الفصل الثالث

مواجهة المعضل

إما بنفي الحُرية وإما بنفيها

(١٤) إنه حقًّا معضل، لا يمكن اعتبارُه محض مشكلة أو مأزق؛ لأنه وضع لا انفراجة له البتة: العلم ينفي الحُرية، فما الذي فعله الفلاسفة بإزاء هذا النفي لأية إيجابية إنسانية؟

الواقع أن مجمل فلسفة الحُرية بصدد هذا المعضل، لا تعدو أن تكون أحد موقفين، لا ثالث لهما: إما نفي الحُرية بمعنى السلب والإنكار؛ اعترافًا بحصيلة العلم التي لا سبيل إلى غير الاعتراف بها، وإما نفيها بمعنى إبعادها وطردها إلى عوالم أخرى متصورة أو متخيلة أو موهومة، لا علاقة لها بهذا العالم الذي نحيا فيه وأفتى العلم بأنه حتمي، وفي الحالين لا حرية حقيقية، فهي إما منكورة وإما موهومة، إما منفية وإما منفية، والمحصلة واحدة: لا حرية في هذا الوجود، فليس جزافًا إذن أن تمنحنا عبقرية اللغة العربية جناسًا لفظيًّا في هذا الحكم الذي انتهت إليه دراستي لفلسفات الحُرية في العالم الحتمي، وعبثًا حاولت العثورَ على استثناء له يُكسبه شيئًا من المرونة.

وسبيلنا الآن إلى تبيان مصداق هذا الحكم وعرض حيثياته، والمسألة تتلخص في أن نفي الحُرية بمعنى السلب واللا إما أن يأتي من حتمية صارمة Strict تنفي الحُرية صراحة، وإما من حتمية رخوة ومرنة Soft، عبثًا تتحايل على صلابة الحتمية محاولة إفساح موطأ قدم للحرية، على أن الحتمية ما كانت لتسمح بطائل لأي تحايل أو مداهنة.

أما النفي بمعنى الإبعاد لعوالم أخرى ففيه تتفق عبقريات الفلاسفة عن تشييد قصور في الهواء تودع فيها الحُرية الإنسانية، مجللة مكللة، كالعهد بنفي أعاظم القوم حين تدول دولتهم وبغير أن يدانوا بوزر، بعد أن يصدر إليها الأمر بمغادرة هذا العالم الذي أحكم العلم قبضته عليه، ولكن يَصعُب التسليم بأن الحُرية بجلال قدرها وثقل شأنها كائنةٌ في الهواء أو في الخيال، ومن هنا كانت محاولات إثبات الحُرية إيجابًا في العالم الحتمي تعمل على قصم أو فصم صميم العالم لتستقطع حيزًا لا يقع تحت سلطان العلم وتدعي أنه مجال أو بالأحرى منفى الحُرية.

•••

(١٥أ) «نفي الحُرية»: الحتمية الصارمة: هذا الموقف يحقِّق أبسط بسائط التفلسف؛ الاتساق، فهم يعلمون علم اليقين أنه لا حريةَ على وجه الإطلاق لإنسان يحيا في العالم الحتمي، ويطرحون أبنيتهم الفلسفية لإثبات أن الحُرية وهمٌ زائف وحديث خرافة.

ولما كان في هذا من القسوة الشيء الكثير — فإن بعضًا منهم قد يحاول مداواة هذه القسوة عن طريق تسخير التحذلقات الفلسفية من أجل الاستغناء عن الحُرية بواسطة اللاحرية، قبول الحتمية وتوهم الحُرية، مما يذكرنا برواية الكاتب البريطاني الساخر جورج أورويل «١٩٨٤»، ففيها ينقد بقسوة الأنظمة السياسية القائمة ويجعل دولته الوهمية تتخذ شعارات ثلاثة: الحرب هي السلام – الحُرية هي العبودية – الجهل قوة. والشعار الثاني يسخر من فلاسفة الحُرية الحتميين قبل أن يسخر من أية أنظمة سياسية.

ويأتي الرواقيون: في صدر القائمة، وقد رأينا أن الحتميةَ أصبحَت معهم لأول مرة مفهومًا جامعًا مانعًا للطبيعة والإنسان معًا، إنهم آمنوا بشمولية القانون الكلي واستحالة الإفلات منه فيغدو سبيل الخلاص الأوحد هو الاتحاد بالضرورة الكونية والاندماج فيها عن وعي خير من أن يحدث هذا بغير وعي، فلا بد وأن يحدث على أية حال، فأصبحت الحُرية هي الوعي بالحتمية، أي الإدراك والاعتراف الصريح بنفيها وبالطبع لا مسئولية، فقامت أخلاقياتهم على موافقة العقل الصريح، «والرجل الفاضل الحكيم الذي تسير حياته كلها وفقًا للعقل الصريح إنما يحيا وفقًا للطبيعة الخاصَّة والعامة، وهو مواطن هذا العالم يقبل طوعًا كل ما يأتي به القدر من أحداث، حتى المصائب والنكبات، معتقدًا أنها داخلة في النظام الكلي والقضاء الإلهي، الرجل الخبيث على عكس ذلك على خلاف مع نفسه ومع الموجودات جميعًا وهو أجنبي في المدينة العظمى: العالم، ومع ذلك فالرجل الشرير مهما يتمرد على القدر فلا جدوى من تمردِه؛ لأن جهوده للتخلص من الأقدار إنما تسوقه حيث أرادت الأقدار».١
سَلم أهل الرواق بأن الحُريةَ هي غياب العوائق أمام تحقيق رغبات الإنسان، ولكن إذا كانت درجات الحُرية هي دالة تحقيق هذه الرغبات فأنا أستطيع زيادة الحُرية بحذف الرغبات التي قد يُعاق إشباعها، وهذا ما حققه إبكتيتوس حين قال إنه وهو العبد أكثر حرية من سيده، وبغياب العقبات ونسيانها أصبح على غير وعي بها، وبالتالي أصبحت غير موجودة، وهكذا فعل القطب الرواقي بوزيدونيوس — الذي مات عن مرض خبيث وقال: افعل كل ما تشاء أيها الألم! ومهما فعلت فلن تستطيع أن تجعلني أكرهك. وهو بهذا كما لاحظ شيشرون يتَّحد مع الطبيعة التي تدخل في ذات الهُوية مع العلة الكونية، لقد جعل ألمه حتميًّا، ومن ثم يكون الاتحاد به هو الحُرية بعينها.٢ فراح الرواقيون يتحدثون عن حرية مطلقة معروفة في البوذية وفي أديان أخرى ولناس بلا دين، إنها حرية الاعتصام بالنفس والالتجاء إليها وبالتالي التحرر التام من العالم الخارجي، وفكرة الحكيم الذي يلتمس الحُرية والأمن في أعماقه وعن طريق وأد الذات فكرة تنشأ حين يقسو الواقع الخارجي.٣ وتنطبق على الحُرية بمستوييها، على المستوى الأول يقسو الواقع الأنطولوجي بسبب تصور الحتمية الكونية، وعلى المستوى الثاني قد يقسو الواقع الاجتماعي على الإنسان بسبب أحداث العصر واضطراب الظروف السياسية والاجتماعية … إلخ؛ ونظرًا لحتمية الرواقيين من ناحية، وقسوة ظروف عصرهم الهلينستي من الناحية الأخرى، فمن الطبيعي إذن أن يلجئوا إلى هذا التصوُّر للحرية الذي ينفيها على كل مستوياتها.

وإذا غادرنا الأصول التاريخية ودلفنا مباشرةً إلى أجواء العلم الحتمي، أي إلى الفلسفة الحديثة، فسوف نجد أشهر وأقوى صورةٍ لنفي الحُرية بمنتهى الإصرار والتأكيد بلا مواربة أو مداورة، مع أكثر الفلاسفة طرًّا في المواربة والمداورة؛ مع سبينوزا (راجع حديث المدخل عنه)، وحسن أن يأتي سبينوزا في أعقاب الرواقية، فثمة فكرة شائعة تجعله رواقيًّا، بسبب من التشابه الشديد بين أخلاقياته وأخلاقياتهم واشتراكه معهم في مادية كل شيء والحتمية الصارمة وبالتالي نفي الحُرية، وفيما عدا هذا فهو ليس رواقيًّا.

لذلك نعرج على رأي هامبشير الذي رآه أبيقوريًّا من حيث إنه تابعٌ للوكريتوس في تأكيده على أن الإنسان يمكنه أن يتكيف مع العالم الفيزيقي كجزء منه، لا متعالٍ عليه، هذا في مواجهة خلفية ضخمة ترى الإنسان ظاهرة خارقة للطبيعة.٤

ويبقى الأساس السبينوزي الذي لا خلاف عليه ولا نقاش فيه؛ أي الحتمية.

