فلسفة الكون

(١) مراحل الكون

يرى جابر أن أول ما كان في الأزل هو العناصر الأولية الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فهذه هي «أوائل الأمهات البسائط» كما يسمِّيها،١ ثم طرأت على هذه البسائط حركةٌ وسكون، فتكوَّن منها تركيباتٌ منوعة، ولولا الحركة والسكون لظلت تلك الأصول الأولى مستقلًّا بعضها عن بعض؛ كلٌّ منها خالصٌ لنفسه وقائمٌ برأسه، لكن الحركة والسكون وحدهما لا يكفيان لخروج هذه الكائنات التي نراها من حيوان ونبات وحجر، بل لا بد كذلك من مبدأ الكمية يدخل في عملية الامتزاج؛ لأن الأشياء إن تشابهَت في خروجها أساسًا من تلك الأمهات الأربعة، فهي تعود فتختلف حيوانًا ونباتًا وحجرًا باختلاف المقادير التي تدخل في تكوينها من كل عنصر من العناصر الأولية؛ فقد تزيد الحرارة هنا وتقلُّ هناك، وقد تزيد اليبوسة في شيء عنها في شيء آخر، وهكذا؛ وإذن فمراحل الوجود على وجه الإجمال هي: كيفيات، فحركة وسكون، فكمية، بهذا الترتيب.
فليس يذهب جابر مع الذاهبين إلى أن تلك العناصر الأولية الأربعة قد سبقها إلى الوجود هيولى خلو من الكيف — وهو المذهب الأرسطيُّ — ثم جاءت العناصر الأربعة فروعًا متفرعة عن الهيولى الخالصة بأن اكتسبَت تلك الهيولى الساذجة كيفيةً ما، فصارت حرارة، وكيفية أخرى فصارت برودة، وكيفية ثالثة فصارت يبوسة، وكيفية رابعة فصارت رطوبة. ويقول أنصار هذا المذهب — كما يرويه عنهم جابر — إن الهيولى اكتسبت أول ما اكتسبت الأقدار الثلاثة: الطول والعرض والعمق، فصارت الهيولى بهذه الأبعاد الثلاثة جسمًا ذا ثلاثة أبعاد، وبعدئذٍ خُلِقت فيه الكيفيات الأربع المذكورة فنشأت طبائع الأشياء وأركان الخليقة، ثم تركَّبت هذه الطبائع الأربع، وامتزج بعضها ببعض، فكانت منها جميع هذه الأشخاص والأشباح الموجودة في العالم.٢
يعرض جابر هذا المذهب موجَزًا ليتناوله بالنقد٣مقيمًا الدليل على استحالة أن يكون قد سبَق الأصولَ الأربعة شيءٌ خلوٌ منها؛ وإلا فكيف يجوز عند العقل أن يكون نفس المصدر الذي نشأت عنه النار هو الذي خُلق منه الماء؟ إن هيولى الشيء هو ما قد تركَّب منه ذلك الشيء، فهل يتركَّب الماء والنار — وهما ضدان — من هيولى واحدة؟ يقول جابر مخاطبًا أصحاب الرأي القائل بأن أصل العالم هيولى لا كيف لها: لقد زعمتم أن أولى مراحل الخلق طينة أزلية لم تكن جسمًا، ولا كانت موصوفة بصفة مما تُوصف به الأجسام، وزعمتم أن تلك الطينة هي أصل الأشياء وعنصر البرايا؛ ومحال علينا أن نتصور بخيالنا هذه الطينة ولا أن نعقلها، ثم قلتم إن المرتبة الثانية هي أن قد اتخذت تلك الطينة الأزلية أبعادًا ثلاثة، فصارت بها جسمًا، لكنه جسم غير موصوف بشيء من حَرٍّ أو بردٍ أو رطب أو يابس أو لون أو طعم أو رائحة أو حركة أو سكون؛ لأن هذه كلها كيفيات، والكيفيات لم تكن قد طرأت عليها بعد، وهذا أيضًا شيء غير معقول؛ ثم زعمتم أن الكيفيات الأربع قد حدثت بعد ذلك، وأعني بها: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، ومنها نشأت الطبائع الأربع التي هي النار والهواء والماء والأرض؛ لكن هذا القول هو بمثابة قولنا: إن شيئًا خرج من لا شيء؛ فهل كان يجوز أن يخلق الماء من نفس الشيء الذي خلقت منه النار؟ إنكم إذا أجبتم بالإيجاب كنتم تُجيبون بما هو محال؛ وذلك أن كلَّ شيء رُكِّب منه شيءٌ فهو هيولى لما تركَّب منه؛ فمن أمثلة ذلك قولنا: إن نطفة الإنسان هيولى الإنسان ونطفة الحمار هيولى الحمار. وإنا لنزعم أنه محال أن تقبل نطفة الإنسان صورة الحمار؛ لأنها ليست بهيولى لها، وكذلك محالٌ أن تقبل نطفة الحمار صورة الإنسان، فوجب على هذا القياس أن يكون الشيء الذي يقبل صورة النار هو هيولى لها، فمحال أن يقبل صورة الماء وأن يكون هيولى له.

ويستطرد ابن حيان في مخاطبة أصحاب مذهب الهيولى الواحد، فيقول عنهم إنهم قالوا: إنَّا نجد الماء يستحيل فيصير نارًا، فيكون الجوهر الحامل لكيفياته وحالاته هو نفسه الجوهر الحامل لكيفيات النار وحالاتها، فما جاز على الأول جاز على الثاني، والذي تغيَّر في الحالتَين هو الأعراض، فكذلك الهيولى القديم واحد، وهو حامل لكيفيات الماء وحالاته إن حدثَت فيه، وحاملٌ لكيفيات النار وحالاتها إن هي حدثت فيه. نقول إنهم إن قالوا ذلك قلنا: إن الماء ليس يستحيل دفعةً واحدة فيصير نارًا، بل هو يتدرج في ذلك، فيتحول أولًا إلى بخار، ثم يصير البخار هواء، ثم يتحول الهواء فيصير نارًا. فلو قال قائل: إن الماء يستحيل هواءً فيصير نارًا، لأهمل بذلك مرحلة البخار التي ينتقل خلالها من حالة الماء إلى حالة الهواء، فيصبح قوله غير معقول، وهكذا قولكم — يا أصحاب مذهب الهيولى — كان يكون معقولًا لو أنكم جعلتم الماء والنار يصدران عن هيولى بسيط أزلي على النحو المتدرج الذي أسلفناه، لكنكم لم تقولوا ذلك، بل قلتم: كان يجوز أن يكون الهيولى الذي استحوذت عليه طبيعة الماء وحالاته، تستحوذ عليه — بدلًا منها — طبيعة النار وحالاتها بغير استحالات متوسطة فيما بين الماء والنار، وهذا خلاف المعقول.

