حيرة الأدب المصري!١

قبل أن أخوض في هذا الحديث الذي يَسْتَشْرِف له القلمُ اليوم أُقَرِّر، ولعلِّي أفعل للمرة العاشرة، أنني بالذات — على كُثْر ما قرأْتُ للمتقدمين والمحدثين — لم أَقَعْ للأدب على تعريفٍ جامعٍ مانع، على تعبيرِ أصحاب المنطق، ولا أدري إن كان الفرنج قد عَرَّفوا الأدب على هذا أم لم يُعَرِّفوه؟ فإذا تَحَدَّثْتُ عن الأدب، فإنني إنما أتحدث عن الأدب الذي ألمحه، وهو الذي خرج في لسان العرب.

وكيفما كان الأمر، فإنني بالذات لم أَقَعْ — كَمَا قُلْتُ — على تعريف يجمع حدود الأدب، ويَدْفع عنه ما ليس منه … ولقد أَهَبْتُ مرارًا بأعلام البيان وأئمة المتأدبين أن يُعَرِّفوا لنا الأدب أو يَدُلُّونا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فأمسكوا ولم تَتَدَلَّ أقلامهم بجواب!

وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يَضْبِطْهُ تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في مَظاهره، وفي الغايات التي يَطْلُبها ويَتَطَاوَل إليها، فما من أحد إلا يرى أن أبلغ مظاهر الأدب في نَفْض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يَعْتَلِج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تَتَدَسَّس إلى نفس السامع فَتُثِير منها كلَّ ما يَثُور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبْلَغُ مظاهر الأدب وأَجَلُّ غاياته.

وأَخْرُجُ من هذا إلى أن الطبيعة البشرية وإن كَانَتْ، على وجْه عامٍّ، واحدةً في الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، إلَّا أن لكل أناس على ظهر الأرض أخلاقهم وصفاتهم، وأسلوب تفكيرهم، وتصوُّرهم للأشياء، وتقديرهم لها، ثم أذواقهم، وألوان عواطفهم وما يُثِيرُها من فنون العوامل.

ذلك بأن لكل قوم أَصْلَهم وتاريخهم، ورقعةَ بلادهم، ومَنَاظِرَ أرضهم وسمائهم، وما درجوا عليه من أخلاق مطبوعة، وعادات موروثة، وأحداث مأثورة وغير ذلك مما يَطْبَعُ كل أمة على غِرار خاص، ويُجَلِّيها في شخصية تُغَايِر ما عداها من شخصيات الأمم الأخرى، وما من فكرة تَتَحَرَّك في العقل، أو عاطفة تَعْتَلِج في النفس، أو خَيَال يُحَلِّق في الذهن، إلا وهو مُسْتَمَدٌّ من حقيقة واقعة أَدْرَكَهَا الإنسان بإحدى حَوَاسَّه الخمس، أَمَّا أن يَخْتَلِق الذهن ما لا يتكئ على حقيقة واقعة، فذلك ضَرْب من المستحيل، وإذا بَهَرَكَ أن الخيال قد يخلق من الصُّوَر ما لم تَقَعْ عليه عين أو تتصل به أذن، فاعلم أنه مُلَفِّق لا أَكْثَرَ ولا أَقَلَّ: مُلَفِّق كُلَّ ما يجلو من الصُّوَر من أجزاء يرجع كل منها إلى حقيقة يَقَعُ عليها الحس.

وبعد، فإنما نحن في تفكيرنا وتَصَوُّرنا وما يَحُوك في أنفسنا من ألوان العواطف، وما تَتَعَلَّق به أذهانُنا من فنون الأخيلة، إنما نُتَرْجم عن تاريخنا، وعاداتنا، وبيئتنا، ومناظر بلادنا، وغير أولئك من العناصر التي طَبَعَتْنا أُمَّة واحدة، هذا هو الشأن الذي ينبغي أن يكون لكل أُمَّة، وعلى هذا ينبغي أن يكون الأدب في كل أُمَّة.

