طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد١

لعبد الرحمن الكواكبي (١٨٥٤–١٩٠٢م) قراءةٌ جديدة

(١) الاستبداد في الفكر العربي المعاصر

إن قراءة الفكر العربي لِذاته هي في نفس الوقت تجديدٌ له، ربطًا للماضي بالحاضر، والحاضر بالماضي، بعدَ ما يقرب من قرنٍ من الزمان، فقد تَغيَّرت الظروف منذ فجر النهضة العربية الإسلامية الأولى في القرن الماضي إلى ردة هذا القرن، وربما فجر النهضة العربية الإسلامية الثاني في مطلع القرن الجديد؛ فقد اكتملَت الدورة الأولى في الفكر العربي الحديث على مدى قرنَين، وبدأَت الدورة الثانية للفكر العربي المعاصر بدايةً بهذا القرن. وإذا كان الاستعمار الغربي هو الدافع على النهضة الأولى، فإن الصهيونية الاستيطانية في فلسطين هي الدافع على النهضة الثانية.

وإذا كان تحرير الأرض، ومقاومة الاستعمار والصهيونية كان هو الغالب على النهضة الأولى، فإن الدفاع عن الحرية والديمقراطية، حرية الفرد وديمقراطية الحكم، هو الغالب على النهضة الثانية. كان مشروع الأفغاني الإصلاحي، الإسلام في مواجهة الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل؛ فقد تحقق النصف الأول منه في النهضة الأولى، وما زال الفكر العربي المعاصر، يحاول تحقيق النصف الثاني منه في النهضة الثانية، بالرغم من صعوبة المخاض والأزمة الراهنة، غياب الرؤية والعجز.٢
وقضية الحرية والديمقراطية ليست مجرد نُظمٍ ملكية أو عسكرية، تجعل الحكم وراثةً أو شوكة، وليست مجرد قوانينَ استثنائية مُقيِّدة للحريات، وأحكامٍ عرفية، وقوانينِ طوارئ، وأجهزةِ أمن وتجسُّس، واعتقالاتٍ وسجون، وتزييفٍ للانتخابات، وتأليهٍ للفرد؛ فلا فرق بين الله والسلطان في الوعي السياسي، وتعدُّديةٍ حزبية شكلية لحساب الحزب الحاكم، أو حزبٍ واحد حاكم يستبعد كل أشكال التعدُّدية وتَداوُل السلطة. القضية أصعب من ذلك بكثير؛ إذ تمتد جذورها إلى عمق الموروث الثقافي، بعد أن ترسَّخ في الثقافة الشعبية، وأصبح جزءًا من الوعي القومي؛ فأزمة الحرية والديمقراطية في واقعنا المعاصر إنما تمتد جذورها إلى الموروث الثقافي في الوعي القومي، وما تبقَّى فيه من تصورٍ هرمي أو مركزي أو رأسي للعالم، يُعطي الأعلى ما يسلبُه من الأدنى، الأعلى يأمر والأدنى يُطيع، كما هو معروفٌ في الثنائيات التقليدية الموروثة، التي تُحدِّد العلاقة بين طرفَين، بين الأعلى والأدنى وليس بين الأمام والخلف، في محورٍ رأسي وليس في محورٍ أفقي، مما ساعد على خلق المجتمع الأبوي المُمثَّل في شخصية «سي السيد».٣ ولا يعني ذلك إغفال باقي العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ فهناك تفاعلٌ بين العوامل المادية والمكوِّنات الثقافية في الوعي الفردي والوعي الجمعي، في ثقافة الفرد والتصوُّر الجماعي للعالم.

(٢) طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد

ومن المساهمات الأولى في رصد هذه الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في الوجدان العربي المعاصر «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي (١٨٥٤–١٩٠٢م)، وهو من أجمل العناوين وأكثرها دلالةً في الفكر العربي الحديث والمعاصر، يتجه مباشرة نحو الموضوع، الحرية والديمقراطية في صيغته النافية، الاستبداد والاستعباد،٤ يجمع بين النظر والعمل، بين البحث عن طبائع الاستبداد والبحث عن مصارع الاستعباد؛ أي طُرق التخلُّص منه، وهو بحثٌ في الماهيَّات أي في الجذور والطبائع، أكثر منه بحثًا في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، هو بحثٌ فلسفي وليس بحثًا اجتماعيًّا، مُحرِّرها وليس مؤلِّفها الرحَّالة «ك»، وليس المُفكِّر والمُصلِح والعالِم الكواكبي؛ فالرحَّالة هو الذي يستمد فكره من تجاربه ومشاهداته، وليس من المصادر المدوَّنة القديمة، والرمز «ك» يعني أنَّ أيَّ رحالة قادرٌ على الوصول إلى نفس النتائج، بوصفها خبرةً جماعية مشتركة، وربما حمايةً لنفسه وتستُّرًا من حكام الطغيان،٥ ويعترف هو بهذين المصدرَين، «منها ما درستُه ومنها ما اقتبستُه.»٦ ولا يُشير إلى مصدر الاقتباس، بل يكتفي بذكر «المؤرِّخين المدقِّقين»، «المدققين»، «المدققين السياسيين»، «العلماء الآثاريون»، «بعض الحكماء»، «أحد المحرِّرين السياسيين»، «المحرِّرين»، «أهل النظر في أحوال البشر»، «المتأخرون من أهل أوروبا»، «المتأخرون من الشرقيين» … إلخ، ولكن الكواكبي يُعيد قراءة الوافد لإعادة توظيفه في تنظيره المباشر للواقع، وكأن الوافد الخارجي يصف الواقع المحلي، لا فرق بين واقع أوروبا وواقع الشرق؛ فالاستبداد واحد، لا فرق بين أباطرة أوروبا وقياصرتها وبين خلفاء بني عثمان، لا فرق بين الآخر والأنا، لا يقصد حكمًا بعينه، بل قصَد فقط تنبيه الغافلين على الجذور التاريخية للداء الدفين.
والكتاب مُصدَّر ببيتٍ شعري وشطر أو بشعرٍ منثور، يدُل على أنه كلمةُ حق وصيحةٌ في وادٍ، مثل يوحنا المعمدان، إنْ ذهبَت اليوم مع الريح، فإنها في الغد تكون ريحًا قادرة على اقتلاع أوتاد الطغيان.٧
والكتاب يشمل مقدمةً وتسعةَ عناوين أشبه بالأبواب والفصول؛ فبعد البسمَلَة والحمدَلَة تشير المقدمة إلى ظروف تأليف الكتاب، وأنه من أواخر مؤلفاته عام (١٣١٨ﻫ/١٩٠٠م)،٨ نشره مقالاتٍ في بعض الصحف المصرية في عهد عباس حلمي الثاني، ولا ضير في مدحه أُسوةً بالقدماء، ربما طبقًا للقول المأثور «وداوِني بالتي كانت هي الداء.» ثم تمَّ جمعه في كتاب، متوجهًا إلى الناشئة العربية المعقود عليها آمال الأمة؛ لذلك أتى الأسلوب سهلًا، والفكر واضحًا، أشبه بالمقال الصحفي منه بالبحث الفلسفي، وبالخطاب العام للناس منه إلى الخطاب الخاص للمتخصصين.٩

كما تضع المقدمةُ الكتابَ في علم السياسة الموجودة لدى كل الأمم المتمدينة، وهو علمٌ شامل يضم فنون التاريخ والأخلاق والأدب والحقوق، برَّزَ فيه الرومان الجمهوريون أجداد الإيطاليين الحاليين، وكتب فيه غريغوريوس اليوناني رسائله، وفي فارس كُتبَت «كليلة ودمنة» سياسية أخلاقية، وفي الثقافة الإسلامية «نهج البلاغة» و«كتاب الخراج» بين الدين والسياسة. وواضحٌ قلة معلومات الكواكبي في التراث السياسي الإسلامي، الذي يتجاوز ما ذُكر بكثير.

ويضع علماءَ الإسلام في القرون الوسطى، مع أنهم عاشوا في الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي الأول، طبقًا لتحقيبها الخاص خارج تحقيب الحضارة الغربية. ألَّف فيه علماءُ الإسلام ممزوجًا بالأخلاق مثل الرازي والطوسي والغزالي والعلائلي، كما كان الحال عند الفرس، وممزوجًا بالتاريخ عند ابن خلدون وابن بطوطة على طريقة المغاربة.

ويُسمِّي علماءُ الإسلام عصرَ الإصلاح الديني في نهاية الفترة الثانية من الحضارة الإسلامية، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الكبرى، وبداية الثالثة، المتأخرين من الشرقيين في تركيا، الذين لهم تآليف في علم السياسة مستقلة وممزوجة، مثل أحمد جودت باشا، وكمال بك، وسليمان باشا، وحسن فهمي باشا، والعرب قليلون مُقِلُّون باستثناء رفاعة بك، وخير الدين باشا التونسي، وأحمد فارس، وسليم البستاني، والمبعوث المدني؛ فالأتراك كانوا في دولة الخلافة، والعرب كانوا في الأطراف. هذا بالإضافة إلى ما كتبه العرب في الصحف والمجلات.