ويمضي ابن حيان في تفنيد دعوى أصحاب مذهب الهيولى، فيقول: إنهم إن زعموا أن الهيولى القديم — قبل أن يكتسيَ بالصور ويكتسب الطبائع — كان شيئًا له القوة على قبول حالات النار وكيفياتها بجانب من جوانب تلك القوة، وبجانب آخر يقبل حالات الماء وكيفياته، وبثالث يقبل حالات الهواء وكيفياته، وبرابع يقبل حالات الأرض وكيفياتها … إن زعموا ذلك عن الهيولى القديم كانوا بهذا الزعم قد أثبتوا للخليقة أربعة عناصر أزلية قديمة، وهي مختلفات القوى، وبطَل قولُهم: إن العنصر الأول واحد ليس بمختلف.

وتسألهم: هل يجوز انحلال الأشياء إلى الهيولى القديم كما تركَّبت منه؟ فإن قالوا: لا يجوز هذا، سألناهم: ولمَ لا يجوز؟ فإن قالوا: إن ذلك بطلان الأشياء ورجوعٌ بها إلى الأزليِّ البسيط الذي لا تركيب فيه، قلنا: وما ضرَّكم أن تقولوا إن الأشياء تعود إلى الأزلي البسيط الذي لا تركيب فيه ويبطل هذا العالم؟

ومما يدل على فساد قولهم بأن أول الخلق هيولى بسيط لا كيفَ فيه، أن الفلاسفة قد بيَّنوا لنا استحالةَ وجودِ جوهرٍ عطلٍ من الأفعال كلها — الطبيعية منها والصناعية — بحيث يكون ذلك الجوهر غيرَ ذي فعلٍ في نفسه أو في غيره؛ مع أن الهيولى التي زعم هؤلاء القوم أنه أزليٌّ بسيط، وأنه الجوهر الأول، هو في الحقيقة عطلٌ من الأفعال كلها — الطبيعية والصناعية — وهو أمر مستحيل على البرهان العقلي، كما أنه بالبداهة مستحيل أيضًا على الإثبات بطريق الإشارة.

فإذا كان هذا هكذا، انتهينا إلى الرأي الذي نأخذ به، وهو أن الأصل الأول هو الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، فهذه لم تنفعل لشيء سبقها فيما عدا البارئ جل ثناؤه.

(٢) تقسيمات رباعية

من هذه الأصول الأربعة الأولى: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة نشأَت أربعةُ عناصر؛ وذلك باجتماع تلك الأصول بعضها ببعض اثنين اثنين؛ فقد اجتمع الحار واليابس فنشأَت النار، واجتمع الحار والرطب فنشأ الهواء، واجتمع البارد واليابس فنشأَت الأرض، واجتمع البارد والرطب فنشأ الماء؛ على أن هذه العناصر الأربعة إنما يتفاوت ترتيبُها علوًّا وسفلًا على الوجه الآتي: فالنار أعلاها، ويتلوها الهواء، ثم الماء، وأخيرًا الأرض.

وفصول السنة أربعة تقابل تلك العناصر الأربعة؛ فالصيف يقابل النار، والربيع يقابل الهواء، والشتاء يقابل الماء، والخريف يقابل الأرض.

وفي بدن الإنسان أخلاطٌ أربعة تقابل العناصر الأربعة؛ فالصفراء تقابل النار وزمانها القيظ، والدم يقابل الهواء وزمانه الربيع، والبلغم يقابل الماء وزمانه الشتاء، والسوداء يقابلها الأرض وزمانها الخريف. وسيكون لتحديد الأزمان الملائمة لكلٍّ من هذه الأخلاط الأربعة شأنٌ في العلاج الطبي للأمراض التي تطرأ على هذا الجزء أو ذاك، كما سنرى عندما تتعرض لأهمية التحديد الزمني عند جابر، والتحديد الزمني للظاهرة إنما يتقرر بأوضاع النجوم في أفلاكها.

وللإنسان كذلك أعضاء رئيسية أربعة، هي: الدماغ والقلب والكبد والأنثيان (؟)، يقابل كلُّ عضو منها جانبًا خاصًّا من التقسيمات الرباعية السالفة الذكر؛ فالقلب في الأعضاء يقابل الصفراء في الأخلاط، ويقابل القَيظ في الفصول، ويقابل النار في العناصر، والنار بدورها مؤلَّفة من الحرارة واليبوسة وهما من البسائط الأولية، والدماغ في الأعضاء يقابل البلغم في الأخلاط، ويقابل الشتاء في الفصول، ويقابل الماء في العناصر، والماء بدَوره مؤلَّفٌ من البرودة والرطوبة وهما من البسائط الأولية، والكبد في الأعضاء يقابل الدم في الأخلاط، ويقابل الربيع في الفصول، ويقابل الهواء في العناصر، والهواء بدوره مؤلَّفٌ من الحرارة والرطوبة، وهما من البسائط الأولية، والأنثيان في الأعضاء يقابل السوداء في الأخلاط، ويقابل الخريف في الفصول، ويقابل الأرض في العناصر، والأرض بدورها مؤلَّفة من البرودة واليبوسة وهما من البسائط الأولية.

