المدخل

إن المعايشة الحقيقية الحميمة لعالم التفلسف، لا تأتي إلا من خلال معايشة مشكلاته، ذلك أن كل مبحث فلسفي وأية أطروحة للتناول الفلسفي، تسمى مشكلة. إذن فالفلسفة عن بكرة أبيها، ومنذ نشأتها وحتى الآن وإلى أبد الآبدين، لا تعدو أن تكون تفكيرًا — اختلفت زواياه وأبعاده ومنظوراته وخلفياته ومناهجه ومسلماته وحصائله — في مجموعة من المشكلات.

فهل من سبيل للتعرُّف على عالم الفلسفة الخصب الزاخر خير من تناول مشكلة معينة؛ لنرى كيف ولماذا انشغلت بها أعاظم العقول؟ وبما جادت القرائح بشأنها؟

وقد وقع الاختيار على «مشكلة الحُرية»؛ لأنها واحدة من أمهات المشكلات الفلسفية الكبرى، وتصلح في حد ذاتها مدخلًا لتاريخ الفلسفة بجملتها، ولن نجد فيلسوفًا أو حتى مفكرًا لم يُدْلِ بدلوه فيها، إنها مشكلة عتيقة جدًّا، بدأ الانشغال بها في رحاب الفلسفة اليونانية — وهي الفلسفة الأم — وحتى الآن، وفي كل عصر وفي كل وضع وحال، كانت دائمًا تشغل الأذهان، وتستقطب اهتمام الفلاسفة، هي حقًّا مشكلة عتيقة جدًّا، ولكن شأنها شأن المشكلات الفلسفية الحقيقية، يزداد ميراثها مع الأيام — أو بالأحرى مع توالي العصور — نضارةً ورونقًا وبهاءً.

على أن حيوية مشكلة الحُرية لا تأتي فقط من الدور المحوري الذي احتلته في تاريخ وبنية الفكر الفلسفي، بل تتأتَّى أصلًا من كونها واحدةً من مشكلات فلسفية قليلة تحطم جدران الأروقة الأكاديمية التخصُّصية وتتجاوز أطرَ البحوث الاحترافية، لتَنْسابَ في تيار الحياة الدافق المعيش، وليس من الضروري أن يتسلح الإنسان بوعي عميق وفكر ثاقب ليدرك أن الحُرية هي قدس أقداس التجربة الإنسانية، ومَن منَّا — سواء كانت له علاقة بالفلسفة أم لا — لم يلحَّ على ذهنه في لحظةٍ ما التساؤل: هل أنا حر؟

لكن هذا التساؤل يحمل أكثر من مائتي معنى، أجل مائتين! ليس مبالغة ولا تهويلًا، بل عدًّا وحصرًا … إن كان إلى عد وحصر زوايا الوجود الإنساني سبيل، وسوف نرى تفصيلًا مدى شمولية مقولة الحُرية الإنسانية، وليس يصعب بَداءةً إدراكُ تشعبها في كل مناحي الواقع المُعاش والعقل الفعال، وكيف أنها قد تكون في هذا المنحى ولا تكون في ذاك، وقد يؤكِّدها جانب وينفيها آخر، وقد يكون الإنسان حرًّا هنا وليس حرًّا هناك.

فكيف لا نجفل من طرح مثل ذلك السؤال الجبار: هل الإنسان حر؟

وما بالنا لو كانت الأطروحة فلسفية! والفلسفة هي النظرة الشمولية الكلية الضامة لسائر كليات وجزئيات الحضارة الإنسانية ومجمل جوانب الوجود الموجود — وغير الموجود أيضًا في بعض السبحات الميتافيزيقية.

وفي مقابل كل هذه العمومية الفضفاضة، نجد أن الفلسفة هي فن طرح الأسئلة، أكثر كثيرًا من كونها فن الإجابة عنها، إن تحديد المشكلة المطروحة للبحث ليس فاتحة الطريق الفلسفي فحسب، بل أكثر من نصفه، وهي في عُرف البعض غايته وكل المراد من الفيلسوف.

لا بد قبلًا من وضع الحدود، أجل نروم الإجابة عن السؤال الأزلي الأبدي: هل الإنسان حر؟ ولكن سوف ندخل من أي مدخل؟ وننظر من أي منظور؟ … وعلى أية أرضية؟ وبأية خلفية؟

بعبارة أخرى لمن سيوجِّه الفيلسوف هذا السؤال؟ لفقه الدين، أم للفكر الميتافيزيقي، أم للعقل العلمي، أم لرجل السياسة والاقتصاد، أم للقانوني، أم للمُنظر الاجتماعي، أم للمُربي … إلخ.

كل هذه وغيرها زوايا مشروعة، بل مفروضة لتناول مشكلة الحُرية الإنسانية، وهي في مجملها قد تُعالج مجمل الحُرية الإنسانية، ولكنها زوايا متضاربة، كائنة في مستويات عدة للتفكير، ونحن نروم — في الحيز المحدود بهذا الكتاب — رحلة فلسفية واضحة المعالم محددة الخطوات، بمنجاة من التيه والتخبُّط، لا بد من رسم مسارٍ معلوم، نقطة بدء محددة وغاية واضحة.

•••

من أجل هذا، سوف نطرح سؤالنا: هل الإنسان حر؟ على العقل العلمي دون سواه، فكيف؟ ولماذا؟ بل وما معنى هذا؟

قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة، نلاحظ أننا سواء أخذنا في الاعتبار الطبائعَ المميزةَ للفكر المعاصر دون سواه من مراحل الفكر البشري، أو أخذنا في الاعتبار ميراثَ مشكلة الحُرية بصورتها الجذرية — أي الفلسفية الأصيلة، وطبيعتها وماهيتها والمواقع التي استثارتها في تاريخ الفلسفة — سواء أخذنا هذا أو ذاك في الاعتبار، وجدْنا أن العواملَ العديدةَ تُملي علينا الأخذ بالعقل العلمي ليجيب عن هذا السؤال، كمقدمة مشروعة لكل تناول فلسفي لمشكلة الحُرية رام أن يكون معاصرًا حقًّا.

فقد ذكرنا ضمنًا أننا سنبحث في الحُرية من حيث هي مشكلة فلسفية أصيلة، أي مشكلة جذرية، فليس المقصود حرية الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك، أو هذا الوضع أو ذاك … لسنا ننشغل الآن بالحُرية السياسية دونًا عن الاقتصادية، أو حرية الصحافة، أو الحُرية الشخصية، أو حرية التصرُّف في الأموال، أو حرية الفنان … إلخ.

كل هذه وغيرها حريات جزئية عينية بعدية، والمشكلة الفلسفية الحقيقية هي التي تقف على أبعد الأبعاد البعيدة، وأعمق الجذور التأصيلية، فما هو البُعد الجذري التأصيلي لحرية الإنسان، والذي ينبغي أن يكون موضوعًا لمشكلة فلسفية حقًّا؟

الإجابة واضحة، ألا وهي: حرية الإنسان بوصفه موجودًا في هذا الوجود، في هذا الكون، قبل أن يكون موجودًا في هذا المجتمع أو تلك الجماعة؛ لذلك يمكن أن نسميها «الحُرية الأنطولوجية»؛ لأن الأنطولوجيا هي فلسفة الوجود من حيث هو موجود، الوجود ككل.

ولا شك أن الإنسان تاجُ الخليقة وبطل الرواية الكونية، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختصه بالعقل الذي جعله موجودًا متفردًا ومتميزًا عن سائر الموجودات، ولكنه أولًا وقبل كل شيء أحد ظواهر هذا الكون، وكائن من كائناته، فيه يمارس أفعالَه وأنشطتَه واختياراتِه، وطبعًا أفعاله التي نريد أن نعرف هل هي حرة أم لا، هي أحداث من جماع الأحداث الكونية، التي تشكل في مجملِها الصورة العامة لهذا الوجود.

ولكن، أوَليس هذا الكون بكل ما فيه من طبيعة ومن حياة ومن بشر، خاضعًا لنظام معين تحكمه قوانين، فهو لا يجري خبط عشواء، وليس خليطًا من أحداثٍ في فوضى وعماء، بل هو «كوزموس COSMOS» أي كون منتظم؛ فثمَّةَ نظام معين وقوانين تجعله على ما هو عليه: عالمًا منتظمًا قابلًا لأن نمارسَ فيه تجربة الحياة، بل وأيضًا تجربة التعقُّل والفهم، فنحاول أن نعيَه ونفهمَه بأساليب منهجيةٍ كثيرة، على رأسها بالطبع العلم.

والآن، أوليس الحكم بأن الإنسان من حيث هو إنسان، من حيث هو موجود في هذا الوجود؛ الحكم بأنه حر أم لا، يقتضي مسبقًا فهم طبيعة القوانين التي تحكمه، وطبيعة النظام الذي يجعله على ما هو عليه؟ وقد أثبت العلم، بلا جدال، أنه أصدق من يُخبرنا عن طبيعة هذا العالم، وطبيعة الترابط بين أحداثه، التي تبدو مشتتة فتجمعها معًا قوانين ونظريات العلم البحت، وبعد أن أحرز العلم هذا النجاح والتقدُّم الذي فاقَ كلَّ تخيُّلٍ فضلًا عن توقع، وما زال حتى هذه اللحظة وما سيتلوها يفاجئنا بمواصلة نجاحه وتقدمه، وبعد أن احتل العلمُ الصدارة في مسيرة العرفان، أصبح من العبث الأهوج الإعراض عنه في أية محاولة لفهم طبيعة هذا الكون، وطبيعة مسار أحداثه.

والواقع أن الإعراض عن العلم — إن كان له أن يحدث — لا ينبغي أن يحدث من الفلسفة، إن الفلسفة تنفرد عن سائر الأنشطة العقلية بأنها مُلزَمةٌ بالاستفادة من كل الحصائل والمنجزات المعرفية، وبأن لها علاقاتِها التشابكيةَ التفاعليةَ التعضونية بكل جوانب الحضارة الإنسانية: الفن، الدين، الأخلاق، السياسة … إلخ، ولكن علاقتها بالعلم أوثق وأقوى، إنهما معًا محاولة العقل لفهم هذا الوجود، كلاهما يؤثِّر في الآخر ويتأثَّر به، وكلاهما يحمل رسالة للآخر، وكما هو معروف، كانت الفلسفة أمَّ العلوم جميعًا، وعنها استقل الأبناء الواحد بعد الآخر، بادئين بالفلك والفيزياء وصولًا إلى علوم النفس والاجتماع، وبعد أن أكملت العلوم المختلفة استقلالَها ونموَّها ونضجَها، كان أن نشأت «فلسفة العلم» التي جعلت ظاهرة العلم موضوعًا لها، وهي أهم فروع الفلسفة المعاصرة، فضلًا عن الفلسفات العلمية المختلفة التي تُحاولُ الاستفادةَ من منجزات العلم في حل المشكلات الفلسفية التقليدية. لقد تغلغل العلمُ في بنية العصر، فكيف لا يتغلغل في بنية الفلسفة — أقرب الأقربين إليه.

ولعل الالتفات إلى أهمية العلم وما يخبرنا به عن الواقع — خصوصًا بالنسبة لكل فكر رامٍ إلى أن يكون معاصرًا — لم يكن بحاجة إلى كل هذا، ولكن السؤال الآن هو: كيف؟

كيف سنجعل نسق العلم مدخلًا لمعالجة مشكلة الحُرية معالجة فلسفية؟ هل سنبحث عن قانون فيزيائي أو تجربة بيولوجية أو نظرية سيكولوجية … تخبرنا بأن الإنسان حر أو غير حر؟!

كلا طبعًا، ما هكذا تكون المشكلات الفلسفية، ولو كان الأمر يمكن أن يُعالَج بمثل هذه البساطة فلا فلسفة، ولا حاجة إلى متفلسفين.

فكيف إذن؟ وما علاقة نسق العلم الذي هو بناء معرفي خالص بمشكلة فلسفية تتعلَّق بالوجود الخالص — كمشكلة الحُرية الأنطولوجية، أي الحُرية الإنسانية من حيث وضعها في الوجود؟

في الإجابة عن هذا نلاحظ أن العلم وإن كان معرفةً أو إبستمولوجيا خالصةً فإن له دلالةً أنطولوجية، من حيث إن الأنطولوجيا نظرية أو مبحث الوجود. بعبارة أخرى، صحيح أن الوجود كائن وموجود في حين أن العلم أساسًا بناء معرفي، إلا أنه معرفة بهذا الوجود منصبة عليه ولا شغل لها سواه، العلم معرفة ولكن العالم أو الوجود هو موضوع هذه المعرفة، نعم العلم نشاط إبستمولوجي (معرفي) مهمته وصف العالم، ولكن بماذا يصف العلمُ العالمَ؟ هكذا يجعل العلم الإبستمولوجيا تُلقي بنا في قلب الأنطولوجيا.

فليس العلم إلا التمثيل المجرد لهذا الوجود، والواقع أن القيمةَ الأنطولوجية للنظريات وتحقُّقَ فروض العلم في الوجود الموجود لهو مَعْلَم نجاحِ العلم الحديث، والمسألة التفات إلى هذا، إلى قيمة العلم الإخبارية عن هذا الوجود، والاستفادة منها في بناء النظرة الأنطولوجية له؛ لنرى هل حرية الإنسان كائنة فيه أم لا.

والآن تغدو المشكلة الفلسفية محددة واضحة المعالم:

نسق العلم بمجمل فروعه: الفلك ثم الفيزياء، ثم الكيمياء ثم البيولوجيا ثم العلوم الإنسانية … تشكل صورة عقلية أو تمثيلًا مجردًا لهذا الوجود، لو نظرنا بعيون العلم، لو نظرنا إلى الوجود (الأنطولوجي) من خلال هذا النسق المعرفي (الإبستمولوجي)، هل سنجد الحُرية الإنسانية مثبتة أم منفية؟

وطبعًا العلم الحديث إنجاز حضاري لا يتجاوز عمره بضعة قرون، والإنسان موجود قبله بزمان سحيق، ثم أبدعه في مرحلة متقدمة، فلو كانت حرية الإنسان الأنطولوجية كائنة … فالإنسان حر قبل العالم وبعده، ولو لم يكن هكذا، فإن العلم بداهة لم يخلق الوجود ولا هو خلق الإنسان، وبالتالي، لن يستطيع أن يفعل شيئًا مهما أثبت أو أنكر، على هذا يبدو جليًّا أن المشكلة الفلسفية المطروحة في هذا الكتاب ليست ما إذا كانت الحُرية الأنطولوجية كائنة أصلًا أم لا، بل السؤال الذي سنجيب عنه محدد جدًّا: هل حرية الإنسان الأنطولوجية كائنة في عالم العلوم أم غبر كائنة؟ هل العلم بالذات يقرها أم ينفيها؟ وسوف نرى مدى الخطورة والأهمية الفلسفية؛ لأن تتعارض أو تتوافق الحُرية الإنسانية مع العلم بالذات.