كانت حتميته صارمة حتى إنها تُحكِم قبضتها على الإنسان تمامًا كما تحكمها على الحجر الساقط وعلى كون المثلث ذا أضلاع ثلاثة، وعليها لا بد وأن تنحذف الحُرية تمامًا من هذا الوجود، فتنص القضية الثانية والأربعون من الجزء الثاني من كتابه «الأخلاق: مبرهنًا عليها بالطريقة الهندسية» على أنه: «لا يوجد في أي عقل إرادة مطلقة أو حرة، بل إن العقل محتم عليه أن يريد هذا أو ذاك بواسطة علة هي بدورها محتمة بواسطة علة أخرى، وهذه أيضًا بواسطة أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.»٥
أما ما نراه من قرار إرادي يُلازِم أداء الفعل، فإن سبينوزا يفسِّر هذا بأن قرار العقل مع شهوة الجسم وحتميته متآنيان في الطبيعة، أو هما شيء واحد، إذا أخذْناه تحت خاصية الفكر كان القرار، وإذا أخذناه تحت خاصية الامتداد كان حتمية فيزيقية، يُمكن استنباطها من قوانين الحركة والسكون — القوانين الميكانيكية. إن الجوهر الممتدَّ أو المادةَ هي في النهاية الحقيقية السبينوزية الحقة، وبالتالي فالحتمية الفيزيقية الميكانيكية هي فقط الحقيقة الوحيدة. وكانت اللذة والألم والرغبة عنده مصطلحات أولية لتفسير الشعور في حدودها تفسيرًا ميكانيكيًّا عِلِّيًّا حتميًّا، وما اللذة والرغبة إلا الحالات أو التكيفات الطبيعية للشخص، التي تحدث مستقلة تمامًا عن الحكم «أو الإرادة»، وصحيح أن اللذة والألم علل لتغيرات نفسية وجسمية، إلا أنهما بدورهما معلولات لعلة خارجية ويجب دراستها في علاقتهما بالحالات المتغيرة للكائنات الحية دراسة علمية كأي موضوع فيزيائي.٦
الإنسان خاضع بالكلية للقوانين الفيزيائية الميكانيكية، وكل ظواهر أنشطته وسلوكه قابلة للتفسير كمعلولات لعلل فيزيقية، وإذا اعترض معترض بأنَّ الأنشطة العليا للإنسان مثل الفن لا تقبل هذا التفسير، كان رد سبينوزا على هذا هو رد الحتميين المعهود، أي بالتفسير الذاتي لحدود الجهل بأننا «لم نعرف بعدُ كلَّ قدرات الجسم ولا مدى حدوده وذلك الاعتراض مجرد إقرار بهذا الجهل».٧ إننا على وعي بهذه الظواهر، ولسنا على وعي بعللها.
تبخرت الحُرية من عالم سبينوزا، وكان لا بد وأن تتبخر، فماذا فعل سبينوزا بإزاء مصاب الحُرية الفادح؟ لقد بدا أنه فعَل فِعْل الرواقيين، فكان التمييز بين الحُرية والعبودية من أهم وجوهِ الفلسفة السبينوزية، إنهما الحدَّان اللذان يراجع بهما الحكيمُ سلوكه فينقده، ويتخذ قراراته.٨ وعَنَى سبينوزا عناية بالغة بتوضيح الطريق أمام الحُرية الإنسانية من خلال الفهم والمعرفة العلمية، ولكن ما هي الحُرية؟ إنها بالضبط كحرية الرواقيين أو حرية دولة جورج أورويل الوهمية، الحُرية التي هي ذاتها العبودية واللاحرية، فليست الحُرية السبينوزية إلا الاندماج الواعي في الحتمية الفيزيقية الكونية، وهي تبلغ ذروتها بالحب العقلي لله الذي هو الاتحاد الكامل بالطبيعة أو بالنسق الكامل للعلم الفيزيائي الحتمي، وهي غاية لن تتحقق تمامًا؛ لأن الإنسان وعلمَه لا يمكن أن يكتملا أبدًا، وإلا أصبح إلهًا، في حين أنه حالة محدودة من الله أو من الطبيعة، والمصطلحان مترادفان في الفلسفة السبينوزية.
على هذا لن نبلغ أبدًا ذروة الحُرية ولكن يجب تتبعها باستمرار، ونحن أحرار على قدر ما لدينا، فكرة واضحة ومتميزة عن علل حالتنا الفيزيقية والعقلية، والحصول على هذه المعرفة الكافية بالعلل يتضمَّن بالضرورة معرفة أكثر كمالًا بالطبيعة وبأنفسنا كأجزاء من الطبيعة، تحدث هذه المعرفة كلما توقَّفْنا بالضرورة عن أن نحب ونكرهَ الأشياء الجزئية أو أن نتأثر بها، بل سيشعر الحكيم تُجاهها بالحياد العاطفي والأخلاقي؛ لأنه سيفهم ما هي عليه وكيف أنها لا يمكن أن تكون خلافًا لهذا ولن يراها كعلل لمتعته فيتجنب الألم وكل ما يدعي بفضائل الزهد والتقشف، وسيدرك أنه لا يمكن أن توجد حالة أخرى بحيث إن عدم تحققها يعوق الإشباع والسعادة، وبالتالي لن يفتقد السعادة أبدًا، إنه على الدوام حر سعيد، الإدراك والمعرفة هما سر هذا النوع العجيب من السعادة والحُرية، وكل شيء يساعد على تقدم المعرفة يزيد منهما لذلك فهو بالضرورة خير للفرد ويجب تتبعه في سياق حفظ الذات،٩ أو الكوناتس Conatus الدافع الأول لسلوك الإنسان في الفلسفة السبينوزية.
حالة الحكيم السبينوزي الحر السعيد حالة مُثْلى لتطبيق ما أسماه ستراوسون بالاتجاهات الموضوعية التي تختفي منها أية اتجاهات تفاعلية (فقرة ١٥أ)، فحين ندرس الله أي العالم الطبيعي وعواطفنا بنفس الانفصال عنهما، أي بنفس الموضوعية والوضوح والدقة التي ندرس بها الدوائر والمثلثات في علم الهندسة فسنجد الحُرية والسعادة والانتقال من حد العبودية إلى حد الحُرية هو الانتقال من حالة المشاعر السلبية والأفكار المختلطة «الاتجاهات التفاعلية» إلى حالة المشاعر الإيجابية والأفكار الكافية «الاتجاهات الموضوعية»، ولكن أوَلم تكن الاتجاهات الموضوعية هي وضع للحتمية التي لا تطاق؟ وهكذا حرية سبينوزا، هي حتمية لا تطاق «والعقل عنده حر وفعال حينما، وفقط حينما، تكون الحجة صارمة والنتائج حاسمة راجعة إلى الحدود الضرورية»،١٠ أي حين تكون اتباع النتيجة ضربة لازب وقضاء مبرمًا فيكون بدوره حرية كاملة!
وإذا تذكرنا ما أثبتناه في المدخل من طبيعة مخاتلة لسبينوزا تجعل الشقة بين مظهره وجوهره جد واسعة،١١ أدركنا أن المظهر الرواقي هذا قشرة لا تعني الكثير، فحرية سبينوزا هي عينها الحتمية السيكولوجية الصارمة مع علماء النفس المحدثين من التحليلية والسلوكية، وكان سبينوزا بوصفه داعيةً للدراسة العلمية للإنسان الكاشفة عن القوانين التي تحتِّم سلوكه، مبشرًا بهم ورائدًا لهم، حالة الانتقال إلى الحكيم السبينوزي الحر يجب أن تتم إن كان لها أن تتم عن طريق لا يختلف عن طريق علم النفس التحليلي، من حيث إن منهج الشفاء فيه يقوم على جعل المريض أكثر وعيًا بذاته وبالصراعات الكامنة في اللاشعور، فيستطيع أن يحقق توازنًا أكثر، وثمة توازٍ بين حتمية الكوناتس عند سبينوزا وحتمية اللبيدو عند فرويد، من حيث إن كليهما يُقيم الحياة الشعورية على دافع كلي، وأي كبتٍ له يظهر في الوعي كاضطرابات مؤلمة، فتصبح الوسيلة الوحيدة لتطبيق السعادة هي فهم العلل المؤثرة على حالاتنا العقلية،١٢ وإذا كان التحليل النفسي مشكوكًا في علميته، فإن ريادة سبينوزا للسلوكية أعمق، فقد سبقهم إلى تأكيد دراسة سلوك الإنسان عن طريق الملاحظة الخارجية ولا حاجة إلى الاستبطان المحفوف بالمخاطر الذاتية، ولعل سبينوزا هو الذي علمهم الموضوعية المتعملقة بصورة مخيفة، تعالج السلوكية الإنسان كظاهرة طبيعية، لا تقل ولا تزيد على أية ظاهرة طبيعية أخرى، فلا أعماق سحيقة من الهو والأنا وما إليه من تهاويم تحليلية، وهذا ما عبر عنه سبينوزا قائلًا: إن الإنسان مجرد حالة من حالات الجوهر اللامتناهي.

خلاصة كل هذا أن الحُرية السبينوزية هي عينها الحتمية السيكولوجية المحدثة، من حيث النظر إلى الإنسان بوصفه كائنًا حيًّا داخل الطبيعة، وليس فائقًا لها، يجب دراسة سلوكه دراسة علمية موضوعية، فضلًا عن أنه يشترك معهم في الهجوم الجريء على الدين والأخلاق المتوارثة بالدعوة إلى البحث عن سعادة الإنسان بوصفها كمالًا له بدلًا من إدانته، ورفع المسئولية الخلقية، وكان سبينوزا أول من أكد أنه كلما تقدمت الدراسة العلمية للإنسان — أي علم النفس — أدخلَتْ خطايا وشرورًا أكثر تحت خانة المرض النفسي، ومن يعانيه ليس مخطئًا بل غير مسئول، ومستحقًّا للعلاج لا للعقاب، وأخيرًا كان قد اتضح ضمنًا فيما سبق أن عالم سبينوزا نموذج للعالم الذي تختفي فيه الجِدة.

هكذا يُعطينا سبينوزا صورة الحتمية الصارمة، صورةً مُثْلى في اكتمالها موضوعيًّا وتاريخيًّا، إنه يربط بين طرفي تاريخها: أولى صورها مع الرواقية وآخرها مع السيكولوجيين الحتميين المعاصرين، ارتبطت حتمية سبينوزا الصارمة بقرينتها الرواقية؛ لأنه كفيلسوف ميتافيزيقي تحمَّل مسئولية تقديم العزاء في مصاب الحُرية الفادح، فراح يُعزِّينا مثل الرواقيين بلا حرية هي أروع أشكال الحُرية.

أما التالون لسبينوزا من أقطاب الحتمية الصارمة التي تنفي الحُرية صراحةً كالماديين الكلاسيكيين جاسندي وهو لباخ وهوبز، والموسوعيين الفرنسيين كابانيس ولامتري ودولامبير، حتى الحتميين المحدثين والمعاصرين من العلماء وفلاسفة العلم والفلاسفة ذوي النزعة العلمية، فإن تبرؤَهم من الميتافيزيقا وزهوَهم بالهوية العلمية جعلهم في حِلٍّ من تقديم العزاء في مصاب الحُرية الأنطولوجية أو الحُرية الميتافيزيقية، ومن خوض لغو القول في جعل حالة اللاحرية أروعَ أشكال الحُرية، فأنكروا الحُرية صراحةً وجملة وتفصيلًا، غير آسفين ولا متحرجين، بل ربما بافتخار من استطاع التخلص من وثن جاهلي قد انهار.

قصارى ما يفعله أحدهم هو القول بأننا فعلًا أحرار ومسئولون وشعورنا بالحُرية ليس من الوهم في شيء، ولكن ليس هذا الشعور إلا الشعور بالضرورة الكامنة فينا وانسياقنا لها، وبهذا يصدر الفعل عن تلقائيةٍ نابعة من قلب الذات فيغدو حرًّا!

من أبرز من يمثلون هذا الموقف الفيلسوف الإنجليزي ديفيد هيوم David Hume (١٧١١–١٧٧٦)، وهو من المواصلين للتيار التجريبي المتأصِّل في الفلسفة الإنجليزية، المعبِّرين عن النزعة العلمية، والأهم من هذا أنه شكاك سكوتلندا الشهير، فقد أتى في عصره المشبع بالحتمية والعِلِّية ليفجر ثورة عاتية بشأن مبدأ العِلية الوطيد — أشرنا إليها في المدخل — وتتلخص في أنه أوضح أن العلية مجرد نزوع سيكولوجي، عادة دأبنا عليها، ولسنا نملك الحق في فرضها على الواقع، وعلى الرغم من هذا انساق هيوم مع تيار عصره، وأكد أن الحتمية صارمةٌ في المجال النفسي، عين صرامتها في المجال الفيزيقي، ثم راح يتحدَّث عن حقيقة الحُرية والمسئولية الخلقية، على أساس أن الحُرية وشعورنا بها لا يعدو أن يكون انسياقًا للحتمية الكونية، وتحدث هيوم عن الإرادة وطبيعتها، وأوضح أنها لا تظهر إلا حين يكون ثمة فعل للجسم أو للعقل ينجم عنه الحصول على لذة وتجنب ألم؛ لذلك لم تكن الإرادة عند هيوم إلا مجرد انطباع، أي إدراك فوري لشيء ما، شأنها شأن الإحساس بالانفعالات المباشرة كالرعب والفرح، يقول هيوم: «لست أقصد بالإرادة إلا ذلك الانطباع الداخلي الذي نحسُّه ونكون على وعي به، حين نعرف أنه ثمة حركة جديدة لجسمنا أو إدراك جديد لعقلنا قد تولَّد عنه، إنها انطباع مثل الفخر والرضا والحب والكراهية، وليس ثمة ضرورةٌ لتحديد أكثر أو وصف أبعد.»١٣ ولأن الإرادة انطباعٌ فإنه لا يمكن تفسيرها في حد ذاتها، ويمكن تفسيرها وشرحها فقط في حدود مقدِّماتها وتوابعها، وفي هذا نجد أن الجسم حين يتحرَّك لاتباع أمر الإرادة، نكون على وعيٍ بهذه الحركة، ولكنَّنا لا نُدرك الأثر الفوري أو الطاقةَ المباشرة التي دفعت إلى هذه الحركة، وليس ثمة شيء أكثر غموضًا من هذا الاتحاد بين العقل والجسم والذي يجعل لكلٍّ منهما تأثيرًا على الآخر، إنها اتحاد مُلغز سري، ونحن لا نعرف لماذا تؤثر الإرادة تأثيرًا واضحًا على اللسان والأصابع فنقول ألفاظًا نريد أن نقولها ونمسك بأشياء نريد الإمساك بها، ولا تؤثر إطلاقًا على مناطق أخرى من الجسم، كالقلب مثلًا، ومن ناحية ثانية، يخبرنا علم التشريح بأن الأثر الفوريَّ المؤديَ توًّا إلى حركة معينة مرادة، ليس الإرادة، بل بين الإرادة وبين الاستجابة لها، حركة عضلات وأعصاب معينة، وربما حركة شيء ما آخر، أكثر دقة، ونحن به أكثر جهلًا.١٤

على هذا النحو تتشابك الإرادة مع الطبيعة الفيزيقية الخاضعة للقوانين العلمية، أي الخاضعة للحتمية الكونية والعلِّية الأبدية، وعلى أية حال، فإن الحتمية عند هيوم وزملائه — كما ذكرنا — صارمةٌ في المجال النفسي عين صرامتها في المجال الفيزيقي، ولكنه راح يؤكد أننا أحرار ومسئولون، وإذا سألناه: كيف نكون أحرارًا مسئولين طالما أن الحتمية شاملة؟ لأجاب: بأن الحُرية هي التصرُّف طبقًا لما تحدِّده الإرادة، ولكن ما الإرادة إلا معلول للعلل الحتمية، وهكذا كلُّ تصرفات الإنسان وأفعاله، لتغدو الإرادة مجرد حلقة في السلسلة العِلية، وتصرفات الإنسان هي الحلقة التالية، والكل سائر في المسار المحتوم المحدد بالعلل، لكن الحلقة المسماة — عبثًا — بالإرادة هي العلة المباشرة للحرية، ولشعورنا بها.