«هذه هي بنية العالم والطبيعة والإنسان؛ فكان العالمُ ضرورةً إنسانًا، والإنسانُ جزءًا صغيرًا بالإضافة إلى العالم.»٤ هكذا يقول جابر تعليقًا وتلخيصًا لهذه التقسيمات الرباعية، وهو قول بالغ الأهمية في تحديد فلسفته الكونية؛ إذ يبيِّن نزعتَه المشبِّهة — التي تُشبِّه العالَمَ بالإنسان — وهي نزعة تجعل الكونَ إنسانًا كبيرًا، وتجعل الإنسانَ كونًا صغيرًا؛ فكلٌّ من الجانبين يصوِّر الآخر، كأنما هما خريطتان لشيء واحد اتفقتَا في طريقة التصوير واختلفتَا في مقياس الرسم وحده. يقول كارا دي فو في مقالته عن جابر: «إن المذهب الموجود في مؤلفاته — وفي كتاب الرحمة بصفة خاصة (وهو كتاب لا شك في نسبته إلى جابر) — هو مذهب موغل في إسقاط الصفة البشرية على الطبيعة، أو إن شئت فقُل إنه موغل في بثِّ الحياة في الطبيعة؛ فهو يُعِدُّ المعدنَ كائنًا حيًّا، ينمو في حضن الأرض مدة طويلة — آلاف السنين — متحوِّلًا من الحالة الناقصة (حالة الرصاص) إلى الحالة الكاملة (حالة الذهب). ومهمة الكيميا أن تعجل عملية التحول؛ إنك لترى جابرًا يستخدم عن المعادن ألفاظًا مأخوذة من الحياة البشرية؛ كالتوالد والزواج والتلقيح والتربية، كما يستخدم عنها لفظتَي الحياة والموت؛ فالعناصر الأرضية الغليظة «ميتة» والخفيفة اللطيفة «حية»، وعنده أن كلَّ جسمٍ كيمويٍّ روحٌ وبدن، ومهمة الكيموي أن «يخلِّص» الواحد من الآخر، لكي يبثَّ في الجسم روحًا تُلائمه.»٥
وعلى ذِكْر الغلظة واللطافة في تمييز الأجسام، نعود إلى تقسيماتنا الرباعية، فنقول إن الأخلاط الأربعة في الجسم الإنساني: الدم والصفراء والبلغم والسوداء، تختلف سرعةً وبطئًا ودقة وغلظًا؛ فللدم السرعة والغلظ معًا. ألم نقُل إنه يقابل في العناصر الهواء، والهواء مؤلَّفٌ من بسيطَين أوَّلَين هما الحرارة والرطوبة؟ ثم أليست صفة الحرارة هي السرعة وصفة الرطوبة هي الغلظ؟ إذن فللدم هاتان الصفتان الرئيسيتان: السرعة أخذها من حرارته، والغلظ أخذه من رطوبته؛ وعلى هذا النحو قُل: إن البلغم يتصف بالبطء والغلظ معًا؛ لأن البلغم يقابل الماء، والماء مزيج من برودة ورطوبة، والبرودة بطء والرطوبة غلظ؛ والصفراء سرعة ودقة معًا؛ لأنها تقابل النار، والنار مزيج من حرارة ويبوسة، والحرارة سرعة واليبوسة دقة أجزاء. وأما السوداء فبطءٌ ودقة معًا؛ لأنها تقابل الأرض، والأرض برودة ويبوسة، والبرودة بطء واليبوسة دقة أجزاء؛ ولهذه الخصائص شأنٌ كبير في علم الطب عند ابن حيان.٦
وليست العناصر الأربعة سواء لا بالنسبة إلى وضعها من الكون ولا بالنسبة لمنزلتها من الفاعلية؛ فلقد أسلفنا القول إنها في وضعها درجاتٌ متدرجة: النار في أعلى ويتلوها الهواء فالماء والأرض، ونُضيف هنا أن الحرارة والبرودة فاعلان، وأما اليبوسة والرطوبة فمنفعلان، بمعنى أن الحرارة تصبُّ فعْلَها على اليبوسة فتنتج النار، والبرودة تصبُّ فعْلَها على الرطوبة فينتج الماء؛ وكذلك تصبُّ الحرارة فعْلَها على الرطوبة فينتج الهواء، وتصب البرودة فعْلَها على اليبوسة فتنتج الأرض٧ ونوضح هذا بالجدول الآتي:
  • الحرارة فاعلة واليبوسة منفعلة = النار.

  • الحرارة فاعلة والرطوبة منفعلة = الهواء.

  • البرودة فاعلة واليبوسة منفعلة = الأرض.

  • البرودة فاعلة والرطوبة منفعلة = الماء.

فبينَ المركباتِ الأربعة، النار والهواء والأرض والماء تقابلٌ بعضُه ناقص وبعضه تام؛ فبين النار والأرض تقابلٌ ناقص؛ لأنهما مشتركتان في اليبوسة ومختلفتان في أن النار حارة والأرض باردة؛ وكذلك بين الماء والهواء تقابلٌ ناقص؛ لأنهما مشتركتان في الرطوبة ومختلفتان في أن الماء بارد والهواء حار؛ أما الأرض والهواء فبينهما تقابلٌ تامٌّ؛ لأنهما مختلفان في كل شيء، فالأرض باردة والهواء حار، والأرض يابسة والهواء رطب، وكذلك بين النار والماء تقابلٌ تامٌّ؛ فالنار حارة والماء بارد، والنار يابسة والماء رطب. ونوضح هذا بالرسم الآتي:

ولما كان الهواء والماء والنار والأرض مركبات، كلُّ مركَّب منها مؤلَّفٌ من عنصرَين أوليَّين، كان في مستطاع المجرِّب أن يُقيمَ التجارب ليردَّ كلَّ مركَّب منها إلى عنصرَيه البسيطَين؛ فالماء — مثلًا — برودةٌ ورطوبة معًا؛ فإذا أردنا أن نطرح منه رطوبتَه لنستبقيَ برودته وحدها، أمكن ذلك بتجربة نُجريها على الوجه التالي: «وجه التدبير أن تُلقيَ الماءَ في القرعة وتترك في القرعة شيئًا فيه يبسٌ شديد قوي؛ كالكبريت وما جانسه، فإن الرطوبة نشفتها اليبوسة والحرارة، ويحرق ما فيه من الرطوبة، فتبقى لبرودة مفردة.»٨ وهكذا نستطيع أيضًا أن نتصرف إزاء الحار اليابس، فننبذ حرارته ونستبقي يبوسته، أو ننبذ يبوسته ونستبقي حرارته، حسب حاجتنا فيما نُجريه من تجارب علمية.
وعلى الطبائع الأولية الأربع يتوقَّف كثيرٌ من الصفات، بحيث يكفينا العلم ببعض جوانب شيء ما لنستدلَّ جوانبه الأخرى، ما دامت صفاتُه وليدةَ طبيعتِه الأولى؛ فلو عرفنا هذه استنتجنا تلك، ولو عرفنا تلك استنتجنا هذه. مثال ذلك أن تلحق صفة الخفة بالحار واليابس، وصفة الثقل بالبارد والرطب؛ والحرارة يلحقها العلوُّ كالنار تتجه دائمًا إلى أعلى، والبرودة يلحقها الهبوط إلى أسفل؛ كالحجر يتجه دائمًا إلى أسفل، والرطوبة يلحقها الحركة الأفقية فلا هي إلى أعلى ولا هي إلى أسفل؛ كالماء ينساح عَرْضًا، فلو تُرك إلى طبيعته لما علا ولا هبط، بل ركد في سطحٍ مستوٍ، واليابس شأنه أن يتغلغل في دواخل الأشياء؛ كالهواء يتسلل خلال دقائق الشيء فنستطيع — إذن — أن نقول إن الطول من توابع الحرارة، والقِصَر من توابع البرودة، والعرض من توابع الرطوبة، والعمق من توابع اليبوسة.٩

