المحرر!

في هذه السنة الثانية للقتال؛ أي سنة ١٨٦٢، بينما كانت الحرب تتأجج نارها ويتفجر بركانها، وتتوثب في البر والبحر شياطينها، اشتدت الدعوة إلى حل معضلة الرق، وارتفعت الأصوات من كل جانب بوجوب إعلان قرار التحرير، ونشطت الصحف والمجلات تطالب الرئيس أن يخطو هذه الخطوة، وانهالت على الرئيس الكتب يحبذ فيها أصحابها أن يقطع العقدة فذلك أيسر من حلها.

ووقع الرئيس على كلمة عظم تأثيرها في نفسه وتدبر فيها طويلًا، وهي قول أحد الكتاب المؤرخين: «إن هذه الحرب الأهلية هي الأداة التي سخرها الله لاقتلاع جذور العبودية، وإن أعقابنا لن يرضون عن نتيجتها إلا إذا كان مما تحدثه الحرب ازدياد عدد الولايات الحرة، هذا ما يتوقعه الجميع، وهذا هو الأمل الذي تنشده جميع الأحزاب.»

وكتب جريلي في صحيفته نيويورك تريبيون يدعو الرئيس إلى العمل، وكانت عبارته صارمة أخذ فيها على الرئيس تردده، واختتمها في لهجة أقرب إلى الأمر منها إلى الرجاء أن يعلن تحرير العبيد.

وأرجف المرجفون أن نابليون الثالث سوف يتدخل إلى جانب الجنوبيين، فإذا أعلن التحرير اكتسبت قضية الشماليين معنى يقدره أحرار أوروبا، وبهذا يحجم نابليون عن التدخل.

والرئيس يتدبر في هذا كله، ولكن المحافظة على الاتحاد ما زالت عنده أساس هذا الصراع القائم، ولو كانت جيوشه ظافرة لجازله على أن يقدم على هذا العمل، فكيف والفشل يلاحق الشماليين في كل جهة وماكليلان في موضعه لا يريد أن يتحرك؟

لذلك يؤْثر الرئيس التريث والصبر، وكان يقول في نفسه دائمًا منذ أوائل تلك السنة الثانية: «ألا ليت ماكليلان يخطو خطوة نحو النصر …» وكلما اشتدت الدعوة إلى التحرير اشتد تألم الرئيس من هذا القائد، الذي لا يريد أن يعمل شيئًا إلا أن يطلب المزيد من الجند كما بينا.

وعجب الناس أن رأوا الرئيس يرد بنفسه على جريلي، وذلك في صحيفته، ومما جاء في رد الرئيس قوله: «إذا كان في الناس من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يحافظوا على الرق، فإني لست منهم، وإذا كان في الناس من لا يحافظون على الوحدة إلا أن يقضوا على الرق، فإني لست منهم؛ إن غرضي الأسمى هو أن أحفظ بناء الاتحاد وليس هو أن أحفظ العبودية أو أن أقضي عليها … فإذا تسنى لي أن أنقذ الاتحاد دون أن أحرر عبدًا واحدًا فعلت ذلك، وإذا كان في وسعي أن أنقذه بتحرير جميع العبيد فعلت ذلك … وإذا استطعت أن أحافظ عليه بتحرير بعض العبيد وترك البعض فعلت ذلك أيضًا.»

الحق أن الرئيس لم يغفل يومًا عن مسألة العبيد، ولم ينس ذلك النظام المنكر البغيض الذي نشأ على مقته وازدرائه، والذي طالما تمنى أن تنجو البلاد من آثامه، ولكنه كان يحرص ألا تفسد مسألة العبيد عليه قضية الحرب.

ولم يهمل الرئيس مسألة الرق كل الإهمال، وإنما سار فيها بقدر؛ ففي أوائل تلك السنة الثانية للحرب أرسل في السادس من شهر مارس إلى الكونجرس مقترحًا، مؤداه أن يصدر ذلك المجلس قرارًا به تعوض الولايات التي تقضي على الرق فيها تعويضًا ماديًّا عادلًا. وأصدر المجلس هذا القرار ولكن الولايات المحايدة عارضته ورفضته، وهي المقصودة به قبل غيرها. ودعا الرئيس ممثليها وحاول إقناعهم، ولكنهم لم يقتنعوا فمنيت الفكرة بالفشل، ولم يفد الرئيس إلا تعرضه لنقد هذه الولايات ولومها، ثم للوم دعاة التحرير من جهة أخرى؛ لأنهم رأوا في الفكرة ترددًا وتقاعدًا، وهم لا يقنعون بأقل من التحرير الكامل في غير تراجع أو تحفظ.