وبهذا فقط يمكن أن نقيم المسئولية الخُلقية؛ لأن تلك العلل الحتمية الموجهة للإرادة تكشف عن شخصية الفاعل ونزوعاته الثابتة.

والأخلاق لا يمكنها أن تستصوبَ أو تستهجنَ الفعل ما لم يكشف عن هذا — عن شخصية الفاعل ونزوعاته الثابتة، أما الأفعال الطائشة الرعناء، التي قد يأتي بها الشخص في وقت أو آخر، فإنها لا تحمل تقييمًا للشخصية ككل ولا تؤثر عليها، إن اللوم لا ينصبُّ إلا على الأفعال التي تؤدي بنيَّة متعمدة، والفعل لا يجعل الفاعل مجرمًا ما لم يكن ثمة في ذهنه مبدأ للجريمة جعله يرتكبها بتعمد أو مع سبق الإصرار والترصد، بالتعبير القانوني، وفقط مبدأ الضرورة الشاملة أي العلل المحتمة للسلوك هي التي تقيم هذا وترسي أساسه؛ لأنها تؤكد أن الجريمة علة محتمة للسلوك، فيغدو الفاعل مستحقًّا فعلًا للوم والذم والاستهجان، إن الجريمة متأصلة في طبيعته، ونفس مبدأ الضرورة الحتمية هو الذي يجعل التوبة النصوح تمسح الجريمة، إذا ما انتواها الفاعل، وتعمَّدها حقًّا في إعادة تقويمه للأمر.١٥ فإذا كانت التوبة صادقة فإنها تكشف عن علَّة محتمة للسلوك، تجعل الشخص مستحقًّا فعلًا للغفران والتسامح.

وعلى هذا يصل هيوم إلى أن الحتمية ليست تنفي الحُرية، وبالتالي لا تعفينا من المسئولية الخلقية، بل إنها أساسها، أوَليست الحُرية محض الشعور بالضرورة الكامنة فينا وانسياقنا للحتمية الكونية، وبالتالي فإن الأحكام التقويمية معبرة عن هذه الضرورة الحتمية التي هي الحقيقة المطلقة، الحُرية والمسئولية الخلقية جزءٌ من الحقيقة، صحيح أن هيوم شكاك كبير، إلا أنه أولًا وأخيرًا تجريبي متطرِّف، من غُلاة القائلين بالحتمية الصارمة، وقد أوضح المدخل مدى هيمنة الحتمية على عصره، عصر الفلسفة الحديثة، وسنجد أن موقفَه هذا، وهو موقف زملائه من الحتميين الصارمين الذين أنقذوا الحُرية عن طريق الزعم بأنها الشعور بالضرورة والانسياق لها … سنجد أن هذا الموقف شديد الشبه بالحتمية الرخوة التي سنتحدث عنها في الفقرة القادمة.

والآن، لقد حاول هيوم هذه المحاولة، فقط لكي يتبرأ من وزر إهدار المسئولية الخلقية، فهل نجحت؟ الواقع أن هيوم نفسه قد توقف مُعلنًا عجزه في بعض الأحيان، عن الصعوبات التي تنطوي عليها محاولته.

منها مثلًا أننا لا نشعر دائمًا بتلك الضرورة الكامنة فينا، بل كثيرًا، والأدهى خصوصًا حين المواقف التي تتجلى فيها الحُرية الإنسانية، كثيرًا ما نشعر بالتردد والعجز عن اتخاذ القرار، ولم ينكر هيوم تلك الحيرة البادية أحيانًا، ولكن رد على هذا الاعتراض بأن الضرورة ليست خاصية للفاعل بل للوجود الأنطولوجي، وإذا وجد ذهن على مستوى عالٍ — كعقل لابلاس الفائق — سيفهم الفعل وبالتالي يدرك العلل التي حتمت التصرف النهائي، وإن غابت هذه العلل عن الفاعل نفسه، فأبدى ترددًا في البداية، وبصفة عامة حاول هيوم أن يردَّ كثيرًا من الاعتراضات.

ولكن بقيَ اعتراض هو الجوهر والأصل والعماد، اعترف هيوم بأنه يخل فعلًا بمحاولته لإنقاذ المسئولية، وهو الاعتراض القائل إن العلل المحتمة للإرادة الفردية والسلوك الجزئي، تمتدُّ في النهاية إلى آخر سلسلة العلل الأبدية، كما هو معروف طبقًا للتصوُّر الحتمي الشمولي المغلق للكون، وهذه السلسلة تصل في النهاية إلى العلة الأولى، خالق هذا الكون الموجد لسلسلة العلل، أي الرب … فكيف يمكن أن يتحمَّل الفرد الآتي في نهاية السلسلة، والآتي كمعلول قبل أن يكون علة فاعلة … كيف يمكن أن يتحمل المسئولية؟! واعترف هيوم بأنه لا يجد أية إجابة مُرضية.١٦

إذًا فعلى الرغم من أنه راح يعزينا بحرية هي انسياق للضرورة الكونية، أي بلا حرية أو بحرية شبيهة بحرية جورج أورويل الوهمية … على الرغم من هذا عاد ليعترف بصعوبة الإقرار بالحُرية الإنسانية — وبالتالي المسئولية — في قلب سلسلة العلل الأبدية المُشكلة للعالم الحتمي.

عُدْنا من حيث بدأنا، من حيث إن الحتمية تنفي الحُرية الإنسانية، وبالتالي المسئولية الخُلقية.

على أية حال علمنا سبينوزا جيدًا، كيف تنفي الحتمية الصارمة الحُرية الإنسانية، ولا داعي لأن نعيد ونزيد.

ولا يبقى من يستحق وقفة من الحتميين الصارمين إلا الماركسيون، فقط لشهرتهم الذائعة، فهم لم يأتوا بجديد في هذا الأمر، إنهم يبدءون من الأصل الهيجلي الذي يطرح قضيتنا نفسها، وإن كانت قد أتت مع هيجل (١٧٧٠–١٨٣٠) في سياق ميتافيزيقي لا علمي، أي: إن الحُرية تعني في صميمها الشعورَ بالضرورة وعلى الرغم من أن الماركسية جعلت هذا الطابع الميتافيزيقي علميًّا، فإنها لم تخرج خروجًا حقيقيًّا عن الهيجلية التي وضعت مشكلة الحُرية في نطاق الدولة ورفضت حصرها في نطاق الوجدان المحض، وظلت الحُرية عند هيجل لا تُطابِق بحال اختيار الفرد العابر، بل تتحقَّق في الدولة عبر انسياب التاريخ، الفرد لا يتحرَّر إلا عندما تتطابق إرادة الله مع أهداف الدولة، هكذا يربط هيجل بين نظرية الحُرية ونظرية الدولة، بل يربطهما في النهاية بنظرية التاريخ ونظرية المعرفة ونظرية الكون، وليست هذه المفاهيم سوى تشكلات لمفهوم واحد، هو مفهوم المطلق الذي يظهر مجردًا أو محققًا، عامًّا أو مخصصًا، في صورة متعددة، على مستويات مختلفة،١٧ وبالطبع ابتلع هذا المطلق حريةَ الإنسان، وراح هيجل هو الآخر يحدِّثنا عن حريةٍ هي في حقيقتها اللاحرية.

فأخذ الماركسيون منه أن الحُرية هي عينها الضرورة، وأنها لا تتحقَّق إلا عبر تطوُّرات التاريخ فانتهَوا إلى أن الحُرية هي تلك الإمكانية التي نستطيع بمقتضاها أن نجعل قوانين الطبيعة مثمرة، ولئن كان الإنسان محكومًا بقوانينه الخاصة، فلديه شعور بتلك القوانين، وهذا الشعور نفسه هو المظهر الحقيقي للحرية البشرية على نحو ما ينبغي فهمها؛ لهذا يقرِّر الماركسيون أنه ليس أمعن في الخطأ من أن نتصوَّر الحُرية على أنها خرقٌ للقوانين الطبيعية وانفصال تام عن الضرورة الكونية، إن مثل هذه الحُرية المزعومة إن هي إلا وهمٌ من أوهام أولئك الميتافيزيقيين الحالمين الذين لا يعترفون بالعلم ولا يُقيمون وزنًا للعلاقة الوثيقة التي تجمع الإنسان بالطبيعة وتخضعه لقوانينها الحتمية، حرية البشر تتوقف على مدى معرفتهم بتلك القوانين ودرجة علمهم بما يترتَّب عليها من نتائج، تتناسب درجة الحُرية الإنسانية طرديًّا مع معرفتنا بالعملية العِلِّية وبالضرورة، ولما كان الماركسيُّون قد نفوا الحُرية الأنطولوجية هكذا صراحةً وأفسحوا كل المجال للحتمية الصارمة، فقد سهل عليهم تلقي الدرس الهيجلي، ورفضوا الاعتراف بحرية فردية تتحقَّق للفرد بصفته العينية في صورة اختيار بين بدائل، بل رأوا الحُرية تجربة اجتماعية في علاقة الإنسان بالعالم والآخرين، ومهمة الفيلسوف عندهم ليست في تحرير الإنسان من الحتمية، فهذا ما لا سبيل إليه، بل في تحريره من العبودية، ولكن، هل حقًّا نجحت النظم الماركسية في تحرير الإنسان من العبودية على أساس هذا الموقف الفلسفي المتناقض بصدد مستويات الحُرية؟ إن الإجابة عن هذا بالنفي — تنقلُنا إلى المستوى الثاني من الحُرية، ونحن الآن منشغلون فقط بالمستوى الأول الذي رأينا كيف أزاحته الحتمية الصارمة تمامًا.

(١٥ب) «نفي الحُرية»: الحتمية الرخوة: دعاتها كثيرون. شهدت الفلسفة المعاصرة منهم شليك وآير وآخرون من دائرة فيينا، وفلاسفة اللغة الجارية رايل وأوستن وستراوسون، وجمٌّ غفير آخر، هم قوم عز عليهم هذا المآل للحرية.

إنهم مخلصون لحتميتهم، ولكنَّهم راحوا يزعمون أنها لا تلغي الحُرية ولا تؤدِّي إلى حرية هي عينها اللاحرية، كما أعلن أقطاب الحتمية الصارمة، وأن الحتمية لا تناقض القضية القائلة إن الإنسان أحيانًا — خصوصًا حين التصرفات الأخلاقية — فاعل حر ومسئول.

