الفصل الثاني

معضل الحرية في عالم العلم الحتمي

(٥) نحن الآن في العصر الحتمي بإزاء الصورة التي رسمتْها إبستمولوجية العلم النيوتوني لهذا الكون الذي يحيا فيه الإنسان ويمارس أنشطته وأفعاله، لتندرج في تيار الأحداث، وقد رأينا كيف انساق هذا التيار في تسلسل حتمي؛ كل حدث — سواء فيزيائي أو كيميائي أو بيولوجي أو سيكولوجي أو سيسيولوجي أو تاريخي … إلخ حدوثه — ضروري وحدوث سواه مستحيل، ومعنى هذا انتفاء بدائل للحدث، وقد رأينا أن البدائل هي الشرط الضروري للحرية.

كل حدث محتوم لأنه معلول بما سبقه، وعلةٌ لما يلحقه، إذن فكل فعل من أفعال الإنسان هكذا، ولو وُجد عقل لابلاس الفائق، فسوف يستطيع التنبؤ بما يفعله كل شخص في كل لحظة، وعلى أقل الفروض حين يوجد نسق العلم السيكولوجي المماثل في نضجه وتطوره لنسق العلم الفيزيائي، سيستطيع عالم النفس أن يتنبأ يقينًا بسلوك الشخص المحتوم عليه أن يفعله حين يتعرض لموقف معين، تمامًا مثلما يتنبأ عالم الكيمياء بسلوك الماء المحتوم حدوثه حين يتعرض الماء لدرجة حرارة معينة، وبهذا العلم اليقيني الشامل لا بدائل أمام الإنسان ليختار منها فقط الحدث الواحد والوحيد المحتم أنطولوجيًّا بالعلل وإبستمولوجيًّا بالقانون، فكيف الاختيار؟ ومن أين الحُرية؟ وأي دور للإرادة؟!

الحتمية العلمية تعني أن كل حدث محتم بسوابقه، والمستقبل لهذا وليد الماضي، ومن ثم فإنَّ أفعال الإنسان بدورها هكذا مُحتَّمة بسوابقها، أي عللها، ومستقبله وليد ماضيه، وقراراته وأفعاله المقبلة معلول حتمي للعلل البيئية والوراثية التي حدَّدت في الماضي شخصيتَه فحتَّمت ردود أفعاله، وتمامًا كما استطاع العلمُ التنبؤَ اليقيني بكسوف الشمس وخسوف القمر فسوف يستطيع التنبؤ اليقيني بالمشروب الذي يختاره الشخص في اللحظة المعينة، وبالمصيف الذي يختاره لقضاء إجازته، وبالثوب الذي سينتقيه وبالثورة التي سيقودها، وبالجريمة التي سيرتكبها، وبالمعونة التي سيتبرع بها، وبالكشف العلمي الذي سيتوصَّل إليه وبالعمل الفني الذي سيُبدعه، وبالعاطفة التي سيعيشها، بل وبكل حرفٍ يتفوَّه به وبكل إيماءةٍ تصدر عنه … إلخ، وإذا كنا لا نستطيع الآن التنبؤَ بهذا فتمامًا كما كنا منذ مئات الأعوام لا نستطيع التنبؤَ بكسوف الشمس وخسوف القمر، المسألة مجرد حدود للجهل ستتقلص بمرور الأيام وبتقدُّم العلوم خصوصًا علم النفس وسائر علوم الإنسان، حتى نصل إلى اليوم الذي ندرك فيه آفاق الحتمية الشاملة الكاملة ولا يبقى مجال لحتمية مجهولة، فنتصور أن هذا المجال مجالٌ للحرية، إذن الإرادة ووهم الحُرية كسائر شياطين التخلُّف تولد وتحيا في ظلام الجهل، ونور العرفان كفيلٌ بوأدها، وحينما يتحقَّق نسق العلم الكامل سيعمُّ نوره فيلغي افتراض الحُرية نهائيًّا!

على أن الحتمية العلمية لم تكن في حاجة إلى أن تنتظر ريثما يتحقَّق نسق العلم الكامل، أو حتى نشأة العلوم الحتمية الإنسانية لكي تنفي حرية الإنسان، ولا حتى كانت في حاجةٍ ماسةٍ لذلك التأويل الذاتي لحدود الجهل الإبستمولوجي، لتنزه الواقع الأنطولوجي من أية شبهة حرية من حيث كانت تنزهه من أية شبهة لا حتمية … كلا لم تكن الحتمية العلمية في حاجة ماسة لكل هذا؛ لأننا رأيناها — في المدخل — قد بدأت في أولى خطواتها بالحتمية الفلكية وبهذا استطاع مبدأ الحتمية أن يواصلَ مسيرتَه بغير انقطاعٍ عبر التاريخ، ويمارس دوره المطَّرد في نفي الحُرية، وبغير أن يعرقلَ هذا الاطراد الانقلاب الجذري الذي أحدثتْه ثورةُ العلم الحتمي في العصر الحديث، فهذه المرحلة المبكرة من العلم الحديث الحتمي — في القرن السادس عشر وبواكير القرن السابع عشر — كانت خطوة حاسمة للانتقال من علم التنجيم الخرافي إلى علم الفلك الوضعي، كمقدمة لنقل بقية أفرع العلم إلى المرحلة الحتمية الوضعية، بيد أن العقول كانت — ولعل بعضها لا يزال حتى الآن — مشبعة بمقدرة التنجيم على قراءة الطالع والتنبؤ بمصائر الأشخاص، ولما كان علم التنجيم يزعم أنه يفعل هذا عن طريق حركات النجوم والكواكب، فمبجرَّد أن أتانا العلم الحتميُّ بأول مراسيمه الحتمية — أي بأن حركات النجوم والكواكب خاضعة لضرورة الحتمية العِلِّية — إلا وكان هذا المرسوم يعني أيضًا أن مصائر البشر بدورها هكذا.

على هذا النحو انقضت الحتمية العلية بأولى خطواتها الغضة على حرية الإنسان لتلزمه بالمحتوم، وبمرور الأعوام تجاوزت الحتمية ميدان الفلك لتصل إلى كل الميادين الواحد بعد الآخر، وكل ميدان تفرض سطوتها عليه يؤكِّد من جانبه نفيَ حرية الإنسان حتى وصلت إلى غايتها بالتفسير الميكانيكي الجامع لكل ظواهر الوجود، «والذي يعتبر العالم دائرة مقفلة من الحوادث يتصل بعضها ببعض اتصالًا عِليًّا بحتًا لا دخل لاختيار الإنسان فيه، وأن كل ما يحدث قد قدِّر أزلًا وأحصي عددًا كما لو كان نتيجة لعملية حسابية عظمى قام بها عقل حاسب»،١ إننا بإزاء عالم حتمي كامل، وليس ثمة مجال لتدخُّل أي شيء من خارجه، وكما نصَّت قوانين الحفظ والبقاء؛ كل ما يحدث في مثل هذا العالم قد تحتم من قبلُ فيزيقيًّا بما في ذلك كل حركاتِنا وبالتالي كل أفعالنا، ومن ثَمَّ فإن كل أفكارنا ومشاعرنا ومجهوداتِنا لا يمكن أن يكون لها تأثير فعليٌّ على ما يحدث في العالم الفيزيقي، إنها إن لم تكن محض أوهام فهي على أحسن الفروض نوافل ومنتجات جانبية وظواهر فرعية للأحداث الفيزيائية.٢

ولم يكن الوعيُ مشكلةً أمام الحتميين، بعضهم اعترف به كعلة للسلوك، وظل السلوك محتومًا على أساس أن الوعي بدوره معلول لعلَّةٍ أسبق، بعبارة أخرى الوعي يندرج في التسلسل العِلِّي ليغدو هو ذاته محتومًا بسوابقه، والبعض اعتبر الوعي محض ظاهرة فرعية ثانوية وليس علة، وفي كلتا الحالتين التفسير الميكانيكي يحكم قبضته على العالم، فلن يستطيع الإنسان أن يفر من هذه الحتمية الميكانيكية الشاملة، يا ليت فحسب بل هرولت إلى رحابها علوم الإنسان الناشئة حديثًا وهي بعدُ قاصرة لم تستقم قامتها.

أصبح الفكر يُفسَّر على أنه نشاط ميكانيكي للمخ، والعاطفة على أنها نشاط ميكانيكي للجسد، وتصورنا أنه إذا أمكن تقصِّي كل التغيرات الفيزيائية والكيميائية التي تحدث في المخ والجسم لأمكننا — ولو من حيث المبدأ — أن نستدلَّ على كل الخبرات الذهنية والعاطفية الخاصة بالفعل الذي يصاحبها، فإذا كانت التغيُّرات المادية مرتبطةً بسلسلة من العِلَل فلا بد وأن الخبراتِ الذهنيةَ والعاطفيةَ مترابطةٌ أيضًا بنفس الأسلوب ولم يعد هناك مجال لحرية الإرادة.٣

وكما أوضحنا حتى ولو كان الوعي — وليس العلل الفيزيقية — هو العلة المباشرة للسلوك، فإن الوعي محتوم بعلل؛ أي محتوم بسوابقه، وبالتالي فإن السلوك بدوره هكذا، رفض هذا يعني رفض إمكانية الفهم العلمي لسلوك الإنسان (قد رأينا في المدخل كيف أصبح التفسير العلمي مطابقًا للتفسير الميكانيكي)؛ وبهذا يتأكد مرة أخرى أن تصور الحُرية محض وهم ناشئ من الجهل.

يستبعد التفكير الميكانيكي مقولة الحُرية جملة وتفصيلًا؛ لأنه يستبعد أية إمكانية لأي دور تقوم به ولأي حيزٍ لها، ولأي منشأ لها أو أصل، ولأي هدف لها أو داع؛ ذلك لأنه يسحق تمامًا كل وأي محاولة لتفسير السلوك الإنساني في حدود الاختيار والأهداف والعقائد والنوايا،٤ كلها مفاهيم أو محاولات تطيح بها نظريات الفسيولوجيا العصبية، لقد أصبح الفعل المعين والحركة المعينة للإنسان خاضعةً بالكلية للتفسير الميكانيكي والذي هو محض تفسير حركي فيزيقي ولدرجة أن كلَّ تفسيرٍ سواه عقيم وباطل،٥ وبالتالي أصبح لزامًا على مقولة الحُرية الإنسانية أن تغادرَ هذا الوجود، ومعها كل مفاهيم الأغراض والأهداف والغايات والمُثل العليا التي تسعى هذه الحُرية إليها؛ لكي تكون حرية إنسانية واعية، أوَليس التفكير الميكانيكي هو التفسير الحتمي، هو التفسير العِلِّي بالعوامل السابقة، وأي تفسير بالهدف أو الغاية المستقبلية إهدار للسمة العلمية ورجعة تقهقرية إلى العصر المتخلف السابق على عصر الحتمية العلمية، أي عصر الغائية.

هكذا أصبحنا دمى لا حول لها ولا حيلة في يد الحتمية الكونية بقوانينها الميكانيكية وعواملها العِلِّية، التي تحدد طريقًا نحن فيه سائرون، أو بالأحرى مسيرون، وإن تصوَّرْنا أننا متَّجهون بالإرادة الحرة نحو قرار أو اختيار أو هدف أو غاية؛ فذلك لأننا عميان وإن كنا نبصر، صُم وإن كنا نسمع، عميان وصم عن القوى العلية الكائنة في الخلف.

العلية إذن هي مربط الفرس والكفيلة وحدها بتصدُّر الواجهة في مواجهة حرية الإنسان، وحقًّا أن العلية مجرد وجه آخر للحتمية إلا أنها على أية حال أكثر من الحتمية تحديدًا، فهل يمكن الاستفادة من هذا التحديد في إيجاد مجال للحرية الإنسانية؟

•••

(٦) «معضل الحُرية/العلِّية»: لنتذكر أننا الآن في العصر الحتمي الذي امتدَّ حتى نهايات القرن التاسع عشر، وكنا قد رأينا كيف امتد نطاق العلية من الحس المشترك إلى الفكر الفلسفي إلى العلم البحت، فاندرجت كل أحداث الوجود — ومن ضمنها الأفعال الإنسانية في التسلسل العلي الأنطولوجي، وأصبحت كل فاعلية مؤثرة أو قوة متغيرة علة معلولها الأثر أو التغيُّر الذي هو الحدث موضع البحث، ولما كنا نرفض المفاهيم الصوفية والرومانتيكية وغيرها من مفاهيم لا معقولة للحرية، ونتمسَّك بالمفهوم الواقعي — بمعنى الواقعية الحديثة٦ — للحرية الأنطولوجية، أي باعتبارها مُحدِثة أو مُساهمة في إحداث فعل الفاعل، فإن هذا يجعل السبيل الأوحد والذي لا سبيل سواه إنما في جعل الحُرية علةً، معلولها فعل الفاعل، ومن الناحية الأخرى — الناحية الإبستمولوجية — فإن تعقل أو تفسير أو فهم أي حدث إنما هو تعليله بطريقة معينة؛ لأن أي تفكير عقلاني موضوعي في هذا الوجود قد أصبح تفكيرًا عليًّا، فالعلية كما قال كانط من الشروط القبلية للعقل ولا سبيل إلى تجاوز معطيات الحواس بدونها، وبالتالي إذا كان ثمة فعل حر فلا بد وأن يكون معلولًا بطريقة معينة.
فهل يمكن هذا؟ هل يمكن أن تندرج الحُرية الإنسانية وفعلها الحر في سياق العلية الأنطولوجية والإبستمولوجية؟ لو قلنا: «الفاعل سيفعل الفعل إذا أراد أن يفعله فهل هذا عرض علِّي للفعل الحر؟ على أساس أنه إذا كانت الإرادة معللة للفعل فهي بالتالي قوة علِّية يملكها الفرد، فيصبح الفعل الحر هو الفعل الذي أحدثه تغييرٌ في الفاعل جعله يُحدث شيئًا ما خارجه، وهذا في الواقع هو المعنى الطبيعي للقوة العلِّية المعزوة للشخص إن له قوة تعلل حدوث أشياء.»٧ وبهذا يصبح الفعل الحر معللًا بطريقة معينة.
ولكن، ما الذي أحدث تغييرًا جعل الفاعل يُحدث تغييرًا خارجه؟ إن أية إجابة عن هذا السؤال تجعل العامل العلِّي، الذي افترضنا أنه الحُرية، معلولة لقوة قبلها أي محصلة ضرورية لها، والضرورة هي النقيض المنطقي للحرية، ثم إذا كانَت الحُرية التي هي قوة عِليَّة للفاعل تؤدي دورها حينما تتحقَّق ظروف معينة، وأن «نقول متى يَكُن الفاعل حرًّا في أداء الفعل بإرادته فإن هذا يعني طرح الشروط التي سيؤدي فيها الفعل، وتفسير أداء الفعل الإرادي يعني أن هذه الظروف قد تحققت»،٨ وأن العوامل العلِّية بما فيها الحُرية المفترضة عبثًا قد اكتملت، وبالتالي فإن الفعل المعلول قد تحتَّم، فأين هي الحُرية؟ فضلًا عن أن سلسلة العوامل العلِّيَّة تمتدُّ إلى مدى بعيد جدًّا خارج الفاعل لنجده يقع في موقع متأخر منها ليصبح هو ذاته بكل مكوناته سواء افترضنا الحُرية فيها أو لم نفترضها مجرد حصيلة أو معلول للعلل التي حتمت وضعه وتكوينه وبالتالي حتمت فعله، أما إذا طرحنا الحُرية جانبًا وعللنا الفعل بالنوايا والدوافع والرغبات والغرائز؛ فقد وقعنا في شراك الحتمية العلية مباشرةً، سوف تصبح هذه العوامل التي حددتها الوراثة والبيئة علة ضرورية والفعل الإنساني معلول حتمي لها، والخلاصة أن مجرد كينونة العلية في العقل أو في الواقع كفيلة باستبعاد، لا الحُرية فحسب بل مشكلة الحُرية بأسرها عن بكرة أبيها.
وقد حاول جورج إدوارد مور، الفيلسوف التحليلي الرائد، أن يحلل الفعل الحر تحليلًا عليًّا، وعلى الأساس المتفق عليه دائمًا من أن البدائل — أو البديلين على الأقل — الشرط الأول لأنه حرية، فجاء تحليله في ثلاث قضايا، الأوليان متضمنتان صراحة والثالثة ضمنًا:
  • (١)

    «كنت أستطيع» لا تعني إلا: «كنت أستطيع إذا كنت قد اخترت».