وهذا بأن نتجاوز العوامل المعاصرة التي أملت المنظور العالمي دون سواه، وندلف إلى العوامل الآتية من ميراث مشكلة الحُرية … من ماهيتها وطبيعتها، والمواقع التي استثارتها في تاريخ الفلسفة، وهي عوامل أقوى وأسطع تؤدي مباشرة إلى المطلوب، إذ تلقي بنا توًّا في قلب المشكلة، فتاريخها الحقيقي، بوصفها مشكلة فلسفية فعلًا، بل والمشكلة الفلسفية الأولى التي تمثِّل معضلًا عسيرًا يقضُّ مضاجع الفلاسفة أجمعين، ويوجه خُطا فلسفاتهم ويحدد معالمها … هذا التاريخ بدايةٌ حاسمةٌ للعلم الحديث في القرن السادس عشر.

ذلك أنها — أي مشكلة الحُرية الإنسانية في صورتها الأنطولوجية التي اتفقنا على أنها موضوعنا — تتأتى من، وفقط من مبدأ الحتمية Determinism الذي ينفيها.

فمنطوق المشكلة كالآتي: إما أن الإنسان حرٌّ يمكن أن يمارس اختيارًا بين بدائل مُتاحةٍ أمامه، وإما أن هذا الوجود خاضع لحتمية حددت مساره أزلًا وأبدًا، فحتمت كل حدث من أحداثه بحيث لا بد وأن يحدث، ويستحيل أن يحدث سواه، فلا بدائل وبالتالي لا اختيار أمام الإنسان الذي يحيا في هذا الوجود.

ولولا افتراض الحتمية هذه لما كان لمشكلة الحُرية الأنطولوجية أن تقوم، فضلًا عن أن تكون الفلسفة الأولى، ولكنها كانت هكذا لأن مبدأً لم يلعب في تاريخ الفكر البشري دورًا يُماثل أو حتى يداني الدور الذي لعبه مبدأ الحتمية في تاريخ العلم الحديث (من القرن ١٦ إلى نهايات القرن ١٩).

•••

بل ولم تكن الحتمية مجرد مبدأ من مبادئ العلم وحسب، إنها سيطرت على النسق العلمي، وعلى عمل العلماء، وتغلغلتْ في صميم نسيج العلم، بحيث أصبحت اللُّحْمة، وسَدَاها سائر النظريات والفروض ومجمل النشاط العلمي.

فقد أضحت الحتمية ركيزةً يرتكز عليها العلم، وفي الوقت نفسِه هدفًا منشودًا يسعى للوصول إليه، وبين هذا وذاك تجدُها أيضًا المحكَّ المعتمدَ طوال الطريق العلمي.

وهذا ما عبر عنه عالم الفسيولوجيا الفرنسي كلود برنار Claude Bernard (١٨١٣–١٨٧٨) في كتابه «مدخل إلى دراسة الطب التجريبي» (عن الترجمة العربية، ص٤٣ وما بعدها)، قائلًا: «أما عن كونه الركيزة، فكما أن الإنسان في حالة المشي الطبيعي للجسم لا يستطيع السير إلا بوضع قدم أمام الأخرى، فإنه كذلك في حالة السير الطبيعي للذهن، لا يستطيع التقدم إلا بوضع فكرة أمام الأخرى، وهذا معناه أنه لا بد للذهن من نقطة ارتكاز أولى، شأنه في هذا شأن الجسم سواءً بسواء، ونقطة الارتكاز هذه هي مبدأ الحتمية المطلقة، ولولاها لكان قد قُضي على الإنسان وعقله أن يدور في دائرةٍ مفرغةٍ وألَّا يتعلَّم شيئًا قط.» هكذا آمن العلماء، ولم يكتفوا بأنه الأساس، بل سلموا أيضًا بأن الغرض الأول من كل دراسة علمية تجريبية أيًّا كان موضوعها هو «الوصول إلى الحتمية الشاملة، والتي هي الحقيقة المطلقة»، وبالتالي هدف العلم النهائي، وفي غضون الطريق السائر من ذاك الأساس إلى الهدف المنشود، يظل مبدأ الحتمية هو أيضًا المحك التجريبي، فالعلاقات الحتمية هي مقياسُ الحقيقةِ المنشودة، والحتمية الشاملة المطلقة التي تخضع لها الظواهر، والتي نشعر بها شعورًا قبليًّا هي المحك الوحيد، أو المبدأ الوحيد الذي يسندنا في وصولنا إلى النظريات العلمية، وفي حكمِنا عليها — كما يقول كلود برنار أيضًا، في مرجعه المذكور.

إلى كل هذا الحد سلم العلماء تسليم البداهة، بأن مبدأ الحتمية هو المعبِّر الوحيد المُفضي إلى العلم الحقيقي، وبأن إليه وحده يرجع الفضل في كل ما أصابه العلم من تقدم، فسرعان ما جعل التسليم به قوانين العلم تتدفَّق بسلاسةٍ من نجاح إلى نجاح أعظم، ومن يقينٍ إلى يقينٍ أدق، ومن عموميةٍ إلى عموميةٍ أشمل.

ومن الناحية الأخرى أكَّدَ اطِّرادَ الطبيعة البادية أمام أعين العلماء في ذلك العصر، وتواتر صدق قوانين العلم عليها، من خضوعِ هذه الطبيعةِ للحتمية الشاملة، تضافرت إذن الأنطولوجيا مع الإبستمولوجيا في تأكيد الحتمية الشاملة، ورفعها فوق أي نقاش أو جدل.

وها هنا نلاحظ أن الخطورة الفلسفية لمبدأ الحتمية العلمية، أتَتْ من التجادلِ بين كونه أنطولوجيًّا وإبستمولوجيًّا (أي وجوديًّا ومعرفيَّا) في آنٍ واحد، إنه تصورٌ لطبيعة العلم وطبيعة قوانينه، ولا غرو، فهذا صورة لذلك كما أوضحنا.

  • أنطولوجيًّا: تعني الحتمية أن نظام الكون مطرد ثابت شامل، لا يشذ عنه في أي زمان ولا في أي مكان شيء، فهو ذو علاقات علِّيَّة (سببية) ضرورية ثابتة، تجعل كل حدث من أحداثه نتيجة ضرورية (معلولًا) لما سبق، ومقدمة شرطية (عِلَّة) لما سيلحقه، وبالتالي فكل ظاهرةٍ فيه وكل حدثٍ وكل واقعةٍ … محكومةٌ بشروط تُلزم حدوثها اضطرارًا، أي خاضعة لقانون محدد، ولا شيء البتة يحدث كمصادفة.
  • وإبستمولوجيًّا: تعني الحتمية عمومية قوانين العلم وثبوتها واطِّرادها، فلا تخلُّفَ ولا اتفاقَ ولا عرضية ولا استثناء، ولأن كل حدثٍ محتوم وسواه مستحيل، فإن كل تنبؤات العلم يقينية، وهكذا كل قوانينه ونظرياته، يقين في يقين في يقين، واليقين هو التحديد المطلق الجازم الذي لا خطأ فيه ولا احتمال البتة، إنهم يعملون بالرياضيات الإقليدية، فلا يعرفون إلا قيمتي الصدق والكذب ولا وسط بينهما، وصحيحٌ أن الظواهر التي بدَتْ مصادفة وموضع احتمال قد لفتَتْ أنظارهم، حتى إن رجالات ذلك العصر هم مؤسسو الإحصاء وحساب الاحتمال، إلا أنهم فسَّروه تفسيرًا ذاتيًّا — أي بإرجاعه إلى الذات العارفة وليس موضوع المعرفة، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك العلل الحقيقية، نسبة الاحتمال إذن تعبِّر عن الجهل فالعلم لا يكون إلا يقينًا، وهي مسألة مؤقتة ستضمحل بالتقدُّم العلمي، لنصلَ يومًا ما إلى اليقين في هذه الظواهر كما وصلْنَا إليه في سواها، إن اليقين هو التمثيل العيني للعلم بعالم يسير في مسارٍ محتوم.

وقد أصبح يقين العلم — وبالتالي حتميته — مسألة مثبتة حينما أصبح العلم رياضيًّا، فالرياضيات دائمًا هي النموذج الأمثل للضرورة ولليقين المطلق، على سطح الأرض وتحته وفي المريخ، وفي كل مكان في الدنيا وفي الآخرة … تظل دائمًا «٢ + ٢ = ٤» ويظل المثلث شكلًا محوطًا بثلاثة أضلاع؛ لأن نفي هذا يعني نفي أن المثلث مثلث! وطالما أمكن التعبير عن القوانين الفيزيائية في صورة معادلات رياضية، فمعنى ذلك أن الضرورة الرياضية قد تحوَّلَت إلى حتمية كونية، ولما أصبحت الرياضيات هي لغة العلم الحديث، اتَّضح أن الضرورة الحتمية هي نظام العالم.

والواقع أن السِّمة الرياضيةَ هي التي قلبت الحتمية من مبدأ فلسفي — يمكن أن تختلف بشأنه وجهات النظر — إلى مبدأ علمي صريح، لا بد وأن يسلم به الجميع تسليمهم بالعلم.

أما الفارق بين الحتمية العلمية وبين الجبرية الدينية، فيتمثَّل في العِلِّيَّة (السببية)، وهي المبدأ القائل إن كل حدث لا بد له من علةٍ أحدثَتْه، والعِلِّيَّة مبدأ متوشج في الحس المشترك — أي في تفكير الإنسان العادي — وأيضًا في الفكر الفلسفي، ولكنَّه اتخذ موقع العمود الفقري في العلم الحديث، إن العلم الحتمي هو العلم العلِّيُّ؛ لأن حتمية الظاهرة لا تعدو أن تكون العلة التي تحدثها، وبالتالي أصبحت مهمة العلم الحديث هي تعليل كل الظواهر، وتحديد علة كل حدث، أما التسليم بحدَثٍ بغير علة، فليس يعني إلا إنكار العلم بها، وتتلخَّص كل قوانين العلم في أحكام علاقة العلة بالمعلول، لتتخذ جميعها الصورة المنطقية: إذا كان … فإن … دائمًا طبعًا.

وطالما أن لكل حدثٍ علة أحدثَتْه، وهو بدورِه معلول لها، فإن واقع الكون الراهن معلولٌ ضروري لوضعِه اللاحق، فتسير أحداثُ الكونِ في تسلسلٍ عِلِّيٍّ، يجعلُها أشبهَ بسلسلةٍ محكمة الحلقات، تُفضي كل حلقة إلى — وفقط إلى — لاحقتها، مثلما تنشأ عن — وفقط عن — سابقتها، وبالتالي فالكون نظام مغلق، مساره مرسوم منذ أن تخلقت الحلقة الأولى في السلسلة، إن التسلسل العِلِّيَّ يجعل مجرى الأحداث قد حتمته اللحظة الأولى لهذا الوجود، ومنذ أن تحدَّدت هذه اللحظة، تحدَّدت كل الأحداث التالية، والكون عليه أن يسلكَ طريقًا واحدًا لا سواه، طريقًا محتومًا؛ لهذا لا تعد العِلِّيَّة مجرد عنصر أو بُعد من أبعاد الحتمية، بل إنها الحتمية عينها، أو بالكثير الوجه الآخر لها، حتى إن المصطلحَيْنِ — الحتمية والعلية — كثيرًا ما يُستعملان كمرادفين.

إن العلية هي التي تؤكد نظام الطبيعة الحتمي واتساقه، وقانون تسلسل الأحداث فيه: فالعلة هي الحدث السابق والمعلول هو الحدث اللاحق، وتؤكِّد العليةُ تدفُّقَ الزمان في اتجاه واحد لا سواه من الماضي إلى المستقبل، وأيضًا ثبات المكان، وبصورةٍ مطلقة أي بالنسبة للجميع مهما اختلفت مواقعهم.

هذان الزمان والمكان المطلقان هما القالب أو الخلفية الأساسية للعلم الحديث، وبالأدقِّ لفيزيائه الكلاسيكية، التي تعدُّ الصلب والهيكل للعلم الحتمي، وللحتمية العلمية، المتعضونين معًا، وهذه الخلفية هي تصورٌ للكون كمجرد كُتل مادية، أجسام صلبة تتحرك على السطح المستوي عبر الزمان والمكان المطلقين، وقد بلغت الفيزياء الكلاسيكية الذروة بنظرية نيوتن التي تعد بمثابة مراسم التتويج النهائية لفرض الحتمية العلمية.

وطالما أن الكون لا يعدو أن يكون أجسامًا مادية تتحرك، والميكانيكا هي علم حركة الأجسام، فإن الكون بالتأكيد نظام ميكانيكي، كل تغير فيه مردود إلى حركة الأجسام، وهذه الحركة، كل حركة وأية حركة تحكمها بدقة صارمة قوانين نيوتن، وحين نعرف حالة هذا النظام الميكانيكي في وقت معين، فإن قوانين نيوتن تسمح بحسابِ حالته في كل الأوقات، تأكيدًا لمبدأ العِلِّية الذي يجعل الحالة السابقة علة للحالة الراهنة، تحتمها بالضرورة، هكذا بدت الحتمية أوضح من شمس النهار.

إن هذا التصور الميكانيكي للكون، وقد رفعتْه نظرية نيوتن على رءوس الأشهاد، هو التمثيل العيني لأنطولوجيَّة الحتمية، والذي جعلنا نمسك عليها بجمع اليدين، والواقع أنه لا حتمية علمية بغير الميكانيكية — أي النظر إلى الكون بكل محتوياته وعناصره وظواهره بوصفه مترتبًا في صورة آلة ميكانيكية ضخمة، مغلقة على ذاتها، من مادة واحدة متجانسة، تسير تلقائيًّا بواسطة عللها الداخلية، وتبعًا لقوانينها الخاصة، تُفضي كل حالة من حالاته إلى الحالة التالية.

