الشخصيَّة والسرد الشعري
المبحث الأول: الاسم وتنميط الشخصيَّة
(١) الأسماء كما تتمثل في واقع الحياة تحمل مغزًى دلاليًّا قد لا يُنْظَر إليه كثيرًا مع دورة الحياة، وقد لا يلتفتُ الشخص نفسه لاسمه ودلالاته محاولًا تحقيقه أو التطابق معه، أو ربما ساءه الاسم فَتَعَمَّد الانحراف بسلوكه عن مغزاه. إننا بعامةٍ في الحياة لا نكاد نتأمل دلالة أسمائنا. ولربما كان هذا لأننا نُوْلَد فَنُمْنَح أسماءنا، قد نحققها، وقد لا نحققها. نحن مخلوقون داخل عالم جُل ما فيه مُخَبَّأٌ عَنا؛ الناس بأخلاقهم ونفسياتهم وسلوكهم، مصائب الدهر ونوائبه، أفراحه ومباهجه، الطبيعة، المكان المحتجب.
نحن أيضًا مُخَبَّئون عن أنفسنا، لا نعلم من أمورنا الغائبة شيئًا، ولا نكاد نملك كثيرًا في أحداثنا الحاضرة. فَتُرى على هذا النحو — وهو بعضٌ من كثير — تُرى نستطيع أن نحقق أسماءنا.
-
إما سلوك هو عين التحقق الواقعي المادي، فيُموقِعُ الاسمُ النَّصَّ في حادثة ما أو مكان بعينه أو شخوصٍ بأعينهم على نحو ما نجد غالبًا في الفخر والهجاء والرثاء؛ فالاسم أقرب إلى التصديق الواقعي، ويشير غالبًا لأشخاصٍ ومواضع وأيامٍ. على نحو ما سبق في الفصل الأول.
-
أو يتخذ الاسم طابع الأُمثولة الرمزية (الأليجوريَّة Allegory)٣⋆ بتحقيقه لمغزًى دلاليٍّ معين، سواء أمسكنا بكل أطراف إشارياتها أو بعضها.
وليس الأمر مرادًا به تحقيق مغزى دلالات الاسم أو نقضها، فلربما عاند سلوك الشخصية العلاقة الواضحة مع الدلالة، ولكن على الإجمال هو في غالب الأحوال يصبح نسقًا محددًا من الدلالة. وهذا الطابع الأليجوري نجده كثيرًا في التشبيب والنسيب. على نحو ما نجد من أسماء: هند – ليلى – سُعْدى – أسماء – سلمى … إذ يحدثنا الشعر عن أسماء بعينها يحيط بها الحَصْر، وهو ما يُقصينا عن الإطار العام الحيادي في تلقي الأسماء. يضاف إلى ذلك عدم تحديد هويَّة نَسَبيَّة لهذه المحبوبة، وليس هذا لما يمكن أن يُخَمَّن به عن تقاليد المجتمع أو سلوك البيئة المحافظة.
إن النظر ﻟ «رابعة»، «سلمى»، «سُليمى»، «الخيال الزائر من الحبيب المفارق» في نَص سويد بن أبي كاهل اليشكُري ﻣﻔ (٤٠)؛ إن النظر لكل هؤلاء بوصفهم شخصيةً واحدةً يفضي إلى هيكلةٍ بعينها للسرد، أما النظر إليهم مفرقين بين «سلمى» و«رابعة»، وعادِّين «سليمى» تدليلًا ﻟ «سلمى»، وكان الخيال خيالًا لواحدة منهما؛ فإن هذا يُفْضي إلى هيكلةٍ أخرى تختلف كذلك عن التصور السابق، وعَدُّ الخيالِ خيالًا لحبيبٍ آخر خلافهما يفضي لتصور ثالثٍ.
والسؤال هو: هل «رابعة» و«سلمى» و«سليمى» والحبيبة التي يُذْكر خيالها أسماء لشخصيات مختلفة بالفعل، أم أنها لافتات مختلفة على واحدة بعينها، فتكون الأسماء مثلًا علامات على حالات مخصوصة وجوانب وصفيَّة بعينها، وتتغير الأسماء بتغير الحالات وتَعَدُّد الملامح؟ إن الاسم ليس عَلَمًا قدر ما هو «علامة» على «أوصاف» و«وظائف»، وحينئذٍ تعود الأسماء كلها لهذه الحالة الكليَّة التي هي المرأة/أنثى القصيدة.
الأمر إذن مقصد الشاعر قبل أن يكون مهارة القارئ، إن الشاعر هنا يتكلم بصوت النصوص السابقة، فالاسم يستدعي حالات سَرْديَّة: طائفة من العلاقات والارتباطات، حزمة من التساندات والتعارضات ووجهات النظر. والاسم هنا الذي هو علامة على حالات متشابهة هو تميمة الشعر ضد الفناء. تميمته ضد التلاشي والنسيان. إنه خلق رواية أخرى للحكاية؛ حكاية «سلمى» أو «رابعة» أو «سُعْدى» أو «خَوْلة» … تترابط الرواية الجديدة مع الروايات المُنْتَجَة سابقًا ترابطًا يَضْمَن البقاء للروايات جميعًا، للنصوص كلها.
(٢) وهنا سوف نتابع الدلالات السردية المصاحبة لاسم كاسم «سلمى»، على سبيل المثال، متابعين ما يتأسس حوله من قيم سردية مخصوصة. لنرى كيف يتعامل الشعر سَرْديًّا مع شخصية تضحي بمثابة تقليد أدبي لا ينفصل عن قضاياه الواقعية فيما يمثل في النصوص.
إن سلمى في نصوص المُفَضَّليات هي امرأة الانفصال والانقطاع، وهي في ذلك تنطلق من نقطة البَيْن والفراق، ربما تعود الأبيات لتذكر تاريخ علاقةٍ قديم، تاريخ وصالٍ، ولكنه لا يكون إلا لخدمة هذا المعنى الحاضر الأخير، ربما يتحدث عن خيالها، ويُقَدِّمُ الوصال معه، ولكنه يظل وصال خيالٍ، ويظل مشدودًا إلى الأصل.
ومن ثم فسلمى أليجورية ترتبط بالحاضر؛ حيث الافتقاد والانقطاع إلا من استيهام بالوصال عبر الخيال. ولا ترتبط بالماضي إلا من حيث علاقة وصالٍ أدْبَرَت. إنها تَدْفع إلى الماضي نحو ماضٍ خِصْبٍ وذكريات نديَّة، وإلى الحاضر حيث بؤس البَيْن. إن سلمى في النصوص القديمة أبدًا لم تكن امرأة عابرة. إنها تؤسس ربما من المنطلق السابق لمعاني ودلالاتٍ أخرى يتم تكريسها عبر ارتباط طائفة من التيمات. بها، منها الوداع أو الرحيل، والسفر وما قد يتخلله من موتيفات؛ كالناقة والفرس والصحراء وربما المدح كذلك.
إن سلمى ترتبط غالبًا بتقاليد القصيدة الجاهلية، فما إن ترد حتى تطالعنا قصيدة تحذو حذو هذا الشكل النمطي النموذجي. إنها بعبارة أخرى لا تأتي غير نَسِيبيَّة. إنها دومًا امرأة نسيب بامتياز. قد يتجادل شاعر مع امرأة، وقد يلومها، وقد يهجوها، وربما أَعْرضَ عنها وسَبَّها، أو ربما مدح خصالها، أو روى لها حادثةً، أو فخر بنفسه أمامها … إلى آخره، أما سلمى فليست من هذه الأبواب. إنها فقط من باب النسيب.
إنها جزء من نمط القصيدة الثلاثي الذي يقوم على «نسيب + رحيل + «فخر قبلي أو ذاتي، أو مدح»». وتظل في جميع الأحوال ركنًا رئيسًا يُرتكز عليه في استعادة وحدة البناء العام للنص ومنطقة علاقة مكوناته. إن سلمى هي امرأة البَيْن والفراق: يقول «بشر بن أبي خازم»:
وعند «الحارث بن ظالم»:
وإذا كان «بِشر» قد جعل الرحيل نتاج تغير ما اعتاده في الناس فإنه يُسْلِمها للتحول الذي (قد) لا تعود معه لسابق عهدها إلا مع تغيُّر مثله! إذا كان الحال كذلك مع «بِشْر» فإن الحارث بن ظالم يجعلها تحل مواطن الأعداء؛ حيث قتل أحدًا منهم، ومن هنا يستحيل التواصل بحكم الواقع. فإذا كان الدهر أو العادات المكينة التي تتغير هي ثمن التغير عند بِشْر فإن العادات في الثأر والدم هي ثمن احتمال الوصال. إنه في كُلٍّ وصالٌ يكاد ينقطع الأمل دونه. وربما لا تتحدث الأبيات مباشرةً عن البَيْن، ولكنها تتحدث عن طيفها الذي يزوره أو بالأحرى يستدعيه وعيُه، ويجسد انفصاله من خلال هذا الوصال المحلوم:
يقول المرقش:
ثم يقول عنها وعن أترابها الغواني:
والخيال عند «سَلَمة بن الخُرْشُب الأنماري» ليس فقط هو ما يفصح عن غيابها؛ بل إن الأبيات بعدها تُعَلِّق وصلَه على وصلها إياه اعتمادًا على ما كان منه من مَوَدَّة وما هو فيه من عِزَّةٍ وكمال خُلُق. إن سلمى على العموم هي المتغيرة، هي صاحبة قرار الفراق، غيَّرها أيضًا ما يغير الناس كما عند «بشر بن أبي خازم». يقول «سَلَمة»:
وهذا البَيْن الذي قد لا يتصلُ هو ما يدفع لاستبدال الناقة بسلمى عند «المُسَيَّب بن عَلَس»؛ رغم أن الشاعر هو صاحب قرار الفراق، ولكنه قرار يُضْمِر عنا دوافعه، خاصةً وأنه يرحل عنها بكل الحُب لها وما زالت حبالها به موصولة، لكنه على الرغم من ذلك يرحل دون وداع ودون «متاع»، إنه رحيل مبهم الدواعي والنوازع، لكنه في كل حالٍ «رحيل».