أما المتأخرون من أهل أوروبا؛ أي المتأخرون بالنسبة للحضارة الإسلامية، والمُحدَثون بالنسبة للغرب، فهم الذين توسَّعوا في علم السياسة، وألَّفوا فيه المجلَّدات الضخمة، دون أن يذكُر أسماء المؤلفين أو المؤلفات.١٠
وتبدأ مباحث الموضوع على نحوٍ تساؤلي حول طبيعة الاستبداد، وأن المستبد شديد الخوف، واستيلاء الجبن على رعية المستبد، وأثر الاستبداد على الدين والعلم والمجد والأخلاق والتربية والترقي والمجد والمال، وأعوان المستبد ومن يتحمل الاستبداد، وكيفية التخلُّص منه واستبداله.١١
ولا تُوجد إجاباتٌ واحدة لهذه الأسئلة، بل تتعدَّد الإجابات تشخيصًا للداء واقتراحًا للدواء عند فريقيَن؛ أهل النظر والكلام؛ المادي، والسياسي، والحكيم، والحقوقي، والرباني، وأهل العزائم؛ الأبي، والشهم، والمتين، والفدائي (المفادي)؛ فعند المادي الداء القوة والدواء المقاومة، وعند السياسي الداء استعباد البرية، والدواء استرداد الحرية، وعند الحكيم الداء القدرة على الاعتساف، والدواء الاقتدار على الاستنصاف، وعند الحقوقي الداء تغلُّب السلطة على الشريعة، والدواء تغليب الشريعة على السلطة، وعند الرباني الداء مشاركة الله في الجبروت، والدواء توحيد الله حقًّا. أما أهل العزائم، فعند الأبيِّ الداء مد الرقاب للسلاسل، والدواء الشموخ عن الذل، وعند الشهم الداء التعالي على الناس باطلًا، والدواء تذليل المُتكبِّرين، وعند المتين الداء وجود الرؤساء بلا زمام، والدواء ربطهم بالقيود الثقال، وعند الفدائي الداء حب الحياة والدواء حب الموت.١٢

(٣) ما هو الاستبداد؟

الاستبداد لغةً هو الاستئثار بالرأي دون مشورة، ويُقصَد به استبداد الحكومات خاصة، وعند السياسيين هو تصرُّف فردٍ أو جماعة في حقوق الناس بلا خوفِ تَبِعة أو مساءلة، وله ألفاظٌ مشابهة مثل؛ استعباد، اعتساف، تسلُّط، تحكُّم، وتصبح صفاتٍ لأشخاصٍ مثل: مُستبِد، حاكمٍ بأمره، حاكمٍ مطلق، ظالم، جبار، أما المُستبَدُّ بهم فهم أَسْرى، أذلَّاء، مُستصغَرون. وفي مقابل الألفاظ المرادفة للاستبداد هناك شرعٌ مصون، حقوقٌ محترمة، حسٌّ مشترك، حياةٌ طيبة، وفي مقابل صفات المستبدين، عادلٌ، مسئول، مُقيَّد، دسقورس، وفي مقابل المُستبَد بهم مُحتسِبون، أُباة، أحرار، أحياء.

والاستبداد معنًى صفةٌ للحكومة المطلَقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء، بلا حساب أو عقاب أو قيد، وأشكالها كثيرة؛ الغلبة أو الوراثة وربما الدستور الذي لا يُنفَّذ، وتشارك كلها في غياب الرقابة والمحاسبة.١٣ ولم تستمر حكومةٌ مدنية مسئولة أكثر من نصف قرن باستثناء الحكومات في إنجلترا بسبب يقظة الإنجليز، والحكومات البدوية التي تهرب عشائرها في حالة الضيم.١٤

وقد صوَّر الحكماء المتأخرون المستبد على أنه يتحكَّم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، يرى الرعية كالغنم لا يوَدُّ منها إلا الطاعة والتذلُّل والتملُّق، هو عدو الحق والحرية، يتجاوز الحد؛ لأنه لا يرى حاجزًا أمامه، وهو مُستعِدٌّ بالفطرة للخير والشر، والرعية تتركُه للشر، وتتنازل عن دورها في دفعه نحو الخير.

وربما كان تعريف الاستبداد في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التحليل النفسي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والقانوني والأيديولوجي، ربما آثر الكواكبي ترك ذلك فيما بعدُ في فصوله السبعة التالية عن الدين والعلم والمال والأخلاق والتربية والمجد والترقي. ومع ذلك فالمستبد لديه عقدةٌ نفسية، إحساسًا بالضعف يتحوَّل إلى قوة، وعقدة نقص تتحوَّل إلى عقدة عظمة، كما هو الحال في القاتل الذي لا يستطيع قتل ذبابة.

وينتمي إلى طبقةٍ اجتماعية دنيا يُعوِّضها بالصعود السريع إلى الطبقة العليا عن طريق الاستبداد، وهو عقائديٌّ يمتلك الحقيقة المطلقة، يرى في استبداده خلاص الناس من حكم البشر؛ تحقيقًا للحاكمية وتطبيقًا للشريعة الإسلامية؛ فهو المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلًا كما مُلئت جَوْرًا، وهو الفقير الذي يريد أن يتحول إلى غني، عن طريق الاستبداد وليس عن طريق الكسب المشروع، وهو الذي يريد أن يُشرِّع للاستبداد بالقانون؛ فالتحليل اللغوي والنظري لا يكفي لتحديد الاستبداد وظروف نشأته.

(٤) الاستبداد والدين

وهو الاستبداد الديني، ويعتمد الكواكبي هنا على مادةٍ وافدة من الغرب، رأي المحررين السياسيين من الإفرنج على نشأة الاستبداد السياسي من الاستبداد الديني، أو على الأقل العلاقة بينهما، وهو رأيٌ صائب فيما يتعلَّق بالدين التاريخي القديم كاليهودية والمسيحية، في القسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الإنجيل،١٥ وهو غير صائب في الجوانب التعليمية الأخلاقية في الديانتَين؛ فالدين يدعو البشر إلى الاستسلام لقوةٍ هائلة تعلَم كل شيء، وتقدر على كل شيء، ويخافها البشر، ثم يقوم المستبد السياسي على هذا البناء النفسي للدين، ويتمثل الله بحيث لا يعود فرقٌ بين الله والسلطان.١٦ قصر المستبد هو هيكل الخوف، والملك الجبار هو المعبود، وأعوانه هم الكهنة، ومكتبته المذبح المقدَّس، والأقلام هي السكاكين، وعبارات التعظيم هي الصلوات، والناس هم الأسرى الذين يُقدِّمون القرابين.١٧

ثم جاءت البروتستانتية فكانت دفعًا نحو الحرية أكثر من الكاثوليكية؛ فالإصلاح الديني شرط الإصلاح السياسي؛ لذلك ازدهَرَت الديمقراطية في إنجلترا، التي تبنَّت أحد فروع البروتستانت وهي الإنجليكانية.

وقد بدأ حكماء اليونان ذلك من قبلُ حين بشَّروا بعقيدة الشرك في الألوهية لمقاومة الاستبداد السياسي؛ فهناك صلةٌ بين تعدُّد الآلهة عند اليونان، كما هو الحال في الأساطير، والديمقراطية عند اليونان. وقد استمد اليونان هذه التجربة من الأشوريين، الذين أخذوها من المصريين؛ فللعدالة إله، وللحرب إلهٌ، وللبحار إله، وللأمطار إلهٌ، توزيعًا لقوى الألوهية على أكثر من إله، وإله الآلهة الحَكَم بينهم حين الخلاف، والترجيح بين آرائهم. وقد تم التعبير عن ذلك بصورٍ أدبية ساحرة، وأساليبَ بلاغية بديعة، حتى اشرأبَّت النفوس بها، مما سهَّل بعد ذلك على الجبابرة التنازُل عن جبروتهم؛ لأن ما يحدث في السماء أَوْلى أن يحدث على الأرض، وانصاع الملوكُ مُكرَهين، وقامت مدن أثينا إسبرطة على هذا الأساس. وسارت اليونان مسار الزمان، وازدهرت ديمقراطية الرومان، وكل نُظُمٍ جمهورية أو ملكيةٍ مقيدة، إنما ترجع إلى هذا العهد القديم.

ومع ذلك فالتشريك بالرغم من فائدته العملية، إلا أنه باطل نظريًّا، وضرره أكثر من نفعه؛ لذلك قاومه الدين، اليهودية والنصرانية والإسلام في التوراة والإنجيل والقرآن؛ فقد فتح التشريك بابًا للمشعوذين ومُدَّعي الألوهية، وبدلًا من أن يكون وسيلةً للقضاء على الاستبداد السياسي أصبح وسيلةً لتشريعه باسم الدين، وأضفى على السلطات صفات الألوهية، فأفسدَت إسرائيل التوحيد بتأليه بعض الأسباط الملوك والأحبار، وأفسد النصارى التوحيد بتعظيمهم وتقديسهم الرهبان والقديسين، بل وتأليه المسيح وأمه، والوقوع في التشبيه والتجسيم بدلًا من فهم لغة الأبوة والنبوة فهمًا مجازيًّا، وبدأ ذلك بولس في رسائله ويوحنا في رؤيته وإنجيله ورسائله، وهو ما لاحظه النقاد الغربيون للكتب المقدسة والنقاد المسلمون، مثل ابن حزم وابن تيمية في تطوُّر العقيدة النصرانية.

ولا ينطبق ذلك على القرآن في رأي الكواكبي، بل ربما على الممارسات العملية للمسلمين حكامًا ومحكومين، ومع ذلك من السهل على المستبد إيهام العوام، بأنه لا فرق بين صفات الله وصفات السلطان، بين الفعَّال المطلق والحاكم بأمره، كلاهما لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، بين المُنعِم وولي النعم، بين جل شأنه وجليل الشأن، بل لقد ادَّعى بعض المستبدين الألوهية، وتصوَّروا أن الله هو المستبد الأعظم، والاستعانة بالدين على ظلم المساكين؛ فالدين «أفيون الشعب».١٨
لذلك جاء الإسلام ليجعل من عقيدة التوحيد وليس التشريك أساسًا نظريًّا للحرية والشورى، بين الديمقراطية والأرستقراطية. ومارسَه الخلفاء الراشدون وبعض حكام المسلمين بعدهم، مثل عمر بن عبد العزيز والمهتدي العباسي ونور الدين الشهيد، فكانوا نماذج للحكم الذي يقوم على الحرية والعدالة، والمساواة بين الحاكم والمحكوم في الرأي والنصيحة، وفي الكسب والمال جمعًا بين الحرية والاشتراكية. والقرآن مملوء بالآيات ضد الاستبداد، إحياءً للعدل والمساواة وإعطاء نماذج من قصص الأنبياء، بلقيس وقومها وموسى وفرعون.١٩ وهناك آياتٌ مباشرة تحُضُّ على الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتُحذِّر من الاستبداد في الرأي، كما نبه الحديث على ذلك.٢٠
ثم تركَ المسلمون أصولَ دينهم، وأخذوا أقوال غيرهم، واقتبسوا مقام البابوية واحترام الأعاظم وطاعة الكبراء طاعةً عمياء، وقاموا مقام البطارقة والكردينالية والأسقفية، وحاكَوْا مظاهر القدِّيسين والرهبان، وقلَّدوا رجال الكهنوت، وشاركوا مراسم الكنائس وزينتها، وتبرَّكُوا بالأثَر، وقالوا بالحلول، ووقَعوا في الأشكال والرسوم والقرابين والموالد، والأعلام والنياشين، بل وحذَّروا من آياتٍ بعينها وأحاديث بعينها، تحُضُّ على مقاومة الظلم والاستبداد. كما أخفى النصارى واليهود آياتٍ من الإنجيل والتوراة، وجاءوا من المجوسية باستطلاع الغيب من الفلك، والتعامل مع الكواكب خشيةً أو طمعًا، ولفَّقوا من الأساطير والإسرائيليات علومًا «لدُنِّية»، الهدف منها استعباد الناس. وقد حدث نفس الانحراف عند اليهود والنصارى، وصاغوا عقائد في الاختيار والتثليث، لا أصل لها في الإنجيل والتوراة، مُستمدة من نواميس المصريين الأقدمين والأساطير والآثار والألواح الآشورية، وكلها تؤدِّي إلى الاستبداد. ومع ذلك ظل القرآن حافظًا لشعور المسلمين من قبول الاستعباد، وحاثًّا لهم على الحرية والجهر بالحق.٢١
وبدلًا من هذا الموقف الدفاعي وتجريم التاريخ، كان يمكن البحث في علم العقائد عن الجذور النظرية للاستبداد، مثل التصوُّر الهرمي والمركزي والرأسي والتراتُبي للعالم، الذي يجعل العلاقة بين طرفَين الأعلى والأدنى، وليس التصور الأفقي للعالم، الذي يجعل العلاقة بين طرفَين بين الأمام والخلف، بالإضافة إلى إعطاء الأولوية للقضاء والقدَر على حرية الاختيار، وللطاعة للأمام على الخروج على الحاكم الظالم، ولحديث الفرقة الناجية على التعدُّدية الفكرية وحق الاختلاف.٢٢

