الفصل الثاني

لم تكن ساعاتٌ كثيرة قد مضت من صباح اليوم التالي حتى عرفت أن أمي قد ماتت، وطبعًا أدركت سر الدموع التي كانت تحيط بي. هذا لا يهم، المهم أن أحصل لنفسي على دموع مثلها، من أين؟ أنا لم أبك في حياتي هذا النوع من البكاء أبدًا. إن هذه الدموع لا تعرفها عيناي، يبدو أنها لم تكن قد وُجدتْ في كِياني، ولست واثقًا أنها تكوَّنتْ حتى الآن. أنا أعرف الآن أن هذا النوع من الدموع لا ينبُع في النفس إلا مع السن المتقدمة بعض الشيء، ومع ذلك فأنا لست واثقًا أنها موجودة الآن. لعلي لم أبلغ سن الحزن بعد.

لا، إني على كل حال كنتُ في حاجةٍ إلى دموع، أيُّ نوعٍ من الدموع، المهم أن تُساقط عيناي نقطتين من الماء، ولكن من أين؟

أخفيت عيني بظاهر يدي، ورحت أدعك العينين مني لعل الاحمرار يصيبهما إن لم يكن إلى الدمع من سبيل، ثم جريت. استعنت بماء الصُّنبور، فأمدَّني بما يكون من الدموع، وقصدت إلى عمتي.

أكاد أعرف الوجه الذي طالعها مني، وجه طفل فيه عينان حمراوان منسجمتان تمامًا مع الدموع الهاطلة تملأ وجهي جميعًا.

– الله، ماذا جرى يا أمين؟

– ماما.

قلتها وشهقت، فقد كنتُ واثقًا أنه لا بد من هذه الشهقة، وتأكدت من هذا الرأي لما رأيت الدموع تنساب من عيني عمتي وهي تقول: وأنا أقول إنك رجل.

ولم أجد شيئًا أقوله.

– ماما.

– تعالَ خذ … خذ هذه.

يبدو أنني وُفِّقْتُ في اختيار الفعل واللفظ معًا. وعدتُ أقول: ماما.

– ألا يرضيك أن أكون أنا ماما.

ووضعت الجنيهات الخمسة في جيبي، وأنا أشهق مرة أخرى: ماما.

– هيا اغسل وشك وتعال. أين وجدي؟

وفي شهقة أخرى قلت: في حجرته.

– ماذا ستفعلان اليوم؟

– لا شيء.

– كيف لا شيء؟ هناك مفاجأة لك.

وفي خفقة الفرحة بلقاء المجهول السعيد قلت: ماما.

ولعلني كنتُ أريد أن أجعل المفاجأة أعظم مما هي.

– وبعد ذلك، عمك البيه سيشتري لك هدية عظيمة ستفرح بها جدًّا.

ولم أستطع أن أحافظ على مظهري، ووجدت نفسي أنسى الموقف الدرامي الذي صنعتُه لأقول في تشوقٍ فرحان: صحيح، ما هي؟

– ستعرف، فقط اغسل وشك وغير ملابسك، بابا سيأتي الآن.

لا تجعله يحس أنك لست رجلًا.

– بابا سيأتي.

– نعم.

– لماذا؟

– ليراك.

– هل سيأخذني؟

– هل تريد أن تذهب معه؟

– لا، أريد أن أبقى معك.

– ألم نتفق على هذا؟

– نعم.

– إنه سيأتي ليراك فقط.

•••

جاء أبي ومعه حقائب فيها كل ملابسي. وما كانت ملابسي لتملأ أكثر من حقيبة واحدة، ولكن يبدو أنه خجل أن يأتي بها جميعًا في حقيبة واحدة، ومع الحقائب جاءت وصفية لتبقى معي في بيت عمتي.

وسألني أبي: أينقصك شيء؟

ولم أستطع أن أقول: ينقصني كل شيء.

خجلت أن أقولها، وقلت الجملة التي ينتظرها: لا.

ولم تبق عندي بقية من ماء لأسفحها في شكل دموع، وإنما تظاهرتُ بما يشبه الحزن، ولما استعصى عليَّ ارتجال الدمع أطرقت مُخفيًا وجهي جميعًا.

– كن رجلًا، واسمع كلام عمتك ولا تضايقها، أنت تعرف كم تحبك، وكم يحبك عمك البيه.

– نعم أعرف.

قلتها وأنا مطرق وفي نغمة أتقنتُ إخراجها. وقالت عمتي: سليم، لا شأن لك بأَمين، ولا تتدخل بيننا.

