الفصل السادس

انفراجة المعضل في عالم العلم المعاصر

(٣٩) لو كان ثمة الكثير لكي نقوله هنا، لما كان ثمة داعٍ لكل الحديث السالف، المسألة أصبحت الآن أوضح من أن تحتمل جدالًا.

  • (أ)

    الحُرية الإنسانية تعني إمكانية الاختيار بين بديلين أو أكثر.

  • (ب)

    حتمية العلم الحديث جعلت كل حدث محتومًا، أي أن سواه مستحيل، فلا بدائل، وبالتالي لا حرية.

  • (جـ)

    لاحتمية العلم المعاصر، تجعل كل حدث احتماليًّا بنسبة، مهما كانت عالية، فثمة إمكانية مهما كانت ضئيلة فهي قائمة، إنها إمكانية لبديل واحد على الأقل، إن لم يكن أكثر.

  • (د)

    ولما كانت بدائل الأحداث قائمة، فإن حرية الإنسان كائنة.

بكل هذه البساطة تنحل أزمة الحُرية، ويئين للعقل البشري أن يهدأ بالًا من معضل العلم/الحُرية، الذي أتاه بالوبال.

على أنها ليست حرية استواء الطرفين أو اللامبالاة كما وصمها الحتميون، فلا استواء أبدًا في العالم اللاحتمي، إنها حرية توافر الطرفين فحسب، التي تُحمل المسئولية المرهقة، وتتطلب مبالاة ضخمة، لحسبان حساب كل من الطرفين أو الأطراف؛ تمهيدًا للاختيار بينهما، والعوامل المرجحة لا تحتِّم شيئًا طالما أن البديل الآخر قائم، وهذا ما تشهد به التجربة العينية الحية، كثيرًا ما يختار الإنسان طرفًا مبرراته أضعف، وقد يصيب فتأتي إصابته نافذة، وقد يخطئ، والخطأ هو الثمن المدفوع للحرية، وهو أيضًا سبيل للتعلم، كما يشهد تاريخ العلم البحت من ناحية، وكما تقر مناهج التربية وعلم النفس من الناحية الأخرى.

أتى المعضل من أن الحُرية مضادةٌ للعلة الكافية، أو لمبدأ العِليَّة، وقد اندثرت العلية من عالم العلم، وكان اندثار العلية، والحتمية إجمالًا، اندثارًا للتناقض بين العلم وبين إنسانية الإنسان، هذا هو فضل العلم المعاصر الذي يمكن أن يؤدي بلاحتميته إلى التقريب بين وجهات نظر، طالما تصارعت وتناقضت باسم المرحلة السابقة من العلم … المرحلة الحتمية.

في العالم اللاحتمي الذي نبذ العِليَّة، لا تكون المقدمة (أو العلة جدلًا) متبوعة بنتيجة واحدة أو جدلًا بمعلول واحد محتوم، بل بعدد من الاحتمالات، «فلتتصوروا أن حالة معينة من حالات العالم الجامد، ولتكن «أ» يمكن أن يتبعها أيٌّ من الحالات المختلفة، مثل ب، ﺟ، د، … وكلها تؤدي إلى حالات مختلفة للعالم في المستقبل، في العالم اللاحتمي لا يوجد سبب بارز يجعل من الضروري أن تكون «أ» متنوعة بالحالة «ب» بدلًا من «ﺟ» أو «د»، ولنفترض أنه في بعض الحالات التي تعرض للعقل البشري، يكون للعقل بعض القدرة على توجيه بعض النواحي الدقيقة من العالم إلى أي من الحالات: ب أو ج، حسب اختياره، بحيث تتفق كل الانتقالات: أ ← ب، أ ← ﺟ، أ ← د … مع قانون بقاء الطاقة وكمية الحركة، أعني مع أن الكون كوزموس منتظم، فسوف يكون لدينا عقل يؤثِّر على المادة بدون أن يبذل قوة مادية أو تحولًا للطاقة، وهو يشكل الكون إلى حد ما وفق اختياره،١ ويظل كوزموس قابلًا للتعقل العلمي الرفيع.

•••

(٤٠) «إنها اللاحتمية العلمية»: فقد حطت رحال العلم على شطآن اللاحتمية المرهقة والمقلقة ولكن الرحيبة والواعدة، وانقطعت كل صلة بينه وبين الحتمية الميكانيكية البائدة، لقد انتزعت اللاحتمية مقاليد السلطة من الحتمية، فكان انقلابًا من النقيض إلى النقيض، فكل ما تعنيه اللاحتمية أن الحتمية كاذبة، إنها سلب أو نفي لها ولافتراض أن كل الأحداث محددة سلفًا بدقة مطلقة، وبكل تفاصيلها اللامتناهية في الصغر أو في الكبر، تنفي اللاحتمية هذا، لكنها لا تعني ما عناه هيوم من أنه ليس ثمة أية حادثة ترتبط بالأخرى، بل تعني أن القوانين التي تربط هذه الأحداث ليست حتمية، فحتى لو كان ثمة حدث يشترط آخر كظرف أساسي أو أولي له، أو كان بينهما علاقة وثقى فليس يعني هذا عليَّة، فضلًا عن أبدية المبدأ العِلي، أو أن ذلك الحدث فضلًا عن كل الأحداث محتمة سلفًا.

مع النظرة اللاحتمية الأبسط والأرحب والأصدق، والمتخلصة من كافة النزوعات اللاعلمية، نجد عدة عوامل تؤدي علاقاتها ببعضها إلى عدة احتمالات، كلها ممكنة وحدوث أي منها أو عدم حدوثه لن يهدم العلم، ولا العالم، ولن يحيله إلى فوضى، إنه تعاقب الأحداث اللاحتمي لا تسلسلها الحتمي، وتتابعها وفقًا للقوانين الاحتمالية لا العلية، والأحداث في كلتا الحالتين مترابطة ومنتظمة، وقابلة للتعقل والتفسير القانوني والنسقي، ولكن شتان ما بين التفسيرين.