(٥) الاستبداد والعلم

وهو الاستبداد العقلي، ولقد قاوَم الاستبداد العلم، واضهَد المستبدون العلماء نظرًا لما يُمثِّله العلم من حرية الرأي؛٢٣ فكما أن الاستبداد ضد الدين، فإنه أيضًا ضد العلم، وكما كفَّر المستبدون المفكرين الأحرار، اضطهَدوا العلماء أصحاب النظر العلمي الحر، كما حدث في موضوع إعجاز القرآن، الذي اقتصر على البلاغة أو الإخبار بالغيب دون التطرُّق للإعجاز العلمي؛ فالقرآن مُتجدِّد في فهمه مع الزمان والحدَثان، وكل ما فيه برهانُ عيان لا مجرد تسليم وإيمان.٢٤
لقد كشَف العلمُ في الغرب الحديث حقائقَ موجودةً في القرآن تصريحًا أو تلميحًا، منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنًا، مستورةً لا يدركها أحد، مثل أن مادة الكون هي الأثير التي وصفها القرآن في بدء التكوين، وأن الكائنات في حركةٍ دائبة، وأن الأرض سبع، وأنْ لولا الجبال لترنَّحَت الأرض، وأن التغيير في التركيب الكيماوي ناشئٌ عن اختلاف النِّسَب والمقادير، وأن في الجماد حياةً، وأن الإنسان ترقَّى من الجماد، وأن ناموس موسى اللقاح في الذباب، بالإضافة إلى التصوير الشمسي، وتسيير السفن والمركبات بالبخار والكهرباء، ووجود المكروب وتأثيره على الأمراض.٢٥

والحقيقة أن موضوع الإعجاز العلمي للقرآن، قد استشرى في الفكر العربي المعاصر، كجزءٍ من مشروع أسلمة المعرفة، وهو يؤدِّي إلى عكس ما يهدف إليه الكواكبي، حث الدين على العلم؛ فهو يبدأ من العلم الغربي الذي اكتشفه غير المسلمين بمناهجٍ تجريبية خالصة، والنظر في الطبيعة كما فعَل علماء المسلمين الأوائل، ثم يكتفي بقراءة القرآن من خلاله انتقاءً؛ فالفضل للغير العالم وليس للمُؤَوِّل للقرآن. وأين كان المُؤَوِّلون لآيات الإعجاز قبل أن يكتشف علماءُ الغير قوانين الطبيعة؟ ألا يُعتبر ذلك الاستحواذ على جهد الغير وفضله؟ وماذا يفعل المؤَوِّلون للآيات إذا ما تغيَّر العلم، هل يتغير التأويل ومن ثم يتم ربط القرآن الثابت بالعلم المتغير، ويصبح الأصلُ فرعًا والفرعُ أصلًا؟ ألا يُؤدِّي ذلك إلى وَهْم المسلمين بأن لديهم العلم سلفًا فيتبلدون، في حين يبحث علماء الغير في مظاهر الكون فيتيقَّظون؟ ولا تنفع نظرية التسخير، أن الله سخر للمسلمين الغربيين لخدمتهم، الغرب يُبدع العلم في الدنيا دون بغية الآخرة، والمسلمون ينقلون العلوم عن الغرب المسخَّر لهم بغية الآخرة؛ فالغرب له نصف الحقيقة، الدنيا، والمسلمون لهم الحقيقة كلها، الدنيا والآخرة! وقد كان موقف العلماء والقدماء من المسلمين هو موقف علماء الغرب حاليًّا، النظر في الطبيعة ومعرفة قوانينها، وكان العلم العربي الإسلام في بدايات عَصرِ النهضة الأوروبي، أحد مصادر النهضة العلم الأوروبي الحديث.

وبعد هذا الاستطراد عن الإعجاز العلمي للقرآن، يعود الكواكبي إلى معارضة المستبد لنور العلم وبحث العلماء، حتى لا تستنير الرعية فتثور على الاستبداد السياسي، وتبقى في جهلها فتطيع وتستكين،٢٦ بل إن المستبد يخشى علوم اللغة؛ لأنه يعلم أن دواء اللسان عقلٌ ودواء اللغة فكر،٢٧ كما لا يخشى المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد؛ لأنها اغتراب للناس خارج العالم، مع أن المعاد قادر على تحرير الوجدان من الخوف من الحاضر، والاتجاه نحو المستقبل وطلب الشهادة؛ فإن أعظم شهادةٍ كلمةُ حق تُقال في وجه حاكمٍ ظالم. إنما يخاف المستبد من العلوم النظرية، ومنها العلوم الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، التي تدفع إلى حرية الفكر، ومن العلوم العملية المتعلقة بعلوم الحياة والكون، والحقائق التي لا يمكن للمستبد تغييرها. الاستبداد والعلم إذن ضدان؛ لذلك يخشى المستبدون العلماءَ لأن العلم من الله؛ إذ يعرف العلم أن الحرية أفضل من الحياة؛ لذلك خَشِي المستبدون في الشرق من العلماء، حتى من قول «لا إله إلا الله» وفهم معناها، تحرُّر الوجدان الإنساني من كل قيد، والإعلان عن الحق في مواجهة الباطل، والعدل ضد الحكم؛ فالشهادة بالقول تعني الشهادة بالفعل، ولا فرق بين الشاهد والشهيد.٢٨
المستبد عاشقٌ للخيانة والعلماء أعداؤه، وهو سارقٌ مخادع والعلماء مُنبِّهون مُحذِّرون، له سيئاته التي لا يُفسِدها عليه إلا العلماء المصلحون. يُبغِض المستبد العلم لسلطانه على النفوس، وزعزعة طاعتها للحكام، والبحث عن الحقائق المستقلة عن آرائهم وسلطانهم. الاستبداد ضد الحرية والعلمُ يقوم على حرية البحث والنظر؛ لذلك كان العوامُّ قوامَ المستبد نظرًا لميلهم إلى التقليد والتبعية وتأليه الحكام، فيذبحون أنفسهم بأيديهم بسبب الخوف الناشئ عن الجهل. ولا شك أن خوف المستبد من رعيته أشد من خوف الرعية من بأسه، في حين يأمنَ العادلَ قومُه ويأمنَهم.٢٩ ونظرًا لخطورة الخوف في الديانات الثنوية القديمة، فقد أُقيم له هيكلٌ لعبادته اتقاءً لشره. وكلما ضعُفَت السياسة في أمةٍ، عظُمَت القصور ومراسم التشريفات وأُبَّهات السلطة والصولجان، ويبدو ذلك في لغات الأمم، فتكثُر ألفاظ التعظيم في الفارسية وتقلُّ في العربية.

(٦) الاستبداد والمال

وهو الاستبداد الاقتصادي عن طريق قوة المال؛ فالمال كل شيء، القوة مال، والعقل مال، والعلم مال، والدين مال، والنبات مال، والجاه مال، والترتيب مال، والاقتصاد مال؛ فالمال كل ما لدى الإنسان من قدرةٍ على الفعل. المال عند الاقتصادي ما ينتفع به الإنسان، وعند الحقوقي ما يجري فيه المنع والبذل، وعند السياسي ما تُستعاض به القوة، وعند الأخلاقي ما تُحتفظ به الحياة الشريفة.٣٠
وإذا كان النوع الإنساني لا يأكل بعضه بعضًا، إلا أن الإنسان أكل لحم أخيه الإنسان، حتى أتى حكماء الصين والهند، فأبطلوا أكل اللحوم كليًّا، ثم أتت الشرائع الدينية الأولى بتخصيص القربان للمعبود أو للنيران، وافتدى به إبراهيم إسماعيل، واستعاض عنه المسيح بالخبز داخل الكنائس وليس خارجها. وما زال أكلُ لحم الإنسان موجودًا عند بعض القبائل الزنجية، ثم أتى الاستبداد ليُحيي هذا الأثر القديم، وأحياها بصورةٍ أدهى وأمر؛ فقد جعل البشر، أعداءً وأصدقاء، طعمةً للظالمين وامتصاص حياة الزراع والعمال، وأكل ثمار الغير، واغتصاب الأموال والجهد والعمل؛ فلا فرق بين أكل لحوم البشر في الماضي ونهب الأعمار وإزهاق الأرواح وسلب العمل إلا في الشكل؛ فالاستبداد الاقتصادي من صاحب رأس المال للعامل، صورة من صور الاستبداد السياسي، علاقة الغني بالفقير هي علاقة القوي بالضعيف، علاقة الظالم بالمظلوم. ولا فرق بين استبداد الرجال واستبداد النساء، نصف البشر.٣١
ويتعاون رجال الدين ورجال السياسة ورجال الاقتصاد على استبعاد البشر.٣٢ ويستولي ما لا يزيد على ١٪ من البشر على مُقدَّرات وإيرادات وأرزاق ٩٩٪ منهم، ترفٌ وإسرافٌ في جانب، وفقرٌ وضنكٌ في جانبٍ آخر. ويَنضَمُّ إلى رجال الاقتصاد التجار والمحتكرون ضد الزرَّاع. ويستعمل الاستبداد الاقتصادي كل القيم الإنسانية، بما في ذلك الجمال للإثراء لصالح رب المال والجمال، والاتجار بأعراض الناس وأجساد النساء كما هو الحال في تجارة الجنس.٣٣

الاستبداد يسلبُ أموال الناس وحقوقهم غصبًا، باسم تشريعاتٍ باطلة؛ ومن ثَمَّ كان حفظ المال في أيدي الناس أصعب من كسبه.