  • (٢)

    يمكن إحلال «كان يجب عليَّ إذا كنت قد اخترت»، محل «كنت أستطيع إذا كنت قد اخترت».

  • (٣)
    «إذا» في هذين التعبيرين، تطرح شروطًا عِلِّية يترتب عليها أني كنت أستطيع أو كان يجب أن أفعل غير الذي فعلته فعلًا.٩
وعلى الرغم من أن هذا التحليل بطبيعة حال التحليلات اللغوية: تحصيل حاصل لا ينفي ولا يثبت شيئًا، فإن بقية جهود الاتجاه التحليلي مع فلاسفة اللغة الجارية أوستن وراسل واستراوسون قد أثبتت أن أية محاولة للتحليل العلِّي للفعل الإرادي خاطئة، هذه بالطبع هي النتيجة المنطقية الواضحة التي تنفي حتى الاحتياج لكل هذا القيل والقال؛ لأن مجرد مقولة «العلية» في حد ذاتها كفيلة بدحض مقولة الحُرية دحضًا منطقيًّا، أي دحضًا ضروريًّا من أي وجهة للنظر، وذلك على النحو الآتي: العلية تعني أساسًا العلة الكافية، والآن إما أن تكون للفعل الحر عللٌ كافية أو لا تكون له، وإن كانت له عللٌ كافية كان محتمًا بها وبالتالي لم يكن حرًّا، وإن لم يكن له علة لما كان قد حدث، وبالتالي فإن الفعل الحر لا وجود له، ومن الناحية الأخرى فإن محاولة تعليل «الفعل الحر مسألة متناقضة؛ لأن طرح الإرادة الحرة هو طرح لفرض «عامل أوَّلي» مجرد التساؤل عن مزيد من التفسير له خلف محال Absurd».١٠

الخُلاصة أن العلية والحُرية تستبعد كل منهما الأخرى، إما هذه وإما تلك والثالث مرفوع، وبالتالي لا أمل في أي حديث عن الحُرية في العالم العلِّي الذي هو عالم العلم الكلاسيكي النيوتوني الحتمي.

•••

(٧أ) «حجج الحتمية»: كل قانون يتوصل إليه العلم الحتمي مهما كان كليًّا أو جزئيًّا إنما هو حجة من حجج الحتمية العلمية، لتنفي بها حرية الإنسان، ومع هذا، لا بأس بشيء من التجريد يجعلنا نُجمل هذه الحجج.

  • (١)
    وفي مقال وجيز أجمل هيرمان هاريل هورن (١٨٧٤–١٩٤٦) — على الرغم من أنه هو نفسه ليس حتميًّا — خلاصة الحجج التي تحاصر بها الحتمية العلمية حرية الإنسان للقضاء عليها، وبالطبع كل من العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية تتكاتف لاستبعاد الحُرية، ويردف هورن هذا بأنه حتى الأخلاق والثيولوجيا قد تتطلَّب منظورًا حتميًّا للسلوك الإنساني، مع ملاحظة أننا جميعًا يمكن أن نكون حتميين بناءً على هذه الحجج وأيًّا كانت مشاربنا الفلسفية؛ لأنها حجج مشتقَّةٌ من العلم ذي الموضوعية الأنموذج، وخلاصة هذه الحجج فيما يلي:
    • (أ)
      «حجة الفيزياء»: تقوم على مبدأ: «بقاء الطاقة الكلية للعالَم ثابتة»، فقط خاضعة للتحوُّلات من صورة لأخرى كما تتحوَّل من صورة الحرارة إلى صورة الضوء مثلًا، غير أنها ليست خاضعة للزيادة ولا للنقصان، وهذا يعني أن أية حركة لأي جسم قابلة تمامًا للشرح في حدود ظروف فيزيائية سابقة، وهذا يعني أن أفعال الجسم الإنساني تُعلِّلها ميكانيكيًّا الظروف السابقة للجسم والعقل بغير إشارة للعقل الفردي بنواياه وأغراضه. إذن، فحرية الإنسان لا تسهم في سلوكه؛ ذلك لأن أفعاله محتومةٌ فيزيائيًّا من كل الوجوه، فإذا سبَّبت حالة الإرادة التي هي عقلية حركةً للجسد الذي هو فيزيقي، فإن الطاقة الفيزيائية للعالم سوف تزداد مما يُناقض الافتراض الكوني الذي يسلم به الفيزيائيون، أي مبدأ بقاء الطاقة؛ على هذا، فإنه بالنسبة للفيزياء ليست إرادة الإنسان علة vera لتفسير حركات الجسد الفيزيقية.
    • (ب)

      «حجة البيولوجيا»: وهي حجة يجعلها فرض التطور الداروني في المقدمة، وتعتمد على فرض البيولوجيا القائل إن أي كائن حي يمكن تفسيره بصورة ملائمة تمامًا وفقط عن طريق الإشارة إلى وراثته وبيئته، هذان العاملان الفعليان، وتقاطعهما معًا يفسِّر تمامًا كل حركات الكائن الحي، إن أي كائن حي إنما هو مركب من قدرات وردود أفعال للمنبهات، القدرات مأخوذة من الوراثة، وردود الأفعال من البيئة، وهذا التفسير ملائم تمامًا للحيوانات الدنيا فلماذا لا يلائم أيضًا الحيوان الأعلى أي الإنسان.

    • (جـ)
      «حجة الفسيولوجيا»: رأينا في المدخل كيف أن علوم الحياة والفسيولوجيا قد استعارت مناهج التفسير من العلوم الفيزيوكيميائية التي تتناول المادة الجامدة، وكما يقول هورن، سوف يتجلى هذا في حجة الحتمية القائمة على الفسيولوجيا، وتقوم هذه الحجة على افتراض الآلة الإنسانية الذي ورد مرارًا وتكرارًا إبان رحلتنا مع الحتمية العلمية خصوصًا حين التعرض للحتمية البيولوجية، وإذا كان الإنسان آلة فلا بد وأنه آلة واعية؛ إذ لا يمكن إنكار الوعي بيد أن الحتمية الفسيولوجية تنكر أية فعالية للوعي فكل أفعال الإنسان على الرغم من تعقُّدها إنما تعمل بموجب النمط الآلي الأوتوماتيكي، وقد تكون مصحوبة بالوعي، ولكن الوعي على أية حال لا يقع في سلسلة الظواهر العلية بل يقع خارجها بوصفه ظاهرة خارجية Epi-Phenomenon على حد تعبير هكسلي، وإذا كان الإنسان آلة واعية فسيبدو عمل الإرادة الحرة، أي أن يحدِّد الاختيار السلوك، كما لو كان معجزة، على أن السماح بالمعجزات يُناقض كل أسس العلم الذي لا يعترف إلا بسلسلة العلل والمعلولات؛ لذلك لا بد وأن يرفض العلم كل العوامل الروحية بموجب أسسه النظرية والتطبيقية على السواء.
    • (د)
      «قانون العلِّية»: وقد رأيناه العمود الفقري للعلم الحتمي، والذي تصور علماؤه أنه علم عِلِّي، وحجة الحتمية القائمة على هذا القانون تسير كالآتي:
      • كل العلل المتماثلة لها معلولات متماثلة، المعلول يماثل العلة حتى إنه محض ترجمة لها، والآن نجد أن التصرُّف الإنساني هو بالطبع معلول فيزيقي، ومن ثم نتوقع أن نجدَ له بالضرورة علة فيزيقية؛ العلة الفيزيقية تستبعد من طبيعة الحالة أية علة غير فيزيقية، ومن ثمَّ فإن الإرادة الإنسانية بالطبع لن تعلل شيئًا، وحركات الإنسان والكلب والحجر والشجر كلها متماثلة في أنها تعود إلى ظروف فيزيقية سابقة، وهذه الظروف الفيزيقية بوصفها العلة تحدد، هي فقط بمفردها، المعلول، وتمامًا كما أننا لم نعد نستطيع تفسير الضوء في المصطلحات الفيزيقية على أنه سهام جوبيتر فإننا بالمثل لم نعد نستطيع تفسيرَ أفعال إنسان ما بالإشارة إلى ما تنتويه روحه.

    • (هـ)

      «حجة فلسفة العلم للطبيعة»: وهي مجرد تعميم لكل الحجج الأربع السابقة، وفلسفة الطبيعة في إطار فلسفة العلم، هي نظرية عامة مفسرة لكل حدوثات الطبيعة وقد رأينا أن المثال الميكانيكي هو مثال التفسير العلمي في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفسيولوجيا … وسواها من العلوم، وليست الأحداث تحدث لأن أي شخص أو أي إرادة قد شاءتها أن تحدث، إنها تحدث لأنه كان عليها أن تحدث وكان لا بد وأن تحدث، وإيجاد الرابطة الضرورية بين حدوثات الطبيعة هي مهمة العلم، وعن طريق الفرض الميكانيكي، نجد أن الكون كليًّا وجزئيًّا محكومٌ بالقانون الميكانيكي، ومجال القانون كوني كلي، بينما الإنسان مخلوق ضئيل جدًّا على أرض ضئيلة، هي ذاتها كوكب صغير نسبيًّا، في واحد من أصغر النظم الفلكية، بين عدد ضخم لا محدود من الأنظمة الفلكية التي تملأ هذا الكون، إن الكونَ نظامٌ فيزيقي تعمل فيه القوانين، وما الإنسان إلا أصغر جزء من هذه الآلة الكونية، فكيف يمكنه إذًا أن يفعل غير ما يفعله؟ أما عمل الإرادة الحرة الفردية فلا يُقحم إلا كنزوة أو هوى، أو بالكثير مصادفة، في قلب كون كل حركاته محتمة ميكانيكيًّا، حتى إن ملاحظًا ذا علم شامل، يلاحظ الوضع الحاضر يمكنه أن يتنبأ تنبؤًا معصومًا من الخطأ بكل ما سيكون في المستقبل … كما أخبرنا لابلاس، وكما أوضحنا في المدخل تطرق مثال الحتمية العلمية، حتى وصل إلى العلوم التي تدرس الظواهر العقلية الإنسانية فاقتحمت الحتمية العلمية الحُرية والإرادة الإنسانية، وكان اقتحامًا مظفرًا أسفر عن حجة مباشرة تمامًا هي:

    • (و)

      «حجة علم النفس»: طالما أن منهج العلم يستبعد حرية الإرادة، فمن الطبيعي أن يصبح علماء النفس حتميين، يُقرون بأن كل تصرفات الشخص لا تعدو أن تكون ردود أفعال انعكاسية آلية لمؤثرات بيئية لا دخل فيها للشخص، إنه لا يستطيع أن يتحرر كليةً من عاملي الوراثة والبيئة، ولكن ليس التساؤل المطروح هو ما إذا كنا أحرارًا كليةً، بل ما إذا كنا أحرارًا أصلًا.

      وتقوم حجة الحتمية ها هنا على أساس اعتماد علم النفس على العلوم الأسبق منه في سلم العمومية خصوصًا الفسيولوجيا التي تسبقه مباشرةً، وبناءً على هذا، لن يكون ثمة حالة عقلية بغير حالةٍ للمخ مناظرة لها، ذلك أن حالة المخ يجب وأن تعد تفسيرًا للحالة العقلية، طالما أنه لا توجد للحالات العقلية المتعاقبة علاقات قابلة للتحكم، وحالة المخ ذاتها لا تفسر بالرجوع إلى الحالة العقلية، بل بالإشارة إلى حالة المخ الأسبق منها؛ على هذا النحو، لا تتحطم سلسلة العلية الفيزيقية، إنها تفسر نفسها بنفسها، وتفسِّر أيضًا تسلسل الحالات العقلية، في حين أن تسلسل الحالات العقلية بدوره لا يفسر شيئًا على الصعيد الفيزيقي، وهذا يستبعد بصورة حاسمة الإرادة الواعية من أي مجال للفاعلية.