حلت اللاحتمية محل الحتمية، فحل الترابط الإحصائي بين الأحداث محل الترابط العِلِّي، والاتجاه المحتمل محل الاتجاه الضروري، واحتمالية الحدث محل حتميته، لم يعد حدوثه ضروريًّا ولا حدوث سواه مستحيلًا، فأصبح التنبؤ العلمي أفضل الترجيحات بما سوف يحدث، وليس كشفًا عن القدر المحتوم، ومن ثم انقطعت كل همزة وصل بين العلم وبين الجبرية العتيقة، بعد أن تكفل في مراهقته الحتمية بمواصلة مسيرتها، إنه زيف المطلق الذي انكشف لما تصدعت تصورات الزمان والمكان المطلقين والثوابت المطلقة، فاختفى المثل الأعلى للعالم بالحقيقة المطلقة كشيطان لابلاس الذي يعلم كل شيء ويتنبأ بكل شيء، لما اختفى المثل الأعلى للعالم الذي يدور كما تدور الساعة المضبوطة، والنتيجة: أن ارتدع العلماء عن الغرور الأهوج المريض الذي أكسبتهم إياه الحتمية. إنهم أدركوا سذاجة وسطحية تصور العمومية لقوانينهم، بحيث لا تخرج من بين يدي أي منها ولا من خلفه صغيرة ولا كبيرة، لا في الأرض ولا في السماء.

على هذا انتهينا إلى أن اطراد الطبيعة، الذي يبرر العلية وهي تبرره، مثله مثلها افتراضات بلا أساس، كما أثبت تحليلات سابقة، أما ما أضافته ثورة العلم اللاحتمية، فهو أنه لم يعد ثمة مبرر لبقائهما، ولا حاجة لهما، إن الفيزيائي المعاصر الذي يعمل بالآلات الدقيقة في معمله ليكشف عن قوانين انتظام الطبيعة، لا يعوزه البتة مفهوم الاطراد الحتمي؛ لأنه يعلم حدود الدقة، ويُدرك جيدًا عبثية وصعوبة أن يجعل الظاهرة تكرر نفسها تمامًا، إلا داخل حدود معينة من اللاتعين وبالتالي للخطأ المحتمل، إنه الآن لا يبحث عن اطراد الطبيعة وأحداثها، ويكفيه انتظامها القائم على أساس إحصائي، لا عِلِّي، ليبحث عن احتماليتها، أي ترددها بنسبة مئوية معينة، مستمدة من ترددات لوحظت في الماضي، ويفترض أنها سوف تسري تقريبًا على المستقبل. لقد استرحنا أخيرًا من العلية والاطراد، ومن دورانهما المنطقي الشهير، انهارا معًا حين تحققنا من دخول عنصر المصادفة في بنية الطبيعة، فاكتسبت المصادفة ثوبًا قشيبًا، وتخلصت من الأدران الجائرة التي طالما لحقت بها في عصور يقين العلم الحتمي، أما اليقين فلا حديث عنه سوى أنه تبخر من دنيا العلم حتى شاع قول دارج الآن: العوام على يقين من كل شيء، ويكفي أن العلماء ليسوا على يقين من أي شيء. فقد كانت أبرز معالم الثورة العلمية وأشهر إنجازاتها، في أنها جزمت — منطقيًّا — من أن أية قضية إخبارية بما هي إخبارية احتمالية ونقيضها ممكن، ولا يقين إلا في القضايا التحليلية الفارغة من أي مضمون إخباري وهي قضايا المنطق الصوري والرياضة البحتة؛ وعلى هذا، إذا كانت السمة الرياضية بينة للحتمية فإنها أيضًا وبنفس الدرجة بينة لللاحتمية، غير أنها في الواقع لا تصلح بينة لأي منهما، فالرياضيات محايدة تمامًا، محض رموز تعبر بها عن مرموز إليه، ونملؤها بالمضمون سواء افترضناه حتميًّا أم لاحتميًّا، على أن رياضيات الإحصاء وحساب الاحتمال المعقدة النامية حديثًا، هي ألف باء للعلم المعاصر، ومنطق الاحتمال عموده الفقري، بعد أن كانت العلية هي العمود والعماد والعمدة، إنه ذلك التطور المفاجئ الذي حل بمفهوم المصادفة، فحلت موضوعية الاحتمال محل ذاتيته، خصوصًا بعد نشأة ونجاح الميكانيكا الموجية البارعة، ومعنى حلول موضوعية الاحتمال محل ذاتيته أن اللاحتمية أصبحت طبيعة العلم والعالم، إبستمولوجيًّا وأنطولوجيًّا.

أما التصور الأنطولوجي للحتمية الميكانيكية فقد أضحى أثرًا بعد عين، خصوصًا بعد النظرية النسبية، ولا تبقى إلا المادية الكلاسيكية، التي كانت الأمينة كل الأمانة على كل ما يقول به العلم، وهذه المادية البليدة الساذجة قد أصبحت في نظر علماء الطبيعة المعاصرين نموذجًا على التفكير الذي راح عهده وتجاوزناه، إنه تفكير متخلف منحصر في الكتل الصلبة التي تصطدم بها القدم حينما تتعثر في الطريق، وقد استحالت المادة على أيدي العلم المعاصر إلى كائن أكثر شفافية من أي كيان تحدث الروحانيون عنه.

وإذا قارنا هذا بعناصر الحتمية التي عرضها المدخل — في التعريف بها — اتضح كيف اندثرت الحتمية وتهاوت أوثانها.