والاستبداد مقرون بالثروة؛ فالأغنياء أصدقاء المستبدين؛ لذلك يعظُم الذل في الثروة، ذُل الأغنياء للمال، وذُل الفقراء للأغنياء.

وقد وردَت كثيرٌ من الأمثال العامية والأقوال المأثورة بمدح المال؛ فهو يحل المشكلات، والطريق إلى العز.٣٤ ومع ذلك فإن للمال آفاتٍ كثيرة على الحياة الشريفة مثل الترف والسرف؛ فزيادة المال عن الحاجة بلاء.
وبالرغم من أهمية المال والثروة في نهضة الأمم؛ فالاقتصاد عصبُ الدول، إلا أن الزهد في المال قيمة؛ فالغنى غنى القلب،٣٥ والفقير من استغنى عن الناس. ولا يعني ذلك التباطُؤ في الكسب، بل رعاية الطريقة الشريفة والحاجات الأساسية الضرورية للحياة الإنسانية؛ فلا أفضل من إنسانٍ يأكل من عمل يده.

والمال نعمةٌ من الله فاض بها على الطبيعة، ولا يملك أحدٌ تخصيصها لنفسه إلا بعملٍ أو مقابل؛ فالعمل مصدر الرزق، والجهد تعويض عن الكسب. والتموُّل أي الادخار جزءٌ من طبيعة الإنسان والحيوان على السواء، وقتَ الحاجة وساعةَ القحط أو الجوع، كما هو الحال في قصة يوسف.

وتنتظم المعيشة بالاشتراك العمومي، الذي جاء به الإسلام في القرون الأولى؛ فالحكم الإسلامي ديمقراطي اشتراكي. وهو ما عَمَّ بعد ذلك في العالم المُتمدِّن الإفرنجي، وتُدافع عنه الجمعيات التي تُطالب بالمساواة والتقارب في الحقوق المعيشية بين البشر ضد استبداد المال وتراكُم الثروات. وهو ما حاولَتْه الشريعة الإسلامية من خلال أنواع الزكاة، جزءًا من أربعين من رءوس الأموال، يفيض من الأغنياء إلى الفقراء. أما الأراضي الزراعية فملكٌ للأمة وليست للأفراد، يستفيد منها عامة المسلمين وليس أغنياؤها فقط. هذا بالإضافة إلى الصرف على المحتاجين من العِوَض والديَة والتكفير عن الذنوب. ومصادر بيت المال من خراجٍ وعشور تُصرف على جموع الأمة، الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وفي الرقاب والعاملين عليها. ولذلك ثلاثة شروط؛ الأول إحراز المال بوجهٍ مشروع حلال مقابل عملٍ وجهد. والثاني عدم التضييق على حاجات الغير مثل احتكار الضروريات أو مزاحمة الصنَّاع والعمَّال الضعفاء أو امتلاك الأراضي.٣٦ والثالث عدم تجاوُز المال قَدْر الحاجة؛ لأن الإفراط في الثروة مهلكة. الفوائد القليلة على الأموال تشجيع للاستثمار، أما الربا الفاحش فاستغلالٌ للضعفاء والمحتاجين. ليس الدافع على الاستثمار الطمع أو الربح، بل تحقيق المنافع العامة. وإن ثروة بعض الأفراد في الحكومات العادلة أضرُّ بكثيرٍ منها في الحكومات المستبدة؛ لأنهم يصرفون الأموال لإفساد الأخلاق، في حين أن المستبدين يعرفونها في مظاهر الأُبَّهة والعظمة إرهابًا للناس. وتزول الثروة عندما يغتصبها الأقوى، أو عندما تندلع ثورات الاشتراكيين أو حتى الفوضويين.

وهناك فرقٌ بين الاستبداد الغربي والاستبداد الشرقي، الاستبداد الغربي يجمع بين الاستبداد السياسي والاقتصادي، ويُعين الأمة على الكسب؛ لذلك كان أحكم وأرسخ مع بعض اللين، في حين أن الاستبداد الشرقي سياسيٌّ خالص لا يدفع الناسَ إلى الكسب؛ لذلك كان سريع الزوال. إذا زال الاستبداد الغربي فإنه يكون لصالح الحرية والعدل، وإذا زال الاستبداد الشرقي فلصالح استبدادٍ آخر؛ لذلك تفوق الغرب باستمرار، وسار الشرق في مكانه في دورةٍ أبدية.

كان يمكن تحويل هذه الاشتراكية الأخلاقية التي تقوم على الزكاة والصدقات والكفارات إلى اشتراكية علمية تقوم على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، وتحديد سياسة الأجور طبقًا للجهد العضلي، ومنع تجميع رءوس الأموال في أيدي القلة، بل إن تحليل لفظ المال لغويًّا يُبيِّن أنه ليس جوهرًا، أو اسمًا يشير إلى مُسمًّى في الخارج، بل هو مصدرٌ مركَّب من «ما» اسم صلة و«ل» حرف جر، مما يبين أن المال علاقة، وأن الملكية وظيفة اجتماعية؛ فالمالك له حق التصرُّف والانتفاع والاستثمار، ولكن ليس له حق الاستغلال أو الاحتكار أو الاكتناز.٣٧

(٧) الاستبداد والأخلاق

والاستبداد ليس فقط دينيًّا أو عقليًّا أو اقتصاديًّا، بل هو استبدادٌ أخلاقي؛ نظرًا لأثر الاستبداد في أخلاق المستبِد، وفي أخلاق المستبَد بهم على نحوٍ سلبي؛ فالمستبَد به يكفر بالأخلاق وبالقيم التي يمارسها المستبِد، والتي يُعينه الناس عليها حتى المستبَد بهم. يفقد حب وطنه وأهله، ويضعُف ولاؤه لأمته، لا يحرص على بقاء شيء. وقد يتعود على الاستبداد، فيصبح كالحيوان المطيع لصاحبه، لا فرق في ذلك بين شبابٍ وشيوخ.٣٨

يسلبُ الاستبداد المستبد راحته الفكرية، ويُحيله إلى شقيٍّ ثقيل الهم، حتى إنه يفقد التمييز بين الخير والشر، فيستولي الاستبداد على العقول الضعيفة خاصة عقول العامة، من خلال مظاهر الأُبَّهة والعظمة التي يحيط المستبِد بها نفسه، فتُشوَّش عليها الحقائق، وتغيب عنها البديهيات؛ فالاستبداد قادرٌ على قلب الحقائق في الأذهان، واستعمال الأديان لتبريره، مع أن وظيفة الحكومات خدمة الناس وتحقيق مصالحهم. قد يوحي الاستبداد بحسناتٍ له مثل تحقيق المنفعة، وحسن الإدارة، وسرعة التنفيذ، وطاعة الأوامر، وتليين الطباع، ويدفع على احترام الناس بعضهم لبعض. والحقيقة أن ذلك يتحقق قهرًا لا طوعًا، وجبرًا لا اختيارًا، وعن اضطرار وليس عن طبيعة.

وإذا كان العدل في أخلاق البشر يقوم مقام العناية في إنماء الشجر، يكون الاستبداد مَفْسدةً للأخلاق؛ لأن الاستبداد قضاء على القوانين، وتحكُّم بالإرادة الفردية، بل إن الحيوان يخضع لقانون الغاب؛ لذلك سلب الفقه الرقيق إرادته الحرة وجعله تابعًا لمولاه. لا يخضع الاستبداد لنظامٍ أو عقل أو منطق، بل لمطلق الإرادة التي تجعل الحسن قبيحًا والقبيح حسنًا، مرةً اشتراكية ومرةً رأسمالية. ويُجبِر الناس على التبرير طبقًا لإرادة المستبد، وليس طبقًا للحُسن والقُبح في ذاتهما.

في الاستبداد يغيب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة والنقد للحكام ومراجعتهم؛ لذلك أطلقت الأمة الحرة حرية الرأي والتعبير في المطبوعات والمجالس النيابية للرقابة على المسئولية والحكام. وقد وضع القرآن التشريعات لحماية هؤلاء المحتسبين، دون أن يذكُر الكواكبي نظام الحسبة في الإسلام، ويعني الوظيفة الأساسية للحكومة الإسلامية.٣٩

وإذا كانت الخصال أولًا حسنةً طبيعية كالصدق والأمانة والهمة والمدافعة والرحمة، وقبيحةً طبيعية كالرياء والعدوان والقسوة، وثانيًا خصالًا كمالية مثل العفو وتقبيح الطمع، وهو ما يُدركه العقل ويحُثُّ عليه الشرع، وثالثًا خصالًا اعتيادية وهو ما يكسبه الإنسان بالوراثة أو التربية أو الألفة، فإن الاستبداد من النوع الثالث، الذي يأتي اكتسابًا من الناس وتعوُّدًا عليه، ولا يتفق مع العقل والنقل أو مع الضرورة والاختيار. وإذا ساءت الأفعال ساءت الظنون؛ فالفلاح في الشرق يأمن الإفرنجيَّ في معاملته، ويثق بوزنه وحسابه، ولا يأمن بني جلدته. والإفرنجي إذا تعوَّد على الخيانة، فإنه يأمن الشرقي ولا يأمن ابن جنسه. وهي تفرقةٌ أصولية بين الضروريات والحاجيات والتحسينات، يُوظِّفها الكواكبي في تصنيف الفضائل الخلقية.

وفي الاستبداد تقلُّ مشاركة الناس في إدارة شئونهم، وتقل المشاركة في الحياة العامة، والمشاركة من أعظم أسرار الكائنات. ويُقارِن الكواكبي بين أخلاق الشرقيين والغربيين في المشاركة، تحت الوهم الشائع أن الشرقيين أقل مشاركةً من الغربيين،٤٠ وهو موضوع الاستبداد الشرقي الشهير، الذي تعرَّض له فلاسفة الغرب خاصة مونتسكيو، يُرجعه البعض إلى الجهل أو عدم التعاون، أو عدم التمسُّك بالدين أو فقدان الحرية السياسية.