      إن علم النفس بوصفه علمًا بالذهن، له أيضًا تصوره الحتمي للقانون، فإذا ما فهمنا المجال العقلي، فلا بد وأن له هو الآخر قوانينه، ويجب أن تكون هذه القوانين بغير استثناء يتضمَّن الإرادة الحرة، إنها لمهمة علم النفس من حيث هو علم، أن ينكر أية استثناءات وأن يكتشف القوانين، وعلى رأس القوانين التي تُبرز بجلاء كيف ينفي علم النفس الحتمي الحُرية، إنما هو قانون الدوافع، الذي ينصُّ على أنه ليس ثمة أي فعل بغير دافع، وأن أقوى الدوافع هو الذي يحدِّد الإرادة ودائمًا يجيء الفعل طِبقًا لأقوى الدوافع، والدوافع، سواء فطرية أو مكتسبة، مستقاة من البيئة والوراثة، أو من كليهما معًا، فكيف يمكن أن يختار الإنسان أن يتبع الدافع الأضعف؟ على الإجمال، كيف يمكن له أن يختار أصلًا؟

    • (ز)
      «حجة علم الاجتماع»: يتناول علماء الاجتماع مشكلة الحُرية من منظور آخر خاص بهم، فهم يسحبونها من نطاق الفعل الفردي، ويضعونها في نطاق المجتمع، وهذا أجدى كثيرًا — في رأيهم؛ لأن الإنسان يعيش ويتصرف بالفعل في مجتمع وليس في عزلة فردية، ثم إن أعضاء الجماعة ليسوا أحرارًا في اتخاذ القرار، إنهم يتبعون القائد، والقائد بدوره لا يتخذ القرار بحرية فهو واقع تحت تأثير الأفكار الكائنة في عقله، ويمكن تعقُّب أفعال الإنسان حتى نصل إلى أفعال الآخرين وإلى الأفكار المسيطرة عليهم؛ وعلى هذا، يصبح علم التصرف الإنساني في الجماعة ممكنًا، فقط عن طريق الاعتراف بالحتمية الاجتماعية وإنكار الحُرية الإنسانية، ولم يكن تاريخ علم الاجتماع حتى كونت وإميل دور كايم إلا تبيانًا للجهود التي بذلها مؤسسو علم الاجتماع لكي يصبح علمًا حتميًّا يضع القوانين الحتمية التي تتنبأ مسبقًا بما سوف يحدث، وإذا كان هذا التنبؤ ممكنًا فكيف يمكن إذن أن تعود تصرفات الأفراد في الجماعة إلى إرادة حرة،١١ إن ما يبدو على أنه أفعال الإرادة، سوف يخضع لقوانين عامة، بحيث يمكن — بل يجب — استبعاد فرض الحُرية، ويصبح علم الاجتماع هو الآخر نصيرًا للحتمية.
وأخيرًا،١٢ نجد الحجة الثيولوجية: وهي تقوم على أساس أن الله ذو علم شامل، إنه عالم بكل شيء، وعلى هذا يعلم ما سوف أفعله وقبل أن أفعله، وبالتالي، فليس أمامي أن أفعل سوى ما فعلته، وإلا كان علمه تعالى قابلًا للتكذيب، وهذا خلف محال، إذن، ليس أمامي إمكانيات متاحة لي أو اختيار، أنا لست حرًّا، على هذا النحو يُستبعد مبدأ المعرفة المسبقة للرب الحُرية الإنسانية، وأي إنكار لهذا فيه مساس بالذات الإلهية.١٣
وقد يظن البعض — ومنهم هيرمان هورن نفسه — أن هذه الحجة الثيولوجية لا علاقة لها بالعلم، غير أن أبسط مقارنة بينها وبين صياغة لابلاس الشهيرة لمبدأ الحتمية، توضِّح كيف أنه بعد تصدُّع سلطة الكنيسة تبوأ العلم الحتمي عرش العرفان، فتحمل مسئولية الإتيان بالعلم الشامل الذي يحدد ويتنبأ بدقة ويقين بكل ما سوف يحدث، كما أشار المدخل؛ وعلى هذا ليس بدعًا أن يأخذ العالم على عاتقه إثارة معضل الحُرية، بعد أن كان الفكر اللاهوتي بمقولة العلم الشامل وأيضًا القدرة الشاملة للألوهية يتكفل بإثارتها في العصر الوسيط.١٤
(٧ب) «أما تشارلي دنبر برود» C. D. Broad (١٨٨٧–١٩٧١)، فقد تناول حجج الحتمية على أساس منطقي أسفر عن حجتين سلبيتين وأخريين إيجابيتين، وقد أوضح أن التأييد الأعظم للحتمية يأتي من العالم المادي الذي لا يعترف العلم بسواه، وإذا كانت المظاهر السطحية له تؤيد الحتمية أحيانًا وتعارضها أحيانًا، فإنه كلما دُرست المادة بدقة أكثر أصبح نطاق اللاحتمية أضيق، ونحن نتمكن أكثر من موضوع الدراسة بالتفسير الذاتي للاحتمية، أي على أنها جهل مؤقت بقوانين حتمية، أما ما يبدو من لاحتمية يكتشفها الاستبطان في بعض الأحداث التي تقع للعقل وخصوصًا حين اتخاذ القرارات، فسوف تدحضها بالتفصيل (الفقرة ١٠)، بما يمكن اعتباره حججًا سلبية للحتمية، وتبقى حجتان إيجابيتان:
  • الحتمية قد أصبحت يقينية في العالم اللاعضوي، فلماذا لا تصبح هكذا في العالم العضوي وأيضًا العالم العقلي؟ إنها حجة المماثلة التي دفعت بقية أفرع العلم — كما أوضح المدخل — إلى السعي نحو المثال الحتمي.

  • والحجة الثانية أقوى الحجج، إنها تقوم على أن حركات الأجسام المادية حتى تلك التي تنسب عادةً إلى الإرادة والحُرية يمكن تفسيرها في حدود العِلية الفيزيقية، وما دام الأمر هكذا فإن الإرادة الحرة ليست لها فاعلية عِلِّية، وقد يثار اعتراض من أنصار الحُرية مؤدَّاه أنَّه من الواضح أن الإرادة الحرة عادة ما يتبعها الفعل أو الحركة المرادة وأن بعض تسلسلات الحركات الجسدية كتلك المتضمنة في كتابة هذه السطور ما كانت لتحدث ما لم تسبقها إرادة حرة مناظرة، فكيف يمكن تفسير هذا الارتباط غير المتغير تقريبًا والذي ليست له أية علاقة عِلِّية مباشرة؟ وأكثر الاستفسارات استصوابًا أن بعض العوامل الفيزيقية في العلَّة الكلية لمثل هذه الحركات الجسمية لها معلولات فيزيقية وبالمثل معلولات نفسية، والحركة الجسمية لا تحدث إلَّا إذا سبقها وضع فيزيقي هو مثل سائر الأوضاع الفيزيقية محتم تمامًا، وطالما أن أية إرادة — هي بالضرورة — مصاحبة أو تالية لأوضاع فيزيقية كانت كل إرادة محتومة تمامًا،١٥ وبالتالي يصبح افتراض حريتها مستحيلًا أو على أحسن الفروض نافلة لا داعي لها.

(٨) «إما العلم وإما الحُرية»: هكذا كانت الحتمية العلمية تنفي الحُرية الإنسانية وكأنها محض وهم جاس يومًا في العقول، ولم يعد يليق بالإنسان في عصر العلم أن يُفسح مجالًا لمثل هذه الأوهام الفارغة، فتكاتفت العلوم بأفرعها المختلفة لتعمل على تخليص الإنسان من وهم الحُرية والإرادة، تمامًا كما كانت تعمل على تخليص الإنسان من شتى مخلفات عصور الجهالة البائدة وبواسطة سعيها الطموح نحو المثال الحتمي، كل تقدُّم صوب هذا المثال، أي كل تقدم إجمالًا، إنما هو على حساب الحُرية الإنسانية حتى إذا وجدنا أنفسنا بإزاء نسق العلم الحتمي الكامل، فقد وجدنا أنفسنا بإزاء نفيٍ كاملٍ لكل ولأية حرية إنسانية.

وما دام الأمر هكذا فلا بد وأن علماء الحتمية يعتبرون الحُرية لغوًا باطلًا وخلفًا محالًا، يلفظونها كما تلفظ النواة وبلا مواربة، لقد ظل إنجيلهم مبدأ ديكارت أبي الفلسفة الحديثة، وقد رأيناه من أساطين الحتمية العلمية، المبدأ الذي يقوم على أن لا شيء يجيء من العدم وأن قدرة إرادة ما تتكون فقط من أننا مجبرون على تصرُّف معين بتأثير قوة خارجية؛ وعلى هذا فحرية الإرادة ما هي إلا الاسم الذي نُطلقه على الحتمية التي لا ندركها،١٦ لقد وجدوا أنه من الضروري تقبُّل المذهب الحتمي في شكله التقليدي، فأفعالنا تحدِّدها إرادتنا، وإرادتنا تحددها دوافعنا، ودوافعنا محكومة بماضينا، سيفكِّر عالم النفس في هذا الماضي على ضوء الوراثة والبيئة وعالم الفسيولوجيا في ضوء الأنشطة الكهربائية الكيميائية … ولكنهم جميعًا سيتفقون على أن القوة النسبية للدوافع تحددها أحداث الماضي بحيث لا يختار الإنسان لنفسه أبدًا فماضيه هو الذي يختار دائمًا،١٧ أوَلم تعلمنا الحتمية العلمية أن المستقبل مجرد وليد للماضي؟
ظل هذا هو موقف العلماء، وتمسَّك به حتى بعض من علماء الفيزياء والمعاصرين ومن الذين أهدوا العقل البشري الاهتداء إلى اللاحتمية، وعجزوا هم عن التخلُّص من الحتمية، مثلًا، … كتب ماكس بلانك في كتابه «إلى أين يتجه العلم» ما يزكي هذا المعضل مؤكدًا وجوب التمسك بأن مبدأ العِلِّية يمتد حتى يشمل أسمى إنجازات النفس البشرية، فيجب أن نقر بأن عقل كل من عباقرتنا العِظام أرسطو وكانط وليوناردو وجوتة وبيتهوفن ودانتي وشكسبير حتى في أسمى لحظات السمو الفكري وأعمق مراحل التعمُّق النفسي يكون خاضعًا لأوامر العِلِّية ويكون أداة بين يدي قانون جبار يحكم العالم،١٨ وإلى مثل هذا يجنح آينشتين هو الآخر.
على أن علماء العلوم الإنسانية كانوا أكثر من غيرهم حماسًا لنفي الحُرية، لوثيق اتصالها بموضوعهم، وكان الاجتماعيون الفرنسيون، مقتدين بإمامهم أوجست كونت، في منتهى الاتساق والعزم والجزم في هذا، فرغبتهم في جعل علمهم المتعثر كفيزياء نيوتن جعلتهم من غلاة الحتميين، رأى أوجست كونت أن الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوتية تنطلق من الإنسان فنتج عن ذلك اعتمادها على فكرة الإرادة كصفة للظواهر، أما سيادة الروح الوضيعة فقد أدت إلى بروزِ فكرة القانون والتي تمثل تقدم الروح الوضعية في مدى تدرُّجها في الظواهر حتى بلوغها الإنسان ذاته والمجتمع بوصفهما آخر مجالين يبلغهما تطور سيادة هذه الفكرة،١٩ أي فكرة القانون الوضعي الذي يحل محل الحُرية.
على هذا الأساس الوضعي يأتي على سبيل المثال ألبير باييه وهو من تلاميذ دور كايم المخلصين ومتيم بالعلم الفيزيائي لانجفان خصم اللاحتمية اللدود، ليقول في معرض الدفاع عن أخلاقيات العلم الرفيعة وتبيان أنها السبيل الأمثل لتمجيد إنسانية الإنسان: «يستطيع الفيلسوف أن يضع في كل فرد من الناس إرادة حرة مستقلة كما المنجم يضع في كل كوكب وكل نجم إرادة عليا لإله من الآلهة، ولكن كما أن علم الفلك الحديث يفسِّر حركات القمر بقوانين متعلقة، لا بمشيئة أرتميس، كذلك يأبى علم الاجتماع أن يفسر الوقائع الإنسانية إلا بقوانين متضمنة في الأشياء»،٢٠ ومن هذا يستطرد باييه إلى المواجهة الصريحة مع المتشبثين بأطلال خزعبليات الحُرية قائلًا: إنني أُسَلم بأن الجواب الوحيد الذي يمكن أن يُوجه إلى أنصار الحُرية هو تزايد القوانين الاجتماعية التي مُحصت تمحيصًا حسنًا، والواقع أن ما شاع عندنا إطلاق اسم الحُرية عليه إنما هو جهلنا بالعلاقات بين العلل ومعلولاتها.٢١
على أن إنكار الحُرية الأنطولوجية وطبعًا بواسطة العلم وقوانينه موقف يكاد يشترك فيه كل العلماء، والذي ميز الاجتماعيين الفرنسيين بعزم واتساق متميزين هو أنهم انفردوا بالعمل على نفي الحُرية في مستواها الثاني أيضًا، كما ستوضح (الفقرة ١٨)، كانت وضعية Positivism كونت تعني دلاليًّا الوقوف موقفًا إيجابيًّا من النظام الاجتماعي القائم؛ لذلك رأى أن الكائن الاجتماعي يجب أن يندمج في شخصية متسلطة تسلطًا مباشرًا، ويجب تأكيد السلطة المركزية في كل الميادين لذلك نادى بالحد من حرية التفكير، لقد فرح وهلل عندما قبض نابليون على ناصية السلطة بيد من حديد، ولم يكن يهتم إطلاقًا بحرية الفكر أو حرية الإنسان؛ وقال صراحةً: «حرية الضمير لا توجد في الرياضيات.»٢٢ ومن هذا الموقف النافي للحرية في مستواها الثاني حرص كونت على أن يكون هذا العلم الجديد، أي علم الاجتماع، أداة محافظة وتبرير، ولكي يتمكن علم الاجتماع من أن يكون هكذا بناه على أساس وضعي مذهبي، له تعاليم وأيديولوجية تدعو إلى الاستسلام للواقع.
إن الاستسلام يعدُّ نقطةً أساسية في كتابات كونت وهو مستمد من قبول قوانين أزلية ثابتة لا تتغير ولا يجوز لأحد أن يغيرها، وإلا استحق العقاب، وإن حاول فلن يقدر لأنها حتمية، ومعنى هذا أن الإنسان عليه أن يمتثلَ ويتواءمَ مع ما هو قائم، فليس له إرادةٌ ولا يجب أن تكون.٢٣
وعمَّق إميل دور كايم من هذا، وتسير كتاباته المتنوعة في مسارِ تأكيد ضرورة الانصياع لما هو قائم، وما هو محيط، فالظاهرة الاجتماعية حتمية، أي إجبارية وإلزامية، وعلى المرء أن يتلاءم معها وينصاع لها ومن هنا تلعب قضية الضبط الأخلاقي والتنشئة الأخلاقية Moralization دورًا بارزًا،٢٤ وكان جوهر الاشتراكية عنده ليس في الملكية ولا في دولة الرفاهية، وإنما في دمج الفرد في المجموع من خلال سلطة أخلاقية تُريحنا من وهم الحُرية أصلًا وفروعًا.