•••

(٤١) فيالَخيبة أمل لابلاس والحتميين جميعًا! حقق العلم المعاصر حلمهم فنزع القشرة الخارجية للعالم بل وللذرة، ولكنه — لوكسة الحتمية — لم يكتشف وراءها آلة ميكانيكية هائلة، بل «اكتشف كل ما يثبت خطأ التفسير الميكانيكي لفيزياء نيوتن وخطأ الزعم بأن كل الظواهر خاضعة لقوانينها، الآن ومنذ بداية هذا القرن [العشرين] تم رفض هذا التفسير نهائيًّا، واتضح مدى سذاجة تصوراته العينية لمفاهيم الكتلة والقوة».٢ ضاع مرام الحتميين في التحديد الفردي لمسار وموضع كل جسيم، وكثوابت مطلقة تظل كما هي بمنأى عن أية تغيرات متوقعة، فتصلح مقدمة للعلم الشامل.
وسبحان مغير الأحوال، لقد انقلبت الأوضاع الآن، «واللاحتمية التي كانت حتى عام ١٩٢٧ قرينة الجهل والإظلام، أصبحت هي الطراز المسيطر».٣ والمعلم الحقيقي على عصرية السمة العلمية، أما الحتمية التي كانت المثال الأعلى وقدس الأقداس فقد أصبحت الموضوع الأثير لسخرية العلماء، فيقول عنها العالم الفرنسي جان لويس دتوش J. L. Destouches إن قيمتها «لا تزيد عن قيمة الرأي القائل بأن الحركة معدومة، أو بأن الأرض منبسطة.»٤ أما إدنجتون فيرى أن نصيبها من الصحة «لا يزيد عن نصيب الفرد الروكفوري — أعني الفرض القائل بأن القمر مصنوع من جبن الروكفور».٥
وسواء انسقنا مع التيار السائد بين العلماء الشبان بالهزء والسخرية من الحتمية، أو تجملنا بأن نرحم عزيز قوم ذل، فإننا قد أقبلنا على مرحلة جديدة من التطور، وأصبح لزامًا علينا توديع «ذلك العصر السعيد المليء بالثقة، الذي يفترض أنه من الميسور وصف الماضي واكتناه المستقبل، إذا عُرفت لقطة واحدة من لقطات الماضي».٦ كان عصرًا سعيدًا تسوده آراء سعيدة قيل عنها باستخفاف إنها «أملت في بناء عالم من كرات تافهة».٧ لا نقصد الحط من قدر العلم الكلاسيكي، وليس فينا من يفعل هذا، فقد حقق نسقه الجليل الذي ظل هكذا حتى اليوم، إنما المقصود الحط من شأن حتميته البائدة، والتي اتضح أنها فكرة عن العالم على شيء كبير من السذاجة، فكرة عن عالم فيزيقي يمكن وصفه بدقة متناهية، إن لم يكن بواسطة علماء اليوم فعن طريق علماء الغد».٨ لقد ظنوا أن كل تغييرٍ يجب تصويره بكميات محددة الموضع في المكان وفي مجرى الزمان، وأن هذه الكميات لا بد وأن تيسر الوصف الكامل لحالة العالم الفيزيقي في كل لحظة، وسيتم هذا الوصف تمامًا بواسطة معادلات تفاضلية أو مشتقات جزئية تتيح لنا تتبع موقع الكميات التي تحدد حالته، ويا له من تصور رائع لبساطته! توطدت أركانه بالنجاح الذي لازمه لمدة طويلة،٩ إنها الواحدية الشاملة، لكن تأكدنا الآن من «أن الأمل في التمكن من تفهم العالم كله عن طريق جزء صغير منه لا يمكن أبدًا أن يدعم منطقيًّا».١٠
ولم تكن الحتمية إلا حلمًا من أحلام اليقظة، حلمًا بالعلم الشامل، الذي يغدو أكثر حقيقية بكل تقدم تحرزه الفيزياء، حتى أصبح يبدو وكأنه كابوس مرعب لا يمكن الهرب منه.١١
وارتهن التحرر من هذا الكابوس باقتحام العالم الميكروسكوبي، لقد حاصرت الحتمية الفيزياء؛ لأنه على طوال مدى الظواهر الماكروسكوبية كانت عدم القابلية للتنبؤ صغيرة بدرجة يمكن إهمالها، فبدت الصياغة العلية الصارمة وكأنها أوضح وأبسط أسلوب للتعامل معها، وبالنسبة لسائر الأغراض العلمية، وفقط حين تعرضنا للظواهر الميكروسكوبية أدركنا أن الصياغة العِلية غير دقيقة ولا يمكن أن تكون أساسية، وأنه من المستحيل الوصول للنبوءة بدقة ويقين،١٢ حتى ولو وجد عقل لابلاس الفائق، وكان الإحباط العنيد لجهودنا من أجل إدخال المعرفة بهذا العالم الميكروسكوبي في قلب الخطة الحتمية إيماءة بأن نبدل هذه الخطة، فقد ثبت أننا نهدف إلى مثال زائف وخاطئ، مثال الوصف الكامل للعالم، وبأنه من الضروري البحث عن إبستمولوجيا جديدة لتلائم هذه الظروف،١٣ فلما كانت الإبستمولوجيا الحتمية — قائمة كمفهوم علمي — على أن مبادئ الميكانيكا بديهيات أولية مبرهنة بذاتها غير قابلة للتحدي، فإنها قد انتهت بنشأة الميكانيكا اللانيوتونية، وأدركنا أن مبادئها الأولية كمبادئ أي فرع آخر من فروع الفيزياء، عَرَضية اتفاقية، أي ليست مشتقة من قوانين المنطق المطلقة، وأن نقائضها فروض محتملة، بل وأن صياغة نيوتن للجاذبية غير دقيقة في بعض الأركان والأبعاد، وليست المسألة مسألة قانون فيزيائي معين، بل مسألة الدقة المطلقة للفيزياء الكلاسيكية التي اهتزت بالأعمال التجريبية في الحركة البراونية والنشاط الإشعاعي وظواهر الطاقة،١٤ وسائر ما أوضحه المدخل عن أزمة العلم الحتمي وأيضًا عن ثورة العلم المعاصر والكوانتم والنسبية … بهذا تحطَّمت الأسس الراسخة للعلم وأصبحت لا يقبلها عقل، الزمان والمكان والمادة والأثير والكهرباء والنزعة الميكانيكية والعضوية، المظهر البادي والنمط والبيئة والوظيفة … كل هذه المفاهيم تتطلب إعادة التفسير،١٥ وإذا كان هذا ممكنًا فإنه يتضمن كارثة لتلك الأسس، هي إنكار الحتمية.
لم تكن الحتمية مبدأ قبليًّا، ومع هذا لم يكن إنكارها متصورًا للعقول، ليس فحسب بل وأيضًا أملاها العلماء كأمر واقع، وبوصفها نظرية مهيبة، ولكن هذا المرسوم العلمي قد انقلب في النهاية إلى اقتراح لا تجيزه الوقائع،١٦ وكان من الصعب على اللاحتمية أن تشقَّ طريقها في الفيزياء، إلى أن تطور التقنيات والأساليب الفنية للتعامل مع عالم لاحتمي، وقبل هذا كانت اللاحتمية عاجزة عن منافسة الحتمية كأسلوب لوضع وقائع الخبرة في نظام.١٧ وكنتيجة لتقدُّم نظرية الكوانتم، لم تعد الفيزياء رهينة النظام أو الخطة الحتمية الموهومة للقوانين، وتوقفت الحتمية تمامًا عن أدنى مساهمة في الصياغات الأخيرة للفيزياء النظرية،١٨ بدأ الأمر بلامبالاة تجاه الحتمية أو إهمال لها في المرحلة الأولى لنظرية الكوانتم، على أساس أنه حتى ولو كان ثمة خطة علية صارمة تكمن خلف الظواهر، فإن البحث عنها لم يعُد أسلوب عمل مجديًا، وثمة مثل أخرى من الأجدى تعقبها، لقد أدرك الجميع أن العلية فقدت دورها، البعض ندموا وأملوا في أن تعود يومًا ما، وكان هذا مواقف شخصية والموقف المعتمد هو اللامبالاة تجاه الحتمية أو أن أحدًا لم يعد ينشغل بها، وبعد أن حدث التطور الأعظم في نظرية الكوانتم الجديدة التي بدأت عام ١٩٢٥ وتم اعتمادها عام ١٩٢٧ حين ظهر مبدأ اللاتعين لهيزنبرج انقلبت هذه اللامبالاة تجاه الحتمية إلى عداء صريح لها، وجهود موجهة بتعمد من أجل الخلاص النهائي منها،١٩ فقد توصلنا إلى نقطة هامة جدًّا، وهي أن اللاحتمية في الفيزياء المعاصرة ليست البتة مجرد فشل للحتمية، كما لو كنا نصادر على استئذان لفشلنا في اكتشاف العوامل المؤدية للحتمية، وكأن هذه العوامل موجودة فعلًا، لقد أصبحت اللاحتمية — خصوصًا بعد مبدأ هيزنبرج — تعميمًا كميًّا دقيقًا، تمامًا كقوانين الطبيعة، وكأي من تلك التعميمات التي كانت تشكل ما كنا نعتقد فيه من قانون علِّي،٢٠ بعبارة أخرى، لم يعد الأمر مقصورًا على أننا لم نعرف بعد أن الحتمية صادقة، بل بالأحرى لقد عرفنا أنها كاذبة.٢١