الغربي قوي النفس شديد المعاملة، ولكنه حريصٌ على الاستئثار والانتقام، مادي النظرة، لم تبقَ من مبادئ المسيحية لديه شيء. الجرماني جافُّ الطبع، لا يعتبر الضعيف جديرًا بالحياة، يجعل الفضيلة في القوة، والقوة في المال، العلم من أجل المال، والمجد من أجل المال. واللاتيني مطبوعٌ على العُجب والطيش، يرى العقل في الأخلاق، والحياة بلا حياء، والشرف في الزينة، والعز في الغلَبة.

وأهل الشرق أديبون يغلب عليهم ضعف القلب وسلطان الحب، واتباع الوجدان والعواطف والفتوة والقناعة، ومع ذلك يتهاون في المستقبل ويقلد الغَربي. والعجيب أن يغلب على الشرقيين الاستبداد، وهم جماعةٌ تُقلِّل من تسلُّط الفرد. ويغلب على الغربيين الحرية، وقيمهم تقوم على الفردية التي تسمح بظهور الفرد والزعامة الفردية. في الشرق جماعة بلا رقابة على الحكام، وفي الغرب أفراد تُراقب الجماعة سلوكهم طبقًا للعقد الاجتماعي. في الشرق نبوةٌ وولايةٌ وزعامة، وفي الغرب حكمةٌ وعقدٌ ومراجعة. وهي مقابلاتٌ شائعة في الفكر الغربي في القرن التاسع عشر، أثناء انتشار النظريات العنصرية ومحاولات تحديد خصائص الشعوب.

وقد سلك الأنبياء في إنقاذ الأُمم مسالكَ عدة؛ منها تحريرُ الوجدان الإنساني من تعظيم أحدٍ إلا الله أو الإذعان لسواه، وحثُّ البشر على التمسُّك بنور العقل وحرية الإرادة من أجل القضاء على الاستبداد العقلي والإرادي. وقد تابع الحكماء السياسيون الأقدمون الأنبياء لتحرير الضمير الإنساني من الاستبداد عن طريق التربية وتهذيب الأخلاق. أما المتأخرون الغربيون فقد آثر البعض منهم تحرير البشر من الدين إلى فضاء العقل والطبيعة؛ فالفطرة كافية للنظام، والعلم المتحرر من تبرير الدين، كما كان الحال في الحضارات القديمة المصرية والآشورية، أو المنحصر في طبقة الأشراف عند الغرناطيين والرومان، أو عند النخبة من الشبان في الهند واليونان القادرة على ذلك، ثم جاء الإسلام وأطلق حرية العلم للجميع، وانتقل إلى أوروبا فساعدَها على التحرُّر.

لقد ساعدَت الظروف الحكماءَ الغربيين على اختصار الطريق. بدءوا مُستبدِّين وانتهَوْا مُتحرِّرين، ومن حكمائهم من لم يغالِ ويتطرف في رفض الدين، وجَعلِه المصدر الأول للاستبداد، بل أصلحوا الدين لإصلاح الاخلاق وتغيير المجتمع. وما أحوجَ الشرق إلى مثل هؤلاء الحكماء بوذيين ومسلمين ومسيحيين ويهود! لا يبالغون أو يتطرفون، ويُصلحون الدين دون رفضه أو إبقائه على ما هو عليه، عن طريق التعليم والتربية من أجل تغيير الوضع القائم، حتى تظل الأمم الشرقية في التاريخ، ولا تنقرض كما انقرض الآشوريون والفينيقيون.

(٨) الاستبداد والتربية

إذا كانت الأخلاق هي الفضائل النظرية فإن التربية هي تهذيب الأخلاق؛ أي الأخلاق العملية، وتحويل الفضائل النظرية التي يضعها العقل والفطرة إلى سلوكٍ يومي وممارساتٍ عملية.٤١ التربية علمٌ وعمل، والعمل بالنية والعزم المسبق.٤٢
فقد خلق الله في الإنسان استعدادًا للصلاح واستعداد للفساد طبقًا للحديث الشهير؛٤٣ فالتربية عاملٌ مساعد للفطرة، يصعد إلى مرتبة الملائكة أو يهبط إلى مستوى الحيوان. وهذا هو معنى الأمانة التي حملَها الإنسان ورفضَت السماوات والارض أن يحملنها وحملها الإنسان. الاستعداد للنمو نحو الكمال والنقص، نحو الخير أو الشر، إلى الحرية أو إلى الاستبداد. الإنسان كالغصن الرطب، إما أن ينمو مستقيمًا أو يميل على جنبه فيَعْوَج.

والاستبداد أسوأ وسيلةٍ للتربية، يؤدي إلى إفساد الفطرة بدنًا وروحًا، يورث البدن الأسقام، والروح تُوقف العقل عن النماء. التربية والاستبداد عاملان متضادَّان، ما تبنيه التربية يهدمه الاستبداد.

والتربية مَلَكةٌ تحصل بالتعلم والتمرين والعقيدة والاقتباس … أهم أصولها وجود المُربِّين، وأهم فروعها الدين كوازعٍ سياسي والمثابرة على العمل، والاستبداد ريحٌ صَرصرٌ عاتية، يُفسِد الدين في أهم ركيزته وهي الأخلاق، ويُبقي على العبادات لأنها تُلائمه، حركات طاعة ورموز خضوع لا تفيد في تطهير النفوس، لا تنهى عن منكرٍ ولا تأمر بمعروف، فاستولى الاستبداد على النفوس، لا فرق بين الله والسلطان، وردُّ الفعل عليهما بالكذب والخداع والرياء والنفاق، أو الخوف والانزواء والانطواء، حتى يصبح كالأسير الأليف والحيوان المُستأنَس مع حاكمه ومع ربه.

تربية الجسم في السنتين الأوليين وظيفة الأم، وحتى السابعة وظيفة الأبوَين، والانتقال من العقل إلى البلوغ وظيفة المعلمين والمدارس، ثم تربية القدوة بالأقربين والخُلطاء إلى الزواج وظيفة الصدفة، ثم تربية المقارنة وهي وظيفة الزوجَين إلى الموت أو الفراق؛ فهناك خمسُ مراحلَ للتربية لكلٍّ منها مُربٍّ طبقًا لمراحل العمر.

ليست التربية مجرد جهدٍ فردي أو جماعيٍّ محدود، بل هي تربيةٌ اجتماعية سياسية؛ إذ إن التربية الفردية تخضع للهيئة الاجتماعية والقانونية والسياسية.

والحكومات المنتظمة هي التي تتولى تربية الأمة، وهي التي تُنشئ قوانين النكاح، وتفتح بيوت العطاء، وتُقيم المدارس للتعليم الإلزامي، وتُسهِّل الاجتماعات وتشيد المسارح، وتُؤسِّس المنتديات، وتُقيم المكتبات والمتاحف والنصُب التذكارية، وتسُن القوانين للمحافظة على الآداب والحقوق، وتَسهَر على حفظ العادات القومية واحترام الملة، تُقوِّي الآمال وتُيسِّر الأعمال، وتُؤمِّن العاجزين، وتُكرم الرواد؛ ومن ثَم يحيا المواطن مطمئنًّا في حياته ومماته، وتحيا الأمة بحياة مواطنيها ورضاهم عنها. أما النظم المستبدة فهي غنية عن التربية؛ لأنها أشبه بنُظُم الأحراش في الغابات التي لم تُهذِّبها يدٌ بشرية.

يعيش الإنسان في ظل العدل والحرية، نشيطًا على العمل، راضيًا بأعماله، سعيدًا بآماله، ناجحًا كان أم أقلَّ نجاحًا. أما أسير الاستبداد فيعيش خاملًا خامدًا، ضائع القصة حائر الاتجاه، لا فرق بين حياته وموته. يشعر بآلام الأَسْر كما يشعُر المستبد بلذة القوة والاستبداد، فيلجأ إلى الدين والتعويض في السعادة الأُخروية مع أن الدنيا ممر الآخرة.

وقد عبَّرت الأمثال العامية والأقوال المأثورة عن ذلك، والتي تُحبِّذ الخمول وتُبرِّر المصائب،٤٤ مع أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ضد الكسل والبطالة والهروب إلى الآخرة فرارًا من الدنيا.٤٥
وقد وقع نفس الشيء عند اليهود والنصارى، واقتبسوا من التوراة والإنجيل آياتٍ تُبرِّر الظلم والخضوع للسلطان، والنص صريحٌ على رفض الظلم.٤٦
الاستبداد يضطَر الناس إلى إباحة الكذب والتحايل والخداع والنفاق والتذلُّل وهي أخلاق عبيد السلطة، ويَتربَّون على ذلك في المدارس.٤٧ صحيحٌ أن لمستوى المعيشة بين الغنى والفقر دخلًا في التربية، ومع ذلك يظل عامل الحرية أو الاستبداد هو الأقوى؛ فالمستبَد به كالنائم المزعوج بالأحلام، لا يعلم شيئًا من العالم المحيط به؛ فالتربية الصحيحة غير مقصودة ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلا تخويفًا من الظالمين. والإقناع خيرٌ من الترغيب والترهيب، والمدارس تُقلِّل الجنايات لا السجون، والقصاص قلَّما يفيد في العقاب.٤٨ والقصاص في الإسلام يعني المساواة وليس العقوبة.٤٩ تهدف التربية إلى إعداد العقل المُتميِّز وحسن التفهُّم والإقناع والتمرين والتعوُّد، وحسن القدوة والمثال، والمواظَبة والتمادي.