وبعد أن وضع العلماءُ فرضَ الأثير، وهو وسط لا نهائي المرونة كثافته أقل من الهواء، افترضوه بوصفه يملأ كل الفراغات في الآلة الميكانيكية العظمى؛ بحيث يحمل الضوء والإشعاعات لتندرجَ بدورها في التفسير الحتميِّ الميكانيكي، وبعد أن اكتشفوا أن المادة الحية مؤلفةٌ من الذرات نفسها التي تؤلِّف المادة الجامدة، وأنها بالتالي تخضع للقوانين نفسها، وتصوروا أن الحياةَ أيضًا ذاتُ طبيعةٍ ميكانيكية، وأن الإنسان لا يعدو أن يكونَ آلة ميكانيكية حية، والعقل بدوره هكذا … بعد كل هذا أيقنَ العلماءُ أنهم يستحيل أن يفهموا أيَّ شيءٍ بغير أن يصطنعوا له أنموذجًا ميكانيكيًّا، وأن التفسيرَ الوحيدَ الممكنَ لهذا الوجود — ككل وكأجزاء — هو التفسير الميكانيكي.

وانتشر في الفلسفة مذهبٌ يُعد المتحدث الرسمي باسم هذا العلم الحديث، وهو مذهب «الواحدية المادية» أو «المادية الكلاسيكية»، الذي يؤكد أن الوجود عبارة عن مادة، ولا شيء سوى مادة، تشكلت في صورة آلة ميكانيكية، أما الفكر والعواطف والانفعالات والروح … وما شابه هذا من كيانات غير مادية، فإما أنها خرافة لا معنى لها، وإما أنها مردودة في النهاية إلى المادة وخاضعة للقوانين الميكانيكية نفسها — العلمية الحتمية.

وجاء في عام ١٨١٤ العالم الفرنسي سيمون بيير دو لابلاس S. p. Laplace (١٧٤٩–١٨٢٧) ليصوغ في مقدمة كتابه «مقال فلسفي في الاحتمال» أشهر صياغة للحتمية العلمية، ومؤداها أننا إذا استطعْنا أن نجمعَ معلوماتٍ دقيقةً عن كل الظروف، لأمكن استنباط الحالة اللاحقة للكون بكل دقة، والعقبة الوحيدة أننا لا نعلم كل الظروف والشروط. فإذا تصورنا عقلًا فائقًا يعرف كل القوى التي تعمل في الطبيعة، والوضع الراهن لكل مكوناتها — أي يعلم كل تفاصيل الكون، فإنه يستطيع التنبؤ — بمنتهى الدقة — بوضع كل جسيم في كل لحظة، وبكل القوى التي تؤثِّر عليه، ولن يكون ثمة أي شيء غير يقيني بالنسبة له، سواء ما يختصُّ بحركات أضخم الأجسام أو أصغر الذرات … فضلًا عن الإنسان المحصور بين هذا وذاك.

•••

وإذا كان هذا هو عالم العلم والعلماء، فهل يمكن أن يعترفوا بأية حرية للإنسان الذي يحيا فيه؟! أو بأنه يمكن أن يمارس اختيارًا بين بدائل؟! أية بدائل تلك؟! إن الحدث محتوم، واحد ووحيد، مهمة العلم تحديدُه بدقة قاطعة، وتصور بديل للحدث، كان يمكن أن يحدث لو أن الإنسان اختار اختيارًا بدلًا من آخر — هذا التصوُّر يعني هدم نظام العالم، النظام الحتمي الميكانيكي، والذي ما كان العلم إلا ليكتشفه.

•••

وهي بديهية في غير حاجة إلى الذكر — وإن كنا قد ذكرناها، أعني البديهة القائلة إن هذا الوجود أو هذا العالم كوزموس — أي كون منتظم، فطبعًا له نظام، ولكن مشكلتنا — مشكلة الحُرية الإنسانية أتت من أن نظامًا من نوع معين جدًّا، من طبيعة خاصة إلى أقصى الحدود، قد سيطر على الأذهان وبوصفه النظام الأوحد الذي يستحيل أن يكون لهذا العالم نظام آخر سواه — وهو ذلك النظام الحتمي الميكانيكي الذي يلقي في روع العلماء الأمل باليقين المنشود، وبالكون الذي يبدو بماضيه ومستقبله كتابًا مفتوحًا مقروءًا، بلا مفاجآت ولا شذوذ — بلا مصادفات تزعزع من رسوخٍ ويقين ما يتوصلون إليه من قوانين.

ويرىأوجست كونت A. Conte (١٧٩٨–١٨٥٧) أن ثمة أطوارًا ثلاثة لا بد وأن تمر بها كل فكرة، في الطور الأول تكون الفكرة لاهوتيةً مستقاة من التصورات الدينية، ثم تصبح الفكرة فلسفيةً معتمدة على تأمُّلات العقل الخالص، وفي النهاية تصبح علميةً وضعية، ورؤية كونت هذه التي يصرُّ على تطبيقها على كل الأفكار، فيها تعميم مجافٍ للواقع، هذا فضلًا عن أن الأطوار الثلاثة توجد معًا في كل عصر، وإن تغلب واحد في عصر ما، ولكن الذي يهمنا الآن أنها رؤية تنطبق انطباقًا حرفيًّا على مبدأ الحتمية.

فالمبدأ معروف منذ بدايات الفكر البشري، وبالتالي كانت مشكلة الحُرية الإنسانية مثارةً دائمًا، ولكن في العهود السحيقة — في عصور ما قبل الفلسفة كانت الحتمية فكرة ثيولوجية لاهوتية، ومع نشأة الفكر الفلسفي في القرن السادس قبل الميلاد أصبحَت الحتميةُ فكرةً ميتافيزيقيةً، وظلَّت هكذا حتى نشأةِ العلم الحديث، ليغدو المبدأ الحتمي علميًّا على الأصالة، أو بالأحرى ليغدو العالَم حتميًّا في أقصى صورة للحتمية.

في العصور السابقة على ظهور الفلسفة في بلاد اليونان، كان القدر هو الصورة التي اتخذها مبدأ الحتمية، فعرف الإغريق القدامى هذا المبدأ في صورة القدر القاهر المحتوم، وقد اتخذ معهم اسم «المويرا MOIRAE»، والمويرا — وهي أصلًا ربة القدر في الأساطير الإغريقية — قوةٌ قاهرةٌ تلزم الجميع بالمحتوم مهما فعلوا، إنها تحتم مسار الأحداث بطريقة لا مهرب منها، ومهما بُذلت الجهود للحيلولة دون وقوعها، وبسبب عقيدة المويرا اعتقدوا أن الإنسان طوع لقوة خفية ومقدر عليه أن يستغفرَ من ذنوب هو غير قادر على تجنُّبها! والمسرح الإغريقي خير ما يبلور هذه الأفكار الميثولوجية (أي الأسطورية) والتي كانت بالنسبة للإغريق أيضًا ثيولوجية (دينية)؛ لذلك كانت قمَّته «مأساة أوديب» تبرز هذه الفكرة بوضوح، حتى إنها إعلان صريح بصرامة الحتمية القدرية، وعبثية أي تصور للحرية الإنسانية، وبالتالي عبثية أي تصور للمسئولية — فالحُرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، جوهر المأساة هو القدر المحتوم على أوديب منذ أن وُلد، كما تمثِّله نبوءة العرافين بأنه سيقتلُ أباه ويتزوَّج أمه، وحاول أبوه بدوره معارضة القدر أو المويرا بأن يتخلَّص من طفلِه الرضيعِ كي لا يقتله — لكن عبثًا راحت المحاولة، وكانت لا بد أن تروح عبثًا؛ لأن القدر قدر أن يحدث هذا، فلا بد وأن يحدث بالضرورة الحتمية — أو بالمويرا، وإذا التفتنا إلى الوجه الآخر للعملة: الحُرية والمسئولية، وجدناه قد فقأ عينيه استغفارًا لجريرةٍ كانت محتومة عليه، ولم يكن بمقدوره أن يتجنَّبها، ومن العبث مساءلته بشأنها لجهله بحقيقة الظروف التي وجد نفسه فيها، وبعد فوات الأوان حيث لا يُجدي الندم، بعد أن قتل أباه الملك لايوس وتزوج أمه جوكاستا، والتي انتحرت بدورها استغفارًا لجريرةٍ لم تكن هي أيضًا مختارة بشأنها ولا قادرة على تجنبها، وبعد أن اتخذت زوجًا من زوج، وأنجبت ولدًا من ولد.

إن المويرا قانون الضرورة والقدر الحتمي الذي ينظم سير الأحداث كلها، فيقدر لكلٍّ نصيبه وما يستحقه، ويحدد مكانه الذي يستحيل أن يتعدَّاه، فلا بد وأن يخضع له كل شيء أو إنسان أو إله، حتى زيوس العظيم نفسه، فكانت المويرا بداية إغريقية لتصور القانون السائد في عالم الطبيعة وعالم البشر، والذي يسري على الكون بجملته — إنها فكرة القانون الطبيعي الحتمي الشامل، والذي اتخذ فيما بعد صورة القانون العلمي.

على ألَّا يُلهينا هذا عن الفارق بين المويرا وبين الحتمية العلمية، وهو الفارق بين الفكر اللاهوتي والفكر العلمي، والمتمثِّل في أن حتمية المويرا لا بد وأن تحدثَ مهما كانت الظروف السابقة عليها والمحيطة بها، بل وعلى الرغم من هذه الظروف، في حين أن حتمية القانون العلمي لا تكون إلا بسبب هذه الظروف السابقة والمحيطة، إن المويرا تُلقي بحتميتها على المصير الآتي (الغائية) بينما القانون العلمي يلقي بحتميته على العوامل الماضية (العِلِّيَّة)، فالحتمية العلمية ليست بالنسبة لأمرٍ خارقٍ للطبيعة، بل بالنسبة للطبيعة ذاتها وقوانينها الفيزيقية؛ لذلك فالمويرا تحتم الظاهرة بلا شرطٍ ولا قيد، في حين أن الحتمية العلمية هي ذاتها الشرط الضروري لظهور الظاهرة.

والعرب أيضًا عرفوا بالطبع فكرة القدر، لغويًّا يعني القدر: وضع الشيء في مكانه المناسب، وهو اسم للفعل قدر، وقدر: استطاع وحكم، ويعني في النهاية: العلم الإلهي المسبق، وهو أحد الصفات الإلهية، وقد عرفه العرب قبل الإسلام، فاللات، الوثن المشهور الذي ورَدَ في القرآن الكريم هو إله القدر، وكانت عرب الجاهلية تستقسم به في مسائل السفر والاحتكام، بيد أن مفهوم القدر لم يتبلور تبلورًا واضحًا إلا مع عقول الإسلاميين، ومن القرآن الكريم قد نفهم أن القدر هو الإرادة الإلهية التي تتحقَّق عبر مشيئةٍ كلية فاعلةٍ في النظم الطبيعية، أو بمعنى: العلم الإلهي السابق للأفعال الإنسانية؛ لذلك فهم بعض الأقدمين أن القدر يعني الحتمية الفيزيقية الممثلة لوحدة النظام الكوني عبر القوانين الأساسية التي تتحكم في الظواهر، والتي هي موضوع العلم الإلهي الشامل، ويُرمز إليها باللوح والقلم، على أنه لا ينبغي أن نفهم من هذا أن الإسلامَ يعني الإيمانَ بالحتمية، أو أن مبدأ اللاحتمية والذي سنرى رحال العلم في عصرنا هذا ترسو عليه يُناقض القرآن الكريم؛ فثمَّة آياتٌ كريمة تفيد اللاحتمية، منها: يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (الرعد: ٣٩)، فضلًا عن أن الأشاعرة وهم أهل السنة والجماعة، وإمامهم الغزالي حُجة الإسلام، والمتصوفة وهم أكثر عباد الله عبودية — أو عبودة حسب مصطلحهم الذي يدل على الدرجة القصوى — قد قالوا بلا حتمية صريحة، وأنكروا الحتمية بشدة؛ لأنها لا تُبيح لله جل شأنه أن يعاودَ تدخُّله في مسار الأحداث بما ينقض القوانين الحتمية، فضلًا عن أن الحتمية الفيزيقية تستلزم إنكارَ معجزات الأنبياء، وما ورد بشأن أحوال القبور وإحياء الموتى والحياة الآخرة.

والأهم من كل هذا أن آيات القرآن الكريم تتعالى عن أن تفصل القول في مثل هذه الأمور — كالحتمية أو اللاحتمية العلمية — المتروكة للجهد البشري، والخاضعة لمتغيِّرات العلم الكسبي.

•••

والواقع أن ثمة نزوعًا سيكولوجيًّا في الإنسان نحو خضوع الكون لحتمية صارمة، ومنذ فجر الإنسانية وهي تبحث عن الحتمية الشاملة للعالم الذي تحيا فيه؛ نشدانًا للطمأنينة والأمان، للراحة وللسكينة، لعالم ليس فيه شذوذات مفاجئة أو طوارئ غادرة، عالم مساره محدد، نركن إلى أنه سيسير كما سار دائمًا، لا تعكر صفوه مصادفة، أو عارضة غير متوقعة.

وأيضًا نشدانًا للتبرؤ من المسئولية، فكما ذكرنا — وسنذكر مرارًا — الحُرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة، وحين يخضع الوجود للحتمية الشاملة فلا مسئولية حقيقية تقع على الإنسان، طالما أنه لا حرية ولا اختيار أمامه فيما يفعل، فهو مجرد قطرةٍ في تيار دافق، يسير وإياه في المسار المحتوم، ومَن منَّا لم يتعزَّ عن كارثة ألمَّت به، أو مصيبة أصابته أو أصابت واحدًا من أحبائه، بأنها قضاء وقدر! وأيضًا مَن منا لم يتبرَّأْ من خطأ ارتكبه بأنه كان قدرًا عليه أو أن الظروف دفعتْه دفعًا؟! وهذا هو الجذر الشعوري الانفعالي، الذي طوَّره الفلاسفة وكسوه برداءِ العقلانية المهيب، حين جعلوه يتَّخذ شكل مبدأ الحتمية.