فكان الانتصار الساحق للاحتمية، وتوطد نهائيًّا بفعل عوامل كثيرة، أهمها أن الانتصارات العظمى للتنبؤات في الأوقات المتأخرة تقوم على قوانين إحصائية صريحة، ولا تستند البتة إلى أي أساس عِلِّي، والأهم من ذلك، أن القوانين الكلاسيكية المقبولة حتى الآن، والتي ظهرت في البداية على أنها علية، قد أثبت البحث الدقيق أنها ذات طبيعة إحصائية.

من هنا حلت اللاحتمية محل الحتمية في كل موضع، فأحرزت الفيزياء — ولا تزال تحرز — تقدُّمًا سريعًا؛ لأنها لم تعد تضع الخطة العلية كهدف عملي،٢٢ بعبارة أخرى بسبب التحرُّر من وهم الحتمية، أي الظافر باللاحتمية، وبالتالي الظفر بعلم ليس ينفي الحُرية الإنسانية، بل يتسع تمامًا لها.

•••

(٤٢) «الحُرية الإنسانية في عالم العلم المعاصر»: إذا كان العلم الراهن (وهو أقصى مد عقلي) يمكن أن يعلمنا كيف تكون العقلانية والنسقية، يحمل عالمه كل هذه اللاحتمية، فكيف تبرز إذن تلك التصورات التي ترى الحُرية من مخلفات عصور الجهالة كيانًا أهوج، عالمها اللاحتمي عماء وفوضى، كل شيء فيه جائز ولا نظام له، ولا علاقة بين أحداثه؟!

يعلمنا العلم المحدث علم النسبية والكوانتم، كيف أن العالم اللاحتمي كوزموس منتظم، بل وذو ثوابت عتيدة تذوي بجوارها الثوابت الحتمية، تعني اللاحتمية حدودًا معينة للاحتمال، ومجالًا محددًا للإمكانيات، بعبارة أخرى ثمة أوضاع معينة ولكنها ليست محتمة، وهذه الأوضاع المعينة هي التي تُمارَس الحُرية من خلالها، عن طريق الاختيار بين البدائل والسُّبل المطروحة للسلوك، وليس أي سلوك أو تصرُّف على الإطلاق، مثل ذلك العالم الذي يمكن لأي شيء فيه أن يصبح أي شيء، والذي يتوقع من أي شخص فيه أي سلوك أو أي تصرف … مثل هذا العالم لا يتراءى لغير عقول مريضة يعوزها العلاج النفسي، وهو عالم ليس يصلح للحرية ولا للحتمية، بل إنه لا يصلح للوجود أصلًا، فضلًا عن الوجود المتعقل المُعاش.

عوامل البيئة والوراثة والدوافع السيكولوجية، ومعها الجينات أو المورثات، لا تنفي أهمية الفوارق الفردية، وليست تحركنا كما تحرك الخيوط الدمى، بل تسهم في طرح احتماليات معينة للسلوك المعين في الوقت المعين، وقد تجعل لواحدة من الإمكانيات احتمالية أعلى من سواها، ومهما كانت عالية، فليس ثمة حتمية لا فرار منها، إنها تُسهم في تشكيل الموقف الذي تُمارس الحُرية من خلاله، وطبعًا كثير من العوامل التي تشكل الموقف ربما لم يخترها الفاعل، ولا يمكنه أن يختارها، ولكن مهما كان فيها من عسف وظلم — كأن يبلى دونًا عن الجميع بمصيبة أو عاهة — فإن الحُرية الأنطولوجية كائنة، تمكنه من مواجهة المصيبة بأكثر من تصرف؛ ليكون المجال العيني لإثبات عزم الإرادة وقوة الحُرية، أما عن الظلم في حد ذاته، فليس يتعلَّق بقضية الحُرية الإنسانية، بل ربما بقضية العدالة الكونية.

رأينا — في المدخل — كيف ينتظم الكون الفيزيقي في نظامه البديع بقوانين كلية إحصائية، بمعنى أنها ليست ضربة لازب أو قضاء محتومًا على الجسيم المنفرد، بل يظل الجسيم المنفرد — في العالم اللاحتمي التعددي — يحتفظ بشيء من الفردانية داخل القانون، أجل، كلنا ننشد أن تصل العلوم الإنسانية إلى درجة التقدم الباهر التي أحرزتها الفيزياء وحين يصل علم الاجتماع إلى هذه الدرجة، سيظل كل فرد في المجتمع محتفظًا بشيء من الفردانية … من الحُرية … داخل القانون الإحصائي الدقيق.

إن الفيزياء المعاصرة تتنبأ بالحدث، وبدرجة احتماليته ودرجة اللاتعين الكائنة فيه بمنتهى الدقة، فهل سيستطيع علم النفس هذا يومًا، فيتنبأ بالسلوك الإنساني ودرجة الحُرية الكائنة فيه؟ هذا أمل علمي بحت، وليس يهم الفلسفة كثيرًا، فكما أوضحنا الحُرية الأنطولوجية، إما أن تكون أو لا تكون، إما منفية وإما مثبتة، وقد سحب العلم حتميته التي تنفيها، إنها إذن غير منفية.