وفي شهر أبريل أصدر الكونجرس قرارًا بتحرير العبيد في العاصمة وما حولها، ولما وقع لنكولن على هذا القرار قال: «عندما تقدمت باقتراح إلى الكونجرس سنة ١٨٤٩ للقضاء على الرق في هذه العاصمة، ولم أكد أجد من يستمع إلى ذلك الاقتراح، لم أكن أحلم أنه سوف يتحقق بهذه السرعة.»

ودعا الرئيس ممثلي الولايات المحايدة إلى مؤتمر في آخر يوليو، وحاول أن يقنعهم بقبول التعويض، ولكنهم أعرضوا عنه وأصروا على عنادهم.

وظلت الدعوة إلى التحرير تشتد يومًا بعد يوم، وظل الرئيس يتدبر ويقلب الأمر على وجوهه. ولقد كان من أجلِّ مواهبه كما ذكرنا أنه كان يتبين الأمور على حقيقتها، مهما التوت عليه سبلها واختلطت وشائجها، ثم يسدد خطاه على هدى مما يرى دون أن تفوته صغيرة أو كبيرة مما تقع عليه عيناه.

كان يخشى الرئيس أن يُغضب التحريرُ الشامل العاجل الولاياتِ المحايدة فتنضم إلى الاتحاد الجنوبي، وكان يعد ذلك والحرب قائمة كارثة عظيمة. ثم إنه يخشى أن يتهم أنه ما أثار هذه الحرب الضروس إلا من أجل القضاء على الرق مع أن الدستور يقره، وهو لم يخض غمار هذه الحرب إلا للمحافظة على الاتحاد.

وإذا أقدم الرئيس على التحرير خرج بذلك على الدستور وهو الحريص على مبادئه، العامل منذ اشتغاله بالسياسة على المحافظة عليه وتقديسه.

ولكن الرئيس يرى للمسألة وجوهًا أخرى، فالتحرير في ذاته هو العمل الإنساني الجليل الذي طالما تاقت نفسه إليه منذ حداثته، وقد كان الرق أبغض شيء إلى نفسه، وهو في الوقت نفسه يرى أن تحرير العبيد سوف يدعوهم إلى التمرد على سادتهم في الجنوب، فتضعف شوكة هؤلاء السادة في الحرب، هذا إلى ما يرجى من رفضهم في العمل في فلاحة الأرض بعد تحريرهم، فيضطر البيض إلى العمل مكانهم، فتتضاءل جيوشهم وتضعف مواردهم، فضلًا عن أن التحرير من شأنه أن يكسب الرئيس وحكومته عطف الأحرار في أوروبا، فلا تناوئه بالتدخل في هذه الحرب. وأما عن الدستور فالتحرير ضرورة تدعو إليها الضرورة الحربية، ولن يجد الرئيس صعوبة كبيرة في حمل ممثلي الأمة على تعديله فيما يتصل بهذا الأمر.

وتفكر الرئيس وأطال التفكر، وكلما مر يوم ازداد ميله إلى التحرير وبعد عن تردده، ولكن شيئًا واحدًا لا يزال يقوي ميله إلى التريث؛ وذلك هو الموقف الحربي وما فيه من خذلان وضعف وجمود من جانب ماكليلان حتى صيف هذا العام الثاني للحرب، عام المحنة والخوف.