ليس فحسب، بل وأصبح مبدأ الحتمية هو صلب العقلانية بعينها، هو قضها وقضيضها، هو هيكلها وإطارها، لكل من رام فهمًا نسقيًّا للطبيعة … وكان من يشكك فيها مثلًا كالمتصوفة أو كالأب نيقولا مالبرانش N. Malberanch (١٦٣٨–١٧١٥) إنما يقطع الطريق أمام العلم، أمام كل دراسة مجدية لهذا الكون، فطوال عصور الفكر السابقة على القرن العشرين، كانت الحتمية مقولة أساسية وضرورية لدراسة الطبيعة، وللدراسة العلمية إجمالًا، وحيث لا حتمية حيث لا استطاعة أمام البشر للتناول العلمي، أو حتى للتفكير العقلاني في الطبيعة، والعالم الذي نحيا فيه، إن أبطال الفكر العلمي في التاريخ هم الذين دانوا بالحتمية حتى النخاع.

ومن الناحية الأخرى، تُطلعنا الدراسات التفصيلية الدقيقة لتاريخ الفلاسفة على أن المحاولاتِ القليلةَ المتناثرة للخلاص من ربقة الحتمية الفيزيقية — باستثناء أبيقور كما سنرى — كانت متعثرةً وشبه فاشلة، حتى ولو جاءت من أعاظم الفلاسفة كسقراط وأفلاطون، وأرسطو والإمام الغزالي.

إلى هذا الحد هيمن مبدأ الحتمية على الفكر البشري هيمنةً طاغية، ولكن النقطة الحاسمة هي أن الفلسفةَ استطاعَت عقلنته كمقدمة لعلمنته.

وصاحب الخطوة الأولى في هذا الطريق الفيلسوف الإغريقي ديمقريطس Democritus (٤٦٠–٣٦٠ق.م.) وهو أبو الذرة أو صاحب الفرض الذري بوصفه المادة الخام التي صُنع منها هذا الوجود!

ولم تكن فلسفته الذرية إلا تطبيقًا دقيقًا لمبدأ الحتمية، فالذرَّات نفسها لا تتغير، وهي في حركة مستمرة لكنها حركةٌ ذاتية تلقائية، بما يمكن أن نسمِّيَه الآن القصور الذاتي، ولا تهتزُّ إلا بفعل تصادمٍ مع ذرات أخرى، وبالتقاء الذرات توجد الأشياء، وبانفصالها تفسد، ولكن ما إن بدأت الذرات فثمة قوانين آلية غير قابلة للتبديل، قد حتمت كل حركاتها التاليات؛ لذلك فحالة الكون في كل وضعٍ تعتمد فقط على حالته السابقة، وحاضره يقرِّر أمر مستقبله، إنها إذن الحتمية العلمية في أعتى صورها.

وقد تبعه فيها زملاؤه الفلاسفة الطبيعيين القبل — سقراطيين، وهم طبيعيون؛ لأن فلاسفة الإغريق في هذه المرحلة السابقة على ظهور سقراط تدور فلسفاتهم حول الطبيعة، في محاولة للإجابة عن السؤال: ما هي المادة التي صُنعت منها الطبيعة؟ وكانت إجابة ديمقريطس — وهي خلاصةٌ أسفرت عنها المناقشات الفلسفية على مدى قرنين من الزمان — أن المادة التي صُنعت منها الطبيعة هي الذرة. ومع القرن التاسعَ عشرَ كان العلمُ قد أخذ هذا الفرض الذري من الفلسفة لتبدأ الانطلاقة الجبارة للعلوم الذرية، فهل أدركنا مدى حصافة وثقب نظر التأملات الفلسفية؟!

وصحيح أن الحتمية الفيزيقية تعرَّضت لشيء من البلبال مع الثالوث الأعظم للفلاسفة: سقراط وأفلاطون وأرسطو، إلا أنها عادت لتكتسب قوة وشمولية في العصر الهلينستي — أي العصر التالي لفتوحات الإسكندر وموت أرسطو، وذلك مع المدرسة الرواقية (من القرن الثالث ق.م. إلى القرن السادس م) التي تعدُّ من المعالم البارزة في تاريخ المبدأ الحتمي، فإذا كانت حتمية ديمقريطس أكمل صورة، وستظل هكذا حتى نهاية العصر الوسيط، فإنها محض حتمية فيزيقية — أي منصبَّة على تصوُّر الطبيعة فقط، خصوصًا وأن ديمقريطس أقرَّ بالحُرية الإنسانية والمسئولية الخُلقية! هذا في مقابل الحتمية السقراطية والأفلاطونية التي كانت معرفية أخلاقية تقتصر على أن المعرفة بالحق والخير تحتم سلوك الإنسان ولا تترك أمامه اختيارًا، فمن غير المعقول أن يعرف امرؤُ ما هو الخير ويتركه، وأفلتت منها الحتمية الفيزيقية، أما مع أهل الرواق فلأول مرة في التاريخ تُصبح الحتمية مبدأً أخلاقيًّا وفيزيقيًّا، إبستمولوجيًّا وأنطولوجيًّا (معرفيًّا ووجوديًّا) في آن واحد، مبدأً جامعًا مانعًا لمجمل الوجود وما فيه ومن فيه، فلا تفلت من حتمية الرواقيين صغيرة ولا كبيرة، لا في الإنسان ولا في الطبيعة.

أما في العصور الوسطى، فقد كان المبدأ الحتمي قلقًا إلى حدٍّ ما؛ نظرًا لتداخله — تلاقيًا وتعارضًا — مع الفكر الديني الذي كان مُهيمنًا على هذه العصور، شرقًا وغربًا، ونجد أن المعتزلة أقوى مَن نادى وتمسك بالحتمية، فهم حملة لواء العقلانية في الفكر الإسلامي وأسطع نقاطه المضيئة.

ونأتي للفلسفة الحديثة، عصر سؤدد الحتمية الكونية، حيث اكتسب المبدأ هيله وهيلمانه، وتم اعتماده رسميًّا واعتباريًّا وفلسفيًّا وعلميًّا بوصفه مبدأ التفكير في الطبيعة والعالم، والنتيجة أن شهد العصر معجزة العلم الحديث — العلم العلِّيِّ الحتميِّ.

رينيه ديكارت R. Descartes (١٥٩٦–١٦٥٠) هو أبو الفلسفة الحديثة، وهو الرائد الذي شقَّ الطريق الفلسفي إلى علمنة الحتمية الفيزيقية — أو تبعًا لمصطلحاته: علمنة حتمية الجوهر الممتد (المادة) دونًا عن حرية الجوهر المفكر (النفس)، ومن بعد ديكارت انطلق الديكارتيون صغارًا وكبارًا عبر الفلسفة الحديثة أو بالأدق عبر قرنها السابع عشر، مؤرقين بحتمية الجوهر الممتد — العالم الفيزيقي؛ لتنجز الفلسفةُ مهمتَها بشأن هذا المبدأ، ويكتسب نضجه الفلسفي النهائي، إيذانًا بانتقالِه إلى السمة أو الطور العلمي — كما أوضحت نظرية أوجست كونت.
والذي أكسب المبدأ الحتمي نضجه الفلسفي النهائي هو الفيلسوف الشهير باروخ سبينوزا B. Spinoza (١٦٣٢–١٦٧٧) صاحب أعتى صورة عرفتْها الفلسفة لهذا المبدأ.

وفلسفة سبينوزا مراوغة إلى أقصى الحدود، يُعطي شكلها ومظهرها نقيضًا لما يعطيه مضمونها وجوهرها، فقد لجأ في عرضها إلى أسلوب مخاتل أسماه «المنهج الهندسي»؛ ليبدأ بمسلمات يضع فيها تعريفات لمفاهيم معينة، كالله والحب والجوهر والأزلية … وهي تعريفات مختلفة تمامًا عن المعنى المتعارف عليه، ثم لا يرد في السياق إلا الرمز المألوف، الله مثلًا، ويفوت الدارس — أو يضنيه أو يعجزه — التخلص من المعنى المتعارف عليه لهذا الرمز، ووضع المعنى الإسبينوزي الخاص جدًّا في الذهن، فيضيع منه المراد، ولا يفهم شيئًا، وينخدع الشعراء والرومانتيكيون وأمثالهم، فيتصوروا أن سبينوزا صوفي متهدج بحب الله.

أما الدراسات العميقة الثاقبة المتأنية، من قبيل دراسات ستيوارت هامبشير وموريس كوهين، وفوير، وجورج إليوت، وفؤاد زكريا … وآخرين فتدرك أن سبينوزا مادي على الأصالة، أنكر وجود إله مفارق للطبيعة، ولأن الحتمية الصارمة تستلزم بالضرورة أن يكون الكونُ كلًّا واحدًا مغلقًا على ذاته لا ثنائية فيه فضلًا عن أية تعددية، فإن الكون الإسبينوزي جوهر واحد أزلي أبدي لا متناهٍ، أحيانًا يسميه الله ذرًّا للرماد في عيون عشيرته اليهودية، ولكن الجوهر الواحد في حقيقته لا يعدو أن يكون مجمل هذا الكون، أحد وجهيه الطبيعة الطابعة (الفكر) والوجه الآخر هو الطبيعة المطبوعة (المادة)، على ألَّا نتصور أسبقيةً من أي نوع للطبيعة الطابعة على الطبيعة المطبوعة، الاثنان وجهان لعملة واحدة.

فيأتي سبينوزا في كتابه الأكبر «الأخلاق: مبرهنًا عليها بالطريقة الهندسية» لينص في القضية السابعة من الجزء الثاني على تطابق المعرفة والوجود، فيقول: «نظام وارتباط الأفكار هو ذاته نظام وارتباط الأشياء»، وبالتالي ليس من طبيعة العقل أن يعتبر الأشياء عرضية، فيتمكَّن سبينوزا من تحقيق واحديته ذات الحتمية الصلبة: كل ما في الأمر طبيعة مادية محكومة بقوانين حتمية هي موضوع الفكر الذي يكشف عنها، أو هي الفكر ذاته، لتغدوَ الحتمية إبستمولوجية وأنطولوجية — أي معرفية ووجودية معًا.

وحين يقول في القضية الخامسة عشرة من الجزء الأول: «كل شيء يوجد في الله، وليس ثمة شيء يمكن أن يوجد أو يفهم بغير الله»، فإنه يعني أن كل ما هو موجود في الوجود (أنطولوجيًّا) وكل ما هو موضوع للفكر (إبستمولوجيًّا)، هو تلك الطبيعة الطابعة المطبوعة، وحين يقول في القضية السابعة عشرة: «يعمل الله فقط تبعًا لقوانينه الخاصة به، وليس ثمة شيء يمكن أن يجبره.» فإنه يعني أنه ليس في الوجود أية قوانين إلا القوانين التي تحكم حتمية الطبيعة، وحين يقول في القضية التاسعة والعشرين: «طبيعة الأشياء لا تسلم بأي شيء عرضي، بل يتحتم كل شيء بواسطة ضرورة الطبيعة الإلهية للوجود وللعمل بطريقة معينة.» فإن هذا لا يعني إلا صرامة الحتمية، فهو يقول صراحة في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة إنه يفهم الأوامر الإلهية على أنها القوانين الحتمية الكامنة في الطبيعة. وحين يقول في القضية الثلاثين: «العقل يجب أن يعيَ خصائصَ وأحوال الله فقط لا غير.» فهذه دعوة صريحة إلى أن يقتصر النشاط العقلي على البحث في العلم الطبيعي الكاشف للقوانين أو المسار الحتمي لهذا الوجود، أو الجوهر الواحد، أو الطبيعة المادية الطابعة المطبوعة، أو «س» أو «ص»، ولا مشاحةَ في الألفاظ كما يقولون!

وهذه الدعوى إلى الدراسة العلمية الحتمية تشمل كل شيء، حتى العواطف والانفعالات، وكتابه «الأخلاق» يعالجها كما يعالج علم الهندسة النقط والخطوط والمسطحات، ومن هنا كان سبينوزا مبشرًا بعلم النفس الحديث، بإخضاع الظواهر السيكولوجية للدراسة العلمية الموضوعية، وهو داعية لعلمنة الدراسات الإنسانية بجملتها: التاريخ والسياسة والاجتماع … فلا بد من النظر إلى كل أوجه وجوانب الحياة الإنسانية بوصفها خاضعة لنفس قوانين الوجود الحتمية، فتستكمل الطبيعة المادية شموليتها وتستوعب كل الكيانات على الإطلاق، وتغدو الحتمية بدورها هكذا.

على هذا النحو كانت فلسفة سبينوزا مجرد تخطيط لكون حتمي مادي حاوٍ لكل شيء، تحكمه قوانين حتمية صارمة هي موضوع العلم الذي هو النشاط العقلي الوحيد، فأحكمت الحتمية الفلسفية قبضتها على الكون فلا تنفذ من أقطارها أية واقعة من وقائعه، فحق القول إن الفلسفة أنجزت مهمتها بشأن الحتمية؛ ليتسلمها العلم مبدأ ناضجًا مخدومًا، خليقًا بأن يكتسب الشخصية العلمية، بل أن يكتسب العلم منه شخصيته.

إن سبينوزا مواكبٌ لنهضة العلم الحديث، معبرٌ عن الروح العلمية السائدة في عصره، فقد كان مبدأ الحتمية آنذاك هو الأب الروحي الهادي الحادي للعلم، يرسم للعلماء المثلَ الأعلى الذي يحدِّد لهم مسار الخطوات.

لذلك نجد العلماء يتكفلون الواحد بعد الآخر، بتحقيق حلم البشرية الأزلي: تصور الكون ككل واحد خاضع لحتمية صارمة، والآن: كآلة ميكانيكية ضخمة، بدأت أولى الخطوات نحو هذا بأولى خطوات العلم الحديث، وهي خطوة علوم الطبيعة: الفلك والفيزياء، ولنلاحظ أن الفيزياء هي الأصل وصاحبة القول الفصل، فهي التي قادت نهضة العلم، وهي أكثر العلوم تقدمًا، وهي أيضًا أكثرها عمومية وتتربَّع على قمة سلم نسق العلم الإخباري، وكل العلوم الأخرى تليها وتستفيد منها، فلا بد وأن تسلم بمبادئها، على هذا نجد الحتمية العلمية أولًا وقبل كل شيء هي الحتمية الفيزيائية، فإذا كانت الفيزياء حتمية — أو لا حتمية، فالعلم كله هكذا.