وليست الحُرية غير منفية فحسب، بل يمكن جعلها مثبتة إيجابيًّا، إنها اختيار بين عدة أحداث، لاحتمية العالم تجعلها كلها ممكنة، ولا تفرض أيًّا منها، ولكن واحد فقط هو الذي سيحدث، وربما يحدث فيزيقيًّا كمصادفة موضوعية، ولكن إذا كان الموقف على مستوى السلوك الإنساني وتدخل عنصر إنساني فعال، فأحدث هذه الإمكانية دون سواها، مع أن سواها كان يمكن أن يحدث لو لم يتدخل هذا العنصر بالذات، فإن هذا العنصر أو العامل الفعال، هو ما نسميه بالحُرية الإنسانية، إنها إمكانية أو قوة الاختيار المتعمد وهي سلوك إرادي موجه، وبهذا يحمل الفعل الإنساني طابع الجِدة، وتصبح المسئولية كائنة: فهل هذا الاختيار الموجه يتناقض مع المعايير والمبادئ الأخلاقية التي يسلم بها الفاعل؟

مع اللاحتمية يختلف موقف اللص عن موقف المصاب بجنون السرقة، الأخير وعيه غير سوي، ومرضه ينفي أو يضعف احتمالية السلوك السوي المتسق مع المبادئ الأخلاقية، فلا مسئولية، أما مع اللص فقد انتفى هذا النفي، لتصبح المسئولية كاملة، سطحية الحتمية أفضت إلى ضم الإنسان والحيوان والجماد في نسق العالم الواحد مما يرفع المسئولية عن الإنسان على أساس أنه خاضع لنفس حتمية الحجر الساقط على رأس شخصه فقتله، ولما كان من غير المعقول أن نلوم حجرًا، كان من غير المعقول أن نلوم أي قاتل، أما خصوبة ورحابة وفعالية التصور اللاحتمي الذي يعني التعامل مع متغيرات أكثر، فيمكنه أن يضيف عنصر الوعي والجهد الإرادي المتعمَّد كعامل متميز في دراسة وفهم الإنسان، فيتحمل مسئولية ما فعل دونًا عن الحجر الساقط غير ذي الوعي.

تلك هي النتيجة المتوقعة من انهيار التصور الميكانيكي الذي يرد كل شيء إلى كتل المادة الصلبة الساذجة، بل وانهيار الكتل الساذجة ذاتها وانحلالها إلى جسيمات وموجات، والذي لا خلاف عليه الآن، أنه قد اتضح أن مكونات المادة لا تشابه بأية حال الكريات الصغيرة والحبيبات الدقيقة التي كانت متصوَّرة كمكونات للمادة في العالم الحتمي، أو كمكونات للعالم الحتمي ذاته، ومن المؤكد أن انهيار هذا المفهوم الحتمي للمادة، يمكن أن يكون فاتحة سبيل قد يفضي إلى قهر الثنائية الكبرى: العقل والمادة، ومن المؤكد أكثر أنه بالتكوين الجديد للمادة والنسيج الجديد للعالم الفيزيقي، يمكن أن يتحققَ نسق العلم الواحد المنزه عن قهر إنسانية الإنسان والذي يرسم صورة لعالم نحن لسنا غرباء عنه كما كنا غرباء عن عالم العلم الحتمي بافتراضه التعسفية الجائرة، العالم اللاحتمي أصبح أقل قسوة وفظاظة، ومن الممكن التصالح معه، والبرء من الشيزوفرينيا الأليمة.

وكيف لا نبرأ منها؟ وقد أتى تصور الإنسان الفاعل الحر المسئول من قلب البناء الأنطولوجي المستقي من الدلالة الإبستمولوجية للعلم، أي التفسير العقلاني للكون، المتوج بحلم أن يحرز العلم ككل وكفروع أقصى درجات التقدم، وبعد أن ودعنا مرحلة الشيزوفرينيا ومبرراتها، أصبح كل تقدم للعلم اللاحتمي ظفر للإنسانية من كل الوجوه، وبكل أبعادها، فلم يعد العلم ليمضي في طريق إنكار الحُرية الإنسانية، ولم يعد يملك حججًا ضد معايشتنا الفطرية للحرية والاختيار.

•••

(٤٣) والحق أن في هذا القول تواضعًا مجافيًا للواقع، فالعلم المعاصر لا يقتصر على سحب إنكاره للحرية، بل أن يستلزمها، عرَّف علم النفس الفلسفي الإرادةَ الحرة بأنها الاختيارات التي نقول عنها إنها غير ذات حتمية ضرورية من قبل الجهاز العصبي، أو من أية علة فيزيائية أخرى،٢٣ فرفضها علم النفس الحتمي، على أساس أن العلل الفيزيائية لن تترك شيئًا بغير أن تحتِّمه، فكانت الإرادة الحرة معبرة عن اللاشيء عن الوهم، ولكن الفيزياء المعاصرة علمتنا أن العلل الفيزيائية لا تحتم شيئًا، وأن ذلك التحديد هو الوهم الباطل، فاستطاع علم النفس المعاصر، المعاصر جدًّا، أي علم النفس المعرفي Cognitive Psychology «أن يستوعب هذا الدرس ويدرك أن الوهم الباطل في الحتمية السيكولوجية، التي تتصور الناس وكأنهم ينظرون من ثقوب الأبواب، منحصرين في صناديق، يستجيبون للمنبهات أو تعميهم الغرائز».٢٤
وكما تتعامل الفيزياء المعاصرة مع الاحتمال واللاتعين والمصادفة … أي مع اللاحتمية بوصفها واقعًا أنطولوجيًّا أكيدًا، يتعامل علم النفس المعرفي مع الحُرية الإنسانية كواقعة أنطولوجية أكيدة لكي يصل إلى صورة أدق للنفس البشرية، ألا وهي صورة الكائن العضوي النشط، الذي يتعلم الكثير عن بيئته وعن نفسه ويتفاعل مع خبراته المعرفية ويفعلها وهو بسبيله إلى الاستكشاف واتخاذ القرارات والتصرف، إن التخيُّل والتفكير والتذكر تحررنا من البيئة المباشرة، ليكون ثمة قدر من الحُرية، ونحن ندفع ثمن هذه الحُرية بإمكانية الوقوع في الخطأ، فمن الممكن أن نتصور أشياء ليست حقيقية وأن نتذكر أشياء لم تحدث قط، لكننا نكتسب إمكانيات النظر في بدائل جديدة.٢٥

إذن بعد أن كانت الحتمية السيكولوجية تحديدًا هي الحلقة المفضية مباشرة إلى معضل الحُرية في عالم العلم، أصبح علماء النفس المعاصرين ليس فقط يعترفون بالحُرية الإنسانية، بل يجعلونها مقولة أساسية بغية فهم أعمق وأفضل لموضوعهم! فكيف حدث هذا؟