– أمركِ يا ستي، خذ يا أمين.

جنيه، أخذتُه طبعًا. وداخلني شعور أن أبي وعمتي يريدان مني أن أنصرف، فكرتُ أن أتغابى وأبقى، ولكن لم أجد لذلك داعيًا، وخرجتُ وأحسستُ وأنا أمسك بضلفة الباب أنهما سيتكلمان في شأن من شئوني، فلم أُقفل الباب، وجعلته مردودًا.

أرادت عمتي أن تحوِّلني إلى مدرسة وجدي الأجنبية؛ لأتعلم لغة، ولكن أبي أصر على أن أبقى بمدرستي التي تعوَّدتُ عليها، وانتهى إلى ذلك رأيهما، وفرحتُ أنني لن أغير مدرستي. فإن كان لا بد من مدرسة فلتكن التي أعرفها.

•••

حين بدأت الدراسة تغير الوضع تمامًا بالنسبة لي، لقد بدأتُ أرى من عمتي وجهًا آخر غير وجه التدليل وإغداق المال، أما وجدي فقد انقلب من لاعب عِربيد إلى تلميذ يلح في المذاكرة إلحاحًا في انتظامٍ دقيق وإصرار.

كانت مذاكرة وجدي هذه هي العقبة التي تقف في وجهي، فقد كنتُ أستطيع أن أخالف أوامر عمتي وألعب، ولكن مع مَن ألعب؟ وقد تَكَشَّفَ لي وجدي عن تلميذ غبي لا يترك المذاكرة يومًا.

حاولت أن أتغلب على هذه العقبة بالنزول إلى الشارع واللعب مع الآخرين، فنشأت أمامي عقبة تمثَّلتْ في تفيدة التي تصر أن تبلغ عمتي بإهمالي المذاكرةَ، ونزولي إلى الشارع دائمًا. فإذا عمتي تصدر الأوامر ألا أخرج من البيت من الساعة الخامسة إلى الثامنة، وفي مرة حاولت أن أكسر هذا الأمر، فجئت إلى البيت متأخرًا بعد أن أَصبتُ من اللعب ما أحببتُ أن أصيب، فإذا عمتي ترسل وصفية مع صالح السائق إلى الميدان الذي ألعب فيه أمام المدرسة، ووجدت نفسي أمام عمة أخرى، لا تعطي نقودًا ولا تتلطف، وإنما هي لأول مرة في حياتي تضربني.

هالني الأمر.

كيف تضربني؟ لو غيرها الذي فعل ذلك ما اهتممتُ، أما هي، هي بالذات، فلا بد من إجراءٍ سريعٍ وحاسم. ولا بد أن تعرف أن ضربي هذا لا يمر سهلًا دون عقوبات أُوقعها أنا عليها، فأنا لا أقبل إطلاقًا أن تغير معاملتها لي. لقد تركت بيت أبي لأنهم هنا يحسنون معاملتي، أما إذا بدأ الضرب، فلا بد أن أريهم أيُّ شيء خطير أنا.

لم أعد أذكر من عمتي غير الضرب، نسيت كل ما صنعتْه من أجلي، بل لعل هذا الذي صنعتْه يزيد من إصراري على الانتقام، ونسيتُ أيضًا لطف عمي البيه، والمفاجأة التي تمثلتْ وقت ذاك في كرة جديدة من أحسن صنف مع حذاء كرة لا يلبسه إلا كبار اللاعبين. هذا جميل في ذاته، ولكن ما فائدته إن لم ألعب به؟ وكل هذا لا يُبيح لها أن تضربني. طبعًا لم أفكر في العودة إلى أبي، فهذا شيء بعيد الاحتمال لا يجوز أن أفكر فيه، ولكن أيضًا السكوت على هذا الضرب محال، إن لي معهم لشأنًا أيَّ شأن.

•••

انتهى الرأي عندي على الانتقام، ولكن نوع الانتقام لم يبدُ لي في الوضوح الذي أتمناه، فكرت أن أشرك وجدي معي، ولكن سُرعان ما طردتُ هذه الفكرة.

ما شأن وجدي، وممَّ ينتقم؟ إنه يذاكر كحمار، وهو في حالة صلح تام مع والديه. فكرت في وصفية، ما أجمل قوام وصفية! إنها تكبرني بثلاثة أعوام فقط، ولكن هذه الأعوام الثلاثة قد فعلت بها الأفاعيل: طويلة القامة، واضحة الصدر، لها ابتسامة تحسن صنعها، ولشعرها تهدُّل حلو كأنه دفقة ماء وافرة من ساقِية ذات ماء فياض. ووصفية لفاء العود.