وهذا الإبهام لا يمنع من أن يقرر الشاعر إمكانية «إعراضها» عن إعادة الوصال، ويجعل الناقة بديلًا عنها:
وفراق سلمى في قصيدة «الحارث بن ظالم» فراقٌ لا أَمَل له؛ فقد حَلت في مواطن الأعداء حيث قَتَل واحدًا منهم، فصار لهم عنده دَمٌ، ومن أين له حينئذٍ أن يَرْحل أو يسافر إليها؟! يقول:
وعندما يقول: وقَطَّعَ وَصْلها سَيْفي. فإنه يضع حُبه وإمكانية وَصْله الحبيب في موازنةٍ مع قتل خالدٍ، فاختار الأخير.
إن سلمى هي الحب في المشيب، أو هي الحُبُّ يُعاوِدُ المرءَ بعد ذهاب الشباب. يقول سُويد بن أبي كاهل اليشكُري:
والحب هنا حُبٌّ مُضْنٍ «خَبَّلَتْني ثم لما تَشْفِني» ب (١٧)، حُبٌّ مع ضَعْف، حُبٌّ بعد أن فارقته القوة والمواجهة والحزم. إنه تهالُك المحب أمام سطوة المحبوب. إنه ارتباط المحب بالمحبوب ارتباط مسحورٍ: «ودعَتْني بِرُقاها» ب (١٨).
وهذا الحُبُّ في المشيب حُبٌّ متجدد، فلم يكن أبدًا حُبًّا جديدًا خالصًا، أو تَعرُّفًا أوَّليًّا، ولكنه الحب القديم يصحو مع تأخُّر العمر وذهاب الشباب. يقول معاوية بن مالك:
ويقول «سُويد بن أبي كاهِل اليشكُري»:
ويقول «المُزَرِّدُ بنُ ضِرار الذُّبْياني:
أما تفاصيل هذه الدلالة المركزية — الحب بعد ذهاب الشباب — فتتنوَّع داخل كل قصيدة تقريبًا ليقدم كل شاعر تجربته الفنية الخاصة مع هذا الرمز/المعنى؛ فيقدم كل شاعر سَرْده الخاص حول سلمى، نسخته الخاصة من هذه الشخصية. والصحوة تحقُّق استعاري مهم يمثَّل فيه الشباب بوصفه لهوًا والشَّيب باعتباره حِكْمَةً، وقولنا الشَّيب باعتباره كذلك؛ لأنه لم يكن بالأصالة إذا يتدافع حب سلمى ليُسلمه للشوق الممرض والأرق والخيال، فيسافر ويرحل ويتسلَّى بناقةٍ أو يرحل هو إليها، أو على شرفها، أو في المطلق باحثًا عن ذاته وانسجامه الأصيل، بعيدًا عن شتات الحب. أو مفارقًا شتات الحب إلى شتات البحث عن الذات.
وتصور الصحوة من حب سلمى تفترض اجتناب ذكر حبها؛ إذ الحِكَمة والشيب لا يناسبهما الوَلَع والتوَلُّه، يقول المُسَيَّب بن عَلَس:
(والتشوُّق: اشتداد الشوق إلى الشيء).
ومفضلية جابر بن حُنَيٍّ التَّغلِبي تُقَدِّم شيئًا مهمًّا يتعلق بسلمى، فهي تجعل أيضًا حُب سلمى في المشيب، ولكنها تُسائِل هذا الشباب وهذا المشيب، وتسائل الوصال ذاته:
(الجديد هنا: الشباب، والمُصَرَّم: الذاهب)؛ فلما كان الحُبُّ ملازمًا للشباب عُبِّرَ عنه به هنا، ولمَّا كان هذا الشبابُ مُصَرَّمًا عُبِّرَ بالجديد المُصَرَّم عن هذا الهوى المتأخر، عن هذا الحب يأتي بعد تقطع أسبابه وذهاب ما يعينه على مؤنته. والمشيب الذي هو قرين العقل، قرين الأناة وضبط النفس «الحِلْم»؛ يجعله مع هذا الحب الطارئي المعاود حلْمًا «متوهَّمًا». وحينئذٍ يستحيل لديه الشباب الذي هو زمن الوصال «زلَّة» لا تعود ولا تتكرر. والأبيات على استغاثة الشاعر بقومه على هذا الشباب الغائب الفائت، الذي هو في مسيس الحاجة إليه الآن ليقابل هذا الهوى، أو يستعين بهم على هذه الأناة، وهذا العقل الذي يخلخله هذا الحب فيُحِيله حلمًا متوهمًا، ولكن لا يزال الشباب في تصوره زَلَّة، فهل هو يطلب معاودة هذه الزَّلة التي لا يمكن لها أن تعود؛ إذ إنها «زَلَّة»!
المبحث الثاني: دلالة الشخصيَّة وخصوصيَّة النمط السردي
(١) إن ما نَدور عليه هنا هو أن الظواهر الفنيَّة في القصيدة الجاهليَّة عندما تؤسس لسلوكها الرمزي والدلالي، فإنها تؤسس أيضًا لقيم سَرْديَّة خاصَّة تتبدَّى من خلالها. إننا نجد في نَصٍّ مثل نص سويد بن أبي كاهل اليشكري ﻣﻔ (٤٠) أن كل ما يتم سَرْدُه حول «سلمى» يُحيل إلى أفعال وعمليات، في حين أحال أكثر السرد مع «رابعة» على تَصَوُّرات وأوصاف. حول «سلمى» أفعال وعمليات تحيل إلى «وظائف». في حين أنه حول «رابعة» كانت نعوت وأوصاف تحيل إلى «قرائن».
وفي حين تتعدد الوظائف حول سلمى وتتنوَّع بانيةً معنى «الانفصال» تتسدد القرائن مع رابعة بانيةً معنى «التواصل» الذي يُمَثَّل بوظيفة واحدة.
والمعنى الذي تمثله سلمى — معنى الانفصال — يُوَطِّئ لوظائف سردية متعددة داخل النص؛ إذ تبدو سلمى مُحفزًا حكائيًّا للمتواليات من حولها، فهي ما يجعل الأحداث تتحرك زمانيًّا نحو الماضي حيث الوصال — معها أو مع غيرها — وكذا تقف بها في الحاضر حيث الوحدة والانقطاع، وتدفع بها في المستقبل حيث السفر والفخر والمدح أو الحرب.
وهي أيضًا محفز الانتقال في المكان حيث الديار والأطلال، وحيث مكانها الجديد الذي نأت إليه، وحيث رحلة الشاعر الوعرة ومتاهة السفر. أما المعنى الذي تمثله رابعة — معنى التواصل — فإنه لا يوطئ لوظائف، وإنما فقط لقرائن تتجَمع حول هذه الوظيفة الوحيدة التي تمثل هذا المعنى.
فبعامة يمكننا أن نقول أن «امرأة الوصال» غالبًا ما يتم بناؤها من خلال النعوت، أما «امرأة الانفصال» فغالبًا ما يتم بناؤها من خلال الأفعال والأحداث.
(٢) وسوف نَعُدُّ نص سويد بن أبي كاهل اليشكري نَصًّا مِحورًا ننطلق منه لفحص هذه الفرضية محل النظر في سائر النصوص.
يقول سويد، وهذا بعض النص:
وقبل أن نتناول شكل السرد حول كلٍّ من سلمى ورابعة علينا أن نحدد في النص علاقة «سلمى» ﺑ «رابعة»، هل هما صورتان مختلفتان لامرأتين، أم حالتان مختلفتان لامرأةٍ واحدة؟ وهل بين الصورتين أو الحالتين وجوهُ تقاطع أو علاقات نفي أو استدعاءً؟ هل وجود «رابعة» في النص مجاورُ لوجود «سلمى»، أم أن ذِكرها نتائج تهيج الشوق إلى سلمى على ما قد يُفْهَم من ب (٨)؟ فيكون خيال الحبيب هو المهيج لكل ما هي علاقات أنثوية، وربما كان أيضًا مؤرقًا فقط لذكر «سلمى» الذي يأتي بعد ذلك.
أيضًا، هل «سلمى» هي الحبيبة، و«رابعة» هي العِوَض، إنه يصف «سلمى» بأوصاف الشوق والهيام وما يجعله مقيدًا إلى حُبِّها، في حين لا يجعل ﻟ «رابعة» غير أوصافٍ خارجية محضة، مادية على كل حال، ويجعلها أيضًا صاحبة المبادرة، وكأنه هو صاحب الاستجابة والتجاوب الذي ربما لم يكن لو لم ترحل «سلمى»!
فهل «رابعة» اختيار الشاعر الأصيل، أم أن ما يريده — «سلمى» — لا يجده. و«رابعة» هي الالتهاء عنها، هي المتعة بعيدًا عن الألم العاطفي والشوق الإيروسي، وأيضًا بما لجمالها من بُدُوٍّ هي السعادة التي يمكن أن يَلْمسها الآخرون، هي الحياة في ظاهرها البادي الجميل بعيدًا عن الإشارة لأي عمق (دون أن تطرح مسألة السطح والعمق أو الظاهر والباطن أو الداخل والخارج لأي دلالة قيميَّة).
شتيتًا (واضحًا) ب (٢) | شتيتًا (كشعاع الشمس في الغيم سطع) ب (٢) | شتيتًا (أبيض اللون) ب (٤) |
وجهًا (واضحًا) ب (٥) | وجهًا (مثل قرن الشمس في الصحو ارتفع) ب (٥) | وجهًا (صافي اللون) ب (٦) |
وحتى على رغم «رابعة»، على رغم هذه «النغمة المعروضة»، هذا «الجمال الفذ المتاح» سيظل الشاعر يبحث عن «سلمى»، عن هذا الوجود المفتقَد والتحقُّق المحلوم، جزء النفس الذي يظل أبدًا ينأى في رحيل دائم، وتعود أطيافه تؤرق في المشيب، بعد فوات الأوان.