(٩) الاستبداد والمجد

الاستبداد أصل كل فساد وأثرٌ سيئ في كل وادٍ. يُفسِد الدين والعقل والمال والأخلاق والتربية. يُفسد الطموح والسعي إلى العُلى، ويُحوِّله إلى تكبُّرٍ وتسلُّط وطغيان. يُحوِّل المجد إلى تمجُّد.٥٠ المجد مطلبٌ طبيعي شريف، لا يترفَّع عنه نبي أو زاهد. يُعبِّر عن السعي نحو الأكمل والأفضل، وهو من الجد والاجتهاد والسعي الدءوب، تحمُّل الأمانة والمسئولية تحقيقًا لغاية الإنسان في الحياة. يَسعَد الإنسان به، ويلتذُّ به الساعي له مثل عظم لذة العبادة لله، والعِلم للحُكماء على جميع أنواع المناهج النبوية. والمجد أفضل من الحياة؛ فالحياةُ بلا مجدٍ خمول وكسل، وقنوع ويأس. المجد مُفضَّلٌ على الحياة عند الأحرار، والحياة مُفضَّلةٌ على المجد عند المستبَد بهم، وهو ما خلط على ابن خلدون حتى حين فضَّل الحياة على الإقدام عل الخطر؛ لهذا استُشهد أئمة آل البيت وفضَّلوا المجد على الحياة. كما أن الحيوان يرفض التناسُل وهو في الأَسْر في قفص؛ فلا يتكاثر إلا إذا كان حرًّا طليقًا في الطبيعة.
ويتطلَّب المجد البذل والتضحية في سبيل الجماعة، بتعبير الشرقيين في سبيل الله أو الدين، وبتعبير الغربيين في سبيل الإنسانية أو الوطنية طبقًا لظاهرة التشكُّل الكاذب، التعبير عن نفس المعاني بألفاظٍ مختلفة من الموروث أو الوافد.٥١ وتكون التضحية بالمال، وهو مجد الكرم أقل أنواع المجد، أو بذل العلم النافع وهو مجد الفضيلة، أو بذل النفس وهو مجد النبالة أعلى أنواع المجد، المجد على الإطلاق، مجد النفوس الكبيرة.٥٢
والتمجُّد نقيض المجد، هو صفة الإرادات المستبدة والمتعاونين معهم، أصحاب الألقاب وحملة النياشين،٥٣ وقد يُؤدِّي إلى دعوة الألوهية أي خداع العامة. المتمجدون أعداء العدل وأنصار الجَوْر للتغرير بالأمة وسوقها، مستعملًا أعوانه الذين مثله بعد إغرائهم بالمناصب والمراتب. يعتمد المُتمجِّد على دعوة الأصالة وتعني الشرف والرتبة، والعائلة والقبيلة والأصل الوراثي والنسب، وليس معناها الحالي الدفاع عن الهوية. وهي ثلاثة أنواع؛ بيوت العلم والفضيلة، وبيوت المال والكرم، وبيوت الظلم والإمارة وهو أكبر الأقسام؛ فالحكم الوراثي غير شرعي لأنه يقوم على أصالة الأجداد، الأصالة بهذا المعنى القبلي جرثومة البلاء، تستُّر وراء العظمة الوراثية والأُبَّهة الحالية، وهو ما أدانه القرآن صراحةً بإدانة الإسراف والترف وتداول المال بين القلة.٥٤

المستبد الذي يضع التاج على رأسه والصولجان في يده، والعبيد حوله بالمراوح يرى نفسه إلهًا، والرعية مبهورة بمُستبِدها مسحورة ببهائه، وكل ذلك أوهام.

والاستبداد عامٌّ وشامل في الحكم وفي المجتمع، في الدولة والمؤسسات من الحاكم إلى الشرطي إلى الفراش إلى الكناس. كل أعلى يستبد بالأسفل منه، والناس على دين ملوكهم.

ويشهد العقل والتاريخ أن المستبد الأعظم في الامة هو اللئيم الأعظم فيها. ولمَّا كان حريصًا على ظلم الناس، فإنه يستعمل أعوانًا من جنسه لتكوين عصابة الاستبداد.

ويجهل المستبد أن الناس أعداؤه لظلمه، وأنه لا يأمن على نفسه وحياته من الثورة ضده. كما لا يأمن الوزير من صولة المستبِد الذي فوقه أو المستبَد به الذي تحته. وزير المستبد هو وزير المستبد الأعظم وليس وزير الأمة، مهما تشدَّق بالرغبة في الإصلاح ورعاية مصالح الناس، وهو لا أخلاق له ولا ضمير. المستبد لا يستصنع إلا الأراذل والأسافل، وخرَّابي الذمم بالرغم من ندم البعض منهم. وفي الحقيقة أن المستبِد فردٌ عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بالمتمجدين طلاب المناصب والمراتب. والأمة الأسيرة لا يفك أَسْرها إلا العقلاءُ الأحرار.

(١٠) الاستبداد والترقي

إذا كان المجد هو طلب الرقي الذاتي والسعي نحو العمل، فإن الترقي هو التقدم في التاريخ؛٥٥ فالحركة سنة الكون، صورة الألوهية كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ.٥٦ والحركة في التاريخ نوعان؛ تقدمٌ ونكوص، إقدامٌ وإجحام على نحوٍ أفقي، وهو ما يسعى إلى أعلى وإلى أسفل، نهضة وسقوط، قيامٌ وقعودٌ على المستوى الرأسي، وهو صريحٌ بنص القرآن والحديث.٥٧
والترقي على أنواع؛ ترقٍّ في الجسم، وهو الترقي البدني، وترقٍّ في العائلة والعشيرة، وهو الترقي الاجتماعي، والترقي في القوة بالعلم والمال وهو الترقي الاقتصادي، والترقي في الملكات بالخصال والمفاخر، وهو الترقي الثقافي والحضاري، وهناك ترقٍّ آخر بالروح، والشوق إلى المعاد. ونقيض هذه الأنواع كلها ما سمي بالقضاء والقدر، وهو عجزٌ طبيعي ناتجٌ عن الاستبداد. وإذا كان القدَر مرة لصالح الترقي ومرة ضده، فإن الاستبداد هو الطريق إلى الانحطاط والتأخر والفناء، بل يدفع إلى طلب التسفُّل دون الرفعة. الترقي والانحطاط حركتان جدليتان حتى في الحيوان مثل الاندفاع والانقباض. وهو ما عناه القرآن بابتلاء الإنسان بالخير والشر.٥٨ هو جدل الإيجاب والسلب، المزاحمة والتدافع في الحياة.
والمستبَدُّ بهم لا حراك فيهم، منحطُّو الإدراك والإحساس والأخلاق، هم أشبه بسكان القبور، لا أموات ولا أحياء، شقاءٌ مريد، بعيدًا عن مفاخر الإبداع وشرف القدوة، نومٌ ويأس، غباءٌ وجهل، فقدان الثقة بالنفس وضياع الحزم، ندبٌ وبكاء، حرصٌ على الراحة، وتباطؤٌ في السعي، رضى وخنوع، وإلقاء المسئولية على الأقدار، سجودٌ لغير الله، وقبولٌ للتفاوت بين الناس وهم أكفاء، انحناءٌ وخضوع، ذلٌ وخنوع، وقد خُلق الناس جميعًا إخوانًا أسوياء.٥٩ هذا بالإضافة إلى الخوف والخشية، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بالحق والشهادة وباقي أركان الإسلام، دعوةٌ للتحرُّر دون الخنوع.
والوحدة قوةٌ باسم الاتحاد الوطني كما هو الحال في الغرب، أو الإخاء الديني كما هو الحال في الشرق.٦٠ الرباط في الغبر جنسيٌّ وليس مذهبيًّا، سياسي وليس دينيًّا، نقدًا مبطنًا للدولة العثمانية التي يتشاحن فيها الأعاجم والأجانب، والحل هو الأمة والوطن. ولماذا يكون العربي أشد استخفافًا بأخيه العربي من الغربي، وقد أصبح دينه المال وغايته الربح؟ الغربي أقوى من الشرقي علمًا وثورة ومنعة؛ لذلك تكون له السيادة الطبيعية إذا واطن الشرقيين. الغربي يعرف كيف يسوس، فاستعمر الأرض، واستوطن الشرق، ولا يريد الخروج منه،٦١ في حين بقي المسلمون في الأندلس وتركوا وراءهم العلم والعمران، فلماذا يكون الشرقي أقل من الغربي؟ السبب لأنه يقبل الاستبداد الذي يُؤدِّي إلى الخمول والموت.٦٢
هناك أممٌ عادلة في التاريخ،٦٣ وفيها يكون الحكام أمناء على سلامة الأبدان والاعتناء بالشئون العامة، والحريات الفردية، والرقابة على السلطة، والحقوق العامة، وتطبيق العدل، والحفاظ على الأموال، ورعاية القيم والشرف.٦٤ يتحقق الترقي في التاريخ بأصول الحكومات المنتظرة في وجه الاستبداد. القوة للشرع ولا نفوذ إلا نفوذ الشرع. الشرع هو حبل الله المتين، والأمة رقيبة على حُسن تطبيقه كما تشهد بذلك الآيات.٦٥

ونظرًا لرغبة الكواكبي في الجمع بين النظر والعمل، بين البحث العلمي والممارسة السياسية، فقد ساد «الاستبداد والترقي» الأسلوب الخطابي، في الشخص الثاني المخاطب الجمع، بحيث أصبح الخطاب الفلسفي أشبه بالخطبة السياسية للاستنهاض. ومع ذلك فإنه يكشف عن بداية التحول من المجتمع الديني إلى المجتمع المدني، ومن العثمانية إلى الوطنية.

(١١) التخلص من الاستبداد

لا تُوجد أعظم من مدرسة التاريخ الطبيعي والعمومي، ولا برهان أقوى من الاستقراء للتعرُّف على وسائل التخلص من الاستبداد؛٦٦ فلقد عاش الإنسان دهورًا طويلة لا يعرف نظامًا إلا الشيوخ الأكثر خبرة أو الأقوى بنية، في حالة البداوة، عشائر وقبائل، يُقرِّر بنفسه بما له من احترامٍ عند الآخرين أو باستشارة حُكماء القبائل، في نظامٍ إداري بسيط وقواعدَ قضائيةٍ قليلة، تحكُم بالحدْس والوجدان، وهو ما سماه ابن خلدون البدو.

عاش النصف الآخر في قرى ومدن فظهَرَت الطبقات الاجتماعية، الغني والفقير، والسياسية، الرئيس والمرءوس، مما استلزم أشكالًا متطورة من الحكومات، درسها الغرب الحديث بعد أن مارسَتْها الإنسانية قبله، وانقسمَت الأمم إلى أحزابٍ سياسية، تختلف فيما بينها في كيفية تطبيقِ أشكال الحكومات، بديهية في الغرب، غامضة في الشرق.

والاستبداد هو الحُكم الذي لا تُوجد بينه وبين الأمة رابطةٌ معينة معلومة مصونة بقانونٍ نافذ الحكم، ولا عِبْرة فيه بيمينٍ أو عهد أو دين وتقوى أو حق وشرف أو عدالة ومقتضيات المصلحة العامة.