أن تميل به، فإن مشتْ خُيِّلَ إليكَ أنها لا تريد أن تطأ الأرض إلا مسًّا هينًا كرعشة أصبع على وتر عود.

ولكن ما شأن هذا جميعه برغبتي في الانتقام؟ لا أدري، فكرتُ في وصفية أن تشاركني في الانتقام، وكنتُ أريد أن أحصل على موافقة منها على مبدأ الانتقام في ذاته، أما نوعه فهيِّن، ويمكن أن أبحثه معها فيما بعد.

ولكن هالني منها أنها تبذل الكثير من الاحترام والحب لعمتي. وهي في معاملتها لي حريصة كل الحرص أن تنفذ الأوامر الصادرة إليها، ولكن هذا الحرص لم يمنعها أن تصنع أشياءَ أخرى ما أظن أن عمتي أمرتها بها، فقد كانت في كثيرٍ من الأحيان تنام إلى جانبي، وتحتضنني في عنف، وكنتُ أجد لذلك في نفسي مشاعر تتأرجح بين الإقبال والدهشة، ولكنني مع ذلك لم أكن أضيق به أبدًا.

ما أظن عمتي كانت تأمر بهذا.

وحين كانت تقوم بحمَّامي كانت تقوم بأشياءَ لا أعتقد أن عمتي كانت تأمرها بها، حين كانت تختار أن تلعب معيَ العريس والعروس كانت تذهب في اللعبة إلى مدًى كنتُ أحس فيه أنه لا ينبغي أن يعرفه أحد. وكانت هي دائمًا تقول لي: إياك أن تخبر أحدًا بهذا الذي نصنع، وإلا كففنا عنه إلى الأبد. والحقيقة أنني لم أكن أحب أن نكف عنه، وإن كنتُ لا أدري لماذا لا أحب أن نكف؟

مع كل هذه الأسرار التي تجمعني ووصفية لم أجد في نفسي رغبةً أن أخبرها بعزمي على الانتقام.

والآن أصبحتُ أنا وحدي صاحب السر الرهيب، سر الرغبة في الانتقام دون أن أدري كيف يكون الانتقام.

تركت الفكرة تغوص في نفسي وتتمكن، وأصبح شغلي الشاغل هو التفكير في الوسيلة بعد أن أصبح المبدأ شيئًا غير قابل للمناقشة.

أصبحتُ لا أخرج للَّعب، وكنتُ أصحب وجدي ووصفية إلى السينما كل أسبوع، وأمِنَتْ لي عمتي، وأصبحتْ تظن أنني أبقى في البيت وأذاكر، وأنني نسيت تمامًا ضربها لي.

ولم تكن تعلم أن بقائي في البيت لم يصنع شيئًا إلا أن تُكثِر من لعب العريس والعروس أنا ووصفية، وأنني بعد مداومة هذه اللعبة أصبحت أجد فيها لذةً ربما تفوق اللعب بالكرة، ومع ذلك لم تتخلَّ عني فكرة الانتقام، بل ظلتْ تعمق في نفسي وتعمق، حتى لقد أصبحتْ جزءًا طبيعيًّا مني لا أتصور نفسي من غيرها.

اللذة الأخرى كنتُ أجدها مع صالح السائق الذي كان يعلمني قيادة السيارة في كل يوم ونحن عائدون إلى المنزل، وكنتُ في مقابل ذلك أعطيه ما أطيق، وأحيانًا ما لا أطيق من المال.

كنتُ من داخل أوامر عمتي أعيش في متعة دائمة، ومع كل ذلك لم أكن متأخرًا في دروسي، فقد كنتُ في المدرسة أنسى كل شيء إلا الدرس الذي يُلقيه علينا المدرِّس، وكان هذا كافيًا أن يجعلني تلميذًا معقولًا لا يلفت النظر بخيبته، ولا يلفت النظر أيضًا بتفوقه، وكانت راضيةً عن موقفي هذا من التعليم.

•••

كان عمي البيه يصحبنا في الإجازات إلى قريته، وكنتُ أجد في هذه الزيارات للقرية متعة كبيرة.

وفي ليلةٍ أخبرتْنا عمتي أننا سنذهب في غدنا إلى القرية، وأن بعض الضيوف سيصحبون رحلتنا هذه.