وسوف نعيد كتابة الأبيات في مخطط شجري يُبَيِّنُ مركز الشبكة التركيبيَّة الدلاليَّة في الأبيات، ويبين هيئة التراكم حول المركز، محاولين دومًا — قدر الطاقة — أن نحافِظ على هيئة نظم الأبيات. ولن نحذف من العبارة إلا ما قد يعيق التواصل؛ كتقديم أو تأخيرٍ أو حروف عطفٍ يقوم المخطط مقامها، وعندما تتوارى العلاقة الرابطة بين الجملة أو التركيب والمركز سوف نضع علامات صياغتنا للبيت بين قوسين [ ]. وهو بالطبع ليس الشعر، كما أن المخطط بأسره ليس هو الشعر، ولكنها محاولة تقريبيَّة لملاحظة علاقات الارتباط والتفريع.
والمخطط يبين كيف تتفرع الوحدات الوظيفيَّة حول «رابعة» مثلًا أو «سلمى»؛ سواء أكانت وظائف أم قرائن. وهذا التفريع قائم على الأفعال أو الأوصاف في ارتباطاتها الدلالية بالمركز أو البؤرة، بعبارة أخرى ما يتأسَّس حولها من أفعال أو ما يُحال عليها من أوصاف.
يبدو المقطع (١–٧) الذي يُعَبِّر عن «رابعة» في القصيدة نموذجًا جيدًا لهذا السرد الذي يبنيه الشاعر لصياغة شخصيَّةٍ ما من خلال تراكم قرائن وصفية، بعيدًا عن القرائن الفعلية. ويبدو بوضوح في المخطط كيف يمثل البيت الأول معنًى وظيفيًّا هو «التواصل» الذي هو محصلة تفاعل الطرفين (بسطت الحبل لنا ← فوصلنا الحبل منها ما اتَّسع). وبعيدًا عن كونها بداية غير مألوفة تستفتح فيها المرأة وصال الرجل، أو تُباغِتنا القصيدة بإيذان المرأة لرجل في وصالها عبر علاقة لم نعلم عنها شيئًا بعد؛ بعيدًا عن هذا هما على أية حال يستمتعان بوَصْلٍ يشارفان غايته ويستنفدان غوره. وبعد هذا البيت يتحول السرد إلى «رابعة» بما هي امرأة وِصال ليسرد عنها بالوصف، ليراكم النعوت حولها. ويبدو كيف تتجمع هذه القرائن الوصفية حول عناصر أربعة «أسنانها، وجهها، طَرْفها، شعرها»، والعناصر الأربعة معًا تعود إلى حقل دلاليٍّ واحد يتعلق بملامحها الجسدية وتحديدًا الوجه والشَّعر. وتنبني الأوصاف في ذلك بالنظر إلى ما يمكن أن تُوصَف به المرأة على التعدُّد لا التنوع، فيوصف الشعر؛ يوصف بالطول وطيب الرائحة، ويوصف الوجه؛ يوصف بالصفاء والإشراق … إن الأوصاف تتعدد ولكنها تظل تدور في حيز الجسد. إنها فقط ما هو ظاهري خارجي (دون أن يحمل الداخل أو الخارج أي قيمة تزيد عن الآخر). إن أوصافًا ستة تعود إلى لفظ «الشتيت» لتصف فقط لونه الأبيض وطِيبه، وكل تحديد تضيفه الصفة يعود النص ليحدد هذا التحديد أيضًا، ليكون أبلغ في منتهى الاختيار، فهي مثلًا لم تصقل أسنانها بأي شيء وإنما بقضيبٍ من أراكٍ، وهو قضيب ناضرٌ (ناعمٌ أخضر، ريان)، بل إنه طابَ حتى نَصَع (خَلَصَ لونُه للبياض).
وكذا بعد أن يصف النصُّ «الشتيتَ» بأنه «لذيذٌ طعمه»، وهو يعني وصف ريقها بعلاقة المجاز المُرْسل؛ علاقة الجوار والمخالطة؛ يصفه ﺑ «الطيب» وربما عُدَّ هذا الوصف هنا من قبيل الفضالة الوصفية بعد الوصف السابق، غير أنه مرهون بهذه الصفة حال تغير ريق الآخرين، فدلالة المقارنة معهم وتنزيهها عنهم هي موطن الإضافة، خاصةً وأن «الطيب» هنا مذاقٌ في المقام الأول ثم رائحة، أيضًا يقول «بِشْر بن أبي خازم»:
إذ يُشَبه فاها — بعد ساعةٍ من الليل — عند تغير الأفواه؛ بالخمر. لكن على الإجمال مألوف جدًّا في إطار القرائن أن تحيل مجموعة منها على نفس المدلول، وهو ما لا يحدث كثيرًا في الوظائف الرئيسية (في الأنوية والوسائط).
ولعل المخطط يكشف عن الطابع العمودي التراكمي الذي تترابط به القرائن التي تتجمع حول رابعة، وملاحظتها هي نفسها تكشف عن حرية ارتباطاتها فيما بينها، بمعنى أن وصفًا ما من هذه الأوصاف لا يتوقف وجوده على وصف آخر ومن ثَم لا تنشئُ هيئة ظهورها في الخطاب نظامًا ما (على خلاف الأنوية أو الوسائط التي تُنشئ لنفسها نظامًا خاصًّا).
ولَمَّا كان المقطع المُجَسِّد ﻟ «رابعة» قائمًا على هذه القرائن الوصفية على هذا النحو كان «مقطعًا سكونيًّا» موقوفًا على تمثيلها خارج حدود الحدث.
الحدث الوحيد الذي يتقرر لها هو:
إنها على هذه القرائن/الأوصاف حال وقوع هذا الحدث وحال خلافه، وأيضًا هي كذلك دون بُعْدٍ زمنيٍّ يحدُّ هذه الأوصاف، خلاف هذا «الحال» الذي يطلقها في الزمان؛ تجلو شتيتًا … تمنح المرآة …
إن هذا التحييد الزمني أو شبه التحييد وما يُضفيه على المقطع من سكونية يجعل صوره رابعة أقرب إلى «البورتريه» الشخصي، ولكنه بورتريه لغوي؛ يظل خاضعًا لما تخضع له اللغة من فجواتٍ أو مساحات فراغ بين الدال والمدلول، بين العلامة وما تحيل عليه، نتيجة للطابع الرمزي الذي عليه اللغة، وهو ما يتجرد عنه البورتريه التقليدي بطابعه الأيقوني.
والمقطع على الرغم من وصفيته الواضحة والإجمالية يعتمد بعض الأفعال مثل: «تجلو» شتيتًا واضحًا … «تمنح» المرآة وجهًا واضحًا … وطرفًا ساجيًا وقُرونًا … على الرغم من ذلك لا تأخذ الأفعال هنا من الفعلية أو التعبير عن «حَدَث» ما تأخذه مثلًا في مواضع أخرى من النص مثل وصفه للطَّيف بأنه «يركبُ الهَوْل ويعصي مَنْ وَزَع» ب (١١). إن الأفعال «تجلو، تمنح» في مثل هذه المواضع ب (٢)، ب (١٥) أفعالٌ تشارك في بناء الوصفية، هي أفعال لا تُقَدِّم فعلًا إلا قَدْر ما يكشف عن بروز النعت وبيانه. إنها «أفعال مساعدة على بناء الوصفية».
وهنا نتساءل ألا يمكننا أن نتحلل قليلًا من هذا التلازم المتوهَّم في إطلاقيته بين الفعل واصطباغ الوحدة السردية بطابع فعلي لا وصفي.
وخفوت أو تلاشي الطابع الوظائفي السردي للفعل في الجمل السابقة ينضاف إليه سلوك هذه الجمل التي تأتي ظرفية أو وصفية أو حالية، وعمادها الفعل فيما تقوم عليه.
-
(١)
«إذا الرِّيق خَدَع».
-
(٢)
شتيتًا «صقلَتْه بقضيبٍ ناضِرٍ».
-
(٣)
من أراكٍ «طيبٍ حتى نَصَع».
-
(٤)
وقرونًا «غلَّلَتها ريحُ مِسْكٍ ذي فَنَع».
-
(٥)
كشُعاع الشمس «في الغَيم سطَع».
-
(٦)
مثل قرن الشمس «في الصَّحو ارتفع».
فتُثبت الجملة الأولى طيبَ ريقها «حال» تغير ريق الآخرين، مقارنة ريقها بريقهم (حينئذٍ)، وما تقدمه جملة الظرف هنا هي أنها تعلق وقوع هذا الوصف، وهذه المقارنة على هذه اللحظة المستقبلية (إذا …) والدلالة المضمَرة في الجمل اللاحقة قوامها هذه المعاني الوصفية: شتيتًا مصقولًا بقضيب ناضِرٍ، من أراكٍ طيب ناصِع، وقرونًا مغللةً بمسكٍ ذي فنع، كشعاع الشمس الساطعِ في الغيمِ، مثل قرن الشمس المرتفع في الصحو.
إن تحويل الأفعال إلى أوصاف لَمْ يضُرَّ السرد في تركيبتهِ الكلية الإجمالية؛ ذلك أن القرينة تنقطع حَدَثيًّا بنفسها إلا من خلال التراكم الذي يحلل الأحداث إلى أوصافٍ ومعاني.