(٣) الفلك وجرم الفلك

أما الفلك فهو الإطار الخارجي للكون، وأما جِرْمُه فهو ما يملأ ذلك الإطار، والإطار الخارجي — عند جابر — هو الأوليات الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وعلى أساسها تتركَّب الأشياء بشتى صنوفها؛ لكن هذه الأوليات الأربعة نفسها — كما قدمنا — ليست بمنزلة واحدة في إطار الكون؛ بل فيها اثنان فاعلان، هما: الحرارة والبرودة، واثنان منفعلان، هما: اليبوسة والرطوبة؛ فصوِّر لنفسك كرةً تدور على محور، يكنْ سطح الكرة بمثابة الحرارة، ويكنِ المحور بمثابة البرودة؛ فإذا ما دارت الكرة نتج عن دورانها يبوسة ورطوبة؛ وبهذا تتكامل الأوليات الأربعة،١٠ أعني يتكامل «الفلك» أو إن شئت فقُل يتكامل الإطار.

وبعدئذٍ يجيء ما يملأ ذلك الإطار، وأول ذلك هو الأركان الأربعة التي أسلفنا لك القول فيها، وهي: النار والهواء والماء والأرض، ولا يفوت جابرًا هنا أن ينبِّهَ إلى أن «الفَلَك» — أي الإطار الأوَّلي — ليس بذي مادة في ذاته، فهو كالمفاهيم الهندسية: الدائرة والخط والنقطة، كلُّها تصورات عقلية؛ فالدائرة هي ما يُحيط بغضِّ النظر عن الجرم الذي تحيط به، والخط طول بلا عرض ولا جسم بغضِّ النظر عن طبيعة الشيء الذي يمتدُّ خطًّا، والنقطة شيء يتصوره العقل لا الحواس؛ لأنها هي ما ليس له أبعاد، وليس فيما تحسُّه الحواس شيءٌ بغير أبعاد، فكما نقول عن الدائرة أنها تُحيط بلا جسم، فكذلك نقول عن الفلك — الذي هو الأوليات الأربعة — إنه هو الذي يحيط بالكون دون أن نذكر ماذا عسى أن تكون طبيعة هذا الكون المحوط.

على أنه لا مندوحة لنا من افتراض وجود «جوهر» ما، ليكون هو نواة التكوين؛ فكأنما هذا الجوهر هو بمثابة طبيعة خامسة تُضاف إلى الطبائع الأولية الأربع؛ «فالجوهر هو القابل لكل شيء، وهو الذي في كل شيء، ومنه كلُّ شيء، وإليه يعود كلُّ شيء كما خلقه بارئه تعالى ربنا ومولانا، جعله في كلٍّ، وكلٌّ إليه راجع.»١١

وما نكاد نبدأ في تصوُّر هذا الجوهر كيف يتشكَّل ويتعيَّن في صور معلومة، حتى نرانا ملزَمين بالضرورة العقلية أن نفرض قيام ضروب من التشكُّل والتعيُّن، هي التي نسميها بالمقولات، والتي قسَّمها أرسطو إلى عشرة؛ فهل بوسعك أن تتصور شيئًا يتخذ شكلًا معينًا دون أن تفرض أنه لا بد أن يكون ذا كمٍّ معلوم، وذا كيف معلوم، وذا زمان يحدث فيه، وذا مكان يتخذ حيِّزه في أبعاده، وذا علاقات متصلة بسواه، وذا لواحق تتبعه، وذا وضع يتخذه، وذا فعل يصبُّه على غيره، وذا انفعال يتلقَّى به فعل غيره عليه؟ هذه إذن هي المقولات العشر التي تفرض نفسها على العقل فرضًا، إذا أراد هذا العقل أن يتصور أن شيئًا ما سيطرأ عليه تشكُّل وتعيُّن.

ويحدد جابر المراد بهذه المقولات؛ فأما الجوهر فهو — كما أسلفنا — الشيء القابل للتشكُّل على أي صورة، فيه كلُّ شيء ومنه كلُّ شيء يتركَّب، وإليه ينحلُّ كلُّ شيء؛ فلئن اختلف الحيوان والنبات والجماد في خصائص تميزها، فهي كلها مشتركة في جوهر واحد يُدرَك بالعقل لا بالحس، «فليس يمكن أحدًا لمسُه، ولا إذا مسَّه وجد له لمسًا، ولا يقدر أن يأخذ منه شيئًا بيده.»١٢
هذا الجوهر من شأنه أن يحمل الصفات الأولية: يحمل الحرارة أو البرودة أو اليبوسة أو الرطوبة؛ ولئن كانت هذه الصفات الأولية تجريدات وليست أجسامًا ألا أنها ذوات وزن، وأما الجوهر فهو جِرْم وذو وزن؛ نعم أن هنالك من الفلاسفة مَن يدرجون الجوهر مع الأوليات ويجعلونها بلا وزن، لكن «هذا كلام مَن لم يستغرق في العلم حقَّ استغراقه، وإنما نظر فيه صفحًا».١٣ «فإنه قد وجب الآن على التحقيق أن للحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أوزانًا وأن للجوهر وزنًا، لا بد من ذلك، وإلا فوجب أنَّا إذا جمعنا ما لا يُرَى ولا يوجد — مثلًا في الحرارة واليبوسة — إلى ما لا يُرى ولا يوجد، ولا وزن لأحد منهم، لم يكن منه شيء؛ وكذلك إذا جمعنا لا شيء إلى لا شيء كان من الجمع لا شيء؛ وكذلك لو جمعنا ما لا يوجد ولا يرى ولا وزن له — وهو مثل البرودة واليبوسة — إلى ما لا يوجد ولا يرى ولا له وزن، كان منه شيء لا يرى ولا يوجد ولا له وزن، وبطل سائر تلك المحمولة عليه؛ لأن قولنا: لا يوجد ولا يرى ولا وزن له، إنما هو حدُّ اللاشيء.»١٤

ويمضي ابن حيان في حديثه هذا فيقول: إننا إذ نقول عن الطبائع الأولية إنها لا توجد وعن الجوهر إنه لا يوجد، فما ذاك إلا لأن كلًّا منها لا يوجد منفردًا، ولا يُرى منفردًا؛ وإذا حسبنا أنه لا وزن له، فذلك للطافته ودقته؛ وأما أن نسمع فلاسفة يُعْدِمون هذه الأشياء وزنَها ووجودَها ورؤيتها فذلك قولٌ منهم بلَغ من الخطأ أقصاه.