إنها الثورة اللاحتمية في علم النفس: علم النفس المعرفي، الذي يوضح أن المد اللاحتمي في العلوم الإنسانية قد وصل في علم النفس إلى حد الثورة، من حيث إن علم النفس هو الذي يتعامل مع ظواهر الحُرية الإنسانية والإرادة، وكانت محاولته لإلغائها — وهي واقعة أكيدة — انسياقًا مع الحتمية العلمية، من أهم أسباب ما تردى فيه من التواءات وعجز عن التوصل إلى نتائج علمية مُرضية، وكما أشرنا آنفًا، كان المد الحتمي في علم النفس قد تمخَّض عن عدة مدارس، أسفرت عن اثنتين سادتا الميدان بفضل قوة امتثالهما للحتمية وإلغاء الحُرية، وهما تحليلية فرويد وسلوكية واطسون ثم سكينر خصوصًا هذه الأخيرة؛ بسبب افتقار الفرويدية للسمة العلمية الوضعية الصارمة، وبطريقة جعلت نفسانيين جادين يتبرءون ويبرئون علم النفس منها، وبعد أن سادت المدرسة السلوكية ذات المنزع الحتمي الصارم، حتى كادت أن تصبح مرادفة لعلمية علم النفس، حدث في منتصف خمسينيات القرن العشرين ما يشبه الزلزال، وذلك حين انصرف علماء النفس إلى دراسة ظواهر الاختيار والإرادة محققين في علم النفس الثورة اللاحتمية الموسومة باسم الثورة المعرفية: أي التي تدرس الظواهر المعرفية والعمليات العقلية التي هي مظاهر الحُرية والاختيار، فكان علم النفس المعرفي والعلاج النفسي المعرفي كطريقة ثالثة للنظر إلى الطبيعة الإنسانية، ومنافسة للتحليلية والسلوكية،٢٦ إنها الثورة التي يسمِّيها جيروم برونر Jerome Bruner باسم الثورة بعد الصناعية، أي المتجاوزة للثورة الصناعية بمثالها الميكانيكي الحتمي، ويؤرخ لها بعام ١٩٥٦.
أدرك علماء النفس أن أتباع سكينر قد تأثروا بما شاهدوه من سهولة التصرف في السلوك الحيواني، فافترضوا أن الأفعال الإنسانية جميعًا — حتى الأفكار واللغة والدوافع والسمات الشخصية — يمكن تفسيرها بنماذج متشابهة، وإن تكن أشد تعقيدًا، بيد أن الجيل الجديد من النفسانيين المعرفيين رفض هذه النظرية الآلية محتجًّا بأن هناك تراكيب وعمليات للعقل لا سبيل إلى إحالتها إلى أخلاط من الاستجابات المدعمة،٢٧ فنظروا إلى القيود التي وضعتها السلوكية في نصف القرن الأخير، بوصفها قيودًا عقيمة وأنها كانت للأسف الشديد مصوغة على أساس تصور للعلوم الفيزيائية عفى عليه الزمان.٢٨
كذلك لم يكن السلوكيون مهتمين بالمعرفة أي بعمليات التفكير، ولم يأخذوا مأخذ الجد إمكانية أن تكون الطريقة التي يتصور أو يفكر بها الناس مهمة بالنسبة للأفعال والتصرفات، وكانت جذور فكرتهم المتمركزة حول الدافع، تمتد راسخة في عدم الثقة بالتفكير فيما يدور بالعقل، ورأوا التجريب المعملي وحده هو الذي يمكن أن يؤدي إلى معرفة يعتمد عليها، وترتب على هذا أن العمليات النفسية ينبغي أن تنزل إلى القاسم المشترك الأصغر للحياة الحيوانية، وكتب سكينر عن سلوك الكائنات العضوية، في غلو عنيف، مقترحًا أن تنطبق مبادئه السلوكية على الحياة الحيوانية جميعًا، بل على المخلوقات الحية جميعًا.٢٩
أما الثورة المعرفية اللاحتمية، أو ذلك التغيُّر الدرامي الذي أصبح واضحًا وبدأ يفرض ذاته منذ ستينيات القرن العشرين، فهو يعني التخلي التدريجي عن هذه النظرة القاصرة، أو على الأقل إضعافها، لقد جددوا الاهتمام بأفكار الناس ومعرفتهم بوصفها عوامل سببية في الشعور وفي الفعل، وفي الطرائق المختلفة التي يقوِّمون بها الحوادث،٣٠ وفي هذه النظرة الجديدة، لم يعد الإدراك الحسي أو الذاكرة وما يشبه ذلك يحال إلى نمط التعلم، بل أصبح يتطور على أنه أمثلة لحل مشكلات، والكائنات البشرية بهذا تفكر ولها حياة عقلية.٣١
والذي يهمُّنا أن جميع اتجاهات علم النفس المعرفي، تلتقي عند شيء أساسي هو: الحُرية الإنسانية، «فهي جميعًا تتفق — ضمنًا على أقل تقدير — على أن الناس يختارون الكثير مما يعرفونه، وهذه الاختيارات تتم بطرق شتى خلال الانتباه الانتقائي، أو تطبيق الإستراتيجية المعرفية أو اكتساب المهارات المعرفية»،٣٢ إن الإدراك الحسي والتخيل كغيرهما من الأنشطة النفسية الأخرى، تتضمن جميعها الاختيار، فهناك بوجه عام من الأشياء أكثر مما نستطيع أن نشاهد، وأكثر مما نستطيع أن نستمع إليه،٣٣ ولكننا لا نشاهد كل وقائع البصر ولا نسمع كل وقائع الصوت، بل ثمة انتقاء قوي يجعل وقائع معينة دون غيرها تدخل في حيز الإدراك، وليس من الضروري أن تكون هي الأقوى في إثارتها للأعصاب الحسية، بل الضروري أن تكون هي الوقائع التي توجهت نحوها الحُرية والاختيار والجهد الانتقائي، المثال الشهير في الأم التي راحت في نوم عميق، حتى إن جلبة ضوضاء خارج نافذتها لن توقظها، مع هذا فأقل همسة أو بادرة بكاء من طفلها الرضيع كفيلة بأن تجعلها تهب من نومها، والنفسانيون المعرفيون يطلقون على الاختيار الإدراكي الحسي الذي أشبعوه دراسة — اسم الانتباه الانتقائي Selective attention، اللغة أيضًا تخضع لهذا الاختيار الانتقائي، «فنحن نحدث بعضنا بعضًا بالحقيقة وبالأكاذيب أو بلا شيء، إن ثمة اختيارًا للكلام، كما أن هناك اختيارًا للإدراك الحسي، ونحن لا نستطيع أن نتجنب تلك الاختيارات، مثلما لا نستطيع أن نتجنب اللغة نفسها لأننا بشر».٣٤
هكذا يقوم علم النفس المعرفي على أن الإدراك والتخيل واللغة، وغيرها من الأنشطة النفسية تقوم أساسًا على حرية، على نوع من الاختيار الذي لا نستطيع تجنبه لأننا بشر، فلم يعد البشر في نظر علم النفس المعاصر «لعبة في يد الغريزة العمياء كما أنهم ليسوا عبيدًا للتدعيم المتكرر، فالناس يستطيعون أن يروا أو يتعلموا ويفهموا، هذا ما نعرفه دائمًا عن أنفسنا، يبدو أنه ما من نظرة أخرى لعلم النفس قد أضفت طابع الشرعية على هذه المعرفة أو حاولت تعميقها»،٣٥ قبل هذه النظرة اللاحتمية المعاصرة التي هي تقدُّم إبستمولوجي حقيقي وملموس في علم النفس، وانعقدت الآمال عليها ليحقق هذا العلم قدرًا أكبر من التقدم نحو فهم طبيعة النفس البشرية، وبعد أن طال تعثره، انطلق علم النفس المعرفي على قدم وساق، وتتوالى منجزاته البحثية وتسير قُدمًا.