لم يهمني شأن الضيوف، وفرحتُ بخبر الذهاب إلى القرية.

استيقظنا في باكر الصباح، وما هو إلا الوقت اليسير حتى كنتُ على أتم استعداد للرحلة.

وجاء الضيوف: إنهم عبود بك السيد الموظف الكبير بوزارة الزراعة، والسيدة وسيلة التي أُمرتُ أن أقول لها تنت وسيلة، فقلتُ. ومعهما ابنتهما حميدة.

حميدة ذات جمال أخَّاذ رائع، ولكن الأسماء فيما أذكر أدهشتْني، وقد ظَلِلْتُ أفكر في هذه الأسماء حتى اليوم، وأحسب أنني انتهيتُ فيها إلى شيءٍ لا يخلو أيضًا من الغرابة، فقد خُيِّلَ لي أن اسم وسيلة هو الذي جعل عبود بك يتزوجها مستبشرًا أن يتزوج بوسيلة؛ فبالوسيلة يستطيع أن يترقى في وظيفته. أما حميدة فقد حيرني أمرها، ما الذي يجعل إنسانًا يسمي ابنته حميدة؟ والأسماء البراقة تملأ الدنيا. وفكرتُ في يومٍ ما أن رئيسًا لعمي عبود أصدر قرارًا وزاريًّا بتسمية ابنة الموظف الذي يعمل بوزارته حميدة، فنفذ الأمر. وكنتُ أظن أنني بهذا التفكير أسخر من عمي عبود، ولكن مع الأيام اتضح لي أن ما فكرتُ فيه هازلًا ساخرًا هو الجِد عين الجِد؛ فاسم حميدة هو اسم أم وكيل الوزارة، الذي وُلِدتْ حميدة عبود في أثناء توليه منصبه. وعرفتُ بعد ذلك فيما عرفتُ أن عبود بك تقدم إلى وكيل الوزارة: وُلدتْ لي بنت، وكنتُ أنوي لو جاءتْ ولدًا أن أسميه باسمك.

– يا سيدي بسيطة، سمها على اسم أمي، فأمي عندي أعز من نفسي.

فكانتْ حميدة.

ذهبنا إلى القرية ولازمتْني حميدة طَوال الوقت، فقد ظلتْ تنت وسيلة مع عمتي، وذهب عمي عبود مع عمي البيه لينظرا في أمر حديقة الموالح الجديدة التي ينشئها عمي البيه، ورافقهما وجدي الذي يزداد في كل يوم إصرارًا على أن يصبح رجلًا مهمًّا.

لم تجد حميدة مَن تمكث معه إلا أنا. كنتُ وإياها نبتًا أخضرَ بدأتْ تجري في عروقه مياه التباشير الأولى للشباب، فالحمرة تغشاها إن مدحتُ جمالها، وبريق من السعادة يطلق بعض الشرر من عينيها، ثم ما تلبَث أن تطبق على الجفن جفنًا، فيختفي الشرر ليفسح المجال لهمهمات صامتة من الخجل، وأنا لا يعنيني الخجل، فقد عرفتُ الجرأة في أحضان وصيفة، ولكن مشاعري مع حميدة تراوحني بأنسام جديدة، فالخفقات التي تهزني غير الخفقات التي أعرفها، والنبض غير النبض، والمشاعر عندي نوع جديد من السمو والرفعة. إن ذُكرتْ حميدة زجرتُ التذكر بدَفَقات سماوية لا عهد لها بي، ولا عهد لي بها.

كان عمرانا يومذاك على مشارف المعرفة، وإن لم يبلغها؛ فلم تخف أمها أن تتركها معي. كنا في تلك السن التي يتحسس فيها الشباب طريقه إلى نفوسنا، لم يتمكن ولم يبعد قريب بعيد. يُسمع منه همسٌ ودبيبُ خطًى، ولكن الهمس غمغمة لا تَبين، والدبيب مترنح غير ثابت.

كنا في هذه الأيام التي نرى العالم جميعه لا شيء فيه إلا الجمال، تلك الأيام الخادعة التي تجعل الطفل الكبير منا يظن أن الدنيا ما خُلقتْ إلا لتكون طوع أيدينا، ونفاذ أمرنا، وتحقيق ما شئنا قبل أن نطلبه.

في مدرسة الليسيه هي، وأنا في الإبراهيمية، فحيٌّ واحد يجمعنا. وأبوها صديق عمي، والطريق بيننا موصولة، والحياة منسوجة من خيوط الورد والذهب، والحياة، ما أجمل الحياة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