وقد أصبح العلم الحديث حتميًّا لأن الفيزياء أصبحت هكذا، وعن طريق خطوات ثلاث، في الأولى بدأ كوبرنيقوس N. Copernicus (١٤٧٣–١٥٤٣) نهضة العلم حين جعل الشمس بدلًا من الأرض مركزًا والكواكب تدور حولها، وبفضل تيكو براهه (١٥٣٦–١٦٠١) وكبلر J. Kepler (١٥٧١–١٦٣٠) وُضعت القوانين الرياضية التي تحكم حركة الكواكب، فتغدو هذه الحركة حتمية، وفي الخطوة الثانية تمكن جاليليو G. Galileo (١٥٦٤–١٦٤٢) من صياغة قوانين رياضية تحكم حتمية الحركة على سطح الأرض، أما الخطوة الثالثة فهي ذروة العلم الحتمي؛ إذ تمكن نيوتن (١٦٧٤–١٧٢٧) من ضم الحركتين معًا — السماوية والأرضية — في نظرية واحدة جمعَت الكون بأسره بين فَكَّيْ قوانينها لتبتلعه ابتلاعًا يلقي به في جوف الحتمية، أو في قلب الآلة الميكانيكية؛ وذلك عندما نشر في لندن عام ١٦٨٧ كتابه العظيم «الأسس الرياضية للفلسفة الطبيعية» الذي يرسم الصورة الرياضية لكون يقوم على الزمان والمكان الثابتين كخلفية مطلقة بالنسبة للجميع، تتحرَّك فيها كل الأشياء، تبعًا لفرض الجاذبية، ثم قوانين نيوتن الثلاثة الشهيرة التي هي أساس الفيزياء الكلاسيكية، وبالتالي هيكل الحتمية العلمية:
  • (١)

    كل جسم يظل على حاله — سكونًا أو حركة مطردة في خط مستقيم — ما لم يجبره مؤثر خارجي على تغيير حالته، وهذا هو قانون القصور الذاتي.

  • (٢)
    معدل التغير في العزم «كمية التحرك Momentum» يتناسب مع القوة المؤثرة على الجسم، ويكون اتجاه العزم نفس اتجاه القوة المؤثرة.
  • (٣)

    لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه.

وكان كل شيء في هذا الوجود، الكوكب في السماء والفقاعة في الهواء … موج البحر وأديم الأرض، النبتة الصاعدة والحجر الساقط، القذيفة المنطلقة والجبل الراسخ … كل ما تراه الأعين وتدركه الحواس، لا تراه ولا تُدركه إلا وهو خاضع بدقةٍ مطلقةٍ لهذه القوانين المصوغة باللغة الرياضية التي لا تخل ولا تحيد أبدًا، فاتَّضح أن خضوعَ الكون للحتمية الشاملة قد ثبت نهائيًّا، وآمن العلماء أن نيوتن وضع النظرية الفيزيائية العامة، فوصل العلم على يديه إلى سدرة المنتهى، واقتصرَت جهود الفيزيائيين بعده على تأمين نسقه بدرءِ أية شبهة لا حتمية عنه.

ومن الناحية الأخرى جاهدت بقية فروع العلم؛ لتظفر هي الأخرى بالسمة الحتمية، علها تحرز ما أحرزته الفيزياء من تقدم، واندرجت سائر علوم المادة الجامدة في النسق الحتمي، وبدا الدور على علوم المادة الحية — البيولوجيا، وبفضل جهود علماء الحياة بمختلف تخصصاتهم، لا سيما كلود برنار وتشارلز داروين، تدثرت ظاهرة الحياة على سطح الأرض بالسمة الحتمية، وتصوروا أن العقل الفائق الذي افترضه لابلاس — في صياغته الشهيرة لمبدأ الحتمية — لو عرف الوضع في أية لحظة، أو حتى في اللحظة التي تخلقت فيها ظاهرة الحياة، وعرف كل العلل والقوانين فسوف يستطيع أن يتنبأ يقينًا بكل تفاصيل حالة المجموعات النباتية والحيوانية في أي مكان وزمان، وطبعًا حالة الجسم الحي.

وبالتالي انفتح الطريق أمام الدراسة العلمية للإنسان، ونشأ علم النفس بفضل جهود أجيالٍ متعاقبة من علمائه ومؤسِّسيه، واستطاع تأكيد هذه الحتمية في مجاله الخاص، وبالذات مع مدرستين من مدارسه هما: التحليلية والسلوكية.

وأيضًا جاء أوجست كونت (١٧٩٨–١٨٥٧) وهو من أتباعِ الواحدية المادية؛ ليقيم علم الاجتماع على أساس أن الظواهر الاجتماعية شأنها شأن كل ظواهر هذا الوجود، فيزيقية أو عضوية أو سيكولوجية … إلخ خاضعة لحتمية شاملة، الحاجة إذن مُلحَّة لعلم الاجتماع كي يكتشف القوانين الصارمة لهذه الحتمية.

وانسحب المد الحتمي إلى التاريخ والجغرافيا، فقد كانت الحتمية قرينة العلم وكل دراسة تطمح في الظفر بالسمة العلمية لا بد وأن تتشح بوشاح الحتمية، وأشهر محاولة لعلمنة التاريخ عن طريق الزعم بخضوعه لحتمية صارمة هي محاولة كارل ماركس، وإن كان ابن خلدون (١٣٣٢–١٤٠٦) قد سبقه في هذا بعدة قرون، وحتى الجغرافيا هرولت هي الأخرى لتلحق بركاب المسيرة الحتمية، فراح علماؤها يؤكدون أن الإنسان محض صنيعة لبيئته، أو مجرد نتاج لسطح الأرض، كما تقول العالمة الجغرافية إلين تشرشل سمبل.

هكذا اكتمل التصور الحتمي في عيون العلم، وحتى نهايات القرن التاسع عشر كان العلماء على يقين من أن كل ما يبدو وكأنه لا يؤكد الحتمية، سواء في الدراسات الطبيعية أو الإنسانية، مجرد فراغات سوف تملؤها الجهود العلمية المتواترة، لنظفر يومًا ما — ليس بعيدًا — بالعلم الكامل: الصورة القاطعة الجامعة المانعة لكونٍ حتميٍّ تمامًا، آلة ميكانيكية عظمى.

•••

لقد تكاتفت أفرع العلم المختلفة لتسدَّ منافذ هذا الوجود أمام الحُرية الإنسانية، بكل خفقانها في القلوب وجيشانها في الصدور، أعلنَت حتميته أنها غير كائنة في العالم، ثم أطبقت فكيها بشراسة على كل جوانب ممارسة الحياة فيه؛ السيكولوجية والاجتماعية والتاريخية … بالطبع فضلًا عن الجانبين الفيزيقي والبيولوجي، كان هذا هو الوضع حتى نهايات القرن التاسع عشر.

من هنا كان الميراث التاريخي لمشكلة الحُرية الإنسانية يفرض عليها المنظور العلمي، وكان لزامًا أن نتعاقد على أن يكون للعلماء حق الحديث أولًا، ثم يأتي الفلاسفة ليتفلسفوا بناءً على أحاديث العلم والعلماء، بغية أفضل عرض منهجي للمشكلة، خصوصًا وأنها ذات أبعاد بعيدة، أبعد من كل ما قد يبدو للنظرة العابرة، فهذا التناقض بين العلم بحتميته والإنسان بحريته — كما سنرى — صنع واحدًا من أخطر بؤر التفلسف في تاريخ الفكر، وإحدى نقاط التحول فيه.

ولكن أين هي تلك الحُرية التي ما زلنا وسنزال دائمًا نبحث عنها، ما دام مبدأ الحتمية قد بلغ في عالم العلم كل هذا الشأن العظيم؟!

•••

الواقع أن مبدأ الحتمية العلمية هذا وتفسيره الميكانيكي للكون — وبغض النظر عن جذوره السيكولوجية — ليس إلا فرضًا كان العقل البشري في حاجة ماسة إليه؛ كي يرسم له طريقًا آمنًا وأطرًا مطمئنة لمحاولة فهم العالم، إنه يرسم صورة أنطولوجية لعالم مثالي كموضوع للعلم.

أما من الناحية الإبستمولوجية — والعلم أصلًا نشاط إبستمولوجي والدلالة الأنطولوجية فرع — فلنتذكر أن اليقين هو الوجه الإبستمولوجي الصريح لمبدأ الحتمية، ومن هنا نجد أن العوامل الحضارية هي التي دفعت العلم دفعًا إلى أحضان الحتمية، فقد ظل العلم التجريبي نشاطًا ذاويًا، ينمو على استحياء وبخُطا وئيدة جدًّا، حتى كان أفول العصور الوسطى وإشراقة العصر الحديث، ومع القرن السادس تفجَّر نجاح العلم وبدأ يفرض نفسه، ولكن السلطة كانت لا تزال في يد الكنيسة، والسجال العنيف بل الدامي بينهما على أشده، ولكن ينتزع العلم السلطة من الكنيسة — ذات اليقين المطلق طبعًا — ولم يرض مطلقا أن يبدو أقل شأنًا، وأصرَّ على أنه هو الآخر يأتينا باليقين المطلق، أوَليس عالمه محض آلة ميكانيكية؟! فارتبط نجاح العلم بالثقة المفرطة غير النقدية في نتائجه حتى ساد الاعتقاد أن لديه الإجابةَ القاطعة على كل سؤال والحل الناجع لكل مشكلة، وكما يوضح هانز ريشنباخ في كتابه «نشأة الفلسفة العلمية» (عن الترجمة العربية ص٤٤ وما بعدها) حيث يقول: «بلغ هذا مع القرن الثامن عشر حدًّا جعل العلمَ يضطلع بوظيفة اجتماعية هي أصلًا من مهام الدين والمقصود وظيفة كفالة الطمأنينة القصوى، فلا غرو أن يصبح الله في عصر التنوير أشبه بعالم رياضي جبار يعرف كل شيء، طالما أن لديه استبصارًا كاملًا بالقوانين، ويصبح العالم أشبه بإله صغير ينبغي أن تُقبل تعاليمه بوصفها يقينية مطلقة، بمنأى عن كل شك.» ولله في خلقه شئون!

والواقع أن اليقين هذا ليس ذا علاقةٍ حقيقية بالعلم؛ لأنه أي اليقين مجرد حالة سيكولوجية تقوم على اطمئنان النفس تجاه القضية المعطاة، وعادةً ما يرجعها علماء النفس إلى الرغبة في العود لعهود الطفولة التي لا يعكر صفوَها شكٌّ بفضل الثقة في حكمة الوالدين، وكما أوضح الفيلسوف التحليلي الرائد لودفيج فتجنشتين L. Wittgenstein (١٨٨٩–١٩٥١) بعباراته الصاروخية الموجزة، فإن الفارق بين مفهوم «يعرف» ومفهوم «يكون متيقنًا» ليست له أية أهمية إطلاقًا، ولا حتى في مقتضيات الحياة العلمية كالشهادة أمام المحاكم، هذا ما لم يكن مفهوم «أنا أعرف» مقصودًا ليعني «أنا لا يمكن أن أكون على خطأ!» ومن ذا الذي يعد نفسه معصومًا من أي خطأ؟! إنه على أية حال، مسألة شخصية ذاتية لا موضوعية فيها، ناهيك عن موضوعية العلم المثلي.

موضوعية العلم تحول بينه وبين أي زعم باليقين، وهذا يجعلنا أقل غرورًا ويجذب انتباهنا إلى حقيقة عظمى مؤداها أن نتائج العلم تصوب نفسها باستمرار؛ لذا يواصل العلم تقدمه، يقين العلم ليس في أية نتيجة معينة، بل في أن كل خطوة غير دقيقة أو خاطئة يمكن دائمًا تصويبها، وفي القرن العشرين، اتضح أن كل قوانين العلم، مهما كانت ناجحة ونافذة وبارعة، هي فقط احتمالية أي قابلة للتعديل، وهذا يعني إمكانية الوصول إلى قانون أنجح وأنفذ وأبرع، هكذا يجعل الاحتمال طريق العلم مفتوحًا للأبد، ويجعل البحث العلمي محتاجًا دائمًا إلى المزيد من العمل الدءوب ومن الجهود الخلاقة، فلا يقين نتوقف عنده ونركن إليه، اللهم إلا إذا أردنا التخليَ عن ميراث النهضة العلمية، والعودة إلى القواقع الأرسطية، وهذا هو المحال.

ولأن الفلسفة مهمتها النقد والاختبار، فيمكنُها وضع الإصبع على زيف اليقين داخل حدود العصر الحتمي ذاته الذي استمر حتى مطالع القرن العشرين، أوَلم تكن قمته وإكليله نظرية نيوتن، النموذج الأمثل على يقين العلم الحتمي، وهي من الناحية المنطقية ليست يقينية، بل فقط صادقة؛ لأنها تُعطينا أفضل تفسير للظواهر الفيزيائية، ولكن ليس ثمة برهان على أنه لا يوجد فرض آخر يعطينا تفسيرًا أفضل وأدق، وهذا الاحتمال تحقق مع نظرية النسبية، ومن الناحية الأخرى يوجد دائمًا الاحتمال لأن نجد ظواهر لا تتسق معها، وقد وجدناها بالفعل في عالم الذرة. المنهج العلمي لا يمكن أبدًا أن يستبعدَ مقدمًا أية واقعة مهما كانت غير مألوفة لنا، ولا أن يمنعنا من اكتشاف وقائع جديدة، حتى ولو ناقضَت أرسخ نظرياتنا القديمة.

والخلاصة أن الواقع التجريبي يستحيلُ أن يكونَ موضوعًا لأي يقين، والمعرفة اللاإلهية خاضعة دومًا للايقينيات المستقبل، فقد تظهر كيانات وعلاقات جديدة، وافتراض اليقين — أي الإمساك بالحقيقة المطلقة يُوصد الباب أمام تقدُّم العلم، وهو لن يوصد أبدًا، ويضع صك الختام على حدوده الراهنة، وهو لن يوضع أبدًا، وليس يحط من شأن نظرية نيوتن العظيمة أنها ليست يقينية؛ لأن اليقين ليس ذا دور في ميدان العلم، بل إن أخذه مأخذًا جادًّا هو الخطر الوبيل على تقدُّم العلم ذاته، إن الواقع والمثال يفرضان اعتبار اليقين المعرفي محض وثن زائف، يتعلق به ذهن الإنسان؛ لأنه يُعطيه راحةً زائفة، وإنها راحة حرامٌ … حرامٌ … حرام على أهل العلم.