فكيف فعلوا هذا؟ لقد فعلوه عن طريق التمييز بين نوعين من الحُرية: حرية استواء الطرفين Indifference، وحرية التلقائية Spontaneity وقد بدأ هذا التمييز لاهوتيًّا، مع أولئك الذين سلموا بالحتمية لإعجابهم بالقديس كالفن، ثم استعمله هؤلاء الذين سلموا بالحتمية لإعجابهم بنيوتن، التلقائية تتناول حرية الإرادة من خلال فكرة الرغبة أو المراد، لتصبح ممارسة الإرادة هي إنجاز لما يريده الفرد، وأن تفعل بحرية هو أن تفعل ما تفعله؛ لأنك تريد أن تفعله ونقيضة التلقائية ليست الحتمية بل القسر أو الإرغام Compulsion، أما حرية استواء الطرفين فتعالج الحُرية من خلال القدرة على أن تفعل غير ما تفعله، إنها إذن الحُرية القائمة في أي تأويل لها على فكرة البدائل التي لا تأتي إلا في العالم اللاحتمي؛ لذلك فحرية استواء الطرفين نقيضتها الحتمية.١٨

حرية استواء الطرفين رفضها جميع أنصار الحتمية سواء الصارمة أو الرخوة، بل ودأبوا منذ ديكارت على اعتبارها أحط أنواع الحُرية؛ لأنها قائمة على جهل يؤدي إلى استواء الطرفين في نظر الفاعل على أساس أن المعرفة أو العلم يرسم دومًا الطريق اليقيني المُحتم، ولنتذكر أنهم كانوا يعتبرون الجهل مرادفًا لللاحتمية، لقد اعتبروا حرية استواء الطرفين أحطَّ مراتب الحُرية، في حين أنها يستحيل أن تتحقق في عالم البشر، لا في العالم الحتمي ولا في العالم اللاحتمي، فأين هما الكفتان اللتان تتوازنان تمامًا؟ وهي في الآنِ نفسِه الحُرية الوحيدة التي يمكن أن تنسب لله جل شأنه، فليس ثمة أي طرف يمكن أن يفرض عليه تعالى أكثر من الآخر، وهذا تناقض صارخ من تناقضات الحتمية الجمة.

حرية التلقائية لا يصعب التوفيق بينها وبين الحتمية، ولا هي ستهتك ضرورية القوانين الفسيولوجية والسيكولوجية، إذ سيكون الفعل حرًّا حين يؤدِّيه الفاعل تلقائيًّا، أي عن رغبة، والفعل غير حرٍّ حين تنتفي هذه التلقائية، ويكون الفاعل مرغمًا على أدائه، أو واقعًا تحت تهديد أو تعاطي عقار أو مرض نفسي كجنون السرقة، إذن التفرقة بين الفعل الحر والفعل غير الحر ليست في أن الأول معلول والثاني غير معلول، فكل الأفعال معلولة كما تنصُّ الحتمية، ولكن على أساس نوع العلة التي يصدر عنها الفعل،١٩ فإذا كانت هذه العلة هي الدوافع السيكولوجية السوية وخصائص وبنية الشخصية وبالتالي العواطف والاتجاهات والقرارات والأفعال التي تصدر عن هذه الخصائص والبنية، كان معلولها صادرًا تلقائيًّا عن الذات وبالتالي هو فعل حر مسئول، و«بدا لأقطاب الحتمية الرخوة أنهم بهذا أنقذوا الحُرية الإنسانية وأنه من الممكن أن نكون حتميين وفي الوقت نفسه إنسانيين، فاستطاع مِل أن يناديَ بالحتمية، وفي الآنِ نفسِه بالمسئولية الخلقية، وبمشروعية رغبة الإنسان في أن يطوِّر شخصيته وأن ينزع إلى مستقبل أفضل، وهذا ما تنفيه الحتمية الصارمة».٢٠
فهل نجحوا حقًّا في إنقاذ الحُرية؟ الإجابة بالنفي، فكما قال راسل، نحن نفعل ما نرغب، ولكننا لا نستطيع أن نرغب فيما نرغب فيه، لأنه محتوم بالقوانين الحتمية، وليست تعني الحتمية السيكولوجية إلا أن التلقائية هذه حيثية من حيثيات الحكم بأن الشعور بالحُرية مجرد وهم؛ لذلك فالرخاوة لم تُصِب الحتمية، بل أصابتهم هم وأصابت موقفهم الفلسفي، «فهم لم يعتنوا بتوضيح العلاقة بين الدوافع السيكولوجية والأفعال كما صنع دعاة الحتمية الصارمة الذين لم ينكر أحد منهم أن الرغبات والجهود الإنسانية تحدث تغييرًا في سياق الأحداث، فيمكنهم أن يقولوا لأصحاب الحتمية الرخوة: إنكم على حق في التمسُّك بأن الأفعال معلولة للرغبات ولكنكم لم تتعقَّبوا المسألة إلى ما فيه الكفاية، بل توقَّفْتم توقُّفًا تعسفيًّا عند الرغبات، وهذا خطأ، إذ يجب أن تستأنفوا الطريق وتسألوا: من أين وكيف أتَت هذه الرغبات؟ وإذا كان ثمة حتمية فمن الواضح أنها هي التي أتت بها».٢١
إذن فقد حق حكم برلين عليهم بأنهم لم يحلوا المشكلة، بل أزاحوها خطوة إلى الوراء، وأن نظريتهم ببساطة متغير من متغيرات الحتمية الكونية العامة التي تستبعد الحُرية المسئولية، تمامًا كما تستبعدها الحتمية الصارمة في أقوى متغيراتها؛ لذلك وصفها كانط بأنها خدعة بائسة، أما وليام جيمس، فقد وضع لها المصطلح الذي شاع لها عند أنصارها فيما بعد — أي الحتمية الرخوة Soft Determinism٢٢ — وذلك لكي يسميها بأنها مستنقع للتملص والمراوغة.٢٣

فلنودع كل هؤلاء الحتميين، بعد أن رأيناهم يودعون الحُرية الإنسانية، وإلى غير لقاء.

•••

(١٦) «نفي الحُرية»: إبعادها من دائرة الحتمية: نحن الآن بإزاء عِلِّية القوم وأعاظم الفلاسفة ذوي الخلق الفلسفي الرفيع الذي جعلهم يأبون أن يخدعوا الحتمية بحرية لا تنطلي عليها، أو العكس. وفي الآن نفسه أبوا أن يخدعوا العالم بأن يشككوا في خبر العلم، فتركوه أسيرًا للحتمية العلمية، وراحوا يبحثون عن ملاذ خارج دائرة العِلية يودعون فيه الحُرية الإنسانية آمنة من غوائل الحتمية، بعبارة أخرى: هم باحثون عن نطاق يند من سطوة العلم، ولا تتطاول إليه قوانينه، وهي ذات اليد الطولى، فأين يا ترى يقع مثل هذا النطاق؟ إنه خارج نطاق الكون الفيزيقي الضام لأبعد نجوم السماء وأضأل حبات الرمال، والإنسان المحصور بين هذا وذاك، فلا يبقى إلا أعمق أعماق الإنسان فهذه منطقة مجهولة.

ومحاولات الفلاسفة لنفي الحُرية، وإيداعها في هذه المنطقة العميقة السحيقة، أو الترانسندنتالية المتعالية، هي كبريات نظريات الحُرية المقتولة بحثًا ودراسة والمشهورة جدًّا في سائر الأوساط الفلسفية، فهي نظريات الحُرية المنتسبة إلى عمالقة الميتافيزيقا، ومع هذا فإن أصلها مغمور، فقد أتت أولى محاولات الفرار بالحُرية من عالم العلم الحتمي، لفيلسوف إيطالي من عصر النهضة، لا يرد ذكره كثيرًا، إلى أن جاء أرنست كاسيرر ليكشف النقاب عن دوره العظيم في مسيرة العلم والفلسفة على السواء، إنه الكونت جيوفاني بيكو ديللا ميراندولا Pico Della Mirandola (١٤٦٣–١٤٩٤)، ويكشف إنتاج بيكو الغزير عن معرفة شاملة، وهو شاعر له قصائد باللغتين اللاتينية والإيطالية فضلًا عن إتقانه اللغات العربية واليونانية، وأيضًا العبرية التي تعلم بها النزعة القبلانية، أي الإيمان بأن الكتاب المقدس محض رموز خرساء من الضروري تأويله تأويلًا صوفيًّا ملغزًا، أخلص بيكو ديللا ميراندولا للنزعة القبلانية، وأخرج جهودًا كبيرة فيها، وهو ينتمي أيضًا لأصحاب الأفلاطونية المحدثة التي سادت في بيئته لتجمع بين فيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين، مروجة لاتجاهات روحانية سرية، وفي الآن نفسه تدعو للعلم الطبيعي، ومع هذا دافع بيكو بحماس عن المدرسيين وتراث العصور الوسطى؛ ذلك أن جوهر شخصيته الفلسفية هو النزعة التوفيقية التي جعلته متحررًا من أية مدرسة معينة ويعتبر نفسه فوق الجميع، يأخذ من كل اتجاه ما يختار، لإيمانه بأن أي مذهب فلسفي أو ديني على وجه الإطلاق يحوي جانبًا من الصواب، وبالتالي يُشارك فيما آمن به بيكو من حقيقة كونية، ولعل محاولته للتوفيق بين المسيحية وسائر الأديان، هي السبب في إهدار دمه على الرغم من إيمانه العميق بالمسيح.
وكان بيكو إنساني النزعة، لدرجة فاق بها كل أقرانه، فهم دأبوا على تصور هيراركي (أي هرمي) للكون، عادةً ما يتم عبر ثلاث درجات: الملائكية ثم السماوية ثم العنصرية، أما بيكو فقد اعتبر الإنسان بذاته عالمًا رابعًا،٢٤ وكتابه الأساسي «الخطاب Oration» القطاع الأعظم منه موسوم باسم «خطاب في كرامة الإنسان Dignity of Man»، تمثلت كرامة الإنسان عند بيكو في كل ما يصدر عنه من خلق وإبداع، بفعل إرادة حرة نابعة من الفرد ذاته،٢٥ وهذا جعل بيكو مؤرقًا بقضية الحُرية، ولكن أرقه هذا جاء عبر ليالي القرن الخامس عشر، أي حينما كانت الحتمية العلمية تبدأ أولى خطواتها نحو موقع الهجوم الساحق الماحق على حرية الإنسان، إنها الخطوة الفلكية الخارجة من أعطاف التنجيم، من هنا جاء هجوم بيكو الضاري على التنجيم، الذي يستخلص قدر الإنسان من النجوم، ويجعله بذلك مشدودًا إلى حتمية لا فكاك منها، وكان هذا الهجوم إنقاذًا للحرية من براثن العلم الناشئ حديثًا، وهو إنقاذ لم يزد عليه أحد حتى يومنا هذا مثقال ذرة، فكيف فعل بيكو هذا؟
لقد بدأت نظرية بيكو من أنه في محاولته المستميتة للتوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، قد تجاوز كليهما بالتفرقة بين الوجود في ذاته Being Itself والوجود المشارك Participated Being موضحًا أن الله وحده هو الطبيعة الروحية التي تكون في ذات الهوية مع الوجود في ذاته، ومتعالٍ عن الوجود المشارك،٢٦ ثم سهل عليه الخروج من هذه التفرقة بين الوجود في ذاته والوجود المشارك إلى التفرقة بين مجال الضرورة ومجال الحُرية، فكل ما يتمُّ بالطبيعة الفيزيائية محكوم بمبادئ الضرورة وقوانينها في حين أن كل ما يتسم بالطبيعة الروحية يظلُّ متَّصفًا بالحُرية ويمكن فهمها في إطارها.٢٧

وأية نظرية تحاول إثبات الحُرية إيجابًا في العالم الحتمي، حتى ولو كانت من تلك النظريات العظمى التي تعوَّدنا نحن — دارسي الفلسفة — أن نحنيَ الهام إجلالًا وتكرمة لها، وأن نتفانى في محرابها … أية منها لا تخرج قيد أنملة عن هذه التفرقة التي وضعها بيكو ديللا ميراندولا بين مجال الحُرية ومجال الضرورة، ومهما اتخذ هذان المجالان، خصوصًا مجال الحُرية، من أسماء متحذلقة يجفل منها ذوو العقول المتواضعة: الجوهر المفكر عند ديكارت ومونادا ليبنتز وأنا فشته، ومطلق شلنج، وإرادة شوبنهاور العمياء … وعلى رأسها بالطبع نومينا كانط … إنه فصم العالم إلى عالمين، أحدهما للضرورة الفيزيقية العِلية والحتمية العلمية، والآخر للحرية الإنسانية والمسئولية والجِدة.