ولئن كان علم النفس هو الذي يتعامل مباشرة مع واقعة الاختيار وظاهرة الحُرية الإنسانية، فإن الأمر لا يقتصر عليه، والنظرة اللاحتمية تتغلغل الآن في العلوم الاجتماعية الشتى.

والمسألة بجملتها — كما أوضح المدخل — أن الفيزياء بحكم عموميتها وشمول موضوعها لمسرح الظاهرة العلمية، هي الأصل وصاحبة القول الفصل، وكما كانت العلوم تُهرول نحو مثالها الحتمي، فإنها الآن أصبحت تُهرول نحو مثالها اللاحتمي، وكما سهل عليها اتباع الفيزياء في الحتمية وإنكار الحُرية، يسهل عليها أكثر اتباعها في اللاحتمية وإثبات الحُرية، خصوصًا وأن فلسفات العلوم المعاصرة بذلت جهدًا جهيدًا للوقوف على أنه في مبدأ اللاحتمية طريق التقدم، وهو كفيل بالإسهام في حل مشكلة العلوم الإنسانية وتضييق الفوارق بينها وبين العلوم الطبيعية، التي كنا نظنُّها تعمل بموضوعية مطلقة، مستحيلة على الباحث في العلوم الإنسانية.

وعلى أية حال، فإن ما فعله علم النفس المعرفي، فعلته بدرجات متفاوتة أحدث الفروع في شتى التخصصات، فمثلًا قام المؤرخان الألمانيان إدوارد ماير وماك فيبر بدراسة جادة للاحتمال الموضوعي في التاريخ، أي تصور ما كان يمكن أن يحدث في الماضي، وإنه تصور علمي يعين على فهم أعمق للحاضر، فهذه الإمكانيات ليست أشباحًا لما كان البشر يأملون فيه، ولكنها الإمكانيات التي فشلنا في تحقيقها، أساسًا لأننا كنا نفتقر إلى المقدرة العقلية على إدراك الاحتمالات الموضوعية لما فيه الخير.٣٦
ولأن التاريخ مجال إنساني صرف، فإن مجال الإمكانية فيه هو مجال الإرادة الحرة والجِدة … الفعل الجديد؛ ولذلك لا بد وأن يأخذ المؤرخ عامل الحُرية في اعتباره، واهتمام المؤرخ بالحُرية هو اهتمام بمحض لاتعين Undeterminacy في عملية التاريخ، بمعية نهاية مفتوحة في جانب التاريخ الإنساني الذي يناقض الأنظمة الحتمية الميكانيكية المغلقة، ولنتذكر ثورة الحتميين العارمة على البُعد الأخلاقي للتاريخ — في الفقرة ١١أ — لنلاحظ أن عامل الحُرية يعني أيضًا الاهتمام في كتابة التاريخ بالبعد الأخلاقي المناقض لمجرد التساؤلات الفنية التقنية التي نثيرها حول الآلات الميكانيكية،٣٧ إذا كانت الفيزياء قد رفضت النموذج الميكانيكي مثل ذلك الرفض البات، فما بالنا بالتاريخ؟!
وظهرت لاحتمية قوية، واعتراف بحرية الإنسان وإيجابيته في ميدان الجغرافيا المعاصرة أيضًا، تحت اسم مدرسة الإمكانيات Possiblism، تقوم على أساس الدور الإيجابي الذي يؤديه الإنسان على سطح الأرض وضمن حدود بيئته، وبالتالي تنادي بقدرة الإنسان وإمكانياته في تذليل عقبات البيئة،٣٨ وكان العالم الفرنسي لوسيان فيفر L. Fedvre هو أول من وضع المصطلح «مدرسة الإمكانيات»، وذلك في كتابه «مقدمة جغرافية للتاريخ»، ولكنها كانت قد ارتبطت بشكل قوي بكتابات أستاذه فيدال دي لابلاش Vidal De Leblache وكارل ساو Karl Sawe وكذلك بومان Bowman (١٨٤٥–١٩١٨) في الولايات المتحدة، ويرى لابلاش أن هناك دورًا ينبغي أن يوكل للإنسان بوصفه عاملًا جغرافيًّا، فالنشاط البشري يعمل على تعديل الظواهر العضوية وغير العضوية على سطح الأرض؛ لذلك فالإنسان شريك للطبيعة في دورها في تشكيل الحياة، أما فيفر فيبالغ في دور الإنسان ويرى أن تقتصر الجغرافيا على دراسة أثره، أو على الأقل تهتم كثيرًا بهذا، وقد عبر عن مبدأ اللاحتمية بقوله: «لا توجد في الطبيعة ضروريات أو حتميات، بل هناك دائمًا إمكانيات، وبما أن الإنسان سيد الإمكانيات، فإنه هو الذي يحدد ما يستعمله منها».٣٩
تطورت هذه الثورة اللاحتمية في علم الجغرافيا حتى بلغت ذروتها في نشأة فرع حديث هو: علم الجغرافيا الإرادية، قيل عنها إنها جهد مستقبلي تأملي وضع في خدمة العلم، فهي تفترض معلومات يستغلها فريق عمل مزود بالأدوات التي تمكنه من تجاوز المعطيات العددية المباشرة، والتنبؤ بوجود التطور الدينامي ونتائجه، إن تحليل الجغرافي يتقاطع مع تحليلات الأنظمة التي تدرس العالم الحديث مثل علم الاقتصاد وعلم السياسة، ويتممها؛ لأنه يعتمد على مواجهة دائمة بين البيئة الطبيعية وبين المجال المشخص والجماعات البشرية الموزعة في تشكلات قوية، في نظام فضفاض أو في مركز،٤٠ وأساس المواجهة، أو أساس هذا العلم هو الجهد الإرادي والحُرية الإنسانية؛ لذلك فهو علم مبشر بالكثير، وأخيرًا، فإن الجغرافيا الإرادية تسهم في إعداد اختيارات واضحة، لصالح الحريات الجديدة، حرية العمل وحرية الراحة وحرية شغل أوقات الفراغ٤١ … إنه التساوق الفلسفي بين اللاحتمية العلمية والحُرية الإنسانية، وقد تمت ترجمته ترجمة عينية.