وهنا يبدو — في إطار العربية — كيف يغدو المفهوم النحوي «للموقع الإعرابي» مُعَبِّرًا تعبيرًا أصيلًا عن طبيعة التراكيب ودلالتها الكلية. فإذا كانت الجملة قد قدمت حدثًا من حيث بنيتها، فإنها دلاليًّا شاركت في التركيب الأوسع بدلالةٍ خلاف الحدث دخلت كقرينة تحيط بفعلٍ ما أو حَدَثٍ بعينه أو على الأعم «إسنادٍ» أوسع. ولا يعني هذا إغفال صفة الحدوث في الفعل؛ فمتابعة هذه الدلالة الوصفية أو الحالية المتحصلة لا تتأتي بمعزل عن متابعة الفعل في الحدوث، ففي قوله: «تجلو شتيتًا واضحًا كشعاع الشمس في الغيم سطع» لا يتأتَّى الوقوف على هذا الوضوح إلا بمتابعة هذه الأحوال المتعددة لتمزيق شعاع الشمس لحجب الغيم، وهذا التبدُّد يرافق انطلاقته. إن الوصف المستفاد هنا مستفادٌ من «حالة»، ولكنه يبقى في التحليل الأخير مجرد «وصف» إن الحدث يقع، والحالة تدور لتوصلنا إلى هذا «الوصف». ومن هنا تَعُد هذه القرائن هذه الأفعال أفعالًا قرينية، وتجعل من القرائن ما هو قرائن وصفية، ومنها ما هو قرائن فعلية، وتظل الأخيرة رغم فعليتها قرينة لا تنتقل لمستوى الأنوية ولا الوسائط.
في الوقت الذي تَجَمَّع فيه السرد حول «رابعة» في مقطع واحد ب (١–٧) تشعثت الأبيات التي تَسْرُد حول «سلمى» وتفرع الحديث عنها إلى حديث عما يتصل بها بأسباب متباينة، فأبيات الحبيبة وخيالها أبيات حول سلمى، فهي من يُصَرَّح باسم الحب معها: «فدعاني «حب» سلمى بعدما …» ب (١٦)، وأبيات الطَّيف أبيات عنها: «أرَّق العَيْن خيالٌ من سلمى لم يَدع» ب (١١–٨، ٤٥). والحديث عن الليل حديثٌ عما يتصل بها وامتداد لإيراق الخيال له ب (١٢–١٥)، وكذلك الحديث عن الفلاة والحرور والفرس ب (٢٠–٢٩) فروعُ الحديث عن سلمى وما يؤسَّسُ حولها من أوصاف، وما تؤسس له من دلالاتٍ ومعاني، ومن هنا تُقَدِّم أبيات الطيف والليل والحرور والفلاة والفرس لواحقَ للسرد حول «سلمى».
وإذا كانت «رابعة» هي امرأة «الوصال» واستنفاد المتعة فإن «سلمى» هي امرأة «الانقطاع» والشوق والبُعْد. وما يقدمه النص من سَرْدٍ حول «سلمى» يقوم بالأساس على «أفعالٍ» تفتح في تعالقها خيارًا منطقيًّا، ويُدَشِّن كلُّ فِعْل لتحولٍ جديد وانعطافة في مسيرة السرد. ومن هنا تصبح هذه الأفعال أنوية للسرد «أو وظائف رئيسية». وتخضع هذه الأنوية أو الوظائف الرئيسية بما لها من طابع «منطقي» في إمكانية تتابعها؛ لعلاقاتٍ تتابعية وزمنية في ذات اللحظة، ومن هنا تُخايل إمكانية التتابع القصصي تتابعيةَ الخطاب منطقيًّا وزمنيًّا.
وعندما يختل نظام التتابع الزمني والمنطقي المتوقَّع لاحتمال التتابع القصصي فإن السرد يدفع بالقارئ — ولو ضمنيًّا — إلى محاولة لإعادة تشكيل الحكاية، وهو ما ليس عديم الجدوى، ذلك أنه يُقَدِّم ما يُمْكن اعتباره سَرْدًا حول «سلمى»، نتبين منه معالم نظامٍ وظيفيٍّ يُقَدِّم «حكاية سلمى، وما كان من الشاعر معها»، هذه الحكاية التي تظل متناثرة عند النظر إليها شعريًّا، في حين يراتب النظر السردي بين علاقاتها ويحدد معاني ما يتصل بها من وحدات وما يشكلها من وظائف، وهو الأمر نفسه الذي استطاع أن يمنح «رابعة» معنًى وظيفيًّا ما في ضوء النسق الكلي للنص بوصفه سردًا.
ولا يقدم النص سَرْده حول «سَلْمى» في تسلسلٍ تتابعيٍ كرونولوجي طبقًا لإمكانية وقوعه المنطقي في الترتيب القصصي، وإنما يُشَذِّره في مواضع متفرقة ويُعَدِّل ترتيب وقائعه.
(أ) فيبدأ بخيالها. ب (٨–١١).
(ب) ثم معاناته الليلَ (الزمن) بعيدًا عنها. ب (١٢–١٥).
(ﺟ) ثم يعود لأول علاقته بها حيث دعاه حبُّها وتملَّكه. ب (١٦–١٩).
(د) ثم يروي الخروج للقاء الحبيب: السفر والمخاطر. ب (٢٠–٢٩).
ويقطع هذا السرد بمدح بني بكر. ب (٣٠–٤٤)، ويعود ثانيةً لسلمى.
(ﻫ) حيث يقرر ثانيةً أرَق الليل وزيادة الخيال عَبر تأريق الخيال له. ب (٤٥).
(و) ثم حلوله بمكانٍ بعيدٍ عن مكانها. ب (٤٦–٤٨).
(ي) ثم يعود للحظة سابقة هي لحظة رحيلها الأول وبداية فراقها. ب (٤٩–٥٠).
ولما كانت مقتضيات الخطاب خلاف مقتضيات القصَّة فإن النص لا يقف عند حدود السرد القصصي الذي يمكن أن يكون.
ﺟ ← ي ← و ← أ، ﻫ ← ب ← د
وإذا ما أعطينا لكل حَدَث رقمه المحتمل في ترتيب الوقوع، فإن الخطاب السردي يكون قد قَدَّم الأحداث القصصية مُرَتَّبَةً على هذا النحو:
لما تكرر الحديث عن الخيال وتأريقه الليل أعطينا له نفس الرقم على اعتبار أنهما يقدمان وحدة وظيفية واحدة.
ويمكننا من خلال هذه الوقائع والأحداث السابقة تكوين وحدات وظيفية أكثر اختزالًا تُشكل السرد حول سلمى. هذه الوحدات هي:
+ ب (٤٦–٤٨) (و) (٣).
والطابع الوظيفي للسرد الشعري لا يتحرى الترتيب التتابعي الكرونولوجي، ذلك أنه يعتمد تقديم وحدات سردية شعرية بالأساس تقدِّم معنًى مُعينًا أو دلالة شعرية ما؛ ومن ثَم فالتراتب بين الوحدات والوظائف، المبني على تتابع منطقي، ربما لا يكون مرادًا مع سَرْدٍ مهيمنًا عليه من قِبَل الشعر الذي يجعل من تشعيث التراتب مقومًا من مقومات البناء.
ويبدو هذا التشعيث هو الأصل الذي تجري عليه القصيدة الجاهلية في عمومية بنائها، خاصة مع مثل هذا الانبناء في إطار «امرأة الانفصال»؛ أما عندما توجد النقلات المنطقية وتبرز أسباب ودواعي الانتقال وتلتزم الأبيات سَرْدًا تتابعيًّا مُحكمًا فإنها حينئذٍ تنحرف عن شائعٍ وتحيد عن مألوفٍ.
وفي الحديث عن سلمى تسير «القرائن» أيضًا إلى جانب الوظائف لتبني معالمها؛ فوحدة الخروج مثلًا تتضمن مثلًا «المخاطرة»، و«الاختبار»، و«النجاة» إن قوامها اجتياز عِدَّة اختبارات كل منها كفيل بالقضاء على الحياة، وهي هنا هي «الفلاة»، «الأعداء» ب (٢٢–٢٤).
-
«واضحٌ أقرابُها».
-
«بالياتٌ مثل مُرْفَتِّ القَزَع».
ولعله يبدو في القرائن من الوصفية والفعلية ما تحدثنا عنه سابقًا.
وهكذا تستحيل مع الوصال و«المباشرة» إلى دُرَّة، إلى البياض والنصوع والصفاء … ولكن هل يتحقق القُرْب واللقاء وتتحول «سلمى» إلى رابعة، أم تظل حاملةً لقُدراتها وطاقاتها ومعانيها وتظل بعيدةً لا تُنال، ولا يُتَوَصَّل إليها.
وهل قول الشاعر: «كم قطعنا دون سلمى مَهْمَهًا …» يعني أنه وَصل إليها بالفعل، أم أنه رحل إليها، وقَصَّ علينا رحلته، وقَدَّم مجهوده على شرف حبها وشوقه إليها، ولكنها أبدًا لا تُطال، وأبدًا لا تُنال، خاصةً وأن دلالات الدُّرَّة في الشعر تُجَسِّدُ قدرة الإنسان على السعي نحو هدفه، والإصرار عليه، واقتحامه الأهوال وتكبد العناء والمخاطرة، ولعل هذا ما حدث بالفعل في رحلته إليها ب (٢٠–٢٩). وكذلك تعني الدُّرة أن الوصول إليها يعني الخلود، يعني كمال اللذَّة، «إن باشَرْتَها قَرَّت العَيْن وطابَ المضطجع» ب (٤٨) إن «سلمى» تتحول هنا إلى «رابعة»، تتحول إلى استنفاد اللذَّة والنعيم.
ومما نتابعه في طبيعة هذا السَّرد الشعري أيضًا:
-
أن التعبير عن الوظيفة يتكرر عبر استعارات مختلفة، على نحو ما نجد في التعبير عن وظيفة «الافتقاد» التي يمثلها التعبير عن طول لحظة الفراق والافتقاد عبر امتداد الليل ومكثه. والأبيات تمثل ذلك عبر:
- (أ)
العود المتكرر للَّحظة الزمنية؛ فما يرحل من الليل لا يلبث أن يعود مَرَّةً أخرى. ب (١٣).