ولكن دعوة التحرير تشتد، وكلما بلغت مسامع الرئيس هزت نفسه إلى هذه الخطوة الإنسانية الكبرى، فيكاد ينسى كل اعتبار غيرها، وإنك لتجد ما يهجس في نفسه واضحًا في هذه العبارة التي كتبها بخط يده: «إني بطبيعتي أمقت الرق، وإذا لم يكن الرق خطأ فما في الدنيا من خطأ قط، ولست أذكر لحظة لم أفكر فيها هذا التفكير وأشعر هذا الشعور، ولكني في الوقت نفسه لم أذهب إلى أن الرياسة أكسبتني حقًّا لا يُدفع أن أعمل رسميًّا وفق هذا التفكر وهذا الشعور، لقد كان هذا القسم الذي أقسمته ينطوي على أن أحافظ على دستور الولايات المتحدة، وأن أحميه وأن أدافع عنه، وما كنت لأشغل هذا المنصب بدون قسم، وما اتجهت قط إلى أني أؤدي القسم الذي به أصل إلى السلطة، ثم أقضي على هذا القسم أثناء استعمالي هذه السلطة. وكذلك كنت أفطن إلى أنه في الأحوال المدنية العادية يمنعني هذا القسم من أن يكون لمجرد اعتباري الخلقي تجاه الرق أثر عملي في مسلكي، أكان من الممكن أن أفقد الأمة وأحافظ على الدستور؟ إن القوانين العامة تقضي بأن أحمي حياتي وساقي، ولكن الساق يُضحى بها في العادة لإنقاذ الحياة، ولن يتمشى مع العقل أن يُضحى بالحياة لإنقاذ الساق. وشعرت بأن بعض الإجراءات وإن عدَّت غير دستورية في مواقف أخرى، إلا أنها تجد ما يبررها من حيث إنها لا بد منها للمحافظة على الدستور، وذلك بالمحافظة على الاتحاد ذاته.»

وتبين الرئيس موقفه فأخذ يتحفز ويستجمع قوته ليقدم، ثم عزم وصمم فليس من الإقدام بد، وليس لما عسى أن يلقاه من معارضة أي وزن عنده. ومتى عقد أبراهام النية على أمر ثم تخاذل عنه أو تهاون في العمل على إنفاذه؟

صمم الرئيس أن يضرب الضربة التي طالما تمنى أن يضربها، أجل أراد أبراهام لنكولن اليوم أن يضمن تاريخ البلاد، بل وتاريخ الإنسانية، أجل عمل قام به؛ ألا وهو تحرير العبيد في أمريكا، وإنه لن يحجم اليوم أن يعلن رسميًّا في مجال واسع ما أنكره قبل عام من فريمونت وهنتز، ولن يتردد أن يأخذ بما رفض من قبل مهما يكن من غرابته، وهو كفيل أن يوضح للناس قضيته وأن يحمله على قبول حجته.

وفي الثاني والعشرين من شهر يوليو دعا الرئيس إليه مجلس الوزراء، ولم يكن يعلم أحد منهم الغرض من الاجتماع. ولما اكتمل عقدهم، نظروا فإذا على وجه الرئيس من أمارات الجد ما لا عهد لهم بمثله، حتى في أخطر ما سلف من المواقف. وأخرج الرئيس من جيبه ورقة طلب إليهم أن يستمعوا إلى ما جاء فيها، وراح يتلوها في حزم وثبات: «أنا أبراهام لنكولن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية والقائد الأعلى للقوات البرية والبحرية للاتحاد …» وأنصت الوزراء فإذا به يتلو عليهم قرار التحرير.

وتعجب الوزراء ونظر بعضهم إلى بعض، فهذا الرئيس لم يدعُهم ليشاورهم، ولكن ليعلن إليهم ما عقد عزمه عليه، وقطع سيوارد الصمت بأن رجا من الرئيس أن يرجئ إعلان ذلك إلى حين؛ فإنه إن فعل اليوم والحرب على ما هي عليه والشماليون يلاقون الهزائم، عد ذلك ضربًا من اليأس، وأُخذ على أنه خطوة مهزوم مستضعف.

وتدبر لنكولن في قول سيوارد فرأى وجاهته، ثم وافق على التأجيل على ألا ينكص على عقبيه إذا ظفر الشماليون بأول انتصار لهم؛ لأنه يرى تأييدًا لكلام سيوارد أن التحرير والشماليون في ضعفهم معناه «آخر صرخة في الهروب.»

وطوى الرئيس ورقته ثم وضعها في قِمَطْرِه حتى يظفر الشمال بأول انتصار، وللمرء أن يدرك مبلغ ما كان لما عسى أن يأتي به ماكليلان يومذاك من خطر.

ووقع في نفس الرئيس أسوأ وقعٍ ما حل بالشماليين من الهزائم في شهر أغسطس، على نحو ما بينا حين كان جيش الجنوبيين يزحف إلى وشنطون بقيادة لي.