•••

(١٧) فصم العالم إلى عالمي بيكو — ذلك المفكر المتواضع المغمور — موقف لن يتعداه فيلسوفٌ، في الشرق أو في الغرب … في الشمال أو في الجنوب … يحاول إثبات الحُرية إيجابًا في العالم الحتمي، غير أن الفلاسفة الألمان على وجه الخصوص، قد برعوا في صنعة الفصم والقسمة هذه، وحذقوا فنها حذقًا شديدًا، فهل من تفسير؟

أجل! فقد وجدت التفسير في أن «تأثر الفلسفة الألمانية بالمتصوف جاكوب بوهيمه أمر معترف به»،٢٨ فماذا عن هذا؟
الإسكافي يعقوب بوهيمه Jacob Boehme (١٥٧٥–١٦٢٤) متصوف ألماني، وعندًا في عقلانية الفلسفة المدرسية وضع بلغة رمزية أسطورية نظريته في: اللا-أساس Unground، تعبيرًا عن رؤية أو حدس إشراقي أصيل. وعلى الرغم من مسيحية بوهيمه، فقد تمسَّك بأن اللا-أساس مستقل عن الرب وأسبق منه، يمكن القول إن اللا-أساس هو إله اللاهوت السلبي، ومع هذا فهو ضرورة لإدراك ماهية الرب. وكما يقول بوهيمه: «هناك شيءٌ في الرب، وينبغي أن يدرك في الله باعتباره هاوية لا قرار لها، وهذا الشيء هو الذي نطلق عليه لفظ اللا-أساس»،٢٩ إنه إذن ذو طبيعة إلهية دينية أما إذا تساءلنا: ما هي حقيقة اللا-أساس، وكيف يمكن فهمه أو إدراكه؟ فإنه لا توجد أية لغة لاهوتية أو ميتافيزيقية قادرة على وصفه أو شرحه بل إن محاولة الشرح أو التفسير العقلي تعدُّ في حدِّ ذاتها محاولة مستحيلة. اللا-أساس مستعصٍ على كل فهمٍ أو إدراك عقلي أو برهان منطقي، وإذا حاولت أن تجعله معقولًا، فإنه يتوقَّف عن أن يُصبحَ إلهيًّا، ومن ثم فإنك متى حاولت أن تقترب منه، لكان عليك أن تنحيَ العقل جانبًا، والشيء الوحيد الذي يمكنك أن تنطق به، لا يعدو أن يكونَ مجرد تأكيد لسرِّه المستعصي على كل فهم، فأنت لا يمكن أن تصفَه بصفةٍ كما تصف باقي الأشياء؛ إذ إنه ليس بشيء على الإطلاق لكي تقارن غيره به، ومتى توهمت أنك تعرفه أو تدركه فمعنى ذلك أنك قد حددته، وهو لا يتحدد أنه — كما يقول نيقولا بيرديائيف — الأساس الذي لا عمق له والسر اللاعقلاني.٣٠
لم يعد الوجود إذن يمثِّل الأساس المطلق لكل شيء فثمة مبدأ آخر: لا-أساس، يسبق هذا الأساس؛ لأنه يسبق انبثاقة الوجود نفسه، والآن، إذا ما أردنا التعرُّفَ على طبيعة الحُرية لكان علينا أن نتجهَ مباشرةً إلى ذلك المبدأ: اللا-أساس، وعندئذٍ فقط يمكن أن نقتربَ من الحُرية ونلمَّ بها، لندرك أن الحُرية ليست وجودية الطابع، بل هي عدمية منبثقة عن العدم، والوجود يحدِّدها، بل يُخفيها كليةً، الرب يمثل الحُرية المتجمدة، ولكن الحُرية في حقيقتها غير ذلك، إنها تقف على النقيض مع الوجود على طول الخط.٣١
ومن عجائب الأمور، أن هذا الخطل الفارغ من لغوِ القول، سرعان ما أصبح عنصرًا خصيبًا في الميتافيزيقا الألمانية حتى — بل وخصوصًا — الاتجاهات العقلانية العتيدة منها، وإن كانت قد اتجهت إلى محاولة عقلنته، مناقضة بهذا نفسها، واللا-أساس أيضًا، وعلى أية حال امتدَّ تأثير اللا-أساس إلى جُل فلاسفة الألمان، ولعل تفسير هذا في أن الميتافيزيقا الألمانية، في تقابلها مع الفكر اللاتيني اليوناني، ترى مبدأً لا عقلانيًّا يكمن في المنبع الأول للوجود باعتبار أن ما يغمر العالم بالنور ليس هو العقل وإنما الإرادة، وتعمق هذا مع بوهيمه، حين أكد أن العقل يمنحنا الطبيعة الخارجية فحسب، أما الحياة نفسها، فإنها بعيدة عن العقل كل البُعد، إنها في اللا-أساس الذي هو مرآة الروح، وباللا-أساس، وليس بالعقل، يستطيع الإنسان أن يكتشف نفسه، عن طريق النشاط الحي للإرادة والذي من خلاله تبرز العمليات النفسية في الطبيعة الخارجية، وبهذا كان العقل عند بوهيمه، خادمًا للإرادة، يطيعها دون أن يسأل شيئًا،٣٢ وأحسب أن هارتمان وشوبنهاور ردَّدا هذا، ربما ترديدًا ببغاويًّا، المهم الآن، أنه من هذا المنطق الديني: اللا-أساس تبدَّت لأول مرة في الفكر الألماني إمكانية قيام فلسفة تتخذ من الحُرية دعامة لها، وتنطلق بصفة مبدئية من أولوية وأسبقية الحُرية على كل شيء، حتى على الوجود نفسه، بل وعلى الرب نفسه، لقد تعلم الألمان من بوهيمه كيف «تكون الحُرية موضعَ التقابل والتعارض الصريح مع الطبيعة»،٣٣ إنها تقف على النقيض من الوجود، وعلى طول الخط.

بهذا الدرس الذي تشربت به العقلية الألمانية، شحذ فلاسفتها نصالهم، كي تكتسب حدة ونفاذًا، في أداء عملها المبجل: شطر العالم إلى شطرين: الأساس واللا-أساس، أو الحتمية العلمية والحُرية الإنسانية.

وها هنا يجب أن نتوقف لنحاول استطلاع الصورة البانورامية الكاملة لدراما الشيزوفرينيا التراجيدية والاغتراب التي تخلفت عن نكبة الحتمية العلمية من حيث نفيها للحرية، وامتدت آثارُها الوبيلةُ حتى تغلغلت في الفكر والفلسفة المعاصرة، فليس عبثًا أن هذه النظريات الفصامية هي كبريات نظريات الحُرية في الفلسفة.

•••

(١٨أ) «آثار وبيلة»: هي الآثار التي توالدت وتكاثرت فامتدت ربما حتى اللحظة الراهنة، وقد خلقها معضل الحُرية في عالم العلم الحتمي — العلم من القرن السادس عشر وحتى نهايات القرن التاسع عشر، والذي كان حتميًّا كأصلب ما تكون الحتمية، حتمية ميكانيكية … هذه الآثار الوبيلة يتأتَّى استطلاعُها بصور بانورامية شمولية، بأن ننظرَ بعيدًا لنلاحظَ كيف أن الاغتراب — وهو آفة مستشرية في البنية الحضارية المعاصرة — يعود أساسًا إلى الانفصام، الشيزوفرينيا.٣٤

فسواء أكان الاغتراب غربةً أو انعزالًا عن الذات، أو فقدانًا أو استلابًا لها، أو تخارجًا منها، أو تناقضًا معها … فإن كل هذه المسميات أو الصور لا تعدو أن تكون وجوه ثنائية مرضية أو ازدواجية موبوءة، إنه انفصام الذات عن ذاتها لتغترب عنها، أو انفصام الذات عن عالمها لتغترب عنه كآخر!

الشيزوفرينيا إذن أم الاغتراب، أو هي المرض وأعراضه شتى مظاهر الاغتراب.

وعلى هذا يمكن أن ندرك كيف خَلقت الحتمية العلمية اغتراب الإنسان عن العالم حين جعلته غير متوافق مع قدس أقداس التجربة الإنسانية: الحُرية، عالمًا غير صالح لحياة الإنسان، ولا يليق إلا بالجماد: تروس الآلة الكونية العظمى. باختصار هذا العالم/عالم العقل والعلم ليس هو عالمنا، لا ننتمي إليه ولا ينتمي إلينا، كلانا غريب عن الآخر ومغترب عنه، لكل هذا نوهنا في مدخل الكتاب إلى خطورة أن تتعارض الحُرية الإنسانية مع العلم.

كانت المشكلة: كيف نوفِّق بين العلم والحُرية؟ إنهما ينيان ولا يلتقيان البتة، والتوفيق محال، فلا بد من إحداث الشدخ في العقلية التي تعي هذا الكون بواسطة العلم — أعظم إيجابياتها فعاليةً فينفصل عن هذا العلم بحتميته جزءٌ من العقل فيه متسعٌ للحرية، كنومينا كانط ومونادا لينتز وأنا فشته ومطلق شلنج … كلها عوالم أخرى غير هذا العالم، وكلها تمثيلات للشيزوفرينيا التي كانت مآلَ فلسفة تبحث عن الحُرية في عالم أفتى العلم بأنه حتمي.

وفي الوقوف على أصل هذه الثنائية يمكن الإمساك بطرف الخيط، وذلك بأن نلاحظ كيف أن جاليليو — أحد الآباء العظام للعلم الحتمي — قد فرق بين الصفات الأولية التي يدركها العقل العلمي وبين الصفات الثانوية التي تدركُها الحواس، وهي تفرقة سرعان ما اعتمدتها الفلسفةُ الحديثة في شخص أبيها ديكارت الذي شطر العالمَ بأسره والكيانَ الإنساني ذاته إلى شطرين لا معبر بينهما، أو بينهما معبرٌ واهٍ مضحك: الغدة الصنوبرية، وهما العقل «للحرية» والمادة «للحتمية»، إنه الرائد فاندفعت الفلسفة الحديثة وراءه في هذا الطريق الذي شقه للثنائية، فيندس الفاصم الثنائي من أولى بدايات الفلسفة الحديثة، وحتى نهاياتها الموصولة بالفلسفة المعاصرة.