أما عن علماء النفس — النفس التي يؤرقنا التساؤل ما إذا كانت حرة أم لا — فموقفهم أعنف؛ لأن حتميتهم أمسكت بخناق الحُرية الإنسانية مباشرة.

•••

(٩أ) «الحتمية السيكولوجية»: كثيرون من فلاسفة الحُرية وأولهم هنري بيرجسون، يرون كل خطورة الحتمية الكونية تتركز في الحتمية السيكولوجية، بعبارة أخرى لأن الحتمية الكونية Universal determinism تفضي بالضرورة إلى الحتمية السيكولوجية فهي لهذا، وربما لهذا فقط تنفي الحُرية.

وإني أرى في هذه النظرة قصورًا وتوانيًا عن تتبُّع القضية إلى حدودها الكلية الحقيقية، ولعل الطموح الأنطولوجي الهادف إلى تمزيق قوقعة العلم الإبستمولوجية هو الحافز لتجاوزها، فلو اقتصرنا على فتوى العلم في الحتمية السيكولوجية لما حقَّقْنا شيئًا من ذلك الطموح، أو بالكثير حقَّقنا نزرًا يسيرًا، حسوة لا تُطفئ ظمأ العصفور، الهدف إفتاء العلم في مجمل بل مطلق الصورة الأنطولوجية التي تقع فيها أفعال الإنسان؛ لذلك لا ينبغي إعطاء الحتمية السيكولوجية أكثر مما تستحق، وبوصفها آتية من علم كائن في مؤخرة سلم العلوم، فقط لأن الفيزياء التي كانت تتربع على قمته كانت حتمية، وهذا ما فعلته الصفحات السابقة، وعليه تغدو الحتمية السيكولوجية مجرد جزء ينطبق عليه ما ينطبق على الكل، وهي بالفعل هكذا تمامًا؛ لأنها لا تعدو أن تكون: النظرة إلى الأحداث النفسية هي نفسها النظرة إلى الأحداث الكونية ويمكن التنبؤ بها يقينًا إذا عرفنا عللها، المسألة كلها انسياق الأحداث النفسية في تيار الأحداث الفيزيقية، وليست الحتمية الكونية تنفي حرية الإنسان لأنها تُفضي إلى الحتمية السيكولوجية بل الأحرى أن الحتمية السيكولوجية هي التي تنفي حرية الإنسان؛ لأنها مردودة إلى الحتمية الكونية التي هي أساسًا الحتمية الفيزيائية.

وعلى هذا فالحتمية السيكولوجية قائمة على نظرة ترابطية تحليلية للنفس تجعل الحياة العقلية تسلسلًا متعاقبًا بين لحظات كل منها معلول لما سبقها وعلة لما يلحقها.

والسؤال الآن: إذا كان علماء النفس لن ينظروا بالطبع إلى الوعي أو الحالات الذهنية كظواهر جانبية أو ثانوية، فكيف تنفي الحتمية السيكولوجية حتمية الإنسان، وبصورة مباشرة متبدية للأعين مهما كانت النظرة سطحية أو عجلى؟

الإجابة واضحة؛ فنفس منطوق تعريف الحتمية السيكولوجية في علم النفس الفلسفي يقول: «إن لا شيء يحدث بواسطة الإرادة الحرة أو الاختيار أو المصادفة لأن كل معلول له علة ضرورة كافية».٢٥
ويمكن عرض الحتمية السيكولوجية، ونفيها لحرية الإنسان، من خلال ثلاث قضايا أو مقدمات فيها البرهان الجلي على أن الحتمية السيكولوجية لا تعدو أن تكون جزءًا من كل، ولا تتمتع بأية أفضلية على سائر الأجزاء، اللهم إلا في قربها ومباشرتها؛ ذلك أن الحتمية السيكولوجية تعني أولًا أن حالات الذهن معلولات لحالات فيزيائية أخرى، وثانيًا أن حالات كثيرة للذهن مترابطة أو متضايفة Correlate، وثالثًا أن حالات الذهن عللٌ؛ علل لحالات ذهنية أخرى، وأيضًا علل لحركات الجسد التي هي أفعال أو تصرفات، بعضها بسيط نسبيًّا وبعضها — كالكلام مثلًا — معقد يعتمد على خبرات ومعتقدات ومتوارثات وطقوس شائعة. على أن الأفعال سواء كانت بسيطة أو معقدة إنما هي حركات معلولة بحالات في الذهن، وهذه المقدمات الثلاث عن حالات الذهن بوصفها ترابطات لزومية وبوصفها عللًا، يتبعها أننا حين نفعل أو نتصرف في أي موقف فإننا لا يمكن أن نتصرف إلا كما تصرفنا بالفعل، ويتبعها أيضًا أننا لسنا مسئولين عن تصرفاتنا، والأهم من كل هذا أننا لا نملك نفوسًا ذات خاصة معينة.٢٦
الحتمية السيكولوجية بهذه المقدمات الثلاث نظام عِلِّي صارم كامل، فأولًا الأفعال حركات معلولة بحالات الذهن، وثانيًا حالات الذهن المرتبطة فيزيقيًّا بالوعي، هي في ذاتها معلولة بحالات فيزيقية — أو فيزيائية أخرى، ومادَّة القضايا التي تعبر عنها هاتان الجملتان، هما جماع الخبرة الإنسانية،٢٧ هكذا عدنا من حيث بدأنا: من الحتمية الكونية التي هي أساسًا حتمية فيزيائية، تجعل كل أحداث هذا الوجود مترابطة عليًّا في طريقها الواحد المحتوم.

(٩ب) «والواقع أن تتبع نشأة ونمو علم النفس»، هو في حقيقة الأمر تتبع لكفاح علم النفس الباسل من أجل الوصول إلى المثال الحتمي الذي كان منشودًا، وكانت نهاية هذا التتبع، أو نتيجة ذلك الكفاح، أن علم النفس قد استطاع الامتثال لذلك المثال عن طريق عدة مدارس، بزتها جميعًا في الخضوع للحتمية والإخضاع لها، مدرستا التحليل النفسي والسلوكية، اللتان تربعتا على عرش علم النفس بسبب ذلك النجاح الحتمي.

أما «التحليلية»: فقد جعل إمامها سيجموند فرويد S. Freud (١٨٥٦–١٩٣٩) من الحتمية العلمية الديدن والناموس. «فطالما أنه لا توجد أية حادثة في الكون الفيزيقي بغير علة — أو بالأحرى بغير علل — فإنه بالتالي لا توجد أية حادثة عقلية أو حالة عقلية بغير علل، وهذه العقيدة الحتمية لم يأخذها فرويد كمجرد أساس لعلم النفس عنده، بل أكثر من هذا، لقد استخدمها كمفتاح لفض سر العقل وللكشف»،٢٨ الكشف عن كل شيء بلا أدنى استثناء.
لقد رفض فرويد — كشأن الحتميين المخلصين — أي مفهوم للمصادفة، وأكد أننا إذا تركنا لها قطاعًا من قدرتنا النفسية، بحيث تظل غير قابلة للتفسير من خلال الأفكار المفترضة، فإننا نتجاهل نطاقات للحتمية في قدراتنا العقلية، في حين أن الحتمية في مثل تلك الظواهر — التي قد تبدو مجرد مصادفة — كما هي في سواها، أعمق وأبعد من كل ما نتصور،٢٩ هكذا كانت حتمية فرويد عميقةً جدًّا، أعمق من كل ما تصوَّره السيكولوجيين السابقون، حتى إن أكثر مصطلحاته خداعًا هو أشهرها، أي مصطلح «التداعي الحر»، الذي ينطلق فيه المريض أو الشخص موضع التحليل، وعلى أساس أن كل حرف يتفوه به، بما في ذلك فلتات اللسان، «تبرهن على أن عقل الإنسان لا يمكنه الفرار من قوانينه»،٣٠ فأين هي الحُرية، وكيف يأتي بها أي شخص في هذا الوجود، والتحليلية قد أسهبت في وصف، أو خلق واقع عميق طويل عريض من الهو والأنا والأنا الأعلى، ومن اللاشعور الكامن خلف الوعي السطحي البادي، بحيث يحتم جملة وتفصيلًا كل ظواهر السلوك، الشاذة قبل السوية، فضلًا عن الهواجس والأوهام ورؤى الأحلام.

وليس هذا فحسب، بل قال فرويد في أكثر كتبه شعبية وانتشارًا «العلاج النفسي في الحياة اليومية» (المذكور في الهامش) إن علم النفس المرضي للحياة اليومية قد جاء ليبرهن على أن العقائد الخزعبلية وفلتات اللسان والزلل والأخطاء العفوية التافهة — في القراءة مثلًا — على الرغم من المعرفة القوية، والاختيار العشوائي للأسماء والأرقام (مثلًا: قد يقال على سبيل الضجر: قلت ذلك عشرين مرة! فإن الورود العشوائي للرقم عشرين بالذات وليس خمسين أو مائة …) كل هذا وغيره من الظواهر التي تبدو سطحية تافهة، حاول فرويد أن يثبت في ذلك الكتاب أنها محتمة، تمامًا كدوران الأرض حول الشمس.

ولما كان العلم علمَ النفس، فلا يمكن تجاهل الشعور الحرون بالحُرية، الكائن في كل النفوس، فماذا فعل فرويد في هذا الصدد؟ إنه يقول:

«مثل هذا الفهم لحتمية الاختيار الذي يبدو عشوائيًّا، اختيار الأسماء والأرقام والكلمات … قد يساهم في حل مشكلة أخرى، فكما نعلم الكثيرون يُجادلون ضد افتراض الحتمية النفسية المطلقة عن طريق الإشارة إلى شعور عميق بالاقتناع بأن ثمة إرادة حرة، هذا الشعور يوجد، بيد أنه لا يتناقض مع عقيدة الحتمية، فمثله مثل سائر المشاعر العادية يجب تبريره بشيء ما، ولكن على قدر ما أستطيع أن ألاحظ، فإن هذا الشعور بالحُرية لا يفصح عن نفسه في قرارات عظيمة الشأن أو ذات أهمية، ففي مثل تلك الظروف الخطيرة يسود الإنسان أكثر الشعور بالإجبار، وهو يتقبَّله بسعادة.

ومن الناحية الأخرى فإنها فقط القرارات التافهة التي يستوي فيها الطرفان، هي تلك التي يشعر فيها الفرد يقينًا أنه يستطيع فيها التصرف بطريقة أخرى، يتصرف بإرادته وبغير أية دوافع، ونحن — بسبب تحليلاتنا — لسنا في حاجة للدخول في صراع من أجل تفنيد صواب الشعور بالاقتناع بأن ثمة إرادة حرة، فإذا ميزنا بين دوافع الوعي واللاوعي، فسوف يخبرنا الشعور بالاقتناع بأن الدوافع الواعية لا تمتدُّ لتشمل كل محركات قراراتنا، ولكن ما يتركه أحد الجانبين حرًّا، يتلقى دوافعه من الجانب الآخر، من اللاشعور، هكذا تسري الحتمية في المجال النفسي، ولا يمكن أن يعترض طريقها شيء».٣١
أما السلوكية، التي بذرها بافلوف وبدأها واطسون، ورعاها ونماها سكينر B. F. Skinner (١٩٠٤–١٩٧٦) حتى بلغت قمة النضج الحتمي بفضل جهوده الجادة، فطريقها إلى الحتمية أقصر وأيسر، لقد رفض السلوكيون كل تلك الأساطير الخيالية التي تفتقت عنها مقدرة فرويد الإبداعية، من قبيل الأنا والأنا الأعلى واللاشعور … وأكد سكينر أن الإنسان مجرد آلة، حتى إن ما يسمى بالطبيعة البشرية المتميزة والنوايا والمشاعر … كل هذا مجرد وهم ستُطيح به الثورة السلوكية التي ظلَّت منطلقة في طريقها للإطاحة بكافة الكيانات التي لا تستلزمها الحتمية العلمية، حتى وصل بها الأمر إلى الإطاحة بمفهوم النفس وأصبح علم النفس معها كما يقال: علم نفس بغير نفس، إنه دراسة لردود أفعال شرطية منعكسة، مجرد سلوك يمكن جدًّا تعديله وتكييفه، عن طريق المؤثرات البيئية الواقعة عليه، بوصفها عللًا محتمة للسلوك، خصوصًا في عملية التربية، حتى نصل في النهاية إلى ما فيه صالح الفرد والمجتمع، وقد كرس سكينر جهوده الجادة من أجل هذه الإمكانية التقنية أو القوة التكنولوجية لعلم النفس، وأشهر أعماله في هذا كتابه «تكنولوجيا السلوك الإنساني»، وهو ترجمة عربية لكتاب له اسمه الأصلي «ما وراء الحُرية والكرامة» Beyound Freedom and Dignity،٣٢ يوضح عنوان الكتاب ومضمونه معًا أن معاني، أو بالأحرى أوهام الحُرية والمسئولية والذاتية والشخصية وحتى إنسانية الإنسان، سيطيح بها العلم الحتمي، بواسطة المدرسة السلوكية ولكنه سيأتينا بما هو خير من الوهم العاطفي، بأفراد لمجتمع على درجة عالية من التكيف المطلوب.

هكذا أصبحنا، بلا لف ولا دوران، مجرد تروس في آلة.

(١٠) «الحُرية في الحس المشترك بالاستبطان»: دفعنا علم النفس بحكم طبيعته التخصصية إلى تفنيد خبرة كائنة في الحياة السيكولوجية الواعية، إنها الشعور بالحُرية، لعل الحُرية راحت، كما راحت الكثير من الكيانات التي كان العلم في تطوره نحو المثال الحتمي يطيح بها، كالغائية والقوى الحيوية، ومع هذا، فمهما تآزر العلم وفلسفته لتوطيد الحتمية، فستظل الحُرية كائنة في الحس المشترك Common sense، أي في خبرة وتفكير الإنسان العادي في حياته العادية.