- (ب) الحركة المتباطئة للقافلة؛ إذ تظلع النجوم في سيرها حيث يَجُرها الليل بظلمته ويدفعها الصبح بنوره. ب (١٤، ١٥)، هذا الذي يُمَثل من خلال فَرَسٍ أبيض الحدقة مُسْوَدِّ الوجه والحماليق، وهي استعارة أحدس فيها بأبعادٍ أسطورية بعيدة الاتساع في الشعر العربي؛ فالفرس يدفع النجوم، أضف إلى ذلك صورة الليل أو الظلمة «تسحب» النجوم، التي تسير حينئذٍ متباطئة «تظلع»، هذا إذا أخذنا في حسباننا أن تصور «القافلة» هو التصور الجامع لكثيرٍ من الاستعارات التي تبين حركة النجوم١١⋆ في الليل الذي لا يريم.
- (أ)
-
ومما نلحظه أيضًا امتدادًا للسابق أن كثيرًا من هذه الاستعارات التي تتوارد معبرةً عن وظيفةٍ ما غالبًا ما تعود إلى تصورٍ استعاريٍّ معيَّن أو تصورات بعينها، تضحي هي المعبرة عن هذه الوظيفة.
فالتعبير عن وظيفة «الارتباط» تم خلال الأبيات (١٦–١٩) عَبْر عِدَّة أفعال متوازية في تعبيرها عن الوظيفة، ولا تقدم هذه الأفعال تعميقًا للوظيفة على مستوى الأحداث، إنها تقدم فقط استعارات مختلفة تعبر عن معنى الوظيفة، هذه الاستعارات صادرةٌ بالأساس عن تَصَوُّر استعاري بعينه قوامه أن «الحب سِحْر»؛ بدءًا من هذا النداء الباطني أو القدري العجيب الذي يُسْلِمُ الشاعرَ لحب سلمى، وهو نداءٌ لا يُراعِي ذَهاب سطوة الشباب، وضعفه عن تحمل الجَوى؛ بدءًا من هذا النداء إلى هذا الخبال الذي أفْسَدَ عليه جسده وروحه، إلى هذا التصريح بِفِعْل رُقاها. ب (١٨)، ثم يعين هذه الرقى في أحاديثها العذبة، يقول التبريزي: «جَعَل الرُّقى كناية عن إلطافها في المقال وهشاشتها في الاستماع».
-
ينضاف إلى ما سبق أن السرد الوظائفي حول «سلمى» قد يتم توسيعه استعاريًّا لكن عبر عَدَدٍ من «الوسائط» التي تتمثل في وقائع عارضة تتجمع حول هذه النواة أو تلك، ودون أن تغير مطلقًا في طبيعة الاختيار بالنسبة لاطِّراد الأحداث أو تطورها، ومن هنا تظل وظيفة هذه الوسائط رغم دخولها في تعالُقٍ ما مع نواةٍ بعينها وظيفيَّة مخففة ذلك أنها أحادية الجانب وطفيلية كما يقول رولان بارت.١٢إن اتخاذ الفرس أداةً «للعبور» في نص «سويد بن أبي كاهل اليشكُري»؛ اتخاذه أداةً في وحدة «الخروج» يمثل نواةً أو فعلًا وظيفيًّا في مقابل «المقاومة» و«النجاة»، أما التعريج على أفعال القطاة في ب (٢٨، ٢٩) ليُشبه بها في النهاية فرسه في سرعته، فإن أفعال القطاه حينئذٍ:
-
إشرافها على الماء في الصباح مع شدَّة العطش.
-
تناولها الماء بما يردها على عجلة من أمرها.
-
ثم قصدها أرضًا تنتجعها، ويقول التبريزي والمرزوقي: «معنى «وَجَّهْنَ» أي توجهن قاصدة لأرضٍ كانت نجعتها».١٣
إن أفعال القطاة — حينئذٍ — هي من قبيل «الوسائط الوظيفية»، وإن كانت تعود بنا رمزيًّا إلى اللقاء والاكتمال والوصال والتحقُّق المبتغى الذي خرجت الذات في الأصل طلبًا له: «كم قطعنا دون سلمى …»
-
-
وربما نتوقف أيضًا بعض الشيء، أمام تلك «الأفعال» المكونة لوحدة «الارتباط» بالمحبوبة، فهي أفعال متعددة تتعمد نقطة واحدة، فهل نَعُد الفعلَ الأوَّل هو الفعل الوظيفي وسائر الأفعال الأخرى أفعالًا وسيطة، أم نَعُدُّها جميعًا أفعالًا وسيطة، والفعل الوظيفي هو محصلة هذه الأفعال الوسيطة معًا. ولكني أرى حينئذٍ أن الاقتراح الأول أكثر وجاهةً، خاصةً وأن طائفة الأفعال كلها تعود إلى تصور استعاري واحد، وأن الأفعال الأخرى بعد الفعل الأول لا تفتح طريقًا جديدًا لسير الأحداث أو تعلقه، ولا تقدم خيارات منطقية جديدة لانتقالات الحدث.
(٣) وتتضمن ﻣﻔ (٤٢) ﻟ «جابر بن حُنَيٍّ التَّغْلِبي» بعد معاودة الذكرى التي تقتضي الانفصال؛ تتضمن رحلةً أيضًا، ولكنها هنا ليست «رحلة البحث سعيًا نحو التواصل»، وإنما هي «رحلة التباعُد والنأْي». إن الرحلة هنا هي رحلة سلمى بالأساس أما الشاعر فراحِلٌ وراءها الحافر حذو الحافر. ويُخْتَزَل «البحث والسعي نحو التواصل» إلى وحدات قرينيَّة تصف إقامته انتظارًا للوصل وقضاء حاجته، أو ربما تشي «بالمتابعة» من باب الاقتضاء؛ فتعداد الأماكن التي حَلت بها ثم إقامته ضيفًا على مَقربةٍ من مكان إقامتها الذي عَرَفه، أو ربما ظَنه؛ هذا التعداد يقتضي هذا التتبُّع.
ومع سلمى هذا الانقطاع، هذه الحاجة التي لا تُلَبَّى رغم الانتظار: «لأقضيَ حاجَةَ المُتَلَوِّمِ». ب (٤). ومع حلول الشاعر «ضيفًا» مع ما للضيف من حقوق تزن كل ما لدى العربي من شهامة ومروءة؛ لا تُلَبَّى حاجته ولا يُستضاف، بل إنه حَل أصلًا حيث لا إجابة، حيث لا أحد: «ضيفُ قَفرةٍ». ب (٤).
-
انتقال سلمى بين أماكن متعددة.
-
إقامة الشاعر ضيفًا بالقُرْب من مكان حلولها.
-
اتخاذها الإبل راحلةً لها وحركتها بين قومها.
-
ثم حركة الإبل نفسها بين إناختها وخَطْرها واختيالها.
-
ثم هذا العامل الذي يتدخل لتهييجها للسفر.
-
وهذه المشاهد التي تتحرك حولها دون أن تصل بَعْد لمبتغاها.
-
عدم استيفائها الشُّرْب حِرْصًا على أن تواصل سيرها.
-
صوت جوفها؛ إنْ عطشًا أو حنينًا.
-
صعودها مكانًا علِيًّا.
والتبريزي يصوغ مُحصلة الدلالة النفسية لهذه التفاصيل قائلًا في تعليقه على البيت السادس:
(٤) وفي ﻣﻔ (٦) ﻟ «سَلَمة بن الخُرْشُب الأنماري» تبدأ القصيدة بقوله:
إنها تبدأ بمرحلة ما بعد البَين، وهي مرحلة الاستعادة الوهمية من خلال الخيال الذي لا يفْتأُ يعاوده حالًا بعد حالٍ (على أن تأوَّبَ من الأَوب). أو أنه يأتيه على البُعد والنأْي، مواصلًا سير النهار حتى يتصل بالليل، حتى يتصل السير بالسُّرَى (على أن تأوَّب من التَّأْويب). ويؤكد البيت لزوم المعاودة من خلال العلاقة بين المدين والدائن.
وهذه الوحدة السردية تقتضي منطقيًّا وحدتَي التعرف والانجذاب، ثم الفراق والبُعْد، ولكنها أيضًا تؤسس لاحتمال المستقبل أو ترسم حدود الطريق؛ لتكون العلاقة إما العودة للوصال أو الصرْم الذي ربما يُقْتَل معه خيالها داخله، ويُعَلَّق هذا الشرط في المستقبل على عَوْدتها ثانيةً وإنابتها إليه، هي فرصتها التي يَسنَح لها بها. ولكن لا يُقَدِّم لها مسوغًا جديدًا لعودتها؛ فعلمها بحاله وخلاله يكفيها حتى تنيب إليه.
ثم يتحول النص إلى وصف مكانٍ مُقْفرِ مَخُوف، يتحاماه الناس:
- (١)
دلالة الإقدام والمخاطرة.
- (٢)
ودلالة الخصوبة والنعمة.
ففي الوقت الذي تقدم فيه هذه الصورة دليل فروسية الشاعر؛ تُقَدِّم أيضًا تمثيلًا ربما كان له، باعتباره هو الخصب والنماء وهو أيضًا المتحامى من قِبَلها، أو أنه تمثيلًا لها هي بكونها الخصب الذي يرومه ويراه فيها، تستوحش منه فينفصل ما بينهما. وهنا يقدم لها من المغريات ما يدعوها إلى العودة ويغريها بالوصال، حيث النعيم المقيم والآمال والجمال والقوة، حيث تصوره الأبيات (١٣–٤) غاديًا على فرسه، وتصور شدة السرعة من خلال الوصف.
على أيَّة حال الشاعر ينتقل إلى مكانٍ آخر، غاديًا على فرسه ب (٤–١٣) حيث تُصَور شدة السرعة من خلال الوصف «سبوح»، فكأنها تسبح في سيرها لسرعتها، وأيضًا من خلال الفعل «تدافعني» الذي يُمَثل فيه السير مدافعةً بين الفرس والفارس، وكأن الأمر على التنافس في التدافع والجري، وربما كان الأمر يعني مدافعة كُلٍّ للآخر كلما وَهَنَ سيره وضَعُفَ. ويبدو الخروج هنا مُسَبَّبًا على خلاف ما يحدث كثيرًا، حيث خرج الشاعر على فرسه، لكنه خروج إلى مكانٍ موحش لا يجرؤ أحد أن يرعى فيه، فهل هذا الخروج المخصوص مراكمةٌ للصفات التي تَعْلَمُها، أو بالأحرى تعلم بعضها ويعرض عن الإدلاء بها مباشرة فيسوقها عبر هذا التصوير؟! فإذا كان ما تعلم فلتُضِف إليه هذه الشجاعة وهذا الإقدام، بل وهذا الخير والوعد بالخِصْب والنماء؛ على نحو ما وعد «الجميحُ» «أُمامة».