ومع هذا تشبث العلماء طوال العصور الحديثة بوهم اليقين العلمي، عين تشبثهم الأهوج بالمبدأ الحتمي؛ نظرًا للعوامل الحضارية التي صاحبت مطالع العصور الحديثة ونشأة العلم الحديث … العوامل التي تتلخص — كما ذكرنا — في الصراع الذي كان بين العلم والكنيسة.

والحقيقة المُسلَّم بها الآن بعد انقضاء ذلك العصر بحيثياته، أن العلم يختلف عن الدين اختلافًا جذريًّا في أنه لا يتعامل مع أية يقينيات مطلقة؛ لذلك التزم كل منهما مكانه في البنية الحضارية، ولم يعد من المراد ولا من المجدي ولا من المعقول أن يتطاول العلم على الدين، ونخلص من هذا إلى أن الحتمية العلمية مجرد افتراض عشوائي دفعت إليه متغيرات وظروف حضارية معينة، مقصورة فقط على مرحلة العلم الحديث.

وأبسط ما يقال في هذا الصدد إن الحتمية مبدأ يستحيل إثباته ببرهان، فهو ليس قضية رياضية أو منطقية نثبتها ببرهان عقلي صرف، فله مضمون إخباري، أي يخبرنا بشيء عن هذا العالم، وبالتالي يكون إثباته تجريبيًّا، أي بالالتجاء إلى التجربة لنرى هل تثبته أم تنقضه، ومن الواضح أن التفكير في البرهنة التجريبية على مبدأ الحتمية — بكل عموميته الهائلة — عبث، فكيف يمكن استشهاد الوقائع على أنها جميعًا مترابطةٌ في تسلسل عِلِّي، يجعلها ناجمة حتمًا عن الواقعة الأولى أو حالة الكون في اللحظة الأولى؟! إن هذا يقتضي فحص كل الوقائع ومنذ بدء الخليقة وحتى قيام القيامة! وإذا افترضْنا جدلًا أننا فعلنا هذا المستحيل، فمن أدرانا أنها جميعًا كانت محتومة؟! كل ما سنعلمه أنها هي التي حدثت ولن نلقى أية بينة على أنه كان مستحيلًا أن يحدث سواها.

فهل يمكن التذرع بالسمة العلمية للحتمية؟ كلا! فكما أوضح جون كيمني في كتابه «الفيلسوف والعلم» (عن الترجمة العربية ص٢٧١ وما بعدها) الحتمية هنا ستستند إلى أن وقائع الكون يوجهها القانون الذي يتوصل إليه العلم، وهذا يعني أن القوانين العلمية تحدد الحوادث، بل تحتم وقوعها، وكأنها تملك قوة ملزمة تجعلها لا بد وأن تطاع حين تأمر! المسألة إذن تشخيص للقانون العلمي وتمثيله بإله أو إنسان ذي قوة وسلطان! وهذا طبعًا نزوعٌ ساذج بدائي ومتخلف، مرفوض في أي تفكير عقلاني، فما بالنا بالتفكير العلمي؟! إن القانون العلمي — بداهةً — لا يلزم الطبيعة بشيء؛ لأنه يُعنى بما يحدث فعلًا، لا بما يجب أن يحدث، ولما كانت القوانين العلمية تقتصر على وصف الوقائع فقط، فإن الكون بالتالي يغدو محددًا، وينطبق هذا — كما يقول كيمني — على جميع الأكوان التي قد تخطر لنا، سواء افترضنا أنها حتمية أو لا حتمية.

ولم يكن منتظر أن يجدي التذرُّع بالسمة العلمية؛ لأن الحتمية — كما يمكن أن نستنبط من التحليلات التاريخية السابقة — محض صورة متعلمنة لحلم ميتافيزيقي قديم، يتوق لإضفاء رونق الواحدية على هذا الكون المتكثر الفوضوي، لننظر إليه ككل، فلا فردية ولا انعزال فيه، ومن ثم لا تكثر ولا تعدد، أينع حلم الواحدية لأنها تعني اتحاد وتناغم الغايات الإنسانية، وتجعلها مرتبطة معًا أو على الأقل غير متعارضة، وكما يوضح إزايا برلين، هذا يفضي إلى نتيجة مؤداها أن إدراك النموذج الذي تشكله هذه الأشياء يجب أن يكون الغاية الحقيقية الوحيدة لكل الأنشطة العقلية، وعلى رأسها بالطبع العلم الساعي إلى الأنموذج الميكانيكي، وفي مقابل واحدية الحتمية، نجد أن التعددية — أي النظر إلى الكون على أنه مكون من وقائع عديدة — هي ما تفرضه النظرة العلمية الخالصة.

أما عن الوجه الآخر للحتمية العلمية — أي العِلِّية، فإنها مثلها بلا بينة ولا برهان، وهي من أضخم الأوثان في تاريخ الفلسفة، لكن أوهاها، ومنذ قرون عديدة كان الإمام الغزالي (٤٥٠–٥٠٥ﻫ/١١١٨–١١٦٢م) وبعده الفيلسوف ديفيد هيوم (١٧١١–١٧٧٦) قد أثار تساؤلًا لم تلقَ إجابة عليه، وهو: من أين أتينا بالعِلِّيَّة؟ إن كل ما نراه تعاقبًا بين أحداث، بين النار والاحتراق … بين الأكل والشبع … إلخ، ولسنا نرى كيانًا ثالثًا اسمه العِلِّيَّة — يحتم الثاني عن الأول، على هذا انتهى هيوم إلى رد العِلِّيَّة لمجرد نزوع سيكولوجي، عادةً تجعل الإنسان يفترضها بين كل حدثين لاحظ اقترانهما.

ورب قائل: لماذا يقترنان دائمًا؟ لا إجابة إلا بأن العِلِّيَّة تربط بينهما؟ ولماذا نفترض أن العِلِّيَّة تربط بينهما؟ لأنهما يقترنان دائمًا؟ … هذا الدوران المنطقي — أي إثبات الواحدة من القضيتين بالأخرى، فتظل كل منهما تنقلك إلى الأخرى في دائرة مغلقة — هذا الدوران القائم بين عنصرين من عناصر الحتمية العلمية هما العِلِّيَّة والاطِّراد «الاطراد = الطبيعة مطردة تسير على وتيرة واحدة ما يقترن اليوم لا بد وأن يقترن غدًا وبعد غد وإلى الأبد»، يفصح عن الخلل في المبدأ الحتمي، وهو من أشهر الدورانات المنطقية في الفكر الفلسفي.

أما بالنسبة للعلم البحت، فقد انتهت التحليلات المعاصرة إلى أن العِلِّيَّة لم يكن لها أي دور في العلم، وأمامنا مثلًا عالم الفيزياء الكبير وفيلسوف العلم هنري مارجينو، يحمل كتابه العميق «طبيعة الواقع الفيزيائي» (The Nature of Physical Reality، p. 389–395) إثباتًا لأن العِلِّيَّة بالنسبة للعلم عبثٌ بلا جدوى! فليس أمامنا علل ومعلولات، أي أحداث سابقة ذات قوة خالقة موجِدة لأحداث لاحقة، أمامنا فقط ظروفٌ ملائمة للحدث، كأن يكون السل علة لموت شخص، أو جذب الشمس علة لحركة الأرض في مدار أهليلجي، أو أن النحات علة للتمثال، أو أن المثلث علة حقيقة مؤداها أن مجموع زواياه ١٨٠، وهذه أمثلة جامعة لشتى ضروب العِلِّيَّة العلمية، أو بالأحرى ما نتصوره عِلِّيَّة، بينما هي في حقيقة الأمر تفسيرات وليست تعليلات، فكما أوضح وايتهد، ليس للطبيعة الميتة أن تقدم عللًا!

ويسهب مارجينو في كتابه المذكور، بشأن المشكلات التي يثيرها اقتحام العِلِّيَّة في العلم، وينتهي إلى أن هذه المشكلات تتبخر ببساطة، إذا ما نفينا عن العِلِّيَّة أية حتمية!

•••

ولكن هل يمكن تقبل هذا وسؤدد الحتمية قد أتى ببرهان دامغ هو تقدم العلم على مدى قرون أربعة من الزمان، وبلوغه الذروة بنظرية نيوتن التي أكدت الحتمية من حيث أكدت التفسير الميكانيكي للكون؟ ألم نرَ تواتر نشأة وتقدم بقية أفرع العلم على قدر ما استطاعت الامتثال للمثال الحتمي؟!

في هذا يمكن اقتباس فقرة من س. دي. برود في كتابه «علم الأخلاق وتاريخ الفلسفة» (Ethics and History of Philosophy، p. 167) يقول فيها: «الدرس الرئيسي الذي ينبغي أن نتعلمه هو: في مراحل معينة من تطور المعرفة البشرية، قد يكون مربحًا وأساسيًّا لأجيال من العلماء، أن يعملوا على أساس من نظرية قد تكون من الناحية الفلسفية محض مهزلة، ونجاح الإجراءات قد يعمي البشر قرونًا طويلة عن حقيقة مؤداها أن افتراضهم يستحيل تصديقه إذا أخذناه على أنه كل الحقيقة، وليس شيئًا إلا الحقيقة.»

•••

فبعد كل ذلك السلطان، والهيل والهيلمان، الذي حازه المبدأ الحتمي في عالم العلم والعلماء، يواصل العلم تقدمه ليسحق معبودته الأثيرة — الحتمية ذاتها، ويمزِّق سذاجة السلسلة العلية الأبدية لتتناثر أشلاءً وحطامًا، ويغدو التصور الميكانيكي أنقاضًا فوق أنقاض.

فقد فجر العلم المعاصر في القرن العشرين ثورتَه العظمى القائمة على الكوانتم والنسبية، وأحكم قبضته على العالم الأصغر أي عالم الذرة وما دون الذرة (الميكروكوزم) بفضل الكوانتم، وعلى العالم الأكبر (الماكروكوزم) بفضل النسبية، وعلى الاثنين معًا بوصفهما عالمًا واحدًا بفضل النسبية أيضًا، كانت الكوانتم خروجًا من العالم الحتمي، أما النظرية النسبية فهي تحطيم للعالم الحتمي … تقويض للتصور الميكانيكي للكون ذي الثوابت المطلقة.

ثورة العلم المعاصر إذن أطاحت بالحتمية، فأثبتت أنه بلغ من العمر رشدًا وقادر على الاستقلال، كان العلم الحديث — من القرن ١٦ حتى نهاية القرن ١٩ — مُراهقًا يشق طريق النمو والنضج، فكان في حاجةٍ إلى راعٍ وجدَه في مبدأ الحتمية، ولكن المبدأ أدى دوره، واستنفد مقومات وجوده، ثم أصبح يخلق المشاكل للعلم ويعرقل انطلاقته لمرحلةٍ أبعد، ولمواصلةِ طريق التقدُّم.

يجمل عالم الطبيعة النووية فيتالي ريدنيك الموقف، في كتابه «ألف باء ميكانيكا الكوانتم» (A, B, C, of Quantum Mechanism, p. 15)، كالآتي: «مع نهايات القرن التاسع عشر أضحت الميكانيكا النيوتونية في موقف متأزم، وشيئًا فشيئًا اتضح أن تلك الأزمة تعني سقوط الحتمية الكونية التي تُسمَّى علميًّا مبدأ الحتمية الميكانيكية، ولم يعد الكون بسيطًا إلى هذا الحد ولا باقيًا على حالة إلى الأبد، فلم تجلب ميكانيكا الكوانتم معها عرفانًا جديدًا فحسب، بل أعطتنا تفسيرًا لظواهر العالم مختلفًا اختلافًا جذريًّا، ولأول مرة يعترف العلماء اعترافًا كاملًا بالمصادفة، ربما كان علينا أن ننحي باللائمة على الفيزيائيين لأنهم وقفوا موقفًا حياديًّا، ولكن كان عليهم فقط أن يتخلوا تمامًا عن فكرة الحتمية الأبدية التي ابتدعوها بأنفسهم، فقد ظنوا أن مثل هذه الحتمية إن هي انسحقت فإن الفوضى المطلقة ستحكم الكون، ولن تعود الأشياء تطيع القوانين الدقيقة، ومضى رَدَحٌ من الزمن قبل أن يجد الفيزيائيون مخرجهم من الأزمة.» وفي النهاية لا يصحُّ إلا الصحيح، تمكَّن العلماء من التحرُّر التام من وثن الحتمية، ورفع لواء اللاحتمية.

فليست أزمة العالم تلك — التي تخلَّقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر — إلا عجز التصور الحتمي الميكانيكي عن استيعاب قوانين وظواهر جدَّت، فقد كانت فيزياء نيوتن تتعامل مع الكتل الماردة المكوِّنة للعالَم الأكبر البادي أمام الخبرة العادية، أي الحس المشترك النازع إلى الحتمية. ومع مطالع القرن العشرين كان العلمُ قد اقتحم بنجاحٍ مظفَّر العالم الأصغر … العالم الذري الذي ضرب عُرْض الحائط بكل ما له علاقة بالحتمية، واستعصى تمامًا على قوانين نيوتن، فلا تجرؤ على الاقتراب منه، ولتقتصر فقط على الكتل الضخمة، ولنعلم أن ما بدا معها من حتمية أتى من سطحية النظرة لما يقع مباشرةً في الحواس، بينما الحقيقة الرابضة في أعماق المادة، حقيقة الذرات التي هي لبنات هذا الوجود تكشف عن خطأ كل ادعاء بالحتمية الميكانيكية والعِلِّيَّة والضرورة والعمومية المطلقة واطِّراد الطبيعة … إلى آخر عناصر المبدأ الحتمي كما رأيناه.

