحديد. فلم يبق إلا أن تجاهل الرجل وتصانعه حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. فزفر المتنبي طويلًا وقال: هذا حكم القدر الساخر، وإذا رأيتما أن لابد من مصانعة الأسود، فلابدَّ، مما ليس منه بد، ولكن ماذا أفعل لأتقي شرَّ هذا الخبيث؟

– تترك ذكر فاتك أولًا فلا يمر لك بلسان، ثم تزور القصر في كل يوم، ثم تركب في مواكب الأسود أينما ذهب وسار، ثم تجامل ابن الفرات وأبا بكر بن صالح، ثم ترقب فرصة تنشد فيها كافورًا قصيدة خالصة له واضحة المعالم، ليس فيها التفاف ولا التواء.

فتأوه المتنبي وتململ، وقال: إنني يا سيدتي كدت أيأس من الحياة، وأستهين بنعيمها وبؤسها. ثم أنشد وهو يتحفز للقيام:

بم التعلل؟ لا أهلٌ ولا وطنُ
ولا نديمٌ ولا كأس ولا سكن
أريد من زمني ذا أن يبلغني
ما ليس يبلغه من نفسه الزمن
لا تلق دهرك إلا غير مكترث
ما دام يصحب فيه روحك البدن

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