•••

وتحرك ماكليلان آخر الأمر في سبتمبر، والتحم الجيشان: جيش لي وجيش ماكليلان، في أنتيتام، وحمي القتال وتوالى بين الجيشين الجزر والمد، ولم يقوَ الجنوبيون على مواصلة القتال فانسحبوا من المعركة انسحابًا يشبه الهزيمة، وكان ذلك في اليوم السابع عشر من شهر سبتمبر، وعدت أنتيتام أولى المعارك التي تبشر بالنصر؛ فهي — وإن لم تكن نصرًا كما يكون النصر — قد بثت العزم في نفوس الشماليين، وأوحت إليهم أنهم إن عملوا فسيظفرون بالجنوبيين.

figure
المحرر.

وفي الثاني والعشرين من هذا الشهر دعا الرئيس الوزراء إلى الاجتماع، ولما اكتمل جمعهم كان في يد الرئيس كتاب فلم يشأن أن يلقيه دون أن يقرأ عليهم منه قصة أعجبته، وكان يضحك أثناء قراءته والوزراء يضحكون إلا ستانتون؛ فقد كان يضيق بكثير مما يفعله الرئيس وبما يأتيه من ضروب المزاح، وهو لا يدري أن مثل هذا الرجل في شدة كهذه الشدة أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويخفف عنها بعض ما بها، وإلا فكيف كان يستطيع أن ينهض بذلك الحمل الذي يئود حملُه الجبال؟

ولما فرغ الرئيس من تلاوة القصة غامت أسارير وجهه، وبدت عليه أمارات الجد ودلائل الاهتمام والحزم، وأخرج من جيبه تلك الورقة التي كتب عليها بخط يده قرار التحرير.

أعلن الرئيس أن العبيد في الولايات الأمريكية جميعًا أحرار منذ اليوم الأول من السنة الجديدة سنة ١٨٦٣؛ وذلك لكي يتيح فرصة للولايات المتمسكة بالرق حتى ذلك التاريخ، وأعلن أن الحكومة ستعين كل عبد على بلوغ حريته وأنها ستعوض الولايات الموالية عما تطلقهم من العبيد.

بهذا الإعلان ضُرب الرق الضربة القاضية، وأتيح لذلك الفتى الطويل النحيل، الذي وقف في صدر شبابه ذات مرة في مدينة نيو أورليانز يشهد سوق العبيد، أن يحقق ما اعتزمه يومئذ حين تهدد أن يضرب بشدة إذا أتيح له أن يضرب هذا الرق البغيض. وصح حلم طالما منَّى به أبراهام نفسه، ورأى ذلك النجار الذي خرج من الغابة أن معوله اليوم يهوي على الظلم فيقتلعه من جذوره، فها هو ذا يعلن باسم حكومةٍ هو رئيسها أن لا عبودية بعد اليوم المحدد، وأن الشعب الأمريكي كله شعب حر، وأن أمريكا دولة حرة وأمَّة حرة.

أعلن الرئيس كلمته وأدى رسالته، وشهد ابن الغابة اليوم الذي ينطق فيه باسم الشعب في أمر طالما شغل بال الأحرار في هذا الشعب، ورأى العالم نوعًا جديدًا من الحركات الكبرى تضاف إلى سجله وينتقل بها التاريخ من فصل إلى فصل.

وهزت البلاد من أعماقها فرحة عظيمة، وراح أعداء الرق يعلنون عن ابتهاجهم بالزينات ينصبونها والليالي يقيمونها ويملَئونها بأفراحهم ومظاهر حبورهم.

وانهالت على الرئيس وسائل التهنئة وبرقيات الإعجاب يحملها البريد والبرق من أمريكا ومن خارج أمريكا؛ فلقد تلفتت أوروبا تنظر ما تفعله الدنيا الجديدة للمرة الثانية من أجل الحرية، فهذه الدنيا التي ولدت الديمقراطية في القرن الماضي تئد العبودية في هذا القرن، وتضع اسم رجلها وهدية أحْراجها لنكولن إلى جانب اسم بطلها ومحررها وشنطون، الذي انتزع لها استقلالها بحد السيف من الغاصبين من أعدائها.

والرئيس خافض الجناح لا يعرف إلا الزهو كما لا يعرف الخور، يتلقى تهاني المهنئين وإعجاب المعجبين في سكون وتواضع، وإنه ليحس أنه لا يزال بينه وبين يوم الراحة جهاد وجلاد مظهرهما هذه الحرب التي ما فتئ يزداد سميرها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