فهل يصلح هذا كملجأ أخير لإنقاذ الحُرية الإنسانية من براثن الحتمية العلمية؟

الإجابة بالنفي، وكينونة الحُرية في الحس المشترك لا تقدم ولا تؤخر من حال المعضل، فكما أوضحنا آنفًا، في المدخل، الحس المشترك ينزع أيضًا إلى الحتمية الكونية، وربما كان نزوعه إلى الحتمية أعمق وأكثر إلحاحًا من شعوره بالحُرية، وكما يقول بول فيز: «يسلم الحس المشترك بهاتين القضيتين «الحتمية والحُرية» لأنه أصلًا مجال للتناقضات، وأبعد ما يكون من الصورة النسقية المترابطة للاعتقاد».٣٣
وإذا أضفنا إلى هذا قصور مداه وخبراته، اتضح كيف يسهل على الحتمية العلمية، قهره وتفنيد إحساسه بالحُرية، وكما يقول ويتلي، في كتاب له يمكن أن تعده من أقوى العروض العنيدة والمُصرَّة على التفسير الحتمي العلِّي لكل ظواهر الوعي والسلوك الإنساني جملة وتفصيلًا، ونفى أية إمكانية لفرض الحُرية الباطل — يقول ويتلي: «ثمة شيء ما كالوعي بالحُرية، كما أن ثمة الوعي المتناقض باللاحرية ولكن لا يمكن أن يكون ثمة وعي بلا عِلِّية، والعلية واللاعلية ليستا من النوع الذي يمكن معرفته معرفة فورية أو حدسية، فأن نقر أو ننفي علاقة علية بين حادثتين هو أن نقول شيئًا أكثر مما يمكن اكتشافه بمحض الملاحظة المجردة للحوادث في ذاتها، وعيي أنا بأفعالي لا يمكن في حد ذاته أن يخبرنا بما إذا كانت أمثلة لقانون كلي»،٣٤ هكذا ترتد السهام إلى الصدور، ويتضح أن شعور الحس المشترك بالحُرية هو عينه مظهر الجهل بالقوانين الكلية والعلل الكامنة في الخلف، ويتناول بلانشارد القضية بصورة أكثر هوادة، حيث يقول: «إن السؤال في حقيقته، ليس عما إذا كنا نستطيع فعلًا أن نختار ما نختاره، وما إذا كان الاختيار ذاته قد أتى وفقًا لقانون، وكنتيجة لمقدمات علِّية سابقة، إن هذا الإحساس بالحُرية أو إدراكها يأتي من أننا نقوم بالفعل الحر أو بالاختيار — أو بالأصح ما نظنه هكذا — وأنظارنا مصوبة شطر الأمام، شطر المستقبل، شطر الغايات والمجاني التي سوف نظفر بها من هذا الاختيار، فنعتقد أننا أحرار فيه وفي الظفر بنتائجه، ومن ثم نظل على جهل بأن كل فعل وكل اختيار محتم، ولو نظرنا إلى الوراء، إلى الماضي والسوابق لوجدناها هي التي حتمت هذا الفعل، فلا اختيار إذن ولا حرية»،٣٥ وينتهي براند بلانشارد إلى أن الاعتراض على الحتمية بأننا نشعر دائمًا بالحُرية مردود عليه كالآتي: من الطبيعي أن نشعر بالحُرية على الرغم من أننا خاضعون للحتمية، طالما نصوب أنظارنا شطر نتائج الفعل وليس شطر علله، ودائمًا تفوتنا ملاحظة العلل،٣٦ مرة أخرى الشعور بالحُرية هو الجهل بالقوانين الكلية والعلل الكامنة في الخلف، إنه مظهر من مظاهر القصور الإدراكي.
وقد يحاول الحس المشترك تدارك قصوره بشيء من المنهجية، ولن يجد أمامه إلا الاستبطان فهل ثمة أمل في الحُرية؟ ربما لأن استبطان عملية اتخاذ القرار يكشف عن أنه نشاط حر لا حتمي وإذا كانت الحواس تخدعنا، كأن يُرى السراب في قلب الصحراء واحة خضراء، فإن الاستبطان بمنجاة عن خطأ الحواس،٣٧ ومجمل الحجة الاستبطانية كالآتي: «يكشف الاستبطان عن أن سلوكنا الإرادي الحر لاحتمي، ونحن لا يمكن أن نكون على خطأ بصدد ما يكشف عنه الاستبطان؛ على هذا فالحُرية كائنة، بعض الأفعال الإنسانية، بعضها على الأقل، لا حتمي».٣٨

على أن العلماء لم يجمعوا على شيء — وعن حق — مثلما أجمعوا على قصور وبطلان منهج الاستبطان وضرورة استبعاده، وقصوره كائن بوضوح ها هنا؛ لأنه لا يمكن أن ينصب إلا على فعل القرار أو الاختيار الذي تقوم به الذات، ولكنه لا يتطاول على العوامل القبلية التي كانت حتمية، أو حتى أفضت إلى أنه لا حتمي، عوامل البيئة والوراثة.

هكذا عدنا إلى حيث انتهت رحلتنا مع ويتلي وبراند بلانشارد، ومجرد كون الحُرية في متناول الاستبطان — الذي يكشف الحدث منفصلًا عن تسلسله العلي — لا يعتبر أبدًا إثباتًا للحرية، وقد اعتبره برود حجة سلبية في صالح الحتمية، وفصلها في الحجتين الآتيتين:
  • (أ)

    ثمة مبرر قوي للاعتقاد، أنه ليس كل الأحداث العقلية في متناول الاستبطان، فحتى لو كانت جميعها حتمية تمامًا، وكانت العوامل العلية الكافية هي ذاتها عوامل عقلية، فإن بعضها لا يمكن أن يتبينه الاستبطان.

  • (ب)

    ولأن بعض العوامل النهائية في العلة الكلية للحدث العقلي قد لا تكون عقلية بل مادية، فإنه مستحيل أن يكتشفها الاستبطان.

والحق أن هاتين الحجتين أو القضيتين تثبتان أن مظهر اللاحتمية البادي أمام العقل الإنساني قابلٌ تمامًا للتأويل الحتمي وللتوافق مع الحتمية،٣٩ وإذا كانتا لا تقيمان أية حجة إيجابية للحتمية، فإن الحجج الإيجابية معروضة في الفقرة (٧-ب)، المهم الآن أنهم اتخذوا من إدراك الاستبطان للحرية وكينونتها في الحس المشترك التبرير المنطقي لكون الحُرية وهمًا، وتمامًا كما أن الحاسب الآلي (الكمبيوتر) لا يعرف كل شيء عن نفسه بطبيعة الحال، فإن المخ أيضًا بالمثل لا يمكنه أن يعرف كل شيء عن نفسه، ومن ثم قد لا يكون على وعي ببعض العوامل التي تحتم سلوكه، وهذا يؤدي إلى الشعور الخادع بالإرادة الحرة، وهو شعور لا يمكن لأي قدر من الاستبطان أن يزيحه،٤٠ وعبث أن يحاول الحس المشترك مواجهة العلم وحتميته، أو أن يحاول الاستبطان مواجهة الاستقراء والاستنباط.

•••

(١١أ) «المعضل الأخلاقي»: الحس المشترك بطبيعة الحال خصم ضعيف أمام العلم، وليس يصعب قهره بلمسة إصبع، أما الذي جعل أوار الصراع بين الحتمية العلمية والحُرية الإنسانية يستعر حتى السماء السابعة ويأبى أية محاولة للمهادنة فهو المعضل الأخلاقي، وتفصيل أمره كما هو آت:
  • (أ)
    الإنسان لا يستطيع أن يفعل غير ما يفعله، وطالما أن فعله قابل للاستنباط اليقيني من القوانين الحتمية فكيف نطالبه بأن يكون أكثر أو أقل أخلاقية؟ كانت الحتمية البيولوجية حين بسطت سيطرتها على الإنسان قد أخبرتنا بأن المخ يفرز التفكير كما يفرز الكبد الصفراء، وبالتالي، الأحكام الخلقية ككل أنشطة الذهن نواتج أو معلولات حتمية للعلل الضرورية، وبالتالي ليست من القيمة في شيء، ولا يوجد شيء اسمه القيمة، مذهب الضرورة الحتمية، حيث تمثل في الصورة الميكانيكية العلمية، جعل الإنسان مجرد حيوان، هو من الناحية الفيزيائية كالآلة، ومن الناحية العقلية كالنظرية الهندسية؛ لهذا يقول تين: «إن الفضيلة والرذيلة مجرد منتجات جانبية، مثلها مثل الزاج والسكر».٤١
وإذا كان الإنسان لا بد وأن يفعل ما يفعله، ويستحيل أن يفعل سواه، فكيف ولماذا يتحمل مسئولية ما فعل؟ وما معنى أن نلقنه قواعد الأخلاق التي ترشده إلى ما ينبغي فعله؟! بدا للحتميين أننا حين نتخلى عن الحُرية بمعناها التقليدي الاختياري — أي إمكانية الاختيار بين بديلين فأختار أن أفعل هذا ولا أفعل ذاك — فإننا لا نتخلى عن شيء ذي بال، بل ربما نتخلى عن أوهام فارغة وأحلام جهلاء، في حين أننا ببساطة نتخلى عن حقيقية الحياة الأخلاقية،٤٢ فإذا كانت قوانين الفيزياء تحتم أن نفعل في كل لحظة ما نفعله فما جدوى الحكم عليه بأنه صواب أو خطأ؟ وماذا يبرِّر قيام القانون الأخلاقي إذا كان القانون الطبيعي يطغى عليه وينسخه،٤٣ وفي سياق القوانين الطبيعية تأتي القوانين البيولوجية والسيكولوجية والسوسيولوجية، قوانين الوراثة والبيئة، لتحتم ردود أفعال الشخص وتصرفاته، ولتعني الحتمية العلمية «أن كل فرد يحمل برنامجًا جاهزًا معدًّا من قبل في الماضي» ولو صح ذلك لكان الجهد الأخلاقي عقيمًا مجدبًا.٤٤

وهذا يجعلنا نقتبس قول دستويفسكي في «الأخوة كرامازوف»: لو لم يكن الله موجودًا لأصبح كل شيء مباحًا. لنقول: «لو كان العالم حتميًّا لأصبح كل شيء مباحًا.» فلا جدوى من محاولة منع أي شيء، ونحن ومحاولة منعه واقعون في قبضة القوانين الجبارة، التي تحكمنا وتحكم العالم، وإن كان ثمة مسئولية، فهي عليها لا علينا، هذا الوجه من وجوه معضل الحُرية في العالم الحتمي، جعلها مشكلة أخلاقية، لا بد وأن يتعرض لها عالم الأخلاق، وأدخل العلم في صدام مع الأخلاق، أحدهما يستبعد الآخر، فتفاقمت حدة الصراع بين العلم والدين.

وسنرى في نهاية الفصل القادم الشيزوفرينيا التي أنجبها التناقض بين الحتمية والحُرية في قلب الإنسان، والآن نجد العالم الأخلاقي تشارلز كامبل يشير إلى هذا التناقض في تحليله لفينومينولوجية٤٥ الإرادة الحرة من حيث كونها مقدمة شرطية لزومية للأخلاق، وأن المسئولية الخلقية تدور معها وجودًا وعدمًا، وكانت خلاصة تحليلات كامبل الفينومينولوجية أن الحتمية تستطيع أن تأتيَنا بحجج مقنعة نظريًّا ضد الإرادة الحرة، بيد أن المأزق الأخرق الذي سينجم عن هذا هو أن الإنسان سيُنكر نظريًّا ما عليه أن يُقرَّه عمليًّا من حرية ومسئولية خلقية، ليكون ثمة صراع جوهري وأساسي بين الجانبين النظري والعملي في طبيعة الإنسان، إنه تناقض في صميم قلب الذات، وينتهي كامبل من هذا، إلى أن الحتمي عليه أن يعتني أكثر بالتحليل الفينومينولوجي ليرينا إن كان يستطيع تأكيد أن الإرادة الحرة ليست بالفعل عنصرًا منيعًا في الوعي العملي الذي يحياه الإنسان.٤٦
الحتمية العلمية تجعلنا ملزمين عقليًّا، لا بالتخلي عن الأخلاقيات فحسب، بل وبالتخلي أيضًا عن مجرد الأحكام التقييمية، وعن الاتجاهات المرتبطة بها، التي تتضمن الإعجاب والاحتقار والفخر والعار والاحترام والإعابة … إلخ، وقد أسماها ستراوسون اتجاهات انفعالية Reactive Attitudes، إنها ذاتية، تجاه الأفراد على قدر ما هم أشخاص، وفي مقابلها ثمة الاتجاهات الموضوعية Objective كتلك التي تكون تجاه الحيوانات والآلات والأطفال الصغار، إذا صحت الحتمية، فلن نتنازل فقط عن ممارسة الثواب والعقاب، بل وأيضًا عن الاتجاهات والأحكام الانفعالية التي تعبر هذه الممارسة عنها، ونتبنى فقط الاتجاهات الموضوعية نحو أنفسنا ونحو الآخرين، مثلما نتخذها إزاء أي موضوع آخر أوَليست الحتمية العلمية معقل هذا التصوُّر للموضوعية. سنظل نلوم ونعاقب ونمدح ونذم، ونحاسب المجرمين، ولكن لن يكون هذا تعبيرًا عن الإعجاب والاستهجان، بل فقط مسألة موضوعية، هي تعبير عن هدف مؤداه تغيير الآخرين حتى يلائموا احتياجاتنا، كما نعاقب أو نثيب حيوانات المعامل أو السيرك على قدر استجابتها للتمرين؟!٤٧ وهل كانت أهداف سكينر الصريحة المعلنة تخرج عن هذا قيد أنملة؟! إنها باختصار تكنولوجيا السلوك الإنساني.
إن الاتجاهات الانفعالية، أي غير المنصاعة للوعي بالحتمية، تعني عدم التوافق مع الواقع الذي يقضي بالتخلي عنها، وإذا رفضنا التخلي عنها لأنه يقلِّل مغزى حيواتنا وقيمتها تقليلًا خطيرًا، فإن التفكير في القيمة والمغزى أصلًا اتجاهات انفعالية، لا بد من تحطيم الدائرة والولوج في قلب الحتمية العلمية، التي تعني أن الإنسان كائنٌ غير حر وغير مسئول، وأنه يخدع نفسه حين يتصوَّر إمكانية هذه الاتجاهات التفاعلية من حيث يتصور إمكانية الحُرية والمسئولية، ربما فضل هذا الخداع، كما يفضل المريض عدم المواجهة بأن مرضه مميت، فيختار أن يفعل كما لو كان حرًّا مسئولًا، وهو يعلم أنه ليس هكذا،٤٨ وربما نهرب من هذه الحتمية؛ لأنه في العالم الحتمي الاتجاهات موضوعية حتى في صميم العلاقات الإنسانية، فتؤسس على المعلولات المترتبة عليها من نفع أو ضرر، فنصادق ونحب على هذا الأساس! وبين القادة والأتباع أيضًا الاتجاهات موضوعية فلا انفعالات تقييمية كالإعجاب أو الانبهار أو الإيثار … مثل هذا العالم بارد مخيف لا يطاق،٤٩ إننا نجد أنفسنا دائمًا بين قرني معضل الحتمية/الحُرية:
لو صحت الحتمية فنحن لسنا أحرارًا، ولكننا نتخذ اتجاهات تفاعلية نحو أنفسنا ونحو الآخرين؛ ولذلك نعتبر أنفسنا أحرارًا ومسئولين … ولكن اتخاذ هذه الاتجاهات يجعلنا نحيا بطريقة لا تتفق مع الوقائع، إذن فلنتنازل عنها كي نعيش متفقين مع عالمنا الحتمي، ولكن إن فعلنا فسنقبل بهذا منزلةً مماثلة لمنزلة الحيوانات والآلات، وإن رفضنا فهذا خداع للنفس، وإن قبلنا فهذا تجاهل لقيم نحياها٥٠ … ولا مخرج أبدًا.