وأما الكمية فهي الحاصرة المشتملة على كل ما نقوله عن المقدار العددي لشيء ما، وعن الأعداد بصفة مطلقة، كأن تقول: إن عددًا مساوٍ لعدد، أو إن عددًا مخالفٌ لعدد، مع تطبيق هذا التساوي والاختلاف العدديَّين على الأوزان والمكاييل وما إلى ذلك.

وأما الكيفية فهي التي تتناول الشيء من حيث كونُه طويلًا أو قصيرًا، منحرفًا أو قائمًا، حارًّا أو باردًا، وسائر ما فيه من صفات؛ فلئن كان الكمُّ منوطًا بمقداره، فالكيف منوطٌ بأوصافه؛ فإذا سألنا عن الأول سألنا بكلمة: كم؟ وإذا سألنا عن الثاني سألنا بكلمة: كيف؟ فإذا سألت عن إنسان: كم هو؟ كان الجواب: هو واحد، أو سألت كم يكون وزنه؟ قيل لك إنه كذا وكذا رطلًا؛ أما إذا سألت عنه بقولك: كيف هو؟ كان الجواب: هو يقوم ويقعد ويتكلم ويضحك، وهو أسمر أو أبيض أو أسود أو أحد الألوان، وله شعر وله جلد وله عروق … فما كان من صفة دخل تحت الكيفية، وما كان من مقدار دخل تحت الكمية.١٥
«وأما الزمان فهو الذي يُقطَع به من حال إلى حال؛ مثل أن تكون قاعدًا فأنت في زمانك قاعد ثم تقوم، فذلك الذي منه ابتداء قيامك من جلوسك هو الزمان، وهو واحد ما دمت قائمًا، وإذا جلست فهو أيضًا زمان وأنت فيه؛ والزمان واحد.»١٦ فليس اختلاف أزمنة الحوادث في الأشياء المختلفة بمقتضى التعدد في الزمان من حيث طبيعته؛ إذ هو زمان واحد وفيه يحدث التغير من حال إلى أخرى؛ وللزمان كم وكيف، فكميته هي التي يجاب بها عن مثل سؤالنا: كم مقدار ما كان زيد قاعدًا؟ وأما في الكيف فهو أن تقول: كان الزمان حارًّا أو باردًا؛ ولذلك وجب أن نقدِّم الكمَّ والكيف على الزمان والمكان.١٧
«وأما المكان فهو الذي ليس يخلو شيء من أن يكون في مكانٍ بتة.»١٨ فلا مندوحة للشيء عن أن يكون في موضع ما حتى يُتاحَ له أن يحمل هذه الصفة أو تلك.

(٤) خمسة فروض لتركيب الكائنات

وقف جابر عند خمس من المقولات، هي: الجوهر والكم والكيف والزمان والمكان، وقف عندها وقفاتٍ قصارًا ليشرح مفاهيمها؛ لأنه يراها شروطًا لا مندوحة عن توافرها لكي يتكون في العالم شيءٌ ما، ثم استطرد بعد ذلك ليقول إن هذه المقولات لا تنطبق على درجة سواء في كل حالة من الحالات، بل يمكن تصوُّرها على خمس صور من التركيب:١٩
  • (١)

    أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته، وأن يكون جوهرُه قد حمل ما حمله من الصفات في دفعة واحدة؛ فلا زيادة قد طرأت عليه بعد ذلك ولا نقصان، وأن يكون زمانُ حدوثه معادلًا لمكانه … فإذا توافرت في شيء هذه الشروط، فما أقلَّ ما يكون انحلاله وفساده، فهو لا يَبْلى ولا يُزيله شيء، حتى يُهلكَه بارئه؛ ذلك لأنه إذا توافرت هذه الشروط في شيء ما، كان الشيءُ طبيعيًّا في تكوينه، وليس مصنوعًا؛ وفرقٌ كبير بين الشيء يصنعه الخالق عز وجل، وبينه إذ يجيء من صنعة الإنسان؛ فالشيء على صنعة الله يكون متكافئَ الكم والكيف، متعادلَ الزمان والمكان، حاملًا لصفاته كلها في غير اعتساف ولا تصنُّع. قُل هذا في النبات وفي الأحجار وفي الحيوان على حدٍّ سواء.

  • (٢)

    أن تكون كيفية الشيء مخالفة مباينة لكميته، وأن تكون الصفات التي يحملها جوهرُه قد جاءته على دفعات، فأخذ يزداد صفة بعد صفة على مرِّ الزمن، وأن يكون بين زمانه ومكانه تنافر … وفي مثل هذه الحالة يكون الشيءُ معرَّضًا للفساد والتغيُّر والتحوُّل من لون إلى لون ومن مقدار إلى مقدار؛ ذلك لأن الشيء المركَّب على هذا النحو المتنافر يكون مصيرُه إلى انحلال، سواء كان نباتًا أو حجرًا أو حيوانًا؛ فالتنافر في الكائن الحي — مثلًا — معناه العلة والمرض، وبالتالي قِصَر العمر؛ وقد تدبُّ فيه العلة وهو بعدُ جنين، أو تدبُّ فيه في مرحلة تالية من العمر، حسب نوع التنافر الذي يكون بين عناصر تكوينه.

  • (٣)

    أن تكون كيفية الشيء مناسبة لكميته، وأن تكون الطبائع المحمولة على جوهره قد حُمِلت عليه دفعة واحدة، أي أنه يكون طبيعيًّا في طريقةِ تكوينِه وصفاته، لكن زمان حدوثه يجيء غيرَ متَّسق مع مكان حدوثه … في مثل هذه الحالة يكون عدم الصلاحية كائنًا في الزمان أو في المكان؛ فإن كان في الزمان صار الكائن قلقًا غيرَ مستقر؛ لأنه ليس في زمانه المناسب، وإن كان في المكان وجب أن يغيَّر مكانه إلى مكان أنسب لطبيعته. إنه لا جدوى في أن يكون الشيءُ سليمَ التكوين في ذاته، ثم يُوضع في جوٍّ لا يُلائمه أو يُوضع في زمان لا يناسبه.