بدأت الأزمة بعلم الديناميكا الحرارية (ظواهر الحرارة)، فهي لا تسمح باستخدام الرياضة الإقليدية، وترفض التحديد الفردي الميكانيكي وتستلزم الإحصاء وتطرح تنبؤات لا يقينية بل احتمالية، لا لعجز الإنسان عن إدراك كافة العلل، وإنما لاتفاق الإحصاء مع طبيعتها الاحتمالية، إن الاحتمالية هي النقض الصريح للحتمية، وبالتالي هي الوجه الإبستمولوجي الصريح للاحتمية، وكما رأينا، كان الحتميون يلوون عنق كل احتمال بواسطة تفسيره تفسيرًا ذاتيًّا، أي إرجاعه إلى الذات، إلى الإنسان وعجزه عن إدراك كافة العلل، ولكن الديناميكا الحرارية حملت إلى أعطاف الفيزياء أول اقتحام للاحتمال الموضوعي الراجع لطبيعة الموضوع لا لعجز الذات، وبالتالي أول تخلٍّ عن الحتمية، وتوطد هذا أكثر بدراسة حركة الغازات، والحركة الدائمة لجزيئات السوائل المسماة بالحركة البراونية «نسبة إلى مكتشفها روبرت براون» والتي تزيد بالحرارة حتى تعطي ظاهرة الغليان، وكلتا الحركتين مجهرية لا تراها العين المجردة، إنهما أول براهين مباشرة على الوجود الحقيقي للذرات.

ثم كانت الذرة ونشاطها الإشعاعي ليحرِّرا العقل العلمي نهائيًّا من وهم الحتمية، لا سيما بعدما انضاف إليهما الكوانتم (الكم) في ١٧ ديسمبر عام ١٩٠٠، على يد العالم الألماني الفذ ماكس بلانك، فقد حاول أن يضع حلًّا لمأزق نجم عن إشعاع الأجسام السوداء حين يتوغل في المنطقة فوق البنفسجية فيخرق القوانين المعمول بها «قانون رايلي/جينز»، فاقترح بلانك الكوانتم بوصفه ذرة الطاقة أو وحدتها الأولية، وأحكم العلاقةَ بين الطاقة والتردُّد عن طريق معامل تناسب معجز اتضح أنه ثابت في جميع أنواع الطاقة؛ لذا يُعرف بثابت بلانك أو كوانتم (كم) الفعل.

كان الكوانتم هو المنعطف الجذري — بألف ولام التعريف أي المفرد العَلَم — في دنيا العلم، حقًّا أنه محض نظرية عن الطبيعة الفيزيائية للإشعاع، ولكن ما أدراك ما الإشعاع! لقد تفاقم أمره حتى استحال الكون بأسره، بما في ذلك كتل نيوتن الصلبة، إلى مجموعة من الإشعاعات، كل شعاع منها تملك زمامه نظرية الكوانتم تلك، فأصبحت الفيزياء الذرية هي فيزياء الكوانتم، الذرة والإشعاع والكوانتم هي الكيانات الأساسية التي يتكوَّن منها عالَم الفيزياء الذرية، المنبثق من قلب عالم نيوتن، ليتمرَّد على تفسيره الميكانيكي وليتحدى بصلابة قوانينه اليقينية ويفرض الاحتمال فرضًا مهما عزَّت علينا الحتمية.

وتوالت جهود صناديد العلم، فاقتحم الكوانتم الميكانيكا الإحصائية ليحل مشاكل مستعصية، وطرح نيلز بور نظريته في الذرة تربط بين أنموذجها التقليدي عند رذرفورد وبين كوانتم الطاقة عند بلانك، ووضع مبدأه المعروف باسم مبدأ التكامل Complementarity بين مفهومي الذرة والإشعاع، وكان آينشتين قد قام بأعظم توسيع للكوانتم حين طبقه في دراسة الظاهرة الكهروضوئية، فتوصل إلى الفوتون، والفوتون هو الجسيم في كل إشعاع، ومعنى هذا عود إلى النظرية الجسيمية وخروج عن النظرية الموجية التي كانت الفيزياء الحتمية قد اعتمدتْها، لتفسير طبيعة الضوء. فتقدم لويس دي بروي L. De Broglie مؤسِّس علم الميكانيكا الموجية في رسالته للدكتوراه عام ١٩١٧ لإعلان أن الضوء مكون من جسيمات ومن موجات معًا، وبلغت به الجرأة حد نقل هذه الفكرة إلى ذرات المادة التي لم يفسرها أحد من قبله على أساس موجي، ويخبرنا لويس دي بروي — في كتابه «الفيزياء والميكروفيزياء» عن الترجمة العربية ص٧٢ — بأن هذا أمر قد يبدو بالغ الصعوبة فقط إذا ما فكرنا بمفاهيم الفيزياء الكلاسيكية وبحثنا عن الحتمية واليقين، ولكنها تبدو بسيطة عندما ندخل الاحتمالات بصورة منتظمة في صلب الظواهر الأولية، فالمادة التي افترضها دي بروي هي توزيع لاحتمال وجود الفوتونات على المكان.

إذن فكرة الاحتمال هنا أساسية — أو موضوعية لا علاقة لها بجهل الذات العارفة، لتنقض الحتمية، وتعني اللاحتمية، جهارًا نهارًا.

وتوسع العلماء في تطبيق هذه الثنائية الموجية/الجسيمية على المادة والطاقة، أو الذرة والإشعاع معًا، فلم يعد ثمة تعارض بينهما ولا حاجز، إنهما مظهران مختلفان، ويمكن أن يتخذ أحدهما صورة الآخر.

فتحت الميكانيكا الموجية الباب الاحتمالي اللاحتمي على مصراعيه، لتنطلق منه الفيزياء في طريق التقدُّم بسرعة مذهلة، فجاء إيرفين شرودنجر عام ١٩٢٥-١٩٢٦ ليتوغل في التفسير الإشعاعي لكل مكونات هذا العالم، وليوحد تمامًا بين صورتي الميكانيكا الجديدتين: ميكانيكا الكوانتم والميكانيكا الموجية، ثم اقترح ماكس بورن الفكرة القائلة إن الموجات لا تمثل أكثر من احتمال؛ فتعمقت جذرية التحول الاحتمالي، واستبدلت بفكرة «إذا كان … فإن … دائمًا» التي عرفتها الفيزياء الكلاسيكية، فكرة «إذا كان … فإن … بنسبة مئوية معينة»، وأصبحت المصادفة عنصرًا في بنية الطبيعة.

واصل فيرنر هيزنبرج السير في هذا الطريق، فبين أن أدوات القياس تفرض قدرًا من اللاتعيُّن في التنبؤ بمسار الجسيم، أي استحالة التعيين الدقيق لموضع الإلكترون وسرعته في آن واحد، وصاغ هذا عام ١٩٢٥ في مبدئه المعروف باسم مبدأ اللاتعيُّن Indeterminacy Principle، الذي يعد الميلاد الثاني لنظرية الكوانتم، وفي الوقت نفسه المسمار الأخير في نعش الحتمية العلمية.

هكذا كان العالم الذريُّ هو الذي شقَّ لنا الطريق لنبرأ من وهم الحتمية، فهو يقر بالمصادفة والاحتمال الموضوعي، ولكنه طبعًا كوزموس منتظم، ذو ثوابت عتيدة، تتضاءل — بل تذوي بجوارها ثوابت الحتمية الساذجة، ولن تلقي الحتمية همزة وصل بينه وبينها، فهو عالم عرف كيف يتحرر من داء البحث عن اليقين، فاتخذ الإحصاء منهجًا يُفضي به إلى تلك النتائج الاحتمالية الرائعة التي نلمس جبروتها في كل شيء بَدْءًا من غزوِ الفضاء وقهر الأمراض الخبيثة حتى أدوات التسلية والترفيه، بغير الزعم بأن تنبؤاتِها ضربة لازب أو قضاء مبرم أو كشف عن القدر المحتوم، عالم ليس بذي احتياجٍ لاطراد الطبيعة ولن يتخبَّط أو ينهار بدونه كما يحدث لغير الراشدين، فلا يفرض على الطبيعة ولا يفترض فيها ضرورة، ولا ينشغل البتة بخرافة العِلِّيَّة ويحصر همه في العلاقات والارتباطات والتفسيرات — لا التعليلات، ويدرك تمام الإدراك أن الرياضة محض أداة عقلية خاوية، لا تبرر أية دعوى أنطولوجية، وهو الذي يملؤها بالمضمون، مضمون المتوسطات التي لا تزعم عمومية مطلقة ولا تبحث عنها، عالم يجعلنا ندرك سطحية التفسير الميكانيكي، فضلًا عن فشله وعجزه، وندرك أكثر تفاهة الواحدية المادية التي تمخضت عنها حتمية نيوتن، فقد أصبحت المادة لا كتلًا تثير حاسة اللمس فحسب بل كائنًا غاية في الشفافية، مجرد إشعاعات من مركز … على الإجمال إنه العالم اللاحتمي.

ويومًا بعد يوم يؤكد لنا العالم الذري أن الاحتمالية واللاحتمية خير وأبقى، وأجدى من اليقين والحتمية ألف مرة، لقد تحطم هذا الوهم الطاغي الجبار تحت وطأة جسيمات الذرة المتناهية في الصغر.

على أن اللاحتمية Indeterminism ليست قصرًا على العالم الذري، وليس العالم الأكبر الذي نحيا فيه بمنجاة منها، أو أنه لا يزال ساكنًا بين أحضان قوانين علمية يقينية، كلا، فاللاحتمية أصبحت الآن عامة شاملة لمجمل نسق العلم، وأية ظاهرة في الكون تعطينا الحسابات من المعادلات الفيزيائية النتيجة المحتملة بشأنها ودرجة احتمالها، بمنتهى الدقة، مثلًا، شروق الشمس غدًا، في نظر العوام قضية حتمية، ولكنها في نظر العلم المعاصر تقع فقط في مجال احتمالية عالية جدًّا، بسبب ضخامة الشمس، شروقها غدًا احتمال، وبالتالي عدم شروقها أيضًا احتمال قائم، ولكن بنسبة ضئيلة جدًّا يمكن إهمالها.

بالعود إلى العالم الأكبر (الماكرو كوزم) نجد أن آينشتين قد أتانا بالنسبية، أول نظرية في التاريخ تحل محل نظرية نيوتن فتؤدي مهامها بصورة أكفأ وأدق، وقد بدأت من تجربة قام بها العالمان ميكلسون ومورلي، انتهيا منها إلى ثبات سرعة الضوء واستحالة الاستدلال على وجود الأثير، إنها كارثة حلت بالأثير، وقد كان — كما ذكرنا — فرضًا ضروريًّا لكي يكتمل التفسير الميكانيكي للكون، ومن ثم فإن سقوط فرض الأثير بُعد من أبعاد أزمة العلم الحتمي، وواحد من المؤشرات القوية التي آذنت بانهيار الحتمية العلمية.

بدأ آينشتين بنتيجة هذه التجربة، أي باستبعاد الأثير تمامًا، وثبات سرعة الضوء، والمقصود بها السرعة الكونية لجميع الظواهر الكهرومغناطيسية والتي لا يمكن أن يبلغها أي جسم مادي، وهي ١٨٦٠٠٠ ميل في الثانية، ثم وضع نظريتي النسبية الخاصة (١٩٠٥) والنسبية العامة (سنة ١٩١٧)، الخاصة تتعلق بالأجسام التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة ثابتة، أما العامة فتختص بالأجسام التي تتحرك بالنسبة لبعضها بسرعة متزايدة أو متناقصة (أي بعجلة)، ولما كانت الأجسام المتحركة بسرعة ثابتة يمكن اعتبارها متحركة بعجلة مقدارها صفر، فإن النظرية الأولى محض حالة خاصة من الثانية.

في النسبية الخاصة، ينصُّ القانون الأول على أن الأجسام تنكمش في اتجاه حركتها، والثاني على ازدياد كتلة الجسم بازدياد سرعته، والثالث خاص بتحصيل السرعات، كحساب السرعة النسبية لجسمين يتحركان بالنسبة لبعضهما في اتجاه معاكس، وهي ليست كما تتصوَّر الفيزياء الكلاسيكية مجرد مجموع السرعتين، أما القانون الرابع فينصُّ على أن الطاقةَ تساوي الكتلةَ مضروبة في مربع سرعة الضوء، وفي الخامس يتباطأ الزمن — وبنفس المعامل الذي ينكمش به الطول — تبعًا للسرعة التي يسير بها حامل الساعة، أي من يقوم برصد الزمان.

وبهذا انهارت تمامًا ثوابت فيزياء نيوتن الكلاسيكية، كالكتلة والأبعاد مثلًا، وبعد أن كان كل شيء فيها مطلقًا، يجعل حتميتها مطلقة بالنسبة للجميع، علمتنا النسبية أن هذا الكون، الذي نحيا فيه ونحاول فهمه واستكناه طبيعته بواسطة العلم، لا شيء فيه مطلق البتة، انهار المفهوم المطلق للزمان والمكان الموضوعيين بالنسبة للجميع، ودخل الزمان كبُعد رابع للمادة، وهذا كما يقول فيرنر هيزنبرج، في كتابه «المشكلات الفلسفية للعلوم النووية»، عن الترجمة العربية ص٦: أول هجوم سُلط على الفرض الأساسي للفيزياء الكلاسيكية، فلم تعد المسافة مجرد بُعد بين نقطتين، كما لم يعد الطول والعرض والارتفاع كل أبعاد المادة، والتي لم يخطر ببال العلماء الحتميين أبعاد سواها، بل تدخل الزمان في المسافات والأبعاد.

وترتب على هذا أنه إذا وقع حادثان في المكان نفسه ولكن في لحظتين مختلفتين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في مكانين مختلفين إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، وعلى أساس تكافؤ الزمان والمكان الذي يجعل أحدهما دالًّا على الآخر، يصح العكس أيضًا: فإذا وقع حادثان في اللحظة نفسها ولكن في مكانين مختلفين من وجهة نظر مشاهد، فيمكن اعتبارهما قد وقعا في لحظتين مختلفتين، إذا نظر إليهما مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، هكذا تدخل الذات العارفة كمتغير في معادلة الطبيعة، لتتحقق الموضوعية بصورة مدهشة، الموضوعية الحقيقية، ويتبخر مفهوم الموضوعية المطلقة التي لا علاقة لها البتة بالذات العارفة والزائفة زيف حتميتها الميكانيكية.

وأيضًا إذا وقع حادثان في اللحظة نفسِها من وجهة نظر مشاهد آخر في حالة حركية أخرى، يكونان منفصلين عن بعضهما بفترة زمنية معينة، من هنا حملت النسبية مفهوم التآني: أي استحالة الحكم بأن حادثًا وقع قبل أو بعد الآخر، فكيف يتأتى التفسير العِلِّي الذي يشترط أسبقية العلة على المعلول؟!