(١١ب) وإذا تركنا هذا البُعد للمعضل الأخلاقي والكائن في الوعي والذي يحرم عليه العلم الحتمي أية أحكام تقييمية أو اتجاهات تفاعلية، ودلفنا إلى كيان واقعي عملي لا مندوحة عنه من أجل ضبط المجتمع ألا وهو القانون لوجدنا أنفسنا بإزاء بُعد آخر للمعضل، شأنه شأن كل وجوه معضل الحُرية في العالم الحتمي لا مخرج منه أبدًا.

وذلك أنه من المبادئ المُسلم بها في العرف الاجتماعي وفي فقه القانون، أن الشخص يُعفى من العاقبة القانونية للفعل الذي قام به تحت قسر، أي إرغام أو تهديد، وقد يكون الفعل جريمة نكراء، ولها أبشع النتائج كالقتل، ولكن القانون يحكم ببراءته لأنه غير مسئول، الفعل لم يصدر عن إرادته الحرة «ولكن ما هو القسر Coercion؟» الشخص الخاضع للقسر هو المجبور على أن يفعل ما يفعل، وليس أمامه أي اختيار سوى أن يفعله،٥١ كأن يكون ذلك هو السبيل الأوحد للدفاع عن النفس أو العرض، على أن الحتمية العلمية قد حكمت بأن كل فعل من أفعال الإنسان هكذا، لم يكن أمامه أن يفعل سواه، ومن ثم فهي تعفيه من المسئولية ومن استحقاق الجزاء، من حيث تعفيه من الحُرية.
وإذا كان القانون الجنائي في سائر المجتمعات المتمدينة، يفرق تفرقةً حاسمة بين الجريمة التي يرتكبها الفاعل بإرادته الحرة، فتجعله مستحقًّا للوقوع تحت طائلة القانون، وبين الجريمة التي يرتكبها وهو واقع تحت واحد من الظروف التي تلغي دور حريته المسئولة، كأن يرتكبها عفوًا أو قسرًا، أو تحت ضغوط منعته من التروي قبل ارتكابها، أو أمراض أو شذوذات ذهانية أو عصابية، أو عن جهل بعواقب الفعل لحداثة السن مثلًا … فإن هذه التفرقة بناءً على الحتمية خلف محال Absuro بغير معنى، لا عقلانية غير عادلة، لا أخلاقية، ربما كانت كل هذا معًا، إنها تبدو بلهاء، بل إن القانون بأسره والعقاب بأسره يبدوان أشد بلاهة.٥٢
ومنذ أفلاطون وحتى يومنا هذا، يوجد التيار الحتمي الذي يؤكِّد أننا إذا ما كنا عقلانيين تمامًا فلا بد وأن ننظر إلى الجريمة على أنها مرض، وأن نكترس لعلاجه، وعلينا أن نفعل هذا، ليس فقط حين تكون الجريمة قد ارتكبت بالفعل، بل وأيضًا حين نجد دلائل تشير إلى أنها سوف تحدث، فعلينا أن نتجه إلى المجرم ونعالجه قبل أن يرتكب الجريمة.٥٣
ومع الحتمية العلمية أصبح هذا الحلم اليوتوبي أسلوب عمل، علمي وواقعي رفيع الشأن، وقد لا يكون ثمة فارق بين اللص وبين المصاب بجنون السرقة Kleptomania إلا في أن العلم قد توصل إلى علة سرقة الثاني، ولم يتوصل إليها بعد بشأن الأول، وسوف يتوصل يومًا ما، وكلما جعلَنا العلم ندرك أكثر العلل الضرورية التي تحكم الأحداث والأفعال، جعلَنا أكثر إدراكًا للحتمية الكونية، وبالتالي لسذاجة المسئولية الخلقية وأحكام الأخلاق.
وكما يقول جون هوسبرز: «لنلاحظ أننا كلما عرفنا بشمولية أكثر العوامل العلية التي تقود الشخص إلى أن يتصرَّف كما تصرف، ازداد ميلنا لإعفائه من المسئولية.» لقد حاول هوسبرز إثبات أن الإنسان لا يستطيع أن يفعل سوى ما يفعله، وأنه بالتالي ليس مسئولًا عن أيٍّ من أفعاله، وعن طريق تحليل عديد من الأمثلة لشتَّى أنواع الأفعال والتصرفات، من تلك التي تبدو وكأنها إرادية تمامًا ومتعمدة، حتى تلك التي تبدو لا إرادية ولا دخل للحرية فيها، وكانت جهود هوسبرز على أساس منهاج التحليل النفسي لفرويد وخلفائه، وهو يؤكد أن علماء هذه المدرسة وغيرها من مدارس علم النفس، يستطيعون التنبؤَ بالسلوك المحتومِ على كل وأي إنسان أن يأتي به، ومن هذا ينتهي إلى أن الإنسان ليس مسئولًا البتة، ولا ينبغي معاقبة أي مجرم على جريمة يرتكبها، بل الأحرى أن نعاقب الطبيعة أو نعاقب والديه؛ لأنهما خلعا عليه ذلك التكوين أو المزاج التعس.٥٤
المُجرم نفسه غير مسئول عن العلة «أ» أي سلسلة الأحداث التي حدثت له في طفولته المبكرة، وبالتالي فهو غير مسئول عن المعلول «ب»، أي عن الأحداث التي تحدث له في رشده، وكلها أحداث فرضتها عليه التوترات العصبية.٥٥ وبالطبع معاقبة الطبيعة مزحة، على سبيل الهزء من أنصار الحُرية، ولا يبقى إلا معاقبة الوالدين، وهما يحيلانا إلى معاقبة والديهما … وهكذا حتى آخر السلسلة العلية الحتمية، والتي لا تنتهي بآدم وحواء، يريد هوسبرز أن يخلص من هذا إلى أننا نعاقب المجرم وكأنه لا أخلاقي ونحن أخلاقيون، بينما الأمر الواقع أنه غير محظوظ ونحن محظوظون.٥٦ بعبارة أوضح: لأن العالم حتمي، لا يوجد شيء اسمه الأخلاق أو المسئولية، وقانون العقوبات كيان لا عقلاني بل وجائر أصلًا وفروعًا! وعلى الرغم من أن هوسبرز، كأي حتمي، لا يستطيع — كما يعترف — أن يفقه أي معنى للاحتمية؛ لأنه لا يستطيع أن يتصور حدثًا غير معلل، فإنه لكي يُجاري التيار المعاصر يحاول أن يزيح الحتمية جانبًا قائلًا إنها لا تعدو أن تكون فرضًا مبهمًا وكل ما في الأمر أن الإنسان ليس عِلَّة شخصيته، وليس له تحكُّم في المؤثرات التي أثرت عليه، وجعلته على ما هو عليه، وبالتالي صدرَت عنه تلك الأفعال، وهذا سارٍ، سواء سلمنا بالحتمية أو باللاحتمية،٥٧ وذلك بالطبع تلاعب بالألفاظ، فماذا يمكن أن تكون الحتمية العلمية غير العلية الكاملة التي أكدها، وماذا تكون اللاحتمية سوى نفي هذا، من المسلَّم به في كافة الدراسات التي تعرضت لهوسبرز، إنه يعطينا أقوى صورة للحتمية الصارمة التي تنفي أي معنى للحرية والمسئولية، واضعة الأخلاق في معضل، لا مخرج منه إلا بالإنسان اللاأخلاقي.
(١١ﺟ) انبرى علماء الاجتماع الفرنسيون على وجه الخصوص للدفاع عن معضل الأخلاق في عالم العلم الحتمي، ومحاولة رفعه إلى مستوى البديهيات والمسلمات، وذلك من منطلق رغبتهم في تشييد ما دعا إليه جون ستيوارت مل صديق إمامهم كونت من علم أخلاق وضعي Ethology، وبالطبع يكون هو الآخر حتميًّا كسائر العلوم، فيدرس السلوك الإنساني ليصل إلى القوانين الحتمية التي تحكم ظاهرة الأخلاق؛ وذلك لكي تحيط الدراسة العلمية بكل ظواهر الاجتماع الإنساني.
فيوضح ألبير باييه، أنه في عصور الجهالة المتخلِّفة كان أسلافنا يرون أن الرجل الذي يقترف الإثم حر في ألَّا يقترفه، فجاءت الأخلاق التي ترفع من قدر الصالحين وتندِّد بالطالحين، أما في عصور العلم فإن الجريمة نفسها واقعة محتومة، فإذا مقتْنا الجريمة لم نعد نستطيع أن نمقت المجرم، ويمضي باييه في توضيح كيف أن كل من يقترف خطأً أو يرتكب جريمة، إنما فعل هذا كنتيجة، أو كمعلول حتمي للعلل السابقة التي لا دخل له فيها، كبيئته أو ظروف نشأته؛ «لأن عبء الماضي أناخ بكلكله عليه، إن خطأنا إنما ورثناه عن ماضٍ فُرض علينا كما يفرض علينا الأمر الواقع، فلا ننظرن إلى المخطئ نظرتنا إلى مجرم يستحق المقت والاحتقار، بل إلى مريض يستحق العلاج والرحمة».٥٨ وليس يصعب تبين كيف يرتبط هذا مع ما ذكرناه في المقدمة من النزوع السيكولوجي إلى الحتمية؛ لأنها تريح النفس وتهدهدها، فما أجملَ أن يتحلَّل الإنسان من مسئولية ما فعل، ملقيًا الملام على الوراثة والبيئة والقضاء، فلا يستحق عقابًا أو جزاءً، بل قد يلقى رحمة باييه وتعاطفه؛ لأنه غير محظوظ كما قال هوسبرز، وكما أن التفسير والتبرير بواسطة الحتمية أيسر وأسلس السبل أمام العقل النظري، فإنه أيضًا أوضح وأيسر أمام الفعل العملي، أوضح الأمثلة على هذا ما فعله الأمويون، حين رجعوا لعقيدة الجبر؛ لكي يبرروا حكمهم الجائر القائم على الدم الطاهر المراق، دماء آل البيت، مع الحتمية، نلقى أنفسنا في عالم لا يملك رادعًا يردع المجرم عن ارتكاب جريمة «يمكنه» ألا يرتكبها، إنها كارثة العلم بحق.
لذلك، فبعد أن يجاهر ألبير باييه هكذا علانية بالمعضل، لا بد بالطبع وأن يدافع عنه في مواجهة الاعتراض بأن هذه النظرة المتسامحة قد يكون من شأنها أن تقلِّل السخط على الجريمة وأن تشجع أهل الشر على الغواية، يقول باييه عن هذا: «إن الافتراض ضعيف فهل قلَّ فزعنا من وباء الطاعون منذ أن عدلنا عن رأينا في أن المصاب به آثمٌ حلَّ به عقاب الآلهة؟»٥٩ إنه إذا انتصرت الحتمية الاجتماعية، وهذا ما يحق لنا أن نرجوه، فإن المجتمعات ستظلُّ تنكر الجريمة والكذب والسرقة، وستمضي في مكافحة تلك الرزايا لكنها لن توقع العقاب على الجاني، بل ستداويه بعد أن تكون قد حالت بينه وبين الإضرار بالناس، ولن تشدِّد النكير على الجريمة، بل ستهتم بتبيين عللها ووجوه القضاء عليها، وما هو الدواء الناجح،٦٠ ولا يكتفي باييه بالدفاع بواسطة تكنولوجيا العلم الاجتماعي — إن صح التعبير — بل يتوسَّل بأئمة الحتمية عبر التاريخ، قائلًا: إن أخلاق التساهل القائمة على الحتمية لها أسلاف نابهون يجب إسكاتُهم قبل التعرُّض لنا، فهل كان «أفلاطون» مقوضًا للأخلاق حين قال: «لا أحد يقترف الإثم عامدًا متعمدًا.» وهل كان «سينكا» هادمًا للأخلاق حين قرر أنه لا ينبغي علينا أن نمقت الشرير، بل أن نرثيَ لحاله؟ وهل كان الإنجيل مقوضًا للأخلاق حين أورد على لسان عيسى: «أبي اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يصنعون.» وأخيرًا هل نقضي نحن على الأخلاق إذا اعتقدنا أن قانون المحبة شامل، وأنه ليس لأحد الحقُّ أن يستثني منه أحدًا.٦١ علماء الحتمية لن يترفَّعوا على المجرمين، ولن يستهجنوهم ولا يدور بخلدهم أن يصرعوهم، بل يريدون أن يصلحوهم،٦٢ ويرد باييه هذا بالقول النبيل: «من منا المعصوم حتى يصح له أن يترفَّع على المخطئين؟!»٦٣
إلى كل هذا الحد لا يكتفي العلم الحتمي بالمجاهرة الصريحة بمعضل الأخلاق في عالمه، بل يردفه بالدفاع الباسل، ولم لا؟ وتكنولوجيا نسق العلم الحتمي الكامل ستعطينا ما هو خير من وهم الحُرية وأحكام الأخلاق الجوفاء الانفعالية، ستعطينا المجتمع المنظم تنظيمًا أمثل، يجمل برلين الموقف كالآتي: «تلك هي عقيدة الحتميين المؤمنين بالعلم الطبيعي وبالتقدم المادي، إنهم يتمسكون بأن الخطيئة والمعاناة هي في النهاية نتيجة الجهل، الضعف والبؤس والحمق والخطأ والخلل الأخلاقي، كلها تعود في النهاية إلى سوء التنظيم الآتي من الجهل بالوسائل والغايات. وأن نفهم طبيعة الأشياء هو أن نعلم ما الذي نريده حقيقة وكيف نصل إليه، والتوصل إلى معرفة هذا هو غرض العلم ووظيفته، العلم سوف يتقدم، وسيكتشف يومًا ما الغايات الحقيقية والوسائل الكفء الفعالة، المعرفة ستنمو وسيتقدم الإنسان أكثر، فيصبح أفضل وأحكم وأسعد، السعادة والفضيلة والمعرفة العلمية مرتبطة كلها معًا، وبسلسلة لا تضمحل أبدًا، أما الغباء والخطيئة والظلم والشقاء، فأعراض مرض سوف يحذفه تمامًا تقدم العلم، نحن على ما نحن عليه بسببٍ من العلل الطبيعية، وحين نفهمها فهذا وحده كفيلٌ بأن يجعلَنا على اتساق تام مع الطبيعة، أما الثواب والعقاب فدلالة على الجهل، إذا كان من المعقول أن نلوم الأشياء والحيوانات، أو نطالبها بالعدالة حين تسبب لنا ألمًا، أو نلوم الطقس أو التربة أو الضواري والوحوش، لكان من المعقول أن نلوم الإنسان، الذي لا تقل حتمية خصائص شخصيته وأفعاله عن حتمية هذه الأشياء، حين نبحث نمط حياة هذا الشخص أو ذاك، لا يجب أن ندين أو نعاقب لأننا سنعرف ما العلة التي دفعت هذا الإنسان أو ذاك للتصرف الخاطئ، قد يكون الجهل أو الفقر أو أي خلل فيزيقي أو عقلي أو أخلاقي، ولو تسلحنا بما يكفي من الصبر والمعرفة ومن التعاطف سنفهم هذا دائمًا ولن نلوم أي مخطئ أكثر مما نلوم أي موضوع من موضوعات الطبيعة».٦٤
(١١د) وأخيرًا انقلب هذا المبدأ الحتمي: نفي مشروعية الأحكام التقويمية أخلاقية أو غيرها، إلى قاعدة منهجية ميثودولوجية يتحراها الراغبون في علمنة دراستهم، خصوصًا حين تكون علميتها محل شبهة، فدافع الحتميون التاريخيون عنها دفاعًا مستميتًا، مؤكدين أن التاريخ كأي علم آخر، وصف للوقائع لا يعترف بشيءٍ اسمه الأحكام التقويمية «محمد وهتلر والإسكندر» … قد نعجب بهم أو نخافهم، لكننا لا ندين أفعالهم ولا نمدحهم، فلو فعلنا فكأننا نلقي موعظة على شجرة، وبالمثل تمامًا محاولة عزو التغييرات إلى إرادتهم وتصرفاتهم أو محاولة استخلاص الدروس منهم. لا ينبغي أن نشعر بالاستصغار أمامهم، هم على ما هم عليه، ونحن على ما نحن عليه، ولم يكن أحد منا يستطيع غير هذا؛ لأنه محكوم بالقوى العظمى، إننا بإزاء عقول حتمية صلبة تناشدنا باسم المنزلة العلمية أن نحجم عن الحكم لكي نحافظ على الموضوعية.٦٥ ويمكن مقارنة هذا باتجاهات ستراوسون التفاعلية الذاتية، مقابل الاتجاهات الموضوعية الجديرة بالعلم الحتمي.٦٦