  • (٤)

    أن تكون كميةُ الشيء مخالفةً لكيفيته، إلا أن جوهرَه قد حمَل طبائعَه دفعةً واحدة، وجاء زمانه موافقًا لمكانه … في مثل هذه الحالة يكون التكوين من حيث الخصائص والزمان والمكان لا عيبَ فيه، لكن العيب إنما يكون في حجم الشيء أو في مقداره بالنسبة لتلك الكيفيات، فعندئذٍ لا نستطيع أن نحدِّد له حدودًا معينة معلومة؛ كأمساخ الحيوان تزيد في الحجم أو تنقص بنسبة يتعذر ضبطُها.

  • (٥)

    أن تكون كمية الشيء مخالفة لكيفيته، وأن يكون جوهره قد حمل طبائعه على دفعات متتالية على مر الزمن، غير أن زمانَ حدوثِه يجيء موافقًا لمكان حدوثه … في هذه الحالة يكون الشيء مصطنعًا متكلَّفًا مرقَّعًا ملفَّقًا؛ لأن طبائعه ستُزاد له طبعًا بعد طبع على غير ما يلزم بالضرورة عن حقيقة جوهره؛ فلا يُجدي أن يكون متناسبَ المكان والزمان؛ إذ إن تركيبَه باطلٌ وفسادَه محقَّق.

fig3
شكل ١
هذه خمس صور من التركيب (انظر شكل ١)، يذكرها جابر على سبيل المثال لا على سبيل الحصر، ليبيِّن متى يكون تركيب الشيء كاملًا ومتى يكون ناقصًا، وأين تكون أوجه النقص؛ ومن أهم ما نراه هنا جديرًا بالاهتمام تفرقتُه بين المطبوع والمصنوع، ولو لم تكن هذه التفرقة قد وردت في ذكرٍ صريح، لكنها تُستنتَج استنتاجًا قريبًا من أقواله السابقة.
فلعلك قد لاحظتَ أنه يفترض أحيانًا أن الجوهر قد حمل طبائعه دفعة واحدة، ويفترض أحيانًا أخرى أن الجوهر قد حمل طبائعه على دفعات؛ فالحالة الأولى هي حالة الشيء إذ يكون من صنعة الله، والحالة الثانية هي حالته إذ يكون من صنعة الإنسان؛ والمهم هنا هو أن نعرف إن كان في مُكْنةِ الإنسان أن يُحاكيَ فطرة الله في صُنْعه. يقول جابر: «إن الجوهر إما أن تُحمل عليه الطبائع دفعةً واحدة، وقد بيَّنَّا أنه مثل خلق البارئ جل وعز ما لم يكن، والثاني فِعلُنا نحن في الجوهر وحمْل الطبائع عليه في دفعات؛ فكأنَّ الأول يكون متخلصًا، وإنما يحصل لنا وزنه ولا يحصل لنا تخليصه على تحقيق، والثاني أن يحصل لنا وزنه ويمكننا تخليصه على تحقيق، فافهم ذلك لتكون لك به دربة أوَّلًا، وشارك المصنوع بغيره …»٢٠ ونحن نفهم من هذه الفقرة أن الرأيَ عند جابر هو أننا إزاء الشيء الطبيعي الفطري، كقطعة من الذهب الطبيعي — مثلًا — أو فرد من أفراد الحيوان أو النبات، نستطيع دراسة عناصره وطريقة تكوينه، لكننا لا نستطيعُ حلَّه وتفكيكَه وردَّه إلى أصوله الأولى التي منها قد تركَّب، وأما إزاء الشيء المصنوع ففي مستطاعنا أن نحلَّه كما ركَّبناه، وأن نعود إلى تركيبه كما حلَّلناه. وأهم ما في الفقرة السالفة هو قوله: «وشارك المصنوع بغيره». ومعناها كما نفهمه هو أن في مستطاع الإنسان — بعد درس وتدريب — أن يحاكيَ بالصناعة كلَّ ما قد حوَته الطبيعة من صنعة الله؛ لكن جابرًا يستدرك مسرِعًا فيقرر وجودَ التفاوت بين الصنعتَين؛ فقد أمدَّ الله الإنسان بالقدرة على أن يفعل بالطبائع ما شاء، وأن يستخدم الجوهر والزمان والمكان والكمية والكيفية على أيِّ نحوٍ أحبَّ، ولكنه بعد أن أمدَّ الإنسان بهذه القدرة، أعجزه عن أن يعمل كعمله هو، فالله قادرٌ على أن يُحييَ الموتى وليس الإنسان على ذلك بقادر.٢١

(٥) الحيوان والنبات والحجر

هذه هي الموجودات الثلاثة المتركبة من الأربعة المركبة «وهذه الأربعة المركبة مقصود بها النار والهواء والماء والأرض، وهي مركبة من البسائط الأولية الأربعة: الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة».