بمرور الأعوام بعد ديكارت، كان سلطان الحتمية العلمية يتعاظَم، فيتعاظم الاهتمام بمشكلة الحُرية؛ وتغدو هذه الثنائية شيزوفرينيا تستصرخ طلبًا للعلاج ولا مجيب، حيث الحتمية العلمية سائرة من نصر إلى نصر أعظم، حتى أفضت بالشيزوفرينيا إلى ذروة ذراها بفلسفة النومينا والفينومينا عند كانط شيخ الفلسفة الحديثة وأمير فلاسفة العلم الحتمي والذي أكد استفحال مرض الشيزوفرينيا ووصوله إلى الحد الذي لا برء منه، وذلك بحماسة لكل من العالمين على قدم المساواة، بالعقلين العملي والنظري، فالعالم عالمان، والعقل عقلان! وكمثل العقل والمادة «ديكارت» والنومنيا والفينومينا «كانط»، ثمة الإرادة والتمثل «شوبنهاور» الأنا واللاأنا «فشته» العقلي والواقعي «هيجل»، الفكر والوجود، الروح والطبيعة، الذات والموضوع، العقل والعاطفة، النسبي والمطلق، الآلي والغائي … إنها بعضٌ من ثنائيات جمة دارت بين رحاها الفلسفة الحديثة في بحثها اليائس عن الحُرية، كلها معًا تجمعها بوتقة واحدة، إنها الثنائية الأم والأصل والأساس: الحتمية العلمية والحُرية الإنسانية.

صيحة فاوست: روحان يقطنان في صدري،

يناضل كلٌّ للتخلص من توءمه.٣٥
ينقلها فالتر كاوفمان في مقدمة كتاب شاخت، «للتعبير عن الانقسام الذي هو مؤشرٌ للاغتراب؛ إذ يحول دون شعور المرء بالتوافق مع ذاته، حيث إن كل روح ينظر إلى الآخر باعتباره غريبًا»،٣٦ وأحسب أن هذه الصيحة تعبر عن مشكلة الحُرية الإنسانية والعلم أكثر وأعمق من تعبيرها عن الوارد في مقدمة دراسة شاخت.

(١٨ب) ولكن هل يمكن القول إن هذه الشيزوفرينيا ظاهرة جزئية مقصورة على العقلانيين التنويريين الذين أرادوا أن يجمعوا المجد من طرفيه، فيقرُّون بعقلانية العقل ومشروعية العلم، وفي الآن نفسه بحرية الإنسان، بحيث نفذ منها الفلاسفة الأقل طموحًا والأكثر واقعية: الذين نفوا حرية الإنسان الأنطولوجية، وعلى رأسهم سبينوزا، وفي زمرتهم هوبز ولوك هيوم وفولتير وجون سيتوارت مِل … وسائر الفلاسفة المخلصين للنزعة العلمية؟ كلا ليس الأمر كذلك، فمن عجائب الأمور أنهم بعد أن نفوا الحُرية الأنطولوجية أي الحُرية على المستوى الأول باسم الحتمية العِلِّية، وبهدف توحيد النظرة العقلية وعدم الانقسام على النفس، قد وقعوا في الشيزوفرينيا من مهوى آخر، حين عادوا ليُدافعوا بحماس لا يجاريهم فيه أحد عن الحُرية على المستوى الثاني، أي الحريات السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والشخصية …

ومن المعلوم كيف كان الحتميون العظام — خصوصًا سبينوزا وفولتير ومِل — من أعظم أبطال هذه الحريات في تاريخ البشر، كتاب سبينوزا «رسالة في اللاهوت والسياسة» وكتاب مِل «الحُرية» معالم بارزة في تاريخ الحُرية، الأول حرية الفكر والثاني الحُرية السياسية، هذا على الرغم من أن سبينوزا فيلسوف الحتمية الأول بغير منازع، ومِل أول من دعا لإخضاع العلوم الإنسانية والاجتماعية لمبدأ الحتمية العلمية، يؤازره في هذا صديقه الفرنسي أوجست كونت الذي تمكَّن من إنجاز المشروع، أما فولتير فاسمه مرادف للدفاع المجيد عن الحريات الشخصية والدينية والاجتماعية والسياسية، وهو في الآنِ نفسِه قد «أنكر أيةَ حرية ميتافيزيقية وكان معنيًّا أساسًا بنصرة العلم في صراعه مع الكنيسة، وانحاز بكل ثقله للعلم».٣٧

إنهم بتناقضهم بصدد مستويي الحُرية: نفي الأول وإثبات الثاني، يناقضون أنفسهم تناقضًا صارخًا يكشف عنه التساؤل البسيط: ما دامت كل أحداث الوجود متسلسلةً لا بد وأن تحدث حتمًا منذ أن حدث أولها، فما جدوى أن يكتسب الإنسان أيًّا من هذه الحريات الوضعية أولًا ويكتسبها؟ فمثلًا، جون ستيوارت مِل في نظريته الليبرالية عن الحكومة النيابية، قد عارض بشدة النظرة الطبيعية في التنظيمات الشعبية أي التي تراها تنمو من تلقاء نفسها، وأكد مِل أن هذه التنظيمات لا تأتي إلا كصنيعة للإنسان وأنها مظهر اختياره، أفلا يتناقض هذا مع دعوته الرائدة بإخضاع كل ظواهر الإنسان للمنهج العلمي التجريبي الكاشف عن حتميته النافي لأية حرية أو اختيار أمام الإنسان؟

على أن عمق شيزوفرينية هؤلاء يتبدَّى حين نلاحظ بنظرة أعمق وأشمل أن الدعوى بالحتمية الكونية وبالحُرية الليبرالية ليستا منفصلتين، كلًّا في مجال، بل هما متجادلتان تجادلًا عميقًا، وإن لم يلاحظوه هم أنفسهم، ذلك أنهم جميعًا — منذ سبينوزا حتى هيجل وماركس — حين دعوا إلى الحُرية على المستوى الثاني دعوا إليها «لأن العقلانيةَ تفترض أن الرغبة في السيطرة على الناس يجب أن تختفيَ أو تقل فاعليتها في المجتمع الكامل للكائنات العاقلة، والحقيقة لا تناقض الحقيقة، وسائر الحلول تتسق معًا في كل قابل للتعقل فإذا كان العقل أو العلم يحكم العالم، فلسنا في حاجة للقسر، والحياة المخططة تخطيطًا سليمًا ستمنح الجميع حرياتهم وأساسها حرية التوجيه العقلاني للنفس، وسيغدو الأمر كذلك، فقط إذا كان النظام الاجتماعي سليمًا — أي لو كان من ذلك النمط الفريد الذي يشبه وحده دون سواه، كل دعاوى العقل، وستكون قوانينه هي القواعد التي يمليها العقل، وإذا لعب كل فرد دوره الذي يحدده له العقل، فلن يكون ثمة صراع وسيصبح كل إنسان حرًّا موجهًا لنفسه في هذه المسرحية الكونية»،٣٨ ولما كانت الحتمية أساس النظر إلى المسرحية الكونية ككل واحدي قابل للتعقل بقانون واحد أو قوانين واحدة، يمكن ملاحظة أنهم في طريقهم للحرية قد انتهوا إلى نفس بدايتهم للحتمية وليس هذا غريبًا على التفلسف من حيث كونه تفكيرًا لا بد وأن تتلاقى عناصره، في حين أنهم كانوا يعتقدون أن القضيتين منفصلتين، وهذا أيضًا طبيعي، فلو أنهم كانوا على وعي بكل تلك الشيزوفرينيا لما تركوا أنفسهم نهبًا لها.

كان هذا الموقف المتناقض مع الذات أو المنقسم عليها هو السمة المميزة لمفكري السياسة والاجتماع وفي الفلسفة الحديثة، فهل كان توماس هوبز منقذًا للبشرية من هذه الشيزوفرينيا على أساس أنه نفى الحُرية على المستويين؟ كلا لأنه بعد أن فعل هذا راح يُثبت كل الحُرية للملوك، بحيث لا نملك إلا أن نسأله بدهشة: من أين سيأتي الملك بكل هذه الحريات ما دام يعيش في العالم الحتمي؟ فكأن هوبز لم يكتفِ برفع الملوك فوق مستوى البشر، بل وأيضًا فوق مستوى الطبيعة والعالم الذي يحيون فيه، لعل الاستثناء الواحد هو الاجتماعيون الفرنسيون، فقد رأيناهم محافظين ينفون الحُرية على كل المستويات: الحُرية الأنطولوجية والحريات السياسية والاجتماعية معًا، بعزم وجزم واتساق نادر، بيهم أنهم — أولًا — أتوا في ذيول العصر الحتمي والعلم الحتمي، بعد أن كانت الشيزفرينيا قد استشرت ولم يعد يجدي الرجوع، وثانيًا: هم علماء واقعون — مهما فعلوا — في تناقض العلم ذاته بصدد الحُرية، فماذا عن هذا؟

(١٨ﺟ) ينفي العلم أولى مستويات الحُرية، الحُرية الأنطولوجية أو الميتافيزيقية، في حين أنه يصادر على الحُرية من مستوى آخر، فليس مبالغة، الحكم بأن العلم هو الذي علم البشرية حقيقة، حرية العقل والفكر والعمل والقول، يتم البحث العلمي عبر مرحليات مفتوحة تنتهي إلى وضع النظرية أو القانون. «من هذه المرحليات المفتوحة، أمكن للفكر الإنساني أن يتخلص نهائيًّا من أية عبودية ذاتية أو موضوعية، فلم يعد التأمل الأرسطي هو الطريق للكشف عن القانون العلمي، كما لم تعد للسلطات الزمنية والروحية القدرة على التصدي لتيارات الحُرية الفكرية الجارفة، هذه التيارات ما لبثت أن امتدَّت لتشمل — عدا عن الفكر العلمي — مختلف ميادين الفكر الإنساني، بحيث اتخذت من الحُرية ذرائعية، للتصدي لأي اتجاه من شأنه أن يطمس الفردية في المذاهب الاجتماعية المختلفة».٣٩
هكذا كان العلم الحتمي محررًا للمعرفة من سلطة الكنيسة وأرسطو وكل وأي سلطة، «فأخلاقياته تصون الحُرية من عبث الدوجماطيقية ومن عدوان الاستبداد»،٤٠ وكانت الحُرية دائمًا في مواجهة جميع المشكلات هي نفس قانون العلم، فبينهما — أي بين الحُرية والعلم — وحدة لا تنفصم عراها،٤١ وكما يقول العالم الحتمي ألبير باييه: «العلم متضمن لثلاث فكرات: الأولى: أن إقدام الفكر وجرأته الفاتحة هما صميم الكرامة الإنسانية، والثانية: أن الحُرية هي الشرط الضروري لكل رقي، والثالثة: أن العلم طريقة لائتلاف العقول، إذ إنها جميعًا تتقبل نتائجه، إذن فكرامة الذهن والحُرية وائتلاف البشر، هي كلمات السر الثلاث لأخلاق العلم».٤٢
ويعبر كلود برنار — الذي يمكن اعتباره أنموذجًا أمثل على مدى سيطرة الحتمية على العلم والعلماء في عصره — عن هذا، وبصورة تبرز التناقض المذكور بوضوح وجلاء، فيتيه زهوًا بطابع العلم الذي لا يطأطئ رأسه أبدًا، على حد تعبيره، وبأن المنهج العلمي هو المنهج الذي يطالب بحرية الذهن والرأي، ولا يكتفي بأن يزعزع النير الفلسفي واللاهوتي وحدهما، ولكنه كذلك لا يسلم بوجود سلطان علمي شخصي، ويردف برنار هذا بأن استقلال الفكر وحريته هما على الدوام الشرطان الجوهريان لكل ما ستحققه الإنسانية من تقدم،٤٣ ولكنه يأتي في النهاية ليصرَّ على أن حرية الذهن تنعدم بإزاء مبدأ الحتمية،٤٤ وبالطبع الفهم الحقيقي لمبدأ الحتمية هذا يؤدي بالضرورة «الحتمية» إلى انعدام حرية الذهن وكل حرية، بإزاء هذا المبدأ وبإزاء كل المبادئ وكل شيء.

هكذا جعلت الحتمية العلم متناقضًا مع ذاته بصدد مستويات الحُرية، فلا غرو أن يقع هذا التناقض على رأس الإنسان المتوج بتاج العلم.