•••

(١٢) «معضل الجدة»: يرى الحتميون أن تاريخ عالمهم لا يحتمل أية أحكام تقويمية، ولن نبحث في كونهم محقين في هذا أم لا؛ لأن ثمة تساؤلًا أهم وأكثر جذرية: هل لعالمهم هذا أصلًا تاريخ بالمعنى الحقيقي؟ والأحداث فيه ليست إلا اطراد القانون الحتمي، وتطبيق لخطة فرضتها العلل الكونية التي تخلقت في الماضي السحيق قبل ظهور الإنسان ذي التاريخ، ودع عنك الإنسان المؤرخ.

العالم الحتمي الميكانيكي المغلق، الذي قدرت حركاته أزلًا وأحصيت عددًا، لن يعرف البتة جديدًا، الجديد هو العارض الخصب، والعالم الحتمي حتمي لأنه لا عارض فيه، الجدة ظاهرة من ظواهر المفهوم الحيوي، من حيث كونه مناقضًا للمفهوم الآلي … أما وقد أصبحت الحياة ككل شيء: آلة، فلا جديد البتة، ولا خلق ولا إبداع وبالتالي لا تطور.

هذا في حين أن الجدة مفهوم ضروري تمامًا، مثل الأخلاقية والمسئولية وما إليه، أو على الأقل ضروري لكي يكون العالم إنسانيًّا متطورًا وليس مخزن بضائع وأشياء متحركة، و«لكي يكون الكون متطورًا تطورًا حقيقيًّا، فلا بد وأن يُظهر باستمرار شيئًا جديدًا كل الجِدة، أعني أن التطور لا بد وأن يكون خلاقًا، إننا ننظر إلى عالمنا على أنه عالم في دور التكوين، وإلى أنفسنا على أننا جزء منه في دور التكوين أيضًا، إن حاضرَنا ليس غير ساكن فحسب، بل هو حركة لا يمكن لها هي ذاتها أن تتكرر غدًا».٦٧ تنفي الخطة الحتمية؛ هذا لأنها حددت كل شيء أزلًا وأبدًا، «وإذا كانت ماهية كل شيء محددة تحديدًا قاطعًا، فكيف يمكن أن يكون هناك تطور على الإطلاق، إن كل ما نتوقعه في هذه الحالة هو عالم سبينوزا الموجود منذ الأزل، ويبقى هو نفسه في سلسلة من التحولات، ولكن بلا جدة حقيقية».٦٨
لذلك لم يكن الإدراك العنيد للحرية، هو في حد ذاته الدافع الوحيد لاعتبار الحتمية كابوسًا، بل وأيضًا لأنها تنفي الجدة والخلق الأصيل والإبداع، كان هذا هو الذي دفع كثيرين من الفلاسفة المعاصرين، أمثال بيرس ووليام جيمس وبيرجسون ووايتهيد لشنِّ حربٍ شعواء على الحتمية،٦٩ وفي هذا يقول كارل بوبر:
«لقد وصفت الحتمية بأنها كابوس لأنها تنفي قوة الخلق، فكرة الإبداع والجدة تصبح معها وهمًا فارغًا، مثلًا كتابة هذه السطور لا يمكن أن يكون فيه أي شيء من هذا؛ لأن أي فيزيائي مزود بمعرفة تفصيلية كافية يمكنه أن يكتبه بمنهج بسيط للتنبؤ العلمي، بالمواضيع الدقيقة التي ستُسود فيها الكلمات بواسطة النسق الفيزيائي المكون من جسمي وعقلي وأصابعي وقلمي، ولكي نستخدم مثالًا أوقع نقول إنه لو صحت الحتمية الفيزيائية، فإن الفيزيائي الأصم «شيطان لابلاس» الذي لم يسمع في حياته أية موسيقى، يمكنه أن يكتب كل سيمفونيات موزارت وبيتهوفن، عن طريق منهج بسيط لدراسة الحالات الفيزيائية الدقيقة لأجسامها، فيتنبأ بالمواضيع التي سيضعان فيها علاماتهما الموسيقية في نوتتهما، بل ويمكن لهذا الفيزيائي الأصم أن يكتب ما لم يكتبه موزارت وبيتهوفن وكان يمكن أن يكتباه لو توافرت لهما شروط خارجية مختلفة كأن يأكلا لحمًا بدلًا من الدجاج، أو يشربا قهوة بدلًا من الشاي».٧٠
نفي الجدة يجعلنا ندور بين أطر الآلة في تسلسل ممل من الأحداث العقيمة، كلها نواتج — معلولات للعلل، ولا أصلة البتة، ولما كانت العلل والقوانين ثابتة، فالأحداث في حقيقتها التي يكشف عنها نور العلم الحتمي، كلها متشابهة، ألوانها كالحة، فيزيقيًّا وعقليًّا أيضًا، فحتى مجرد الاعتقاد، اعتقاد أي إنسان في أية نظرية بأية لغة وفي أي شيء، «مسألة حتمية لا بد وأن تحدث، إذا ما وُضع أي إنسان في الظروف الفيزيائية نفسها؛ لأن محض هذه الظروف، تحتم قول وقبول كل ما نقوله ونقبله، والفيزيائي الماهر الذي لا يعرف شيئًا عن مبدأ الحتمية ولا عن اللغة الفرنسية، سيكون قادرًا على أن يتنبأ بما سوف يقوله أيضًا معارضو الحتمية؛ على هذا، فإذا تصورنا أننا نقبل الحتمية أو سواها، لأننا اقتنعنا بالقوة المنطقية لحجج معينة فاتخذنا موقفًا جديدًا، فإننا نخدع أنفسنا».٧١
فمثلًا ظل الحتمي هنري بوانكاريه مؤرقًا عدة شهور بمشكلة رياضية لم يجد لها حلًّا، وفجأة بلا أية مقدمات، بمجرد أن وضع قدمه في إحدى الحافلات، لمع الحل في ذهنه بغتة، بغير أن يجد لذلك أي تفسير، وإذا افترضنا عالمًا أو محللًا نفسانيًّا، على طراز شيطان لابلاس، يعلم كل شيء عن حالة الوعي واللاوعي، والشعور واللاشعور لبوانكاريه، فإنه كان سوف يتنبأ بهذه الحادثة، وهذا يعني أنه كان سيعرف قبل بوانكاريه حل تلك المشكلة الرياضية،٧٢ فكيف يمكن أن نتصور فيها — أو في أي شيء — إبداعًا أو خلقًا من قِبَل ذات منفردة، لا ذوات في عالمنا الحتمي، بل فقط مواضيع لتطبيق المبدأ الحتمي، ولا مكان في هذا العالم لمفاهيم الجدة والخلق الأصيل والإبداع والتطور الحقيقي.

ويمثل هذا معضلًا؛ لأن التجربة الوجودية تؤكد عملية انبثاق الجديد باستمرار، كل ميدان من ميادينها بدءًا من أعظم إنجازات العقل وأروع إبداعات الفن، وحتى أبسط المواقف الشخصية، يؤكد أن الإنسان يأتي بالجديد، يبدع ويخلق، أي يفعل ما لن يفعله سواه، وما لا يتحقق إلا بالإرادة المبدعة والتصميم الحر والجهد الإرادي الموجه، تنفي الحتمية هذا، وعلى ديدنها في إزاحة كل ما يعارضها أو يعترضها تئوله على أنه مظهر يخدعنا بسبب الجهل بالعلل الكونية الكائنة خلفه، وحين يعم نور العلم الحتمي سوف ندرك هذا جيدًا، ولكن يصعب بل يستحيل تصديق أن التطور والجِدة والخلق والإبداع مظاهر للجهل الذي لا يقحم ويقهر إلا بها، ويصعب أكثر تكذيب الحتمية، فيتخلق معضل لا مخرج منه أبدًا.

وبعد كل هذا، إذا عدنا إلى الفقرة (١٨) التي ستوضح تناقض العلم الحتمي ذاته بصدد الحُرية حين ينفي أول مستوييها، الحُرية الأنطولوجية، ويصادر على حريةٍ من المستوى الثاني، لكي ينموَ العلم نفسه ويترعرع ولكي تتواترَ إبداعات العلماء، أدركنا مدى حدة الشيزوفرينيا التي يخلقها معضل أو مبدأ الحتمية، إن العلم يصادر على الحُرية من أجل الجدة والإبداع في حين أن حتميته تنفي الجدة والإبداع من حيث تنفي الحُرية الإنسانية.

إن المعضل ليس معضلين بل واحدًا لا سواه، إنه معضل الحُرية الإنسانية، أما معضل الجدة فهو كالمعضل الأخلاقي، وجه من وجوهه أو بُعد من أبعاده؛ لأن الجديد لا يأتي طبعًا من الآلي الميكانيكي، ومحاولة الإقرار بهذا تناقض منطقي وخلف محال، الجديد لا يأتي إلا من الفعل الحر، والفعل الحر بدوره هو الفعل المبدع «الحُرية هي حرية الخلق، حرية الانبثاق من الماضي المتراكم إلى الجدة التي لا يمكن التنبؤ بها»٧٣ الحُرية تربط الأنا بذاته وبالعالم، وذاك هو معنى التحرر: قوة مبدعة وفي الوقت نفسه إبراز لأنا كلي وفاعل،٧٤ وماذا عسى أن تكون الحُرية في النهاية إن لم تكن تلك القدرة على الخلق، خلق الجِدة والعمل على تحقيقها، بل خلق وجود خصب يكون من شأنه أن يجيء نسيجًا وحدة، وأن يحقق في الكون ما لا سبيل إلى تحقيقه بدونه.٧٥ الإرادة هي الوجه العيني للحرية؛ لأنها أداة تحقيق الفاعلية الإنسانية، فعالية الخلق الذي لا يتحقق إلا بعزمها، عزم الإرادة.
الحُرية الأنطولوجية تعني أن الوجود الإنساني فعل Act، لا حالة State، يقول الدكتور زكريا إبراهيم: «ما دام هذا الوجود في صميمه عبارة عن انتقال شعوري حر من الإمكانية إلى الواقعية، والقول بحرية الإرادة، إنما هو تقرير لتلك الإمكانية الهائلة التي لولا الفكر الإنساني لما كان في وسع العالم مطلقًا أن يتضمنها بأية حال، إذن فإن الحتمية مذهب يائس مثبط للهمم؛ لأنه يلغي من الوجود بالعالم تلك الصورة الإنسانية من صور القوة ألا وهي الإمكانية النوعية الخاصة التي ما كان يمكن أن توجد لولا أن هناك حرية إنسانية مبدعة.»٧٦

تطيح الحتمية بالجدة بالإبداع من حيث تطيح بالحُرية، التي هي القوة المبدعة.