ويتطلب ذلك عدة مباحث تدور حول محاورَ ستة؛ الأمة، والحكومة، والحقوق، والوظائف، والقوانين، والخدمات، وأهمها الحكومة أو الحكم الذي به يتعلَّق الاستبداد.

  • أولًا: الأمة والفرق بينها وبين الشعب. هل هي ركامُ مخلوقات أو جمعيةُ عبيد لمالكٍ متغلب، أم جمعٌ يربطه الجنس والوطن وحقوقٌ مشتركة؟
  • ثانيًا: الحكومة، هل هي تسلُّط على الرقاب تفعل ما تشاء، أم وكالةٌ سياسية عن الأمة لإدارة شئونها العامة؟ وما نوعيتُها، الملكية المطلَقة أم المقيَّدة، ونوع القيد أو الرياسة الانتخابية مدى الحياة أم موقوتة؟ هل تُنال بالوراثة أو العهد أو الغلَبة؟ وهل يتحدَّد ذلك بالمصادفة أم بالكفاءة وشروطها؟ وما وظائف الحكومة، إدارة شئون الأمة حسب الرأي والاجتهاد، أو تكون مقيدة بقانونٍ يُعبِّر عن رغبات الأمة؟ وما العمل إذا اختلفَت الحكومة مع الأمة في اعتبار الصالح فهل الأمة فوق الحكومة؟ وما هي حقوق الحاكمية، تُخصِّص الحكومة لنفسها ما تشاء من مراتب العظمة ورواتب الحال، تهَب وتمنع ما تريد أم طبقًا لوكالة الأمة؟ وهل تُطيع الأمة الحكومة على الإطلاق، أو عن طريق الإقناع حتى تأتي الطاعة اختيارًا وعن رضًى؟ وهل هناك رقابة على الحكومة من الأمة أو وكلائها، أم أنها غير مسئولة تفعل ما تشاء، وكيف يتم رفع الاستبداد، من الحكومة ذاتها أم من عقلاء الأمة؟
  • ثالثًا: الحقوق العمومية لمعرفة هل الحكم ملكٌ، أم أمانةٌ ونظارةٌ على الأملاك العمومية، مثل الأراضي والأنهار والسواحل والمعادن، والقلاع والجيوش والمعاهدات وتأمين وظائفها؟ هل تتصرَّف فيها الحكومة بإرادتها أم هناك مساواة في الحقوق بين الناس، فصائل وبلدانًا وأديانًا؟ وهل تملك الحكومة السيطرة على الأعمال والأفكار، أم أنها جزءٌ من الحقوق الشخصية تدخل في إطار حرية الفكر؟
  • رابعًا: وظائف الحكومة ومَهامُّها في وضع الضرائب بإرادتها المطلقة أم بمشاركة إرادة الأمة؟ وإعداد المنَعة، بالقوة والتجنيد الإجباري، والتسليح ضد العدو الخارجي، أو لقَهرِ الأمة وضد رغبتها؟ والحرص على الأمن العام مسئولية الأفراد أو الحكومة نيابةً عنهم؟ وهل يتم توزيع المناصب على أقاربِ الحاكم ومعارفه، أو على كافة القبائل والطوائف، بحيث تكون الحكومة جزءًا مُصغَّرًا من الأمة، دون ذكر الكفاءة والقدرة الأهلية؟ وهل تجتمع السلطات السياسية والدينية والتعليمية في سلطةٍ واحدة، أم يتم التفريق بين السلطات؟
  • خامسًا: القانون وحفظُ السلطة فيه بحيث لا تُكرِه الحكومة الناس خارج القانون، وتأمن العدالة القضائية بحيث لا يكون العدل ما تراه الحكومة، بل ما يراه القضاة. هل حفظ الدين والآداب للحكومة أم للقضاء؟ ودور الحكومة في حفظ الجامعات الكبرى كالدين والجنسية واللغة والعادات والآداب العمومية، دون أن تتدخل الحكومة في أمر الدين ما لم تُنتهَك حرمته، وتعيين الأعمال بقوانينَ وحدود وسلطة الشرطة والتزامها بالقانون، وطريقة سن القوانين؛ تعبيرًا عن إرادة الحاكم أو جماعةٍ مُنتخَبة من قِبَل الأمة، وهل القانون هو حكم القوي على الضعيف أم أحكامٌ يتساوى أمامها جميع الناس بصرف النظر عن الطبقة، وله احترامه وسلطانه على الجميع؟
  • سادسًا: تيسير الخدمات العامة مثل التوسُّع في الزراعة والصناعة، وإلى أي حدٍّ يمكن تركُه للقطاع الخاص أم للقطاع العام بلغة العصر؟ والتوسُّع في العمران وإلى أي حدٍّ تتدخل الحكومة فيه، ومراعاة الاعتدال فيه دون بذخٍ وإسراف؟ والترقي في العلوم والمعارف ودور الحكومة في ذلك ونسبته إلى المبادرات الخاصة، وهل يكون التعليم جبرًا أم اختيارًا، فرضًا من الحكومة أم حرًّا مطلقًا؟
وفي مبحث رفع الاستبداد يضع ثلاث قواعد؛ الأولى كون الأمة التي لا يشعر أكثرها بآلام الاستبداد لا تستحق الحرية. والثانية أن الاستبداد لا يُقاوم بالشدة إنما يقام بالحكمة والتدرُّج، وتغير إحساسات الناس وأمزجتهم، وإلا وقعَت الفتن. ومن يدري ربما يكون الثوار الجدد أشد استبدادًا من المستبدين القدماء. ولا يثور العامة ضد المستبدين إلا في حالاتٍ مخصوصة، مشهد دموي لمظلوم، هزيمة المستبد في الحرب، إهانته للدين، أزمةٌ اقتصادية خانقة، مجاعة عامة، نقض لقوانين البلاد الموروثة، تضييق ينتهي بمشاركة النساء في الثورة عليه، موالاته للعدو. والثالثة تهيئة البديل عن الاستبداد قبل مقاومته، ولا يكون بديلًا على الإجمال بل برنامجًا تفصيليًّا يقتنع به الناس، موافقًا لرأي الأغلبية التي عانت من الاستبداد. بالإضافة إلى وضوح الغاية وسهولة الاتصال،٦٧ فما هو شكل الحكومة البديلة عن الاستبداد؟

إن لم تكن الأمة مسئولةً عن نفسها حريصةً على حريتها، استبدَّت بها أمةٌ أخرى، كما هو الحال في الوصايا على السفيه المقرَّرة في الشرائع. والله لا يظلم الناس بل الناس أنفسهم يظلمون.

من الواضح في تصوُّر الكواكبي لوسائل التخلُّص من الاستبداد، أن الغرب لديه نموذجٌ للتحديث، الغرب الليبرالي، الحكومة المقيَّدة، المسئولة أمام البرلمان، والتعددية الحزبية، والأغلبية والأقلية، وسيادة القانون، والمساواة في الحقوق والواجبات. والحكومة أي السلطة هي مركز الدولة، كما هو الحال في الفكر السياسي الديني، والتركيز على الإمامة وصفات الإمام أكثر من المؤسسات ووسائل الرقابة على الإمام.

وواضحٌ من القرانات بين الاستبداد من ناحية، والدين والعلم والمال، والأخلاق والتربية، والمجد والترقي من ناحيةٍ أخرى، أهمية الاستبداد والدين، والاستبداد والترقِّي؛ فكما أن الدين يمكن أن يكون مصدرًا للاستبداد سواء في تصوُّراته للعالم أو في مؤسساته، يمكن أن يكون مصدرًا للتحرُّر، «أفيونًا للشعب» أو «زفرة للمضطهدين». كما أن الدين يمكن أن يكون عقبة في سبيل التقدُّم، إذا ما قام على الاستبداد، وكما كان الحال في العصر الوسيط الأوروبي، ويمكن أن يكون دافعًا على التقدم كما كان الحال في تراثنا القديم. ويظل السؤال قائمًا، ومن الذي يقوم بتحديد أي الوظيفتَين وفي أي ظرفٍ تاريخي؟ ومن الذي يضع الجرس في رقبة القط؟ هذا هو السؤال.