ثم نجد العلم الحتمي قد أوقع الإنسان في التناقض من مهوى ثالث: من تناقض حصيلة الفعالية العقلية مع الفاعلية الواقعية، بدأ هذا مع نبي العلم الحديث فرنسيس بيكون الذي علمنا أن كل ضرورة فُهمت إنما هي في الواقع ضرورة تم التغلب عليها،٤٥ طبعًا، ولكن أوَليست كل ضرورة تفهم هي في سياق الحتمية الكونية تأكيدًا لنفي الحُرية الإنسانية، لقد صحب تقدم العلم تساوق أو تناسب طردي بين تعزيز العلم لمبدأ الحتمية النافي لحرية الإنسان، وبين تعزيز حريته على مستوى آخر يأتي من تطبيقات العلم العملية التقنية، التي جعلت العلم بلا جدال تحريرًا للإنسان من أعداء عتاة قساة لحريته: من الجهل والمرض والجوع والفقر والعجز أمام قوى الطبيعة الغاشمة.
على أن تحرير العلم للإنسان لا يقتصر على العلوم الطبيعية فحسب، التي يبدو دورها في هذا الصدد غاية في الجلاء والوضوح، بل يمتدُّ إلى كل نسق العلم بسائر أفرعه: العلم البيولوجي والاجتماعي والسيكولوجي، فلا عائق أمام الحُرية كأمراض النفس وشذوذاتها وتوتراتها، وحتى في علم التاريخ الذي يذيِّل نسقَ العلم ويصعب إدراك دوره في تحرير الإنسان، تعرَّض بندتو كروتشه لهذه القضية في مقال له بعنوان «علم تدوين التاريخ بوصفه تحريرًا من التاريخ»، فأوضح أننا بدلًا من أن نحلل الأمراض الاجتماعية بدقة وعمق، ننزع إلى أن ننحو باللائمة على النزعة التاريخية بتحبيذ القدرية والقيم المطلقة وبتقديس الماضي وقبول الوقائع على فظاظتها لأنها هي الوقائع … نحن منتج للماضي نعيش مغمورين فيه، إنه يحاصرنا، فكيف نستطيع الحركة، وكيف نخلق أنشطة جديدة بغير أن نستخرجها من الماضي وأيضًا بغير أن نضع أنفسنا فوق الماضي، ولكن كيف نضع أنفسنا فوق الماضي إذا كنا فيه وهو فينا؟ ليس هناك طريق غير الفكر، والفكر لن يحطم العلاقات بالماضي، ولكن يرتفع فوقه بصورة مثالية: يحوله إلى معرفة. يجب مواجهة الماضي برده إلى مشكلة عقلية، يمكن أن نجد حلًّا لها في قضية هي المقدمة المثلى لنشاطنا الجديد وحياتنا الجديدة، فهذا هو ما نفعله في حياتنا حين نمحض ما حدث ونحلل أصوله ونتتبع تاريخه، فنحدِّد ما يجب الاضطلاع به عن طيب خاطر، إننا نفعل هذا بدلًا من أن نبقى فريسة للهم والغيظ، وبدلًا من أن ننتحب على ما حدث ونخجل من أخطاء ارتكبناها، الإنسانية دائمًا «تتصرف على هذا النحو حين يواجهها ماضيها الكبير المتنوع، فكتابة التاريخ — كما لاحظ جوته — تحرِّرنا من التاريخ، من العبودية للأحداث وللماضي»،٤٦ كل هذه الحُرية تنساب من بين جنبات الكيان الذي ألقى على الوجود أقسى حتمية!
هكذا كان العلم يعطي حرية بيمناه، ويسحب بيسراه أخرى هي الأساس، خالقًا بهذا وجهًا من وجوه التناقض وثنائية الاغتراب، روعة العلم العقلية النظرية والعملية التطبيقية «جعلت الرأي الذي يميِّز عقيدة التنوير المتفائلة مؤداة أن العلم الإنساني والحُرية سوف يتقدمان متآزرين معًا ليدخلا منطقة من إمكانية الكمال الإنساني غير المحدود»٤٧ وأحسب أن سعي التنويريين قد خاب، فهما لم يتآزرا قط، بل تناقضا من كل تلك الوجوه التي أدت إلى الشيزوفرينيا.

•••

(١٩) فهل انتهت الشيزوفرينيا أو توقَّف نموها السرطاني بانتهاء عصر التنوير مع مطالع القرن التاسع عشر؟ كلا أيضًا، بل سارت حتى وصلت إلى سدرة المنتهى حين تمخضت عن الحركة الرومانتيكية التي امتدت حتى أواسط ذلك القرن، وهي المقدمة المباشرة لمأساة الاغتراب المعاصرة، فقد كانت الرومانتيكية أساسًا رفضًا للعقلانية التنويرية، للعلم المتعملق بصورة ألحقت الضرر بإنسانية الإنسان وهددت الروح وخنقت الحُرية التي هي قوام الفن والفنان.

أدركت الرومانتيكية فداحة الثمن المدفوع: حرية الإنسان، مقابل ذلك النجيب المعجز للعقل: العلم الحتمي، فلم تتردد هنيهة في نفي العقل ذاته، هكذا ببساطة! لكي تُفسح الوجود للحرية، ولكن أيهما أفدح ثمنًا: الحُرية أم العقل؟ أيًّا كانت الإجابة، فإن إهدار أي من الجانبين انفصام ومقدمة للاغتراب. كانت الشيزوفرينيا التنويرية انفصام الإنسان عن الكون، أو انفصام العقل عن العالم، أو انفصام جزء من العقل عن جزء من العالم، كما أقر كانط مثلًا بعجز العقل عن فهم النومينا، ومثله شوبنهاور الذي أقر بعجزه عن فهم الإرادة وسائر السائرين في هذا الطريق الثنائي. إن الاغتراب التنويري، اغتراب عن آخر، أما الرومانتيكية فهي انقسام أو اغتراب العقل عن العقل، اغتراب عن الذات، والاغتراب عن الذات هو المريض بالشيزوفرينيا، وقد وصل إلى مرحلة الاحتضار؛ لذلك ليس بدعًا ما اشتهر به شعراء الرومانسية من تمجيدٍ للموت، هيامًا وافتتانًا به وعشقًا له.٤٨ فبعد أن بسط العلم سلطانه على مجمل هذا الوجود، وجدوا في آفاق المجهول المترامية خلف الموت ملاذًا أوحد لتحقيق أهدافهم المنشودة: إفناء العقل الواعي والهروب من العالم الحتمي الآلي واللياذ بعالم أحلامهم … عالم آخر لا أثر فيه للعقل ولا العلم ولا الحتمية، وبالتالي هو عالم لا مكان له في هذه الحياة، والأمل الوحيد في عالم الحُرية مطروح بعد الموت.

هكذا كان الرومانتيكيون هم المغتربون حتى النخاع، كان الله في عونهم! حيث الرومانتيكية حيث أفجع صور الاغتراب، فليس جزافًا أن الأدب الرومانسي خصوصًا المسرح الفرنسي في القرن التاسع عشر هو أدب العويل والصراخ والنحيب والدم والهم والغم، أما في القرن العشرين فقد أصبح، كأعمال كوكتو وأندريه جيد ثم الأدب الوجودي حيث لن يتحفنا الأدب بعمل يجسد مأساة الاغتراب مثل رواية الأديب الوجودي ألبير كامي «الغريب» … أصبح هذا الأدب أدب الحُرية الخاوية الهوجاء بل والمخبولة، أوَليست الحُرية اللامعقولة؟

وها هنا نضع الإصبع على بؤرة الداء، فقد ضاعف من خطورة الأمر وقوة المقدمات المفضية إلى الاغتراب أن هؤلاء الرومانتيكيين المغتربين عمدًا مع سبق الإصرار والترصد عن العقل — عن جوهر إنسانية الإنسان — اعتبروا أنفسهم المتحدثين الرسميين باسم الحُرية، فكانوا بهذا إعلانًا أشد وضوحًا من شمس النهار عن الشيزوفرينيا: إما العقل وإما الحُرية، إما العلم وإما العالم، وكانت للرومانتيكية خصوبة وفعالية في ميادين عدة، أهمها الفن والتاريخ وإنماء الشعور القومي، فتلقفتها الفلسفة المعاصرة بلهفة، وهي تتلقف بؤرة المرض لتزرعه في قلب الفكر في القرن العشرين خصوصًا.

وإلا، فلنتساءل: من هم جند الصف الأول من جيش الحُرية المستبسل في فلسفة القرن العشرين؟ أوَليسوا الوجوديين ومعهم برجسون، لقد عهدناهم وإياه يطابقون بين الحُرية وبين الوجود الإنساني، السابق على الماهية في الوجودية، فيدافعون عن الحُرية دفاع الأبطال المستميت، ويقيمون دونها الحصون والقلاع، فلا يتطاول إلى عرشها المجيد لجاج العلميين السائرين إلى مآل العبيد المجبورين، تروس الآلة الكونية العظمى، وما البرجسونية والوجودية إلا ذروة المسار الرومانتيكي المغترب عن العقل: اللامعقول؛ لذلك نجد القاسم المشترك الأعظم بين كل بحوثهم الثرية الخصيبة الدافقة عن الحُرية هو إنكار استطاعة العقل تفهمها واستيعابها وإثباتها أو إنكارها، وبالتالي استحالة تعريفها باعتبار أنها لا يمكن أن تكون موضوعية أو موضوعًا، عند كارل ياسبرز مثلًا: «وجود الحُرية لا يندرج مطلقًا تحت النظام العقلي الموضوعي»٤٩ طبعًا أوَليس حتميًّا؟
إذن فالحتمية جعلت الحُرية مرادفة للعفاريت، فهي التي لا تندرج مطلقًا تحت النظام العقلي الموضوعي، واعتبر برجسون «الحُرية مرادفة للتلقائية غير المعقولة، فالمعقول ينفي الحُرية واللامعقول هو الميدان الأوحد لها»،٥٠ فهل أتى هذا اللامعقول من شيء إلا من معقولية العلم الحتمي؟! لذلك عمل برجسون «أولًا على أن يتحرر هو نفسه من التصور العلمي الآلي قبل أن يعين لنا بعد ذلك طبيعة الحُرية ومعنى الفعل الحر»،٥١ فكأن الخلاص من بلوى العلم والعقلانية هو الخطوة السلبية الأولى والأساسية لأي حديث عن الحُرية الإيجابية، أما السارترية التي تسلمت من البيرجسونية عرش الفكر الفرنسي في أواسط القرن العشرين، فقد بلغت لامعقوليتها مبلغًا مأسويًّا مفجعًا في الاغتراب، فأساس السارترية القطيعة «الانفصال» والتلاشي «العدمية»، يقول سارتر: «إذا كان السلب يأتي إلى العالم بواسطة الآنية، فهذه ينبغي أن تكون موجودًا يستطيع أن يحقق قطيعةً مُعْدِمة «انفصال مُلاشٍ» مع العالم ومع ذاته، وقد قررنا أن الإمكان المستمر لهذه القطيعة هو والحُرية شيء واحد»٥٢ أي أن الحُرية هي أن تنقطع الذات عن ماضيها ومستقبلها وعالمها ومجتمعها وقيمها، وتعدم كل هذا وتلاشيه، فتبقى منعزلة مهجورة وحيدة قلقة تعاني الحصر والعي والغثيان، على الإجمال، مغتربة تنعى جدها العاثر.
وعودًا على بدء، نتساءل كيف وصلت الوجودية إلى كل هذه الدرجة من الاغتراب؟ ذلك لأنها بدأَتْ مع أبيها سورين كيركجارد برفض شهادة العلم؛ لأنها تشاؤمية تسد الطريق على الحُرية، ولما كان كيركجارد٥٣ قد أسس الوجودية بالتأكيد على نفي أو تعديل أو هجران كل ما يعارض شعور الإنسان الذاتي بالحُرية، فقد رفضوا تدخل العلم، «وكأن الوجوديين في عدم ترحيبهم بكل ما يحط من شأن دليل خبرتهم الذاتية بالحُرية على عناد مع هيوم وكانط في عدم ترحيبهما بكل ما يحط من شأن شهادة العلم الطبيعي في عصرها»،٥٤ الرومانتيكية والعقلانية، كل كائن في شطر من الشطرين اللذين انقسم إليهما العقل «إبستمولوجيا» والعالم «أنطولوجيا»، ألم نقل عودًا على بدء؟

وأخيرًا إذا كان الاتجاه السائد الآن بين المفكرين المعاصرين هو العزوف عما يعنينا في هذا البحث، أي عزوف عن الخوض في أساس الحُرية أو الحُرية الأنطولوجية، والاهتمام فقط بتمثيلاتها العينية الجزئية البعدية، كالحُرية السياسية والاجتماعية … إلخ؛ فذلك لأن إحكام قبضة العلم على العالم، قد أفقدهم أي أمل في البحث عن أساس الحُرية فيه، لقد جعلهم هذا مغتربين، من حيث جعل الحُرية الأنطولوجية كائنًا أشد غربة من كل الغرباء.