وإنك — على تَقَارُب اللغات الغربية وتَكَافُئ أصحابها في المدنية، وتَوَافِي بعضها لبعض في أسباب الحضارة — إنك مع هذا لَتَسْمَع بالأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي، والأدب الألماني، والأدب الروسي، وغير ذلك، كما تَسْمَع بالأدب العربي: ذلك بأن العلوم والصناعات وما إليها، أمور يُمْكن أن تَتَقَارَضَها الأمم، أما الأذواق وخَلَجَات النفوس ونزوات العواطف، فمما لا يَقَعُ عليه التقارض والإعارة، وإن جاز لأمة تُقَلِّد أخرى وتَحْذُوَ حَذْوَها في طريقة الأداء وأساليب الاستقراء والتحليل، وليس معنى ذلك تحويل الأذواق أو تلوين العواطف!

•••

نعود بعد كل ذلك إلى أدبنا — نحن المصريين — ونُقْبِل على أنفسنا بهذا السؤال: هل ما نَتَحَرَّك فيه من الأدب اليومَ يؤدي حقًّا مطالبَ الأدب التي سَلَفَ عليها الكلام؟ وبعبارة أخرى: هل الأدب الذي نُعَالِجُه اليوم مُؤَدٍّ حق الأداء لما يَعْتَلِجُ في نفوسنا من العواطف، وما يَجِيش فيها من فنون الإحساس؟ أو بعبارة ثالثة: هل نحن نُتَرْجم اليوم بهذا الأدب عما ينبغي أن يُمْلِيه علينا تاريخنا وطبيعتنا، وأخلاقنا، وعاداتنا، ومناظر بلادنا، وما جاز بنا من أحداث؟ وعلى الجملة: هل نُتَرْجِم حقًّا عَمَّا تقتضينا جميع أسبابنا في الحياة؟

لا شك في أن أول ما يَخْطر على القلب في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، أو هذه الأسئلة، هو استعراض مظاهر الأدب القائم اليوم، وتَقَرِّي صُوَره وألوانه، وتَحَرِّي مطالبه وغاياته، لنعرف أَيْن يَقَعُ من مطالب الأدب التي تَقَدَّم فيها القول!

والواقع أنه مهما تَخْتَلِف لهجات المتعاصرين من الأدباء في أية أُمَّة من الأمم، وتتغاير أساليبُهم في فنون البيان: شعرًا كان أو نثرًا، فإنك — ولا ريب — واجد لمجموعهم طابَعًا خاصًّا يَدُلُّ على عَصْرِهم، ويميزهم عن غيرهم، بحيث يَتَهَيَّأ للناقد الخبير أن يَسْتَدِلَّ من نفس البيان على العصر الذي انْتَضَحَ فيه دون أنْ يُرْفَد بأيَّة إشارة إليه، ولكنك، مع هذا، لا تستطيع أن تجد اليوم هذا الطابع للأدب في مصر، وتستطيع أن تزعم مثل هذا عن الأدب في الشام، ونقصر الكلامَ على الأدب المصري ففيه سُقْنَا الحديث.

عندنا شعراء عظام، وكذلك عندنا كُتَّاب عظام، على أنك حين تبلو آثارَهم، وتُقَلِّب النظر في ألوان بلاغاتهم، لا تُصَدِّق — لولا أنك تعيش فيهم — أنه يَجْمَعُهُم عصر واحد في أُمَّة واحدة! وليس هذا التبلبل مقصورًا على أساليب البيان ونَسْج الكلام والملاءمة بين الألفاظ، بَلْ لِيَتَعَدَّى هذا إلى الأغراض والمطالب، وطريقة نَفْض العواطف الباطنة، وبَزْل النزوات الكامنة.

هذا شاعرٌ فَحْل لا يرى الشعر يجود، بل لا يرى فيه شعرًا ألبتَةَ إلا إذا خرج في كلام جزل، وتحرَّى الإتيان فيه بغريب اللفظ وشامسه،٢ وحَسْبُه من المَطَالب الوقوفُ بالديار، والبكاء على النُّؤْي والأحجار، والتشبيبُ بهند ودعْد، والهُتَاف بِرَضْوى وسَلْع، وطَلَع بك على مضارب القِباب، وما أجَنَّت من عاتكة والرباب، وَوَصَفَ لك النِّياق وما صنع بها الوَجيف في الموامي حتى أَتَت أنقاضًا على أنقاض!