١  وجهات نظر، فبراير ٢٠٠٢م.
٢  وذلك باستثناء بعض الدول مثل ماليزيا وإيران والمقاومة في جنوب لبنان وفي فلسطين والشيشان وكشمير.
٣  انظر دراستنا: «الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا العربي المعاصر»، المستقبل العربي، يناير ١٩٧٧م، وأيضًا: «الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م»، الدين والتحرير الثقافي، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩م، ج٢، ص٩٩–١١٨.
٤  عبد الرحمن الكواكبي، «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، الأعمال الكاملة، مع دراسة عن حياته وآثاره بقلم محمد عمارة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، ١٩٧٠م، ص٣٢٨–٤٣٨.
٥  «وأنا المُضطَر للاكتتام حسب الزمان» (السابق، ص٣٢٩).
٦  وهو الكاتب الإيطالي ألفييري فيتوريا Alfieri Vittoria.
٧ 
كلمة حق وصيحةٌ في وادٍ،
إن ذهبَت اليوم مع الريح،
لقد تذهبُ غدًا بالأوتاد.
السابق، ص٣٢٨
٨  على عهد عزيزها ومُعزِّها حضرة سَميِّ عم النبي العباس الثاني الناشر لواء الحرية على أكناف مُلكه (السابق، ص٣٢٩).
٩  «وإني تخيَّرتُ أن أتكلم في هذه المواضيع إجمالًا واقتضابًا على أسلوبٍ شبيه بالخطابة» (السابق، ص٣٤٢).
١٠  السابق، ص٣٣١–٣٣٤.
١١  السابق، ص٣٣٤–٣٣٦.
١٢  السابق، ص٣٣٧–٣٤١.
١٣  يُضرب المثل بخلافة عثمان بن عفان، والجمهورية «الحاضرة» في فرنسا في مسائل النياشين وبنما ودريفوس.
١٤  يُضرب المثل بملوك تبع وحمير وغسان التي لم تعرف حُكم الاستبداد.
١٥  السابق، ص٣٤٢–٣٥٢.
١٦  حدث ذلك في فرنسا وفي روسيا.
١٧  «طبائع الاستبداد»، ص٣٥٩.
١٨  والنماذج من أبناء داود، وقسطنطين، وفيليب الثاني الإسباني، وهنري الثامن الإنجليزي، والحاكم الفاطمي، والسلاطين الأعاجم المنتصرين لغلاة الصوفية.
١٩  مثل قصة بلقيس ملكة سبأ من عرب تُبَّع قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ، وقصة موسى وفرعون قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ، قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ، فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى، وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ.
٢٠  وذلك مثل: وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ، أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، ومن الحديث: «أميري من الملائكة جبريل.» «هلَك المتنطِّعون.» «لَتأمرُنَّ بالمعروف وتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليستعملَنَّ الله عليكمُ شراركم فيَسومونكم سوء العذاب.»
٢١  مثال ذلك: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ.
٢٢  وقد حاوَلْنا ذلك في إعادة بناء علم العقائد في «من العقيدة إلى الثورة» (خمسة أجزاء)، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٨م، دار التنوير، بيروت، ١٩٨٨م.
٢٣  السابق، ص٣٥٢–٣٥٥.
٢٤  مثل آية: وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
٢٥  الأثير: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ، حركة الكائنات: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا، وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، الأرض والشمس: أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا، القمر والأرض: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا، اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ، طبقات الأرض السبع: خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ، الجبال والأرض: وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ، التركيب الكيماوي: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، الحياة والمياه: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، لقاح النبات: خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ، فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى، اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ، التصوير الشمسي: أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا، السفن والمركبات: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، المكروب: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ.
٢٦  السابق، ص٣٥٦–٣٦٠.
٢٧  من أمثال الكميت وحسان ومونتسكيو وشيلَّر.
٢٨  انظر دراستنا: «ماذا تعني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟» الدين والثورة في مصر ١٩٥٢–١٩٨١م، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩م، ج٧، ص١٤٧–١٦١.
٢٩  مثل المستبد نيرون وتيمور، ومثل العادل أنوشروان وصلاح الدين.
٣٠  بعد تعريف الاستبداد يعقد الكواكبي مقارناتٍ بين الاستبداد من ناحية والدين والعلم والمجد والمال والأخلاق والتربية والترقي تباعًا قبل الاستبداد والتخلُّص منه، وآثرنا تغيير الترتيب بعد الدين والعلم وتقديم المال، ثم الأخلاق والتربية وتأخير المجد قبل الترقِّي، حتى يبدو العرض أكثر ترابطًا من الدين والعلم إلى المال إلى الأخلاق والتربية إلى المجد والترقي.
٣١  «طبائع الاستبداد»، ص٣٧٤–٣٨٤.
٣٢  سيد قطب، «معركة الإسلام والرأسمالية»، دار الشروق، القاهرة، «د.ت».
٣٣  وهو ما فعلَتْه كاترين كما يروي المؤرخ كريستوفر بحمل النساء على الخلاعة في المراقص، حتى هبَّ الشباب للعمل للإنفاق عليهن، وضاعفَت خزينتها في خمس سنوات.
٣٤  مثل أنَّ أكبر ما يحل المشكلات الزمان والمال، ولا يُصان الشرف إلا بالدم، ولا يتأتَّى العزُّ إلا بالمال، اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر.
٣٥  يستشهد الكواكبي بحديث: «اسألوا الله الكفاف من الرزق.» وبحديث: «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتَمنَّى أن يكون له وادٍ آخر.»
٣٦  حمى أيرلندا ألفُ مستبد مالي من الإنجليز، ليتمتعوا بثُلثَي أو ثلاثة أرباع ثمرات أتعاب عشرات الملايين من البشر، وهو أيضًا حال ريف مصر. ولا يختلف عن ذلك سكان لندن على أرصفة الطرقات، وهي من الأمم المتمدنة؛ لذلك لا تجيز الصين أن يمتلك شخصٌ واحد أكثر من مقدارٍ معين، خمسة أفدنة، واقتدت روسيا في ولاياتها بالصين.
٣٧  انظر دراستنا: «المال في القرآن» (تحليل المضمون)، الدين والثورة في مصر، ١٩٥٢–١٩٨١م، اليمين واليسار في الفكر الديني، مدبولي، القاهرة، ١٩٨٩م، ج٧، ص١٢١–١٤٥.
٣٨  السابق، ص٣٨٥–٣٩٧.
٣٩  وذلك في آيات: وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ، وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
٤٠  يستثني الكواكبي من ذلك اليابانيين والبوير.
٤١  السابق، ص٣٩٨–٤٠٨.
٤٢  هذا هو معنى الحديث الشهير: «ما من مولودٍ إلا ويُولد على الفطرة، وأبواه هم اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجِّسانه.»
٤٣  ويُستشهد بحديث: «إنما الأعمال بالنيات.»
٤٤  وذلك مثل: «الدنيا سجن المؤمن.» «المؤمن مصاب.» «هذا شأن آخر الزمان.» «حسبُ المرء لقيماتٌ يُقمنَ صُلبه.»
٤٥  مثل: «إن الله يكره العبد البطَّال.» «إذا قامت الساعة وفي يدِ أحدكم غرسةٌ فليغرسْها.»
٤٦  من التوراة: «يد الله على قلب الملك.» ومن الإنجيل: «اخضعوا للسلطان ولا سلطة إلا من الله.» «الحاكم لا يتقلَّد السيف جزافًا، إنه مُقامٌ للانتقام من أهل الشر.» وفي الرسائل: «فلتخضع كل نسمة للسلطة المقامة من الله.» ومن الوعظ الإسلامي الحكومي: «السلطان ظل الله في الأرض.» «الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم منه.» «الملوك ملهمون.» والآيات الصريحة في رفض الظلم مثل: أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ، فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ.
٤٧  يُستشهَد بالبيت الآتي:
إن دام هذا ولم تحدُث له غِيَرٌ
لم يُبكَ مَيْتٌ ولم يُفرح بمولودِ
٤٨  ويُستشهَد بالبيت الآتي:
لا تَرجع الأنفسُ عن غيِّها
ما لم يكن منها لها زاجرُ
٤٩  وذلك في آية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
٥٠  «طبائع الاستبداد»، ص٣٦١–٣٧٣.
٥١  انظر: «التراث والتجديد»، موقفنا من التراث القديم، المركز العربي للبحث والنشر، القاهرة، ١٩٨٠م، ص١٢٣–١٥١.
٥٢  تعطي أمثلةً كثيرة من قول أجربين الشاعر تحت النطع حين سؤاله من أشقى الناس؟ فأجاب: من إذا ذكر الناس الاستبداد كان مثالًا له في الخيال. وكان ترابان العادل إذا قلَّد سيفًا لقائدٍ يقول له: هذا سيف الأمة أرجو ألا أتعدَّى القانون فلا يكون له نصيبٌ في عنقي. وخرج قيس من منزل الوليد غاضبًا وقائلًا: أتريد أن تكون جبَّارًا! والله إن نعال الصعاليك لأطولُ من سيفك. وقالت أسماء بنت أبي بكر مُودعةً ابنها: إن كنتَ على الحق فاذهب وقاتل الحجاج حتى تموت. وهناك أقوالٌ كثيرة للساعين نحو المجد مثل: ما أحلى الشقاءَ في تنفيس الظالمين! عليَّ أن أُوفيَ بوظيفتي وما عليَّ ضمان القضاء. وعندما سُئل أحدهم لماذا لا تبني لكَ دارًا؟ قال: ما أصنع فيها وأنا مقيمٌ على ظهر الجواد أو في السجن أو في القبر؟
٥٣  مثل: بارون، دوق، لورد، رب العزة، رب الصولة، انظر: «من العقيدة إلى الثورة»، المقدمات النظرية، من مدح السلاطين إلى الدفاع عن الشعوب، مدبولي، القاهرة، ١٩٧٧م، ج١، ص٧–٥٠.
٥٤  وهي آيات مثل: وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.
٥٥  «طبائع الاستبداد»، ص٤٠٩–٤٢٧. وهو أطول القرانات.
٥٦  مثل: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، «ما بدا أمر إلا وبدا نقصه.»
٥٧  وقد وردت في ذلك أقوال القدماء مثل: الخير مربوطٌ بذيل الشر، والشر مربوطٌ بذيل الخير. على قدر النعمة تكون النقمة. على قدر الهم تأتي العزائم. بين السعادة والشقاء، الحرب سجال.
٥٨  وتَمَّ الاستشهاد بالبيت الآتي:
وطعمُ الموت في شيءٍ حقيرٍ
كطعمِ الموتِ في شيءٍ عظيمِ
٥٩  مثل: «لتأمرُنَّ بالمعروف وتنهوُنَّ عن المنكر أو ليستعملنَّ الله عليكم أشراركم فيسومونكم سوء العذاب.» «من رأى منكم منكرًا فليُغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان.»
٦٠  وذلك مثل أوستريا (النمسا) وأمريكا.
٦١  مثل الروس مع البولنديين والتتار، والهولنديين في الهند، والروس في قازان، وفرنسا في الجزائر، والإنجليز في بلاد العرب.
٦٢  «نحن ألِفْنا الأدب مع الكبير، ولو داس رقابنا، ألِفْنا الثبات، ثبات الأوتاد تحت المطارق، ألِفْنا الانقياد وتوالي المهالك، ألِفْنا أن نعتبر التصاغُر أدبًا، والتذلُّل لطفًا، والتملُّق خصاصة، والكهانة رزانة، وترك الحقوق سماحة، وقبول الإهانة تواضعًا، والرضا بالظلم طاعة، ودعوى الاستحقاق غرورًا، والبحث عن العموميات فضولًا، ومد النظر إلى الغد أملًا طويلًا، والإقدام تهوُّرًا، والحمية حماقة، والشهامة شراسة، وحرية القول وقاحة، وحرية الفكر كفرًا، وحب الوطن جنونًا» («طبائع الاستبداد»، ص١، ٤).
٦٣  مثال ذلك: الجمهورية الثانية للرومان، الخلفاء الراشدون، أنوشروان، عبد الملك الأموي، نور الدين الشهيد، بطرس الكبير.
٦٤  مثال ذلك في العصر الحاضر سويسرة التي لا يُوجد فيها محبوس.
٦٥  مثل: حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ.
٦٦  «طبائع الاستبداد»، ص٤٢٨–٤٣٨.
٦٧  كانت صعوبة الاتصال بين أنصار علي أحد أسباب عدم نجاحه ومن ولاه من أئمة آل البيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