إن «سَلَمَة» سوف يرعى في هذا المكان المخصِب وسوف يَغْنَى. والفرس هنا بما وصفه فَرعٌ عن تصور الفخر، فلا يزال الحديث ممتدًّا عن الشاعر من خلاله. إن السفر والارتحال والرعي في المكان الموحش والانطلاقة على ظهر هذا الفرس هي بعض خلاله التي «عَلِمَت». ب (٢)، أو ربما لم تعلم، فلتعلم إذن وليعلم الجميع.
(٥) و«سلمى» عند «معاوية بن مالك» أيضًا هي الانفصال والاجتناب الذي يتجدد مع المشيب:
ويتدخل النص بتنويعةٍ أخرى على اللحن الأساسي لمشيب الشاعر فيثبت مشيبَها هي أيضًا، وحين يعود للضَّعف وفوات الأوان يصوره لكليهما ب (٢–٥). وفي مقابل هذا الانفصال وذاك المشيب يستدعي دونما تفصيل ذكر أيام الشباب.
أيام كان قادرًا على وصالها ووصال غيرها:
ثم وقف على أطلالها معلنًا وفاءه لهذا العهد القديم بمساءلتها عن أهلها، بعدها يقطع القِفار على ناقته في سيرٍ طويلٍ يحمل صاحبهُ على تمني العودة لوطنه وهذا في بيتين اثنين، بعدهما يشير لبعض أفعاله وما قام به من مهمة صلح بين قبائل كعب، ويمدح ويفخر. ب (١٢–٢٥).
ومع «المُسَيَّب بن عَلَس» ﻣﻔ (١١) تأتي وحدة الفراق الذي يكون بلا قناعٍ، وتغيب وحدة الطيف والخيال، ولكن يثبت النص الشوق إليها. وبصيغة المضارع يأخذ «المسيبُ» في وصف «سلمى»؛ ومن ثَم فحضورها في هذا الوصف حكاية وَصْفٍ غير زمني، ذلك أنه وصف معالم الجَسَد التي يرويها الشعراء عندما يتحدثون عنها ماضيًا. والمشهد في إجماله ب (٣–٥) حكاية عن نفسه يُستْبدل فيها ضمير المتكلم بضمير المخاطب، أو أنه ضمير المخاطب يستوعب سياقيًّا ضمير المتكلم: «إذْ تَسْتَبِيكَ بأصْلَتيٍّ ناعِمٍ …». ب (٣)، إذ الشاعر يحكي عن وصفها لحظات الوصل الماضية قبل رحيلها.
بعد هذا المقطع يعود الشاعر ليقرر اجتنابه هذا الحب الذي يفارق حكمة المشيب ووقاره ويقرر صحوته الكاذبة، ودليل كذبها هو أنه لا يزال يعاني وطأةَ حُبها ولا يزال يرحل على ناقته. ب (٧–١٤).
والجدير بالذكر اعتماد النص في وصفه سلمى ماضيًا بوصفها امرأةَ وِصال على هذه الصفات المعهودة، وتقديمها من خلال هذه القرائن الوصفية أيضًا:
على أن الأهم فيما نشير إليه هو أن هذه الصيغة السردية القرينية التي تتملك السرد حول سلمى هي هُنا نفس الصيغة السردية القرينية التي يؤدى بها السرد حول الناقة. إن المقطع تواتر للأوصاف حول الناقة، تقف منها خارجيًّا كما يقف النص من سلمى الوصال.
وفي القصيدة نَعَتَ الإبل المبيعةَ وأهاب بزرعة بن ثوب أن يَرُدَّ الإبل، وهجاه أشد الهجاء وأقذعه، وتهدده أن يُشهِّر به وبخدعته الثعلبي، ونوَّه بعدُ بوفاء كثير من العرب.
وفي القصيدة «سلمى» هي الوصال المنبَتُّ في الحاضر، ولكن لا تزال حرارة الشوق حاضرة. ويقف على أطلالها ذاكرًا هذه اللحظات النديَّة، عبر هذه المحاضر التي كان يعهدها بها. وهو هنا لا يسافر ويحارب وإنما يتوسع قليلًا في ذِكْر ذكريات الوصال فيروي مشهدًا يأتي في شرح التبريزي في الأبيات (٥، ٦):
على أن دلالة هذا الحوار تبدو مَوْصولةً بطرفٍ إلى تلك القصة التي تختزل الحكاية في القصيدة، إن التبريزي يقول معلقًا على البيت الخامس:
إن الوفاء بالوعد قيمة جامعة بين سلمى مع الشاعر وبين الشاعر من مع من استصرخه ليُردَّ عليه إبله، إن الحاجة (اللُّبانة) وقضاءها يَصلُ ما بين التشبيب وما يَسْرُده الشاعر حول رَد الإبل.
ونشير أخيرًا إلى أن هناك نموذجين للقصيدة التي يُشبَّبُ فيها ﺑ «سلمى» بوصفها امرأةَ انقطاع وفراق:
الأولى: فيها البَين والفراق، وفيها الرحيل على ناقة، أو سفر سلوة عنها، أو سفرًا إليها، أو دونما تحديد لعلاقة السفر بها، ولكنه في معظم الأحوال «يرحل». والسفر على هذا النحو هو سفر الشاعر ورحلته، وليس سفرها أو رحيلها الذي قد يعرض الشاعر أو يقرره، ذلك إنها على الدوام قد نأت وانقطع في الحاضر ما بينهما.
فالخيال يتأوَّب «سَلَمةَ بن الخُرْشُبِ» ﻣﻔ (٦)، ويبدو بَيْنها عنه الذي يدفعه لِأنْ يبين لها مذهبه في الحب وكيف أنها إن وصلت وَصَل وإن هجرت هجر «فإنِّي بحمد الله وصَّالٌ صَرُومُ» ب (٢)، الأمر الذي يدفعه لأن يبين كيف يرعى على فرَس سريعة نشيطة وكيف يغدو بها، ولا شك كيف يبدو السفر وتجشُّم العناء لونًا من الفخر المُقَنَّع برواية الموقف الفعلي والعاري في كثير عن وجه النظر.
ويبدأ نص «المُسَيَّب بن عَلَس» ﻣﻔ (١١) من الفراق دونما متاع، وتغيب وحدة الطيف أو الخيال ولكن مع إثبات التشوق إليها، يصفها بوصفها امرأةَ وِصالٍ ماضٍ ثم لا يلبث أن يعود للحاضر المُنْبَتِّ؛ حيث صحوة العقل وسُلُوُّه بناقة قوية سريعة يأخذ في وصفها.
-
وفي قصيدة «المرقِّش الأكبر» ﻣﻔ (٤٦) يؤرقه طيف سلمى بعد ما نام الصِّحاب وتنكشف المسافة الفاصلة فيما بينه وبينها لرؤية بَصَرية «على أنْ قد سَما طرفي لنارٍ …»
ليراها عَبْرها حيث حَلَّت بعيدًا بين صويحباتها، وكذا يقرر انفصالهم المكاني، ثم لا يلبث أن يقدم أوصافه المادية لامرأة الوصال التي يتحدث عنها ﺑ «رُبَّ». «وَرُبَّ أسيلةِ الخدَّين بكر …» ولعل سمو الطرف رحلة عجائبية من نفس الباب الذي يأتي منه الطيف والخيال فيمثُل مُثول المحبوبة تمامًا ويؤدي فعالها ويبُثه الشاعر لواعجَ شوقه.
وإذا كان شعراء المفضليات يقرُّون معاودة حب سلمى لهم في مشيبهم فإن «معاوية بن مالك» ﻣﻔ (١٠٥) يقرر مشيبها هي أيضًا، ثم يعود لأيام شبابه وما كان يصيد من كل مخبَّأةٍ كَعَاب، ويذكر وصالهما السابق ووفاءه لهذا الوصال بمساءلة ديارها. وكذا تتقرر ضمنًا وحدات اللقاء والوصال، ثم الفراق، والرحيل، ثم معاودة الذكرى، ولا يلبث أيضًا أن يذكر السفر وقطع القفار — في شيء أقرب إلى الفخر — على ناقة في سفرٍ طويل يحمل صاحبَهُ على تمني العودة لوطنه.
هذه نصوص تُسَاند النص المحوري الذي ننطلق منه وهو نص «سُوَيْد بن أبي كاهل اليشكُري».
ولكن في نموذجٍ آخر تَحُل هذه الوحدات المصاحبة لامرأة الانقطاع، ولكن تُسْتَبْدل بتيمةِ «السفر» تيمةَ «الحرب»، وفي تصوري أن كليهما فَرَعٌ عن الفخر الذي هو استلهام مقومات الذات الداخلية التي بها يواجه الانقطاع مع الخارج — مع المحبوبة.
يذكر «جابر بن حُنَيٍّ» ﻣﻔ (٤٢)، دونما طيفٍ أو خيالٍ اعتياده الصبابة والشوق ويأسَف لمفارقة الشباب، ويقف على ديار سلمى مُقدمًا بالتبعية موقفَي الانفصال والرحيل، ويصف رحلةً، ولكنها رحلتها هي بعيدًا عنه، والناقة التي ظلعت عليها هي توسعه لدالِّ الانفصال والرحيل. وبعدها نجد حُزْنَهُ على تفرق قومه وفخره بماضيهم وذكره الحرب وبلاءهم فيها وتحدُّده اليومَ «يوم الكلاب الأول».