وهذا شاعر لا يرى الشعر إلا أن يكون الكلام جزلًا سهلًا، متين الرصف، متلاحم الأجزاء، مشرق الديباجة، واقعة أَغْرَاضُه ومعانيه بعد ذلك حيث وقعت!

وهذا شاعر يَعْتَصِر ذهنه، ويُكِد عَصَبَه، في تصيُّد معنًى جديد، والوقوع على تشبيه طريف … إلخ.

وهذا كاتبٌ أَجَلُّ هَمِّه تجويدُ العبارة وصقلُها، وتلقُّطُ ما جَالَتْ به أقلامُ السابقين من الألفاظ المُشْرِقة والجُمَل النَّيِّرة لا يسوقها إلى معانٍ قائمة في نفسه، وإنما يسوقها لنفسها، ولو اسْتَكْرَهَ المعانيَ عليها استكراهًا!

وهذا أديب لا يراك حقيقًا بالبقاء في هذا العالم إذا زَلَّ بك القلم فَقُلْتَ: «أثَّرَ عليه» ولم تَقُلْ: «أثَّرَ فيه» أو قُلْتَ: «الشمَّاعة» ولم تَقُل: «المِشْجَب» أو قُلْتَ: «غَيْر مَرَّة» ولم تقل: «أَكْثَر مِنْ مَرَّة» إلخ إلخ — لا يراك كُفؤًا للحياة بَلْهَ حَمْل القلم، ولو لَمْ يَتَعَلَّق بغبارك في العلم والأدب والبيان أحد!

وهؤلاء كُتَّاب وجُلُّهم من ساداتنا أصحاب التجديد، لا يعجبهم كاتب عربي، ولا فِكْر شرقي، ولا شيء مما يتصل بأسبابنا باعتبارنا مصريِّي البيئة، عربيِّي اللغة، ذلك بأنهم قرأوا شكسبير، وبيرون، وماكولي، ودنتي، وفلانًا وفلانًا من تلك الأسماء التي تَسْكُبها أقلامهم في آذاننا كل يوم، ولقد يَطلُعون علينا بألوان من البيان لا نُدْرِكها لأنها لا تَتَّصل منا بسبب، ولقد يريدوننا على اتخاذ نماذج لألوان من البيان لا نَفْهَمُها ولا نَسْتَطِيع فَهْمَها ولا تَذَوُّقها، فضلًا عن أن نصنعها ونجوِّدها، لأن طبيعتَنا غير طبيعة أصحابها، وبيئتَنا غير بيئتهم ولسانَنا غير لسانهم، وكل شيء فينا مغايِرٌ لكل شيء فيهم!

وعلى الجملة، فإنك لو تَصَفَّحْتَ هذا الأدب المصري القائم، لرأيْتَهُ موزَّعًا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصَدْر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويُصَوِّر عواطفه المصرية التي يُلْهَمُهَا ما يَنبغي أن يُلْهَم المصري من عواطف وإحساس؟

الواقع أن الأدب المصري من هذا في أشد الحيرة والاضطراب، على أنه لا ينبغي لنا أن نبتئس بهذا ولا أن يشتد ضيقنا به، فإن من الواقع المحسوس أيضًا أن أساليب أصحاب البيان جَعَلَتْ تَتَقَارَبُ رويدًا رويدًا، كما جَعَلَتْ مَنَازِع تفكيرهم تتصل شيئًا فشيئًا، ولا شك في أن الفضل في هذا يرجع إلى قوة انتشار الثقافة العامة وتعاظُم وسائلها في هذه السنين.

١  نُشِرَتْ بمجلة المعرفة في عدد فبراير سنة ١٩٣٢.
٢  الشامس: النافر المتمنع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