وبعد، كان هذا تتبعًا للآثار الوبيلة لمعضل الحُرية الإنسانية/العلم، والذي تخلق مع الفلسفة الحديثة المواكبة للعلم الحتمي، وقد انتهى الأمر بشيزوفرينيا جعلت الحُرية قرينة اللاعقلانية، أوَليست الحتمية هي صلب العلم … تاج العقلانية، من المستحيل إذن أن ننظر إلى هذا العالم نظرة عقلانية ونقر بالحُرية الإنسانية، إما أن نكون لاعقلانيين غير معترفين بالعلم وأحكامه ورؤاه! وإما أن نكون محض تروس في الآلة الكونية العظمى.

إن الاقتران بين الحُرية الإنسانية وبين الاتجاهات اللاعقلانية، كالرومانتيكية والوجودية والبيرجسونية … هذا الاقتران الذي يعد سمة مميزة للفكر والفلسفة منذ أواسط القرن العشرين هو في حقيقته من مخلَّفات الفلسفة الحديثة وآثارها، وفي الوقت نفسه قصور عن تتبُّع تطورات العلم الثورية التي حدثت في القرن العشرين ذاته.

ولكننا على أية حال في هذا الفصل وفي الفصل التالي أيضًا، ما زلنا في العصر الحتمي، أي في زمان الفلسفة الحديثة التي كانت المنشأ والمنبت والمرعى الخصيب لتلك الشيزوفرينيا.

١  د. عثمان أمين، الفلسفة الرواقية، ص٢٠٠.
٢  E. Berlin, four Essays on Liberty, Oxford University Press, 1975. pp. xxxvii.
٣  Ibid, p. 135-136.
٤  Stuart Hampshire, Spinoza, p. 161.
٥  B. Spinoza, Ethics: Proved in Geometrical Order, p. 74.
٦  Ibid, p. 127-128.
٧  Ibid, p. 130.
٨  Stuart Hampshire, Spinoza and The Idea of Freedom, p. 298.
٩  Stuart Hampshire, Spinoza, p. 161–167.
١٠  Stuart Hampshire, Spinoza and The Idea of Freedom, in Marjori Green (editor), Spinoza, Anchor press, New York, 1963 p. 290.
١١  انظر في تفصيل هذا كتابنا «العلم والاغتراب والحُرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية»، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، سنة ١٩٨٧ ص١٤٦–١٥٩.
١٢  Stuart Hampshire, Spinoza, p. 141.
١٣  David Hume, An Enquiry Concerning Human Understanding, ed. By L.A. Seleby-Bigge, Oxford, 1936.
١٤  Norman Kemp Smith, The Philosophy of David Hume, MacMillan Co. London, 1949. p. 437.
١٥  Ibid, p. 435.
١٦  Ibid, p. 435.
١٧  د. عبد الله العروي، مفهوم الحُرية، ص٦٤-٦٥.
١٨  Anthony Kenny, Freedom, Spontaneity and Indifference, p. 90.
١٩  Paul Edward, Hard and Soft Determinsim, in: Determisnism and Freedom in The Age of Modern Science, p. 118.
٢٠  Ibid, p. 119.
٢١  Ibid, p. 120.
٢٢  I. Berlin, Four Essays on Liberty, p. XIII.
٢٣  كثيرًا ما يُعبر عن الحتمية الرخوة تحت مصطلح الجبر الذاتي أو الحتمية الذاتية Self-Determinism، على أساس أن العلل المحتمة مباشرة للفعل نابعة من الذات، على ألَّا تختلط مثلًا، بالمحاولة القوية للدكتور زكي نجيب محمود المعروضة تحت الاسم نفسه. ونظرية د. زكي وإن لم تكن قد استطاعت التسليم باللاحتمية صراحةً، فإنها تقوم في جوهرها على لاحتمية، والقطاع الأعظم منها مسخر للتشكيك في الحتمية الكونية ويقينية التنبؤ العلمي، وبصفة عامةٍ يمكن وضع نظرية للحرية في العالم اللاحتمي تحت مصطلح الحتمية الذاتية، على أساس أن العوامل لاحتمية والذات هي تحتم؛ لذلك رأيت التنويه إلى هذه الطبيعة المراوغة لمصطلح الحتمية الذاتية، رغم أني لن أحتاج إليه.
٢٤  Ibid, p. 309.
٢٥  د. عبد الله العمر، ظاهرة العلم الحديث: دراسة تحليلية وتاريخية، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ١٩٨٣، ص١٣١، قارن أيضًا: د. لويس عوض، ثورة الفكر في عصر النهضة الأوروبية، مركز الأهرام للنشر، القاهرة، ١٩٨٦، وبه فصل خاص عن بيكو.
٢٦  Encyclopedia for Philosophy, vol. 6, p. 309.
٢٧  د. عبد الله العمر، ظاهرة العلم الحديث، ص١٢٨.
٢٨  د. عبد الله العروي، مفهوم الحُرية، هامش ص١٨.
٢٩  عن: محمد مجدي الجزيري، الحُرية والحضارة عند بيرديائيف، رسالة دكتوراه، بإشراف أ. د. أميرة حلمي مطر، جامعة القاهرة، كلية الآداب، قسم الفلسفة، سنة ١٩٨٠، ص٩٦، ٩٧.
نلاحظ أن الوارد هنا «الله»، ونحن نفضل استعمال مصطلح «الرب» حين نكون بصدد تحليلٍ لفكر غربي، إنها إشارة دكتور فؤاد زكريا البارعة بأن «الله» مُميز للديانة الإسلامية، وليس من الصواب استعماله في غير ميادين الحضارة الإسلامية، مثلما يكون «يهوا» خاص بالديانة اليهودية.
٣٠  المرجع السابق، ص١٠٢.
٣١  المرجع السابق، ص١٠٣.
٣٢  المرجع السابق، ص٩٦.
٣٣  المرجع السابق، ص١٠٣.
٣٤  الجزء التالي من الفصل، أي الفقرة رقم ١٨ والفقرة رقم ١٩، موضوع في مقدمة كتابي: العلم والاغتراب والحُرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٧، طبعة ثانية عن مكتبة الأسرة ٢٠٠٦، وصدرت له طبعة أخرى مزيدة ومنقحة بعنوان: فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، دار قباء، القاهرة، ٢٠٠٠.
وهذا الكتاب الذي يقع في حوالي خمسمائة صفحة من القطع الكبير، مكرس لدراسة تفصيلية في منطق العلم وفلسفته وتاريخه، بالمدلول التخصصي يوضح كيف ولماذا قطع العلم في رحلته الطويلة طريقه من مبدأ الحتمية حتى انتهى في المرحلة المعاصرة إلى اللاحتمية، إنه كتاب خاص بفلسفة العلم، لم يتعرض صلبه المستفيض لقضية الحُرية، ولكن لأنها وجه آخر لقضية الحتمية واللاحتمية، كان ثمة فقط إشارة لمشكلة الحُرية وأبعاد فلسفية لها في المقدمة والخاتمة، وتحمل خاتمته بعضًا من مضمون الفصل الأخير والقصير من كتاب «الحُرية الإنسانية والعلم» الذي حرصت على أن تكتمل له في حد ذاته الخلفية الأساسية لمشكلة الحُرية الإنسانية من المنظور العلمي.
أخيرًا تبقى الإشارة إلى أن الكتابين معًا يمثلان رسالتي لنيل درجة الدكتوراه، وكان عنوانها: «مبدأ اللاحتمية في العلم المعاصر ومشكلة الحُرية» (١٩٨٥)، وهذا الكتاب «الحُرية الإنسانية والعلم» في أصله الفصل السابع والأخير من هذه الرسالة، فضلًا عن أن «المدخل» بمثابة تلخيص فصولها الستة الأسبق المعروضة في «العلم والاغتراب والحُرية».
هكذا، لأن رسالة الدكتوراه ضخمة كمًّا وكيفًا، تلاحق أبعادًا متعددة ومترامية، قد تثقل على القارئ كثيرًا، بدا لي من الأفضل أن يخرج نشرها على هذا النحو في كتابين: «العلم والاغتراب والحُرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية» و«الحُرية الإنسانية والعلم: مشكلة فلسفية»، وحرصت على أن يكون لكلٍّ منهما معالجةٌ متكاملة في حد ذاتها.
٣٥  ريتشارد شاخت، الاغتراب، ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، س١٩٨٠، ص٢٨.
٣٦  ريتشارد شاخت، الاغتراب، ترجمة كامل يوسف حسين، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ١٩٨٠، ص٢٨.
٣٧  L. W. Hull, History and Philosophy of Science, Longman, London, 1960, p. 195.
٣٨  Isaiah Berlin, Four Essays on Liberty, p. 146-147.
٣٩  جميل. م. منيمنة، مشكلة الحُرية في الإسلام، ج٢، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ١٩٧٤، ص١٤٢.
٤٠  ألبير باييه، دفاع عن العلم، ترجمة د. عثمان أمين، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، ١٩٤٦، ص٩٨.
٤١  المرجع السابق، ص٩٧.
٤٢  المرجع السابق، ص٢٤.
٤٣  كلود برنار، مدخل إلى دراسة الطب التجريبي، ترجمة د. يوسف مراد وحمد الله سلطان، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة، ١٩٤٤، ص٢٣٩.
٤٤  المرجع السابق، ص٥٣.
٤٥  د. محمد عزيز الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ص١٩٥.
٤٦  B. Croce, History as the Story of Liberty, trans by: Sylvia Sprigge; Henry Regency Co., Chicago, 1970, p. 143-44.
٤٧  John Dewey, Freedom and Culture, A Mentor Book, C. P. Putnam Sons, New York, 1939, p. 137.
٤٨  انظر: جاك شورون، الموت في الفكر الغربي، ترجمة كامل يوسف حسين، مراجعة د. إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، إبريل ١٩٨٤، ص١٦٧–١٧٢.
٤٩  د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحُرية، مكتبة مصر القاهرة، ١٩٧١، ص٢٧.
٥٠  د. محمد عزيز الحبابي، من الحريات إلى التحرر، ص١٠٤.
٥١  حبيب الشاروني، بين بيرجسون وسارتر: أزمة الحُرية، دار المعارف، القاهرة، سنة ١٩٦٣، ص٣٠.
٥٢  جان بول ساتر، الوجود والعدم: دراسة في الأنطولوجيا الظاهراتية، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، دار الآداب، بيروت، سنة ١٩٦٦، ص٧٠٢.
٥٣  من أهم أعمال كيركجور كتابه: إما … أو Either … Or، وهذا العنوان في حد ذاته من أقوى المؤشرات الدالة على ما نعنيه.
٥٤  Stephen Korner, Fundamental Questions of Philosphy, Penguin Book, England, 1971, p. 240.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