هكذا أصبح العلم من رأسه حتى أخمص قدميه لاحتميًّا، وأصبحت الحُرية الإنسانية من الظواهر أو العوامل التي تدرسها العلوم الإنسانية؛ بغية فهم أفضل لموضوعها، إقرارًا منها بأن الإنسان فاعل حريد مريد مختار … هذا هو الإنسان الذي تدرسه أحدث فروع العلوم الإنسانية، بعد أن طال تعثرها وهي متشبثة بالنموذج الحتمي الميكانيكي.

فهل من إثبات أكثر من هذا على أن الصراع بين العلم والحُرية الإنسانية بات مرحلة قابعة في التاريخ، وأنه قد انتهى تمامًا، وأسدل الستار على المشهد الأخير منه، أو على أبسط الفروض ينبغي أن يحدث هذا.

لقد فصلنا الحديث عن معضل الحُرية في عالم العلم الحتمي، وكانت كل فقرة تضع الإصبع على مثلمة، الحمق الصراح تركها كائنة في البنية العقلية، وبعد إثبات الحُرية في عالم العلم المعاصر، لم يعد ثمة أي مبرر لاتخاذ الحُرية ذريعة لشن حرب شعواء على العلم، والانقسام على العقل الذي أنجبه والفرار من عالمه إلى عوالم موهومة أو متخيلة أو متصورة، وتصح هذه مقدمة تخرج منها تنظيرات للحرية في مستواها الثاني العيني البعدي، تنظيرات لأوجه التحرر المنشود تحقيقها، بمنجاة من الشيزوفرينيا والاغتراب.

وما أيسر هذا الآن فقط الآن بعد أن رسمت الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة صورة أنطولوجية لعالم يصلح للأحرار المسئولين، لإنسانية الإنسان، عالمٍ العلم به لا ينفي الحُرية الإنسانية، ولا يحيله إلى آلة عظمى ومعتقل للمجبورين بل على النقيض تمامًا من هذا؛ إنه التناقض المنطقي بين الحتمية واللاحتمية.

في عالم العلم الحديث كانت الحُرية حلمًا تنأى عنه الحقيقة، ومثالًا يهدره الواقع وفي الآن نفسه تطبيقًا يفتك به التجريد، وممارسة يخل بها التنظير، أما في عالم العلم المعاصر فقد أصبحت الحُرية كما ينبغي لها أن تكون، إنها الحلم والحقيقة، الواقع والمثال، التجريد والتطبيق، الممارسة والتنظير.

١  جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ترجمة جعفر رجب، ص٢٨٢.
٢  E. A., Hutten, The Ideas of Physics, p. 137.
٣  K. Popper, Objective Knowledge, p. 214.
٤  زكريا إبراهيم، مشكلة الحُرية، ص١٠١.
٥  المرجع السابق، ص١٠١.
٦  جيمس ر. نيومان، لابلاس، في: رجال عاشوا للعلم، ص١٠–١٠٤.
٧  ج. برونوفسكي، العلم والبداهة، ص٢٢٤.
٨  المرجع السابق، ص٢٢٥، ٢٢٦.
٩  De. Broglie, The Revolution in Physics, p. 129-130.
١٠  فيرنر هيزنبرج، المشكلات الفلسفية للعلوم النووية، ص١٨.
١١  K. Popper, Objective Knowledge, p. 222.
١٢  Eddington, The Indeterminacy and Indeterminism, p. 181.
١٣  Eddington, The Nature of the Physical World, p. 228.
١٤  M. Cohen, Reason & Modern World, p. 223-224.
١٥  A. N. Whitehead, Science & Modern World, p. 29.
١٦  William Barett, Determinism & Novelty, p. 48.
١٧  Eddington, Inderminacy & Indeterminism, p. 181.
١٨  Eddington, The Nature of the Physical World, p. 294.
١٩  Ibid, p. 294.
٢٠  Eddington, Inderminacy & Indeterminism, p. 177.
٢١  C. J. Ducasse, Determinism, Freedom & Responsibility, in: Determinism & Freedom in the Age of Modern Science, p. 162.
٢٢  Eddington, The Nature of the Physical World, p. 298-299.
٢٣  Philip. L. Harriman, Psychological Tems, p. 64.
٢٤  أولريك نايسر في: الجديد في علم النفس، ملف العدد ٨ من مجلة الثقافة العالمية … الكويت، يناير سنة ١٩٨٣، ترجمة د. فؤاد كامل، ص١٦٨.
٢٥  المصدر نفسه، ص١٦٦.
٢٦  المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
٢٧  جيروم برونر في الجديد في علم النفس، ص١٦٦.
٢٨  ريتشارد لازاروس، الجديد في علم النفس، ص١٦٦.
٢٩  المرجع السابق، ص١٦٤، ١٦٥.
٣٠  المرجع السابق، ص١٦٥.
٣١  جيروم برونر، المرجع المذكور، ص١٦٢.
٣٢  أولريك نايسر، المرجع المذكور، ١٦٧.
٣٣  المرجع السابق، ص١٦٧.
٣٤  المرجع السابق، ص١٦٩.
٣٥  المرجع السابق، ص١٦٧.
٣٦  Sidney Hook, Hero in History, Secker & Warburg, London, 1954, p. 96.
٣٧  Allan Ryan, The Idea of Freedom, p. 4.
٣٨  محمد علي الفرا، الإنسان بين حتمية ابن خلدون وإمكانية لابلاش وفيفر، مقال بمجلة القافلة، السعودية، سبتمبر ١٩٨٣، ص٤٣.
٣٩  المرجع السابق، ص٤٣.
٤٠  جان جيبيج، الجغرافيا الإرادية، في: الحُرية والتنظيم في عالم اليوم، ترجمة تيسير شيخ الأرض، منشورات وزارة الثقافة والإرشاد، دمشق، سنة ١٩٧٧، ص١٦٢.
٤١  المرجع السابق، ص١٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