وفي قصيدة «الحارث بن ظالم» ﻣﻔ (٨٩) تنأى «سلمى» وتحُل في مواطن الأعداء، ويقطع سيفه ما بينهما من وصال بقتله واحدًا ممن حَلت بهم، وهو ما يقطع الطريق على مجرد إمكانية الوصال. يتلو هذا الانقطاع شاهدُ حَرْب وفخرٍ بفروسية الشاعر. ويُعَرِّج على مَدْحٍ بعد ذلك.
وكذا يَعْرض بِشْر بن أبي خازم ﻣﻔ (٩٦) ليوم النِّسَار وما كان فيه من فتْك بالأعداء وتشتيتٍ لشملهم وإلحاقٍ للهُون بهم، تمامًا بعدما ذكر أولًا أطلالها ورحلتها والنيَّة التي انتوتها.
(٧) وإذا كانت سلمى على النحو الذي بيناه، وارتبطت بذلك النمط السردي، فسوف نؤكد الأمر بفحص عينةٍ أخرى خارج المُفَضَّليات — حيز البحث الرئيس — وسوف نتخير عددًا من الشعراء الجاهليين هم بعض من تواتر عنده اسمُ سلمى، وعلى سبيل المثال سنفحص افتراضنا في شعر كُلٍّ من طَرَفة بن العَبْد، وزهير بن أبي سُلْمى، وبشر بن أبي خازم.
ومما يلفت النظر أيضًا أن كثيرًا من الدلالات الأبْعَد التي تكونت لدينا عن امرأة الوصال أو امرأة الفراق من خلال نص «سُويد» أو بعض نصوص المفضليات الأخرى؛ يأتي نص طرفة هذا ليعضدها بعبارات أوضح وأكثر توكيدًا فيقول مثلًا:
فإلى جانب اقتران الوصال بزمن فورة الشباب، الذي يقتضي اقتران الانقطاع بالمشيب — وهوما تؤكده جُل النصوص — يؤكد البيت على قيمة «الطمأنينة والوصال»، وما يجاورها من رفاهية و«سعادة». وهو ما قررناه مسبقًا من أن أنثي الوصال هي المتعة بعيدًا عن الألم العاطفي أو الشوق «الإيروسي»، هي اللذة والجمال بما له من بُدُوٍّ.
ولا يلبث خيال سلمى أن يزور الشاعر محاولًا استعادة الوصال الماضي، وهنا يَعْرض عدد من المثبطات التي كان بإمكانها أن تحُول دون وصول خيالها إليه بعد رحيلها وسُكنها بلادًا بعيدة. هذه العوائق التي تجاوزها الطيف هي: البلاد الكثيرة الفاصلة فيما بينهما، الجبال، الأماكن الغليظة والمرتفعة الوعرة، والأماكن المتشابهة المعالم التي يضل بها الساري، العدو الذي يحول دون مواصلة السير. وهنا بما هي بين سلمى وطَيفِها. وما يصدق على البشر يصدق على الطيف. فهي/الطيف لم تصبر على هذا العناء إلا لُحبِّها له. ولخيالها أيضًا ما لها من أوصاف حتى نعومة أطرافها وضَعْفِها المُتَرَف:
فلم يكن يعلم أنها تستطيع السير على الأقدام في رحلةٍ شاقة، وسط هذا الليل الشديد الظلمة، حتى رأى فِعْلَ خيالها. ويعتمد طَرَفة بعد ذلك قصة جَدِّه المرقِّش الأكبر — فالمرقش الأكبر عم المرقش الأصغر الذي هو عم طرفة — يعتمد هذه القصة لِيُمَثل حُبه لسلمى. وهنا يُمَثل طرفة لما هو تقاليد شعرية بمواقف حياتيَّة وحوادث معلومة. إنه يستعيض عن وقائع حبه مع سلمى بوقائع حب المرقش مع أسماء، فَيُعاضِد ما هو تخييلي ما هو واقعي بالأصالة، أو ما هو واقعي مُمَثَّل عبر نصوص تخيِيليَّة كشِعر المرقش الأكبر الذي يشير للحادثة. ويُقَدِّم طَرَفة حكاية داخل حكايته هو، داخل حكاية طرفة مع سلمى ثمة حكاية المرقش مع أسماء، يستلهم مفرداتها ووقائعها ليسحب دلالات المواقف على نفسه، على حكايته الأوسع.
إن أسماء في نص طَرَفة تَبِين عن المرقِّش، ولكن بأمر أهلها، وانقطع الوصال بتزويجها من آخَر، فيرحل المرقش وراءها:
إن التَّرَحُّل يُقَدَّم عِوَضًا عن هذا الأرق، وهذا الألم المعنوي الذي يصيب جسده وروحه. وهنا يُقَدَّم سَفَرُه إليها حيث هي أملًا في عودة وصالها أو رؤيتها، ولكن يُحالُ دون وصالها بموته. وهنا يجعل طرفةُ المرقش في موضع مَنْ دفَعَ حياته ثمنًا لأمل الوصال:
وكما تَغَرَّبَ حَيًّا وراءها تَغَرَّب جُثمانه، فلا يُتَوصَّل إليه إلا بعد شهر في سفر متواصل. ويعود طَرَفة ليؤكد هذه الدلالة الكبرى التي تتأصل دومًا بسلمى أو بأنثى الانقطاع وهي دلالة «الفقد».
وعند زُهَيْر ترد سَلْمى في عِدَّة قصائد، كانت إحداها في ق (٢٨) ومطلعها:
مماهية كانت هي أنثى الوصال الماضي، حَلَّتْ فيها صفات الظبية فأخذت الصورة في وصفها بين الحبيبة والظبية، وكذا راكمت حولها الأوصاف التي لاحظناها مسبقًا حول عيونها وحديثها، وكذا ارتباطها من خلال صورة الظبية بالشمس والخصب والنماء، وهذا خلال الأبيات (٤–٨). وكان قَبْلًا قد ذكر امرأتين؛ «ابنة مُدْلِج»، و«ليلى». وهو أبدًا لم يَسْلُ عمَّن أحب، وكلما هاجته الذكرى تَهَيَّج ب (١–٣). على أنه يُعْقِبُ سلمى تمامًا بوصف طريق السفر ويتَعَرَّض لمخاطره، فهو طريق مهجور مَخُوف تنتشر فيه الجبال، ويَتَفَرع فيضل به الساري، ثم يُعْقِبُ هذا السفر بفخرٍ ب (١٣–١٩).
وفي ق (٣٠) ومطلعها:
يقف زهير على الأطلال ويتذكر أيام الصِّبا وتَوقَه إلى سلمى وأهلِهَا بعدما أوجعه فراقها وأوجَعَه بُعْد المسافة. ب (١–٩)، ثم ينتقل إلى السفر على نُوقٍ نجائب تقطع الطرق الصعبة إلى خَيْرِ مَنْ يراه أهلًا للثناء والمدح.
وفي ق (٢) ومطلعها:
يذكر صحوته عن حُبِّ سَلمى، ولكنه يعود فيكذِّبُ هذه الصحوة، وأنه لا يزال يَشْقى بحبها، ولا يزال خيالُها (ذِكْرُها) يتأوَّبهُ كلما هَجَعَ فَيُقْسِمُ لَيَرْتَحِلَنَّ بالفجر ويدأبَنَّ إلى الليل لا يوقفه شيءٌ، إلى قومٍ كِرامٍ شجعان يُسْرِعونَ إلى نُصْرَةِ المظلوم، مازجًا بين المدح والحرب.
وفي ق (٣) ومطلعها:
يَدَّعي مفارقَتَه حُب سلمى بعدما زال عنه بالفعل شبابُه ووَعَظه شَيْبُه، ثم يقف وقفةً عميقةً أمام الشيب والأطلال، بعدها يركَبُ فرسَهُ القوي النشط في رحلة صيد! ثم يتحدث عن هذا الرجل المعطاء تلومه العواذل، يمدحه ويُثْني عليه.
وفي ق (١٢) ومطلعها:
يقف زهير على طللٍ ثابت على قِدَم الدَّهر لا يَبْرَح، ولكنه خلا مِمَّن يحب وينتظر، لقد عفا من أَهْل لَيْلى. ب (١–٤). وفجأة يذكُرُ خيالات سَلْمى ب (٥)، التي تعتاده كما يعتاد ذا الدَّين الغريمُ. والذِّكْرُ والخيالُ على هذا القِصَر يستحضر سيناريو العلاقة كما حَدَّدْناها كاملًا. ويُعْقِبُ الحديث عن سلمى مباشرةً مَدْحَه لهرَم بن سِنان.
وفي القصيدة الرابعة من الديوان يقف «بشر» على الأطلال باكيًا. ب (١–٣)، بعد أن رحلت عنه «سلمى» وسلت عنه. ب (٤). ويذكر صدودها عن مشيبه ونأيها. ب (٥)، محاولًا الاستغناء عنها بامرأة الوصال:
وفي النهاية هجاءٌ وفخرٌ بالحَرْب. ب (٧–٢٠).
أما في القصيدة (٢١) فنجد الأطلال وذِكْرَه سلمى المُفارِقة كَذكْره حبيبًا مفارِقًا بالموت ودمعه عليه. ب (١–٤)، ثم سفره وقطعه القفار على ناقة شديدة يصفها ويشبهها بالثور تهاجمه كلاب الصائد فيقتلها. ب (٤–٢٢).
ويذكر بشر أطلال الديار في ق (٢٣) وما عفاها من مَطَر ورَعْد، ويسائِلها ب (١–٤)، ثم يذكر رحيل سلمى وأهلها عنها ب (٥–٨). ثم يكون السفرُ إمضاءً للهموم على ناقة قويَّة شديدٌ سيرُها ب (٩–١٠)، ثم تكون الحرب ب (١٢–٢١).
وفي القصيدة (٣٢) أسفٌ على ما فاتَ من أيامٍ ب (١). ثم رحيل سلمى وتذكرها وسط أطلالها ب (٢–٥)، ثم السفر على ناقة قويَّة سريعة تسلية للهمِّ من جَراء رحيل سلمى ب (٦، ٧)، ثم فخر ب (٨–١٤).