أما الحيوان فهو أربعة أقسام: ماشٍ، وزاحف، وطائر، وسابح؛ وكلٌّ من هذه الأقسام مؤلَّفٌ من: نفس، وجوهر، وحرارة، وبرودة، ويبوسة، ورطوبة، محصورة كلها في مكان وفي زمان، اللهم إلا الإنسان وحده من صنوف الحيوان فيزيد عنصرًا وهو العقل،٢٢ كما يتضح من القائمتَين الآتيتَين:
(أ) الحيوان (ب) الإنسان
المكان
الزمان
المكان
العقل
الزمان
النفس النفس
الجوهر الجوهر
الحرارة الحرارة
البرودة البرودة
اليبوسة اليبوسة
الرطوبة الرطوبة
وأما النبات «فالقول فيه كالقول في الحيوان»٢٣ وهو حلقة وسطى بين الحيوان في طرف والحجر في طرف آخر؛ أما أنه كالحيوان فذلك من حيث إن له نفسًا وجوهرًا وحرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة، وكلها محصورة في مكان وفي زمان، فلا ينقصه إلا العقل الذي خصَّصنا به القسم الشريف من الحيوان، وأعني به الإنسان؛ «فكلُّ موجودٍ ذو نفس، وليس ذا عقل.»
هذا ما يقوله جابر عن النبات في كتاب التصريف، لكنَّا نراه في كتاب آخر (هو كتاب التجميع) يقول قولًا آخر؛ إذ يقول ما معناه: «إن النبات فيه ما في الحيوان من جوانب إلا شيئَين، فإن النبات غيرُ محتاج إليهما، وهما النفس والعقل.»٢٤ وهو في كتاب التجميع يعقد موازنة بين الحيوان والنبات من حيث تفصيل الأعضاء في كلٍّ منهما؛ ففي النبات الورق والثمر واللحاء، كما أن في الحيوان العظام والعروق واللحم وغير ذلك، ولعله أراد بالموازنة أن يبيِّن أن الدماغ في الحيوان لا يقابله شيء في النبات مما يستلزم أن نخصَّ الحيوان بالنفس وحدها، أو بالنفس والعقل معًا، ولا نجعل هذه الصفة للنبات.
وكذلك يوازن بين النبات والحيوان من حيث الطبائع،٢٥ وها هنا يجد تشابهًا بينهما في أن كلًّا منهما ينقسم ثلاثة أقسام في مراحله التطورية، وهي: الأول، والبليد، والذكي. وهو تقسيمٌ قريبُ الشبه جدًّا بما نجده عند كثيرين من الفلاسفة الذين يُقسمون الكائنات الحية الشاعرة على أساس درجة الإدراك مثل الذي نراه عند ليبنتز واسبينوزا، فهنالك نجد المرحلة الأولى هي مرحلة اللاشعور، وهي المرحلة التي تتمثل في النبات مثلًا، ثم مرحلة الشعور، وهي التي تتمثل في الحيوان، ثم مرحلة الشعور بالذات، وهي التي تتمثل في الإنسان الذي يشعر ويكون على وعي بأنه شاعر. ونعود إلى جابر في تقسيمه للحيوان والنبات إلى: أول، وبليد، وذكي؛ وها هنا نجد لمحة منهجية رائعة، حين يقول ما معناه: إنني لم أقسم النبات إلى هذه الأقسام الثلاثة لمجرد علمي بأن الحيوان ينقسم إليها، بل إنني قسمته إلى هذه الأقسام لأنني وجدته كذلك. ومعنى هذا أن جابرًا لا يُقيم أحكامه العلمية على تأمُّل، بل يُقيمها على تجربة، وأيًّا ما كان الأمر، فالتقابل هنا تامٌّ بين الحيوان والنبات؛ الأول في الحيوان كالأول في النبات، والبليد هنا كالبليد هناك، وكذلك الذكيُّ، وبليد النبات عنده هو الذي يبقى برهةً من الزمان يسيرة ثم يذهب، كما قد نجد في الحيوان مثل ذلك؛ ولم يضرب لنا جابر من النبات أمثلة تُحدِّد ماذا يعني بالجانب الذكي منها.
وأما الحجر — أي الجماد — فهو ينقسم ثمانية أنواع، وكل واحد من تلك الأنواع الثمانية ينقسم ثلاثة أقسام،٢٦ وذلك على الوجه الآتي:
  • (أ)

    متحجر، منسحق، غير ذائب.

  • (ب)

    متحجر، غير منسحق، غير ذائب.

  • (جـ)

    متحجر، غير منسحق، ذائب.

  • (د)

    متحجر، منسحق، ذائب.

  • (هـ)

    غير متحجر، غير منسحق، غير ذائب.

  • (و)

    غير متحجر، غير منسحق، ذائب.

  • (ز)

    غير متحجر، منسحق، غير ذائب.

  • (ﺣ)

    غير متحجر، منسحق، ذائب.

ويعتقد جابر أن المركبات الثلاثة: الحيوان والنبات والحجر، تتفاوت صعوبةُ تكوينِها على هذا الترتيب نفسه؛ فالحيوان أسهلها والنبات وسطٌ بين السهولة والصعوبة والحجر أصعبها جميعًا.

(٦) بنية الكون٢٧

fig5
شكل ٢

إنه ينبغي أن نتصور دائرةً لا نهاية لآخرها، ذات صلة مباشرة بأول طبقة من طبقات الأشياء الداخلة فيها؛ فهذه الدائرة هي ما يسميه الفلاسفة بالعلة الأولى، وهي علة فاعلة تتصف بأنها قادرة على العقل، وأنها عاقلة، وأنها لا تعقل إلا الصواب والخير والعدل، وما فيه للنفس فرح وراحة وأمثال ذلك، إلى ما لا آخر له مما تُوصف به هذه الدائرة … ولو قلنا هذا المعنى بعبارة أقرب إلى أفهامنا، كانت العلة الأولى لا متناهية، فاعلة، تُدرك الحق، وتفعل الخير، وتخلق الجمال، فهي عاقلة لا بمجرد قابليتها واستعدادها، بل هي عاقلة بالفعل، والعقل عندها مدارُه قِيَمُ الحقِّ والخير والجمال؛ فالحق في أنها لا تُدرك إلا الصواب، والخير في أنها لا ترى ولا تفعل إلا الخير والعدل، والجمال في أنها لا تفعل إلا ما يعود على النفس بالنشوة والفرحة والراحة.

fig6
شكل ٣

ودون هذه الدائرة دائرةٌ أخرى لها الإدراك العقلي لكن ليس لها القدرة على الفعل، فهي تعلم ولا تعمل، هي تتصور الأمورَ كلَّها؛ باطنَها وظاهرها، جليلَها ودقيقها، عامَّها وخاصَّها، لكنها لا تخلق ولا تحرِّك.

وفي جوف هذه الدائرة الثانية دائرةٌ ثالثة، وهي — على خلاف الثانية — تعمل ولا تعلم، فهي فاعلة قادرة، لكنها جاهلة؛ فالدائرة الثالثة تساوي الأولى في فعلها وفي قدرتها، لكنها تختلف عنها في أنها جاهلة والأولى عاقلة، وتختلف الثالثة عن الثانية في الوجهين معًا: العلم والفعل؛ فالثانية ذات علم والثالثة جاهلة، والثانية عاطلة عن الفعل والثالثة فاعلة؛ وهذه الدائرة هي النفس.

وفي داخل دائرة النفس دائرةٌ رابعة، لا تُعلم ولا تُجهل، ولا تفعل ولا تنفعل، وهي عالم الجوهر — عالم الهباء المنثور — الذي منه بِنية هذا العالم، وهو الذي يسمِّيه قومٌ بالهيولى (انظر شكل ٢، ٣).