ثم نجد النسبية العامة تنص على أن السطح محدب، وليس مستويًا كما افترض نيوتن وكما يدركه الحس المشترك، فهذان العالَمان أي عالَم نيوتن وعالَم الحس المشترك متشابهان، أما النسبية فقد شيدت عالمًا مختلفًا أتم الاختلاف.

أدركنا الآن أن نظرية نيوتن ليست ذات دقة قاطعة أو عمومية مطلقة أو صدق يقيني … على الإجمال ليست من الحتمية في شيء، هي فقط نظرية تقريبية بارعة تقتصر على الماكروكوزم، وبينما تفشل في الاقتراب من الميكروكوزم، تنجح النسبية في التحكم فيه، فضلًا عن أنها — أي النسبية — تتحكم في الماكروكوزم أيضًا بدقة فائقة، وتحمل حلولًا لمشكلات فيه استعصت على الفيزياء الكلاسيكية، لتنتصر على النيوتونية في عقر دارها، وإذا كانت النيوتونية لا يزال معمولًا بها؛ فذلك لأنه في معظم مجالات الماكروكوزم يمكن إهمال الفارق الضئيل جدًّا بين النيوتنية وبين النسبية في مدى الدقة.

إن النسبية هي النظرية الفيزيائية لكونٍ الذرة قوامه ومكونه الأول، والعالم الذري هو العالم اللاحتمي؛ لذا تحطم النسبية الخلفية المفترضة للحتمية، وتنهي بصورة حاسمة التفسير الميكانيكي للكون وترسم له صورة مناقضة تتبخَّر منها الأُطر اللازمة للحتمية المزعومة، لقد أضحى عالم نيوتن الميكانيكي أطلالًا دوارس.

•••

وهذا الانقلاب على الحتمية حاز منتهى الشرعية، حين أسبغت عليه الرياضيات ملكة العلوم تأييدها، فثمة زلزال آخر — آتٍ من تطوُّر الرياضيات — أطاح بالبقية الباقية من دعائم الحتمية العلمية، التي يعد اليقين الوجه الإبستمولوجي الصريح لها، حتى رأينا أن الحتمية ويقينها توطدا نهائيًّا حين أمكن التعبير عن القوانين الفيزيائية باللغة الرياضية، الضرورية دائمًا.

فقد كانت الرياضيات، وستظل دائمًا، التمثيلَ العيني لليقين المطلق، ولكن أي يقين؟ ذلك هو السؤال.

لم يكن أمام الفيزياء الكلاسيكية إلا هندسة إقليدس؛ فظنوا أنه لا هندسة سواها، وأنها الأنموذج الأمثل لليقين المطلق المنشود، حتى إن القديس توما الإكويني (١٢٢٥–١٢٧٤) قد شغلته القضية: ما الذي يكون فوق إرادة الله؟ فوضع إجابة تتضمن بضعة أشياء، منها أنه تعالى لا يستطيع أن يجعل زوايا المثلث أقل من قائمتين فقد كان الجميع — فلاسفة وعلماء ومثقفون وعوام — شأنهم شأن إيفان كرامازوف بطل رائعة دستويفسكي، على يقين من أن الله خلق العالم بموجب الهندسة الإقليدية، فليس غريبًا أن تطرح فيزياء نيوتن الكلاسيكية كل هذه الحتمية، وهي تقوم بتطبيقها على الواقع الفيزيائي، فتسلم مثلها بأن السطح مستو، كما تلاحظ الخبرة العادية.

بيد أن المسلَّمة الإقليدية الخامسة، القائلة باستحالة التقاء الخطَّين المتوازيين، أثارت مشكلات، فقد شك الرياضيون في أنها مسلمة، وحاولوا إثباتها باستخدام المسلمات الأخرى، ولم ينجح أحد، وبعضهم أفضت به هذه المسلمة إلى الجنون، فلم يكن أمامهم إلا برهان الخلف (أي البرهنة على صحة القضية بإثبات خطأ عكسها)، وبالتالي بدءوا بالتسليم بالعكس: إمكانية التقاء المتوازيين، ولكي يفعلوا هذا افترضوا أن السطح غير إقليدي؛ أي غير مستوٍ. من هنا أدت المسلمة الخامسة إلى الهندسات اللاإقليدية، وهي كل الأنساق الهندسية التي تختلف عن نسق إقليدس في أنها لا تفترض أن السطح مستوٍ، فتسلم بمسلمات مخالفة.

فجاء لوباتشيفسكي (١٧٩٢–١٨٥٦) ونشر عام ١٨٢٩ في جامعته قازان مذكراته حول مبادئ الهندسة، وكان هذا أول عرض منهجي كامل لهندسة لا إقليدية، ترفض بديهية التوازي، فتفترض أن السطح ليس مستويًا، بل مقعرًا، ثم جاء الألماني ريمان (١٨٢٦–١٨٦٦) ليفترض أن السطح محدب، ووضع نسقًا لهندسة لا إقليدية، لا توجد فيها أية خطوط متوازية على الإطلاق.

هاتان الهندستان تختلفان مع الإقليدية، ومع هذا كلتاهما — كالإقليدية — صحيحة ويقينية «في بنائهما الداخلي» مائة في المائة، أدركنا إذن أن الله يمكن أن يخلق مثلثات زواياها أكثر أو أقل من قائمتين، وأن ما قاله إقليدس محض بناء عقلي بارع وليس ضربة لازب مفروضة على الله قبل الإنسان!

خصوصًا وأنهما ظلتا رياضيات بحتة فحسب، حتى جاء آينشتين وجعل منها الرياضة التطبيقية، فقد أثبت الخطأ في محاولة تطبيق الإقليدية على العالم وأنه ليس به استقامة ولا استواء، وجعل من نسق ريمان، وهو هندسة السطح المحدب، الهندسة الفيزيائية لهذا الكون، فقد ذكرنا أن النسبيةَ العامة تجعل كل السطوح محدبةً، وكان آينشتين يعتبر هذا أعظم إنجازاته، وحين سأله ولده عن سبب شهرته، أجابه: أتعلم يا بني، عندما يزحف صرصور أعمى على سطح كرة فإنه لا يلاحظ الطريق الذي سار فيه، بينما أنا على العكس أسعدني الحظ بأن ألاحظَ ذلك!

أفلا يعني هذا أن العلماء حين استمدوا من إقليدية النيوتونية سندًا لحتميتهم كانوا كالصراصير العميان!

•••

ثم جاءت ثورة المنطق الرياضية، أو ثورة الرياضة المنطقية، حين استأنف وايتهد (١٨٦١–١٩٤٧) وبرتراند راسل (١٨٧٢–١٩٧٠) جهود زملائهما، وأخرجا كتاباهما العظيم «أصول الرياضيات» Principia Mathematica وفيه يبدآن بثلاثة لا معرفات هي الإثبات والنفي والبدائل، ومنها فقط تمكنا بواسطة التدوين الرمزي من استنباط قواعد المنطق الصوري، ومنها استنبطا الرياضيات البحتة بأسرها، ومعنى هذا أن الرياضيات امتداد للمنطق وأنها مثله فارغة من أي مضمون إخباري، ومحض تحصيلات حاصل، الرياضيات إذن يقينية لأنها لا تمثل إلا ارتباطات جديدة، بين مفاهيم معروفة، وتبعًا لقواعد معروفة.

وبهذا ثبت أن الرياضياتِ تحليلية، شق القضية فيها مجرد تحليل للشق الآخر، أي أنها ليست تركيبية ولا تقوم بتركيب معلومات تحمل أخبارًا، إنها مجرد بناء عقلي بحت وإنشاء منطقي خالص، إنها ملكة العلوم والمبحث الصوري الرفيع المرتفع عن شهادة الحواس، وعن لجة الواقع المادي.

بذلك نفهم مثلًا كيف أن الإقليدية، بعد ظهور نسبية آينشتين فقدت ارتباطها الضروري بالواقع ومع هذا ظلت يقينية، فاليقين هنا هو يقين الضرورة المنطقية التي تربط بين أطراف النسق، لقد طلب منا إقليدس أن نسلم بمسلَّمات معينة ثم أعطانا النتائج التي تلزم يقينًا عنها؛ أي تحليلاتها بصورة أو بأخرى، ولا شأن لنا بالواقع والإخبار عنه. وبالمثل فعل لوباتشيفسكي وريمان، فتوصلا إلى نظريات مختلفة، وكلها يقينية؛ لأنها جميعًا تلزم بالضرورة عما سلمنا به من مسلَّمات اختلفت من نسق لآخر.

ومن الناحية الأخرى نجد أن الخاصة المميزة للفيزياء هي أنها مصوغة في حدود المعادلات الرياضية، حتى أوشكت الحدود أن تضيع بين الفيزياء والرياضة، وكلَّما ازداد العلم تقدُّمًا ازداد إيغالًا في عالم الرياضيات: لغة العلم، ومع هذا تظل المعادلات الرياضية البحتة يقينية، بينما المعادلات الفيزيائية الرياضية محض احتمالية، فكيف؟! الحل بات واضحًا، فصدق القضايا الرياضية يعتمد على العلاقات الداخلية بين أطرافها، أما صدق القضايا الفيزيائية فيعتمد على علاقتها بشيء خارجي، مرتبط بالخبرة، إن التمييز راجع إلى اختلاف موضوعات العلمين، واختلاف الخاصة المنطقية لكليهما، الرياضة تحليلية والفيزياء تركيبية، وموضوعات الفيزياء لا يمكن أن تتحدَّد ببديهيات ومسلمات؛ لأنها شيء في العالم الواقعي التجريبي، وليست في العالم المنطقي للرياضيات.

إن الرياضيات محض لغة وأداة فحسب، تقتصر على صياغة علاقات فارغة، تسري على كل كوزموس ممكن سواء أكان حتميًّا أو لا حتميًّا؛ لذلك وصلت الفيزياء المعاصرة إلى الذروة في سمتها الرياضية، وبصورة لم تكن تخطر على بال علماء الفيزياء الكلاسيكية أنفسهم، ومع هذا ستظل دائمًا في حاجة لإثبات صدق معادلاتها على الواقع، وهذه العلاقة تختلف تمامًا عن الاتساق الداخلي للرياضيات.

•••

هكذا تبرَّأت الفيزياء المعاصرة تمامًا من كل ومن أي زعم بالحتمية الكونية، ولأن الفيزياء هي الأصل وصاحبة القول الفصل — كما أوضحنا — أصبحت فروع العلم المختلفة تسعى نحو مبدئها اللاحتمي.

لقد أضحى العلم في القرن العشرين لا حتميًّا، كمقابل للعلم الحديث الذي كان حتميًّا، وفي الفصل الأخير سنرى عمق وجذرية اللاحتمية في العلم المعاصر، إبستمولوجيًّا وأنطولوجيًّا، أو معرفيًّا ووجوديًّا.

•••

إلى غير نهوض انهارَت الحتمية العلمية بأنموذجها العِلِّيِّ الميكانيكي الذي يستحيل أن يتسع لأية ومضة حرية، وبعد أن أرقت فلاسفة الحُرية أيما أرق، وفي الفصلين الثاني والثالث سنرى أن معضل الحُرية في عالم العلم الحتمي أخطر مما نتصور، وذو نتائج وبيلة أبعد من كل ما نتوقع؛ لذا كان لفت الانتباه منذ البداية إلى خطورة أن يتعارض العلم مع الحُرية، وبالتالي أهمية ألَّا يتعارض — أن يتوافق معها … يتوافق القطبان الأعظمان لإنسانية الإنسان في مدارج رقيها: الحُرية والعلم، وبعد طول تنازع وتضاد، أو على الأقل فصام وانفصام.

إن تبيان هذا التوافق والتأكيد عليه لمهمةٌ منوطة بنا نحن لا سوانا، نحن أبناء العصر الذي شهد ثورة العلم العظمى، وخروجه من أعطاف الحتمية الميكانيكية إلى آفاق مفتوحة، بلا نموذج تؤدي أطره إلى طريق مسدود كما حدث إبان أزمة العلم الحتمي. إنها ثورة العلم العظمى التي توالي السير قدمًا، ويبدو أننا لم نُدرك بعدُ كل مضامينها الفلسفية، حتى إن كثيرين من ذوي العقول النيرة يرفضون الخلاص من الحتمية وإن سلموا بانهيار ميكانيكيتها، أو يسلمون بها إبستمولوجيًّا وينكرونها أنطولوجيًّا مع تسليمهم بدلالة العلم الأنطولوجية! … هذه الثورة العلمية العظمى كفيلةٌ بأن تفتح أمامنا آفاقًا أرحب، وتُكسب عقولنا مرونة ونضجًا تجعلنا أقدر من سوانا في العصور السالفة.

فقد اتضح آنفًا مدى هيمنةِ الحتمية على العقل البشري عمومًا، والعقل العلمي خصوصًا؛ لذلك كانت الحُرية الإنسانية من أشهر المتاهات الفلسفية المفضية إلى لا شيء، ولما تصدر العلم مسيرة العرفان جعل من الحتمية الهيكل المُعلى، لتبيضَ المتاهة وتفرخ متاهات ومتاهات، ولكن العقل العلمي المعاصر يفتح لنا طريق الخلاص من هذه المتاهات؛ لأنه قد اكتمل نضجًا واستقلالًا، ولم يعد يفترض ولا يفرض على الوجود ما هو منه براء. لقد تراجعت حتميته، وتلاشى نفيه للحرية الإنسانية، بعد أن كان أعتى وأصلب من ينفيها.

ربما كانت الحُرية منفية من زاوية أخرى، أو حتى من ألف زاوية أخرى، ولكننا اتفقنا على الاقتصار على المنظور العلمي.

وهذه الخلفية التي طرحها المدخل جعلنا بإزاء انقلاب علمي جذري من النقيض إلى النقيض، من الحتمية إلى اللاحتمية، مما يعدنا برحلة فلسفية مثيرة حقًّا، شريطة أن ننزهها من التهاويم والإسقاطات، ويندر أن نجد قضية فلسفية نجت من الإسقاطات الدينية والسياسية، فما بالنا بقضية في حيوية الحُرية.

إن المدخل قد أسهب فيما أوجزه عنوان الكتاب، في تحديد مسار الرحلة الفلسفية المزمعة، لتغدو بمنحاة من انحيازات أو تهاويم أو إسقاطات، فلنبدأ، وبالله قصد السبيل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