وفي القصيدة (٣٤) رحيلٌ لِسَلْمى وانقطاعٌ لما بينها وبين الشاعر ب (١). ثم ذِكْرُ أطلالها وديارها ب (٢)، ثم وصف سلمى في ماضي وصالها ب (٣–٥)، ويُعْقِبُ ذلكَ تَسْليتَه هَمَّه بسفرٍ على ناقةٍ قويةٍ سريعةٍ ب (٦–٩)، ثم هجاءٌ وفخرٌ ب (١٠–٢٠).
ومع ما بَيَّنَّا يأخذ الفراق شكلًا آخر عند «المُزَرِّد بن ضِرار الذُّبياني» ﻣﻔ (١٧)؛ إذ الحب عنده إغفاءة أو غفلة سكر:
إن تعبير «صَحَا القلبُ» يبدو هنا تعبيرًا مراوِغًا ينفي ما يحاول إثباته، ويثبت النص ما يحاول نفيه، فالصحوة انكشافٌ وتيقُّظ من هوًى أو غفلة، فما كان حب سلمى يفارقه، على ما في مفارقته له من بُطءٍ، حتى فارقه الشباب وعلاه المشيب، ولكن معالجة النص للمشيب والإحساس به، وكذا استدعاء ماضي العلاقة ﺑ «سلمى»؛ يقدِّم دليلًا على بقاء حبها ومعاناته، فمعالجته هو ما يولِّد هذا الشعور بالانقطاع والتجاوُز والبُرْء من السقم. كل ما في الأمر مناقشته التي انتقلت إلى حيز الوعي الناقد البصير، الذي ربما يكون أكثر قدرةً على الإحساس بالفراق والانقطاع، ويبقى النص شكوى تنطلق من الحاضر الزمني للنص. إن استدعاء «سلمى» الوصال جزء من افتقاد الحاضر له، أو هو حضور الماضي أو ربما حلم بمستقبل لا يجد بين يديه ما يحيل إليه.
وإذا كان هذا الحب، هذا الوصال، هو ماضي العلاقة التي يصفها، وكانت الصحوة هي القادرة على وصف الماضي، وصف الوصال، وصف حال الغفلة بوصفها نعيمًا مقيمًا وفردوسًا مفقودًا، فإن الصحوة هنا بما هي ضديد للغفلة هي القادرة على رؤية الحب ووصفه وتقييمه، هي القادرة على إدراك محطات الوصال ولحظات الفراق وعمقه، هي القادرة على ترتيب استعادته وتجميع علاقاته. إن الشاعر، وإن زايلته بعض أمارات صبوَته، فلم يفارق الشوق، ولم تدابره الذكرى التي هي الحاضر. إن صحوته لم تكُن صحوةً عن الحب قدر ما هي صحوة عن اللوعة فقط.
وعندما سلا زهير بن أبي سُلمى أيضًا في نَصٍّ آخر عن حب سَلمى:
عندما سلا عن حبه لسلمى وفاجأنا بهذا على غير المعتاد مع سلمى التي دومًا ما يؤرِّق طيفُها ويهجم حُبها على كِبَرٍ؛ لم يلبث بعد بيتين اثنين أن عاد فكذَّبَ هذه الدعوى وقال:
إن هذا التكذيب وهذه المعاوَدة يؤكدان الدلالة الأخيرة التي يبثها وتتواتر في جُلِّ النصوص.
بقي أن نشير إلى أن صحوة القلب تُضْمِر — فيما أتصور — فعلًا كانت هذه الصحوة نتيجةً له، لعله البُعْد أو الرحيل والهجران وانقطاع السُّبُل وامِّحاء العلامات الهادية إليها، وعمومًا إنها تُضْمِرُ يأس اللقاء.
يقول المُزَرِّد بن ضِرار ﻣﻔ (١٧):
إن السرد حول سلمى هنا بما هي «امرأة وصال» قائم على ما تم ذِكْرُه من قرائن، إنه لا يخلق وظائف رئيسية أو أَنَوية كما الشأن (امرأة الانقطاع).
وهذه الأوصاف القرينة تطالعنا أيضًا مع المُسَيَّب بن عَلَس ﻣﻔ (١١) عندما يتحدث عنها بوصفها امرأةَ وصالٍ يصحو عنه، ويمثلها المخطط التالي:
إن المقطع يبني على القرائن الوصفية وما يأتي فيه من أفعال تدخل مسانِدَةً لإنتاج هذه الأوصاف ففعل «الذوق» ب (٤) لا يبني ولا يشارك في سلسلة من الأحداث، وإنما فقط يوصلنا إلى مذاق الخمر.
ولا يَبعد الفعل «فَتَن» ب (٣) عن الفعل «سَبَى» السابق عليه، ومن ثم فهو لا يفتح اختيارًا جديدًا ولا يقدم إلا الإخبار عن عَرْضها محاسِنَها الدقيقة والجليلةَ عليه؛ تفتنه بها وتسبيه.
وكذا يتحدث المرقِّش الأكبر ﻣﻔ (٤٦)، بعد ذكره لسلمى وانقطاع ما بينهما من وَصْل عن أنثى الوصال دون أن يحدد اسمها، وإنما كَنَّى عنها بأوصافها:
ويحدد تمامًا أنها امرأة وصالٍ ولهو، ويحدد كذلك ارتباطها بالماضي.
لقد كان الاسم عندهم قوة حيَّة، فقد يعني اسم الطفل شكرًا للإله، أو تعويذةً سعيدةً تُتلى عند العُزْلة، أو صلاةً من أجل الطفل المولود حديثًا، أو تعويذةً تُقال ضد أعداء مصر. وكان يُمكن ترجمة كل اسم إلى جملة تزخر بالأهميَّة، ﻓ «خوفو» معناه: «عسى أن يحميني»، و«رمسيس» معناه: «خَلَقَةُ رَعْ»، وهكذا.
(انظر: جورج بوزنر وآخرون: معجم الحضارة المصرية القديمة، ترجمة: أمين سلامة، مراجعة: د. سيد توفيق، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط٢، ١٩٩٦م، ص٣٣).
ويبدو أن الاعتقاد بكون اسم الشخص أو الشيء هو جوهر هذا الشخص أو الشيء ذاته كان معتقدًا شائعًا في الثقافات القديمة بعامة؛ ففي «الأوديسة» يجيب «أوليس» العملاق «بوليفيم» الذي كان يتوعده ويسأله عن اسمه بحيلة أن اسمه هو «لا أحد»، وهي كلمة غامضة في الإغريقيَّة والفرنسيَّة، تنصرف للنفي كما تنصرف لأي أحد. ذلك أن معرفة اسم الشخص كانت تسمح بالسيطرة عليه سحريًّا (وغير بعيد عن هذا ارتباط السحر باسم الشخص، واسم الأم في الثقافة الشعبية المعاصرة في العالم العربي)، وفي الصين أيضًا كانت معرفة الاسم وقول الكلمة هو امتلاكٌ للكائن أو إنشاء للشيء، فكل حيوان يُرَوِّضه من يعرف اسمه. وللآن في أفريقيا عند بعض القبائل هناك اسمان لكل شخص، اسم معروف واسم سري، وذلك لكيلا يكون للجنيات سلطان عليه، لأن الاسم هو الشخص (انظر: فيليب سيرنج، الرموز في الفن والأديان والحياة، ص٤٣٥، ٤٣٦).
انظر: والاس مارتن، نظريات السرد الحديثة، ترجمة: حياة جاسم محمد، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٨م، ص١٥١–١٦٠.
انظر: فيليب سيرنج، الرموز في الفن – الأديان – الحياة، ص٤٣٥–٤٣٨.
وهنا يؤسس التمتُّع أو الوصال لقيمٍ سَرْدية خاصة هي القرائن الوصفية، في حين يؤسس الانفصال لوظائف سردية رئيسية، لأَنوِية يحيط بها قرائن وصفية وفعلية، وربما تخلل هذه الوظائف بعض الوسائط.
وتبدو الشمس مانحة هذا الحُسن وهذا البياض الذي يرى فيه العرب جمال المرأة، يقول طَرَفة بن العَبْد:
وهناك الكثير من مجموعات النجوم والكواكب تأخذ أسماء الناقة وأوصافها، وحتى تشبيهها؛ كالعنتريس، وجعفرة الناقة، والشماريخ، وأدمى النعام، والرئال، وغير ذلك.
انظر: د. نصرت عبد الرحمن، الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، مكتبة الأقصى، عمان، ١٩٧٦م، ص١٣٢–١٤٦.
نحن معنيون هنا بما تهيئ له امرأةُ الانقطاع أو الفراق من وحدات ووظائف سردية داخل النص الجاهلي، أما تسويغ هذه الأشكال ودلالاتها في كل نص، فليس هو مطلب هذا الكتاب، ويمكن أن تنفرد به دراسة بِنيَوية تبحث في علاقات ارتباط التيمات النصية والموتيفات داخل القصيدة.
انظر: د. مصطفى ناصف: صوت الشاعر القديم، ص٢٢٧، ٢٢٨. وفي بحثه: «صحوة القلب في الشعر القديم»، يطلق د. أبو القاسم رشوان على صحوة القلب عند المزرِّد بن ضرار: «صحوة الهجاء والوعيد»، فالمزرد لم يُعرِض عن الشباب وما كان فيه من عشق الحسان، ورفقة الشبان، ومنادمته الكرام، وإنفاق الأموال، وامتطاء الحصان، وامتشاق الحسام، ومصاحبته الحسان؛ إلا ليفرغ لمن ينتقصه بظَهر الغيب، وليتوعده بالهجاء المُمِض.
راجع: د. أبو القاسم أحمد رشوان، صحوة القلب في الشعر القديم، حوليَّة الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة، الجامعة الإسلاميَّة العالميَّة بإسلام أباد، باكستان، العدد السادس، ١٤١٩ﻫ/١٩٩٨م، ص٢٢٧–٢٥٨. وحول المُزَرِّد خاصة: ص٢٤٢–٢٤٦.