وبعد تصوُّرِنا لهذه الدوائر التي يحتوي بعضُها على بعض: الدائرة الأولى وفي جوفها دائرة العقل، وفي جوف هذه دائرة النفس، وفي جوف هذه دائرة الجوهر، لنتصور أيضًا أن الزمان والمكان قائمانِ في جوانب هذه الدائرة الأخيرة، وفي جوفها — أعني في جوف دائرة الجوهر — فلنتصور دائرةً أخرى، هي دائرة العناصر البسائط، وهي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة. أما كيف تُرتَّب هذه العناصر داخل دائرة الجوهر فأمرٌ مختلف عليه؛ فطائفة تقول إن دائرة الجوهر تنقسم بخطَّين متقاطعَين إلى أربعة أرباع فيكون كلُّ ربع منها مقامًا لواحد من العناصر الأربعة، كما يتضح من الرسم الآتي:

fig7
شكل ٤

وطائفة ثانية تذهب إلى أن دائرة الجوهر تضمُّ في جوفها أربعَ دوائر منفصلٌ بعضُها عن بعض، وكلُّ دائرة منها تمثِّل واحدًا من العناصر الأربعة كما يتضح من الرسم الآتي:

fig8
شكل ٥

وطائفة ثالثة تقول إن داخل دائرة الجوهر دوائر، الأوسع منها تضمُّ في جوفها الأضيق، وهكذا، بحيث تكون أوسعها دائرة الحرارة — وهي أحد العنصرَين الفاعلَين: الحرارة والبرودة — وتليها دائرةُ العنصر الذي هو منفعل الحرارة، وأعني به اليبوسة، ثم تليها دائرة ثالثة هي دائرة العنصر الفاعل الثاني، وهو البرودة، وأخيرًا تجيء دائرة رابعة للعنصر المنفعل للبرودة، وهو الرطوبة؛ وبهذا تكون الصورة على النحو الآتي:

fig9
شكل ٦

وفي داخل دائرة الرطوبة دائرةٌ أخيرة قيل عنها إنها خلاء، وقيل إنها ليست خلاء، ويفضِّل جابر أن يختار لها الفرض الأول.

وأما النفس التي هي الدائرة الثالثة بعد دائرة المبدأ الأول ودائرة العقل، فإنها قد تشبَّثَت بالدائرة التي دونها، وهي دائرة الجوهر تشبُّثًا جعلهما شيئًا واحدًا مرئيًّا، وهو أول ما انفعل من أشياء، ويعدُّ بدءًا للعالم المحسوس.

هكذا تكون بنية الكون كما يتصورها جابر بن حيان: دوائر يحوي بعضُها بعضًا؛ فدائرة العلة الأولى تتلوها من الداخل دائرة العقل، وهذه تتلوها من الداخل دائرة النفس، وهذه تتلوها من الداخل دائرة الجوهر، وهذه تتلوها من الداخل دوائر للعناصر الأربعة، وأخيرًا تجيء دائرة خلاء، ولقد اتخذ الكون شكلَ الدائرة؛ لأن الدائرة أكمل الأشكال الهندسية، وما جاء على صورتها يكون قليلَ الآفات وغير هالك إلا أن يشاء الله صانعه أن يُهلكَه، وهو الذي فوق العلة الأولى وتحت مركز الدائرة الصغرى من هذا العالم؛ ولذلك كان هو الأول والآخر.

ولا أحسبني بحاجة إلى ذكْر الشَّبَه التام بين هذا التصور للعالَم وبين الصورة التي تصورها أفلوطين — مؤسس الأفلاطونية الحديثة في الإسكندرية إبَّان القرن الثالث الميلادي — فمن الله الواحد انبثق العقل، ومن العقل انبثقَت نفس العالم، وهي ليست مجسدة ولا قابلة للانقسام، ولهذه النفس مَيْلان؛ فتميل علوًّا إلى الواحد الأسمى، وتميل سفلًا إلى عالم الطبيعة، ومن امتزاجها بالجوهر وما ينحصر فيه من عناصر أربعة تكوَّنت الكائنات الحسية.

١  إخراج ما في القوة إلى الفعل، مختارات كراوس ص١٥-١٦.
٢  الجزء الرابع من كتاب الأحجار على رأي بليناس، مختارات كراوس ص٢٠٠.
٣  نفس المرجع، ص٢٠٠–٢٠٥.
٤  كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، مختارات كراوس، ص٤٩–٥١.
٥  دائرة المعارف الإسلامية، مادة جابر بن حيان.
٦  كتاب إخراج ما في القوة إلى الفعل، مختارات كراوس، ص٥١-٥٢.
٧  كتاب السبعين، مختارات كراوس، ص٤٦٢-٤٦٣.
٨  كتاب السبعين، المقالة الثانية والأربعون.
٩  كتاب الميزان الصغير، مختارات كراوس، ص٤٥٢ وما بعدها.
١٠  نفس المرجع، ص٤٢٦.
١١  نفس المرجع السابق، ص٤٢٨.
١٢  نفس المرجع السابق، ص٤٢٩ — في هذا القول تناقضٌ مع ما سيرد عن الجوهر بعد قليل، فيما نرى.
١٣  المرجع السابق، ص٤٣١ — الحق أني أجد تناقضًا واضحًا في أن تكون الطبائع الأولية غير ذوات جرم، ومع ذلك تكون ذا أوزان.
١٤  المرجع السابق، ص٤٣٢.
١٥  نفس المرجع، ص٤٣٥.
١٦  نفس المرجع، ونفس الصفحة.
١٧  نفس المرجع، ص٤٣٦.
١٨  المرجع السابق، ص٤٣٦ — لست أرى هذا التعريف للمكان يفيد عن حقيقة المكان شيئًا.
١٩  المرجع السابق، ص٤٣٨–٤٤٣.
٢٠  المرجع السابق، ص٤٤٤.
٢١  المرجع السابق، ص٤٤٥.
٢٢  كتاب التصريف، مختارات كراوس، ص٣٩٨-٣٩٩.
٢٣  كتاب التصريف، مختارات كراوس، ص٤٠٠-٤٠١.
٢٤  كتاب التجميع، مختارات كراوس، ص٣٨٠.
٢٥  نفس المرجع، ص٣٨١.
٢٦  كتاب التصريف، مختارات كراوس، ص٤٠٢.
٢٧  كتاب التصريف، مختارات كراوس، ص٤٠٦–٤١٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