•••

(١٣) هكذا جعل معضل الحُرية في العالم الحتمي من الإنسان لا إنسانًا، بل مجرد ترس في الآلة الكونية، يسير وإياها في المسار العلِّي المحتوم بقوانين يكشف عنها العلم، وبواسطة تنبؤاته التي يعلو سلطانها يومًا بعد يوم، سيعلم الطريق الواحد والوحيد لكل ما هو آتٍ وما قد كان، إنه حلم اليقظة الحتمي، بالعلم اليقيني الشامل، والذي انقلب إلى كابوس مرعب، يسحق حرية الإنسان وحياته الأخلاقية وأحكامه التقويمية وإبداعاته وإنجازاته، كأوهام وَأَدَها نور العرفان، وكأن نور العرفان كشف عن الحقيقة الحقة لهذا الكون: إنه معتقل للمجبورين والمقهورين، أدوات أو عبيد المبدأ الحتمي الأعظم، يقول العلم بصوته الوقور الرزين المنزه عن الهوى والغرض: كلا، ليس هذا الكون منزلًا أو موطنًا للإنسان، يحيا فيه حياة إنسانيتها الحُرية التي تجعل الذات ذاتًا والأنا أنا، تختار وتقرِّر قبل أن تفعل، فتخطئ أو تصيب، وقد تبدع فتأتي بما لا تستطيعه ذات سواها، وتتحمَّل المسئولية عن مشروعية فيحق لها الثواب، أو عليها العقاب … تلك خيالات تسبح في عماء الجهل، ولكن كل جزئية من جزئيات الواقع والمثال، تؤكد للإنسان هذا، من حيث تؤكد له أنه حر الإرادة، تجربته الوجودية العينية تخبره بأنه كان يمكن ألا يفعل ما فعله، أو كان يمكن أن يفعل سواه، وتطرح أمامه أكثر من احتمال، ولزامًا عليه أن يختار بينها … الفرح الصافي بما أنجزت يداه، الألم والمعاناة من جراء ما اقترفت يداه، أو من جراء الاختيار الخاطئ الذي كان يمكن تفاديه … سواء أكان هذا الألم داخليًّا من النفس اللوامة، أو خارجيًّا من معقبات الفعل الخاطئ … كان هذا وغيره يؤكد للإنسان أنه حر.

إن تتبع تاريخ العلوم المختلفة في نشأتها ونموِّها يعرض لكفاح العلم من أجل الوصول إلى المبدأ الحتمي، يعرض للكيانات التي أزاحها المبدأ من طريق العلم، الصفات الخفية، العلة الغائية، الفلوجستون، القوى الحيوية … ولكن لماذا لم يُثر معضل القوى الحيوية مثلًا في العالم الحتمي أو معضل الفلوجستون؟ فما بال الحُرية بالذات قد أقامت الدنيا ولم تقعدها؟ ولماذا لم تذو كما ذوت تلك الكيانات؟ الإجابة واضحة لو لم يكن وعي الإنسان بالحُرية وإدراكه لها عن حق ويملك حيثيات الحكم بأنه الحق، لما كان ثمة معضل للحرية في العالم الحتمي.

تلك الكيانات كالفلوجستون أو القوة الحيوية أوهام جهالة فعلًا، أو تمثيل لقصورات مرحلة انتهت، أما الحُرية فليست هكذا، ولن نقول من الصعب أن نتفق أو ننتهي إلى أن الحُرية وهم، بل نقول بصيغة تقريرية حاسمة، ليست الحُرية وهمًا، إنها حقيقية حقيقية وجود الإنسان. واشتقاقًا من الدليل الأنطولوجي على وجود الله،٧٧ يمكن الوصول إلى دليل إبستمولوجي على وجود الحُرية، ذلك أن التساؤل عن الحُرية وإثباتها أو نفيها، هو ذاته فعلٌ من أفعال الحُرية، فكان إدراك الحُرية والشعور بها ماثلًا في العقول وفي الصدور، قبل العلم بأسره، ولكن العلم الحديث رفع مبدأ الحتمية على رءوس الأشهاد، طارحًا اختيارين، كلاهما مُرٌّ:
الحُرية والحتمية متعارضتان.
ونحن نعلم أن الحتمية صادقة.
إذن الحُرية وهم.

•••

الحُرية والحتمية متعارضتان.
ونحن نعلم أننا أحرار.
إذن الحتمية كاذبة.٧٨

الخبر الأول آتٍ من العقل العلمي المظفر، ذلك المصدر الموثوق بأخباره أيما ثقة، والثاني من الإدراك الوجودي الذي يصعب تخطئته، تعاظم جبروت العلم، ولم يعد التطاول على قدس أقداسه مبدأ الحتمية — مباحًا ولا حتى ممكنًا، فكانت الحُرية هي الضحية، فهل يمكن صرع إنسانية الإنسان جهارًا نهارًا؟ ربما لا، ولكن ماذا نفعل؟ هل ننكر العقل ونعتبر العلم كاذبًا؟ أو خبرًا غير موثوق به أو يمكن إهماله؟ … ذلكم هو المحال بعينه.

هذا المعضل بلا أدنى مبالغة، أعنف وأقسى مأزق فلسفي، مر به العقل البشري حتى الآن، فكيف كانت مواجهته؟

١  أزفلد كولبيه، المدخل إلى الفلسفة، ص٢٢٢-٢٢٣.
٢  Karl Popper, Objective Knowledge, p. 217.
٣  جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ص٢٧٤-٢٧٥.
٤  أحسب أن نفي الغايات المستقبلية على ضوء الحتمية العلمية التي هي عِلِّية أوضح من أن يحتاج لشرح، فمثلًا إذا كان الطالب يُذاكر لكي ينجح في اختبار بعد بضعة أشهر، أو لكي يحصل على شهادة بعد عدة أعوام، فليست العلة هنا كائنة بالمستقبل بل هي كائنة في الماضي، حيث أملت عوامل البيئة والتربية على الشخص أن يستعد للامتحان … ويستهدف الحصول على شهادة وهكذا …
ويحاول العلم الإنساني الوصول إلى قوانين مثل هذه الظواهر، وهذه القوانين بدورها خاضعة لحتمية العلم الاجتماعي السيكولوجي المردودة لحتمية العلم البيولوجي، وهذه بدورها مردودة لحتمية العلم الفيزيائي، هكذا يرتد كل شيء في نهاية المطاف إلى الحتمية الفيزيائية التي تحدِّد أطرَ الكون الذي نحيا فيه بالحدود الميكانيكية.
٥  D.C. Dennett, Mechanism and Responsibility, in: Ted Hondrich (editor), Essays on Freedom of Action, Routledge & Kegan Paul, London, 1973. p. 159-160.
٦  الواقعية الحديثة أو المُحدَثة تعني الوجود الواقعي للعالم، وبصورة مستقلة عن أية ذات عارفة، بعبارة أخرى، سواء وُجد عقل يدرك هذا العالم أم لا، فإن العالم موجود في كلتا الحالتين.
٧  Donald Davidson, Freedom to Act, in: Essays on Freedom of Action, p. 139.
٨  Ibid, p. 150.
٩  Ibid, p. 141.
١٠  C. Campbell, Libertarianism, in: Raziel Abelson & Marie-Louise Friquegnon (editors), Ethics for Modern Life, ST. Martin Press, New York, 1975, p. 282.
١١  انظر في تفصيل هذا كتابنا «العلم والاغتراب والحُرية مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية»، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، سنة ١٩٨٧ ص٢٠٩–٢١٧.
١٢  قبلها يورد هرن حجة مستمدة من علم الأخلاق، غير أنها بخلاف سائر الحجج ليست مستقاة من نسق العلم بالمعنى الدقيق للمصطلح عليه في هذا البحث فضلًا عن أني لم أقتنع بها، انظر: H. H. Home, op. Cit. p. 27.
١٣  Herman H. Horne, The Arguments for Determinism, in: Philosophy and Contemporary Issues, p. 22–27.
١٤  انظر أيضًا في تفصيل هذا، كتابنا المذكور، ص٢٧–٢٧١، ٢٩١، ٢٩٢.
١٥  C. D. Board, Indeterminacy and Indeterminism, p. 146–148.
١٦  جيمس وجينز، الفيزياء والفلسفة، ص٢٨٦.
١٧  المرجع السابق، ص٢٨٤.
١٨  المرجع السابق، ص٢٨٦.
١٩  محمد وقيدي، الإبستمولوجيا الوضعية عند أوجست كونت، ص٢٣٤.
٢٠  ألبير باييه، دفاع عن العلم، ترجمة د. عثمان أمين، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، سنة ١٩٤٦، ص١٠١.
٢١  المرجع السابق، ص١٠٢.
٢٢  د. عبد الباسط عبد المعطي، اتجاهات نظرية في علم الاجتماع، ص٩١، ٩٢.
٢٣  المرجع السابق، ص٩٣، ٩٤.
٢٤  المرجع السابق، ص١٢٤.
٢٥  Philip. L. Herriman, Psychological Terms, Adams & Co. Patercon, 1959. p. 43.
٢٦  Ted Hondrich, One Determinism, in: Essays on Freedom of Action, p. 187.
٢٧  Ibid, p. 201.
٢٨  Peter Gay, Freud and Freedom, in: The Idea of Freedom, p. 42.
انظر تفصيل هذا في كتابنا «العلم والاغتراب والحُرية، مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية»، ص٢٠٤–٢٠٩.
٢٩  Sigmund Freud, Psychopthology of Everyday Life, Trans. By: A. A. Brill, A. Menator Book, New American Library. New York, no date, p. 129.
٣٠  p. Gay, Freud and Freedom, p. 44.
٣١  S. Freud, op. Cit., p. 141-142.
٣٢  أي أن لهذا الكتاب ترجمة عربية تحمل اسم «تكنولوجيا السلوك الإنساني»، قام بها د. عبد القادر يوسف، راجعها د. رجا الدريني، صادرة عن سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ١٩٨٠.
٣٣  Paul Weiss, Common Sense and Beyond, in: Determinism & Freedom, p. 232.
٣٤  C. H. Whiteley, Mind in Action: An Essay on Philosophical Psychology, Oxford University Press, Oxford, 1973, p. 84.
٣٥  Brand Blenshard, the Case for Determinism, in: Determinism & Freedom, p. 21.
٣٦  Ibid, p. 30.
٣٧  Leon Pearl, Four Philosophical Problem, Harper & Row Publishers, N Y, 1963. p. 83-84.
٣٨  Ibid, p. 30.
٣٩  C. D. Broad, Indeterminacy and Indeterminism, p. 146-147.
٤٠  Dennis Scina, Observations on Determinism, in: Determinism & Freedom in the Age of Modern Science, p. 222.
٤١  د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحُرية، ص٥٥.
٤٢  C. A. Campfell, Libertarianism, p. 275.
٤٣  شرودنجر، الإغريق والطبيعة، ص١١١.
٤٤  زكي نجيب محمود، الجبر الذاتي، ص٢٧٤.
٤٥  نسبة إلى الفينومينولوجيا، أي فلسفة الظاهرات، وهي مذهب ينتمي لرياضي ومنطقي معاصر يُدعى إدموند هوسرل، رام أن تصبح الفلسفة علمًا دقيقًا، فدعاها لأن تقتصر على الوصف التفصيلي للظاهرة كما تعطى للوعي، شريطة أن يتخلص الذهن من الافتراضات والانحيازات المسبقة، وقد وضع هوسرل منهاجًا دقيقًا ومعقدًا لهذا يتلخص في ثلاثة خطوط: تقويس الظاهرة، أي وضعها بين قوسين – التجريدي – التطبيق.
٤٦  C. Campbell, Libertarianism, p. 278-279.
٤٧  Susan Wolf, The Importance of Freewill, Mind, 1981, vol. XC, p. 389–391.
٤٨  Ibid, p. 393.
٤٩  Ibid, p. 393.
٥٠  Ibid, p. 392-393.
٥١  Harry Frankfurt, Coercion and Responsibility, in: Essays on Freedom of Action, p. 75.
٥٢  H. L. A. Hart, Legal Responsibility and Excuses, in: Determinism and Freedom in The Age of Modern Science, p. 95-96.
٥٣  Ibid, p. 115.
٥٤  J. Hospers, What Means This Freedom, in: Determinism & Freedom, p. 134.
٥٥  Ibid, p. 134-135.
٥٦  Ibid, p. 138.
٥٧  Ibid, p. 134-135.
٥٨  ألبير باييه، دفاع عن العلم، ترجمة د. عثمان أمين، ص١٠٢ وما بعدها.
٥٩  المرجع السابق، ص١٠٤.
٦٠  المرجع السابق، ص١٠٤.
٦١  المرجع السابق، ص١٠٥.
٦٢  المرجع السابق، ص١٠١.
٦٣  المرجع السابق، ص١٠٧.
٦٤  I. Berlin, Four Essays on Liberty, p. 56, 60, 87, 97.
٦٥  Ibid, p. 46–63.
٦٦  وختامًا للحديث عن المعضل الأخلاقي، نذكر أن صموئيل بتلر وضع ١٨٦٨ تصوره لليوتوبيا أو المدينة التي لا توجد «آرون» أي قلب للكلمة الإنجليزية Nowhere، وفيها تنعكس هيمنة الحتمية على الفكر في القرن التاسع عشر؛ إذ يجعل بتلر هذه المدينة تعاقب المرضى تمامًا كما تعاقب المخطئين والمجرمين وكلما اشتدت وطأة المرض اشتد العقاب.
٦٧  د. زكي نجيب محمود، الجبر الذاتي، ترجمه عن الإنجليزية د. إمام عبد الفتاح، ص٢٧٣.
٦٨  المرجع السابق، ص٢٧٥.
٦٩  William Barrett, Determinism and Novelty, p. 46.
٧٠  Karl Popper, Objective Knowledge: An Evolutionary Approach, p. 222-223.
٧١  Ibid, p. 224.
٧٢  William Barret, Determinism and Novelty, p. 51.
٧٣  د. زكي نجيب، الجبر الذاتي، ص٢٧٧.
٧٤  د. محمد عزيز الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ص١٨٧.
٧٥  د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحُرية، ص٢٥٦.
٧٦  السابق، ص١٨٦.
٧٧  الدليل الأنطولوجي من أشهر الأدلة على وجود الله، قال به القديس إنسلم في العصور الوسطى، وتمسَّك به آخرون أهمهم ديكارت، وخلاصته أن الله يحمل في ذاته الدليل على وجوده؛ وذلك لأن الله هو الموجود الحائز على جميع الكمالات، والوجود واحد من هذه الكمالات؛ لأن العدم — طبعًا — نقص؛ لذلك لا بد وأن يكون الله موجودًا.
٧٨  Anthony Kanny, Freedom, Spontanity, and Indifference, in: Essays on Freedom of Action, p. 89.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