الفصل السابع

الإبصار

نعمة حُرِم منها الكثيرون

إن حاسة البصر نعمة نادرة في الحياة. فلا تُوجَد أعين بالمعنى التقليدي، على الأقل في المملكة النباتية، فضلًا عن الفطريات والطحالب والبكتيريا. وحتى في المملكة الحيوانية لا تُعتبَر العيون من السمات الشائعة على الإطلاق. ويُقال إن هناك ثماني وثلاثين نموذجًا مختلفًا اختلافًا جوهريًّا من خطط بناء الجسم — ما تُسمَّى الشعبة — في عالم الحيوان، ولكن ليس منها سوى ستة فقط تمتلك عيونًا حقيقية. أما الباقي فقد عاش لمئات الملايين من السنين دون أن يتمكَّن من رؤية أي شيء على الإطلاق، ولم يعاقبها الانتقاء الطبيعي بشيء لافتقارها إلى تلك السمة.

وإذا وضعنا الفوائد التطورية للعيون في مقابل هذه الخلفية الصارمة فإنها تبدو ضخمة للعيان. ليست الشُّعَب كلها متساوية في العدد، وبعضها يَفُوق البعض الآخر. فالحبليات، على سبيل المثال، وهي الشعبة التي تضمُّنا نحن البشر وجميع الفقاريات الأخرى تحوي أكثر من ٤٠ ألف نوع، بينما لدى الرخويات، بما فيها البزاقات والقواقع والأخطبوطات ١٠٠ ألف نوع، وتضم المفصليات، بما فيها القشريات والعنكبيات والحشرات أكثر من مليون نوع، فهي تمثل ٨٠ بالمائة من جميع الأنواع الموصوفة. وعلى النقيض من هذه نجد أن أغلب الشُّعَب الأقل شهرة، بما فيها تلك الحيوانات غير المألوفة مثل الإسفنجيات والدوَّارات وبعض أنواع الديدان والهلاميات التي لا يكاد يعرفها سوى علماء الأحياء التقليديون المدربون تضم قليلًا من الأنواع نسبيًّا، عشرات أو مئات، بينما تضم «شعبة» الصفيحيات نوعًا واحدًا فقط. وإذا ضممنا جميع الأنواع الحيوانية معًا، فسنجد أن ٩٥ بالمائة منها تمتلك أعينًا. وعلى هذا فإن ذلك العدد القليل من الشُّعَب الذي لديه أعين هو الذي يسود الحياة الحيوانية في عالم اليوم.

بطبيعة الحال، قد لا تكون هذه أكثر من محض مصادفة. فلعل هناك ميزات أخرى خفية لخطط الجسم في هذه الشُّعَب تحديدًا أغفلناها وليست لها علاقة بالعيون، ولكن هذا لا يبدو مرجحًا. إن نشوء العيون الحقيقية القادرة على الإبصار المكاني أو الشيئي، وليس مجرد الإدراك البسيط لوجود الضوء أو غيابه، يعطي جميع المظاهر الدالة على حدوث تطور تحولي. وقد ظهرت أول عيون حقيقية بشكل مفاجئ إلى حدٍّ ما في سجل الحفريات، ويعود زمانها إلى حوالي ٥٤٠ مليون عام، قرب بداية تلك الفترة المتفجرة الكبيرة من النشوء والتطور، التي تُسمَّى الانفجار الكمبري، حين ظهرت الحيوانات بدرجة هائلة وفجائية في سجل الحفريات وبتشعب هائل أيضًا. وهكذا، بعد أن بقيت الصخور صامتة عدة دهور، ظهرت جميع الشُّعَب المعاصرة من الحيوانات تقريبًا إلى الوجود بغير سابق إنذار.

ولم يكن التوافق اللصيق في الزمن بين تفجُّر الحياة الحيوانية في سجل الحفريات وبين نشوء العيون من قبيل المصادفة، وهذا أمر يكاد يكون مؤكدًا؛ إذ إن الإبصار المكاني يجعل هناك فارقًا في الحركة بين المفترسات وفرائسها بالضرورة، ويمكن أن يحتمل أن يكون هذا هو السبب في المَيْل إلى تكوُّن دروع سميكة لدى حيوانات العصر الكمبري، وفي الزيادة الكبيرة لاحتمالية الحفاظ على بقايا تلك الحيوانات كحفريات. وقد تبنَّى عالم الأحياء أندرو باركر، من متحف التاريخ الطبيعي بلندن، فرضية معقولة مفادها أن نشوء العيون هو ما رسم ملامح الانفجار الكمبري على ذلك النحو المسلي، بل والمثير للتساؤلات. سنبحث لاحقًا مسألة ما إذا كانت العيون قد نشأت بشكل مفاجئ (أو ما إذا كان سجل الحفريات مضللًا في هذا الصدد). أما الآن فدعنا نذكر فقط أن الإبصار يعطي معلومات عن العالم أكثر بكثير مما يمكن أن تعطيه حواس الشم أو السمع أو اللمس؛ فالأرض تسبح في بحر من الضوء، ويصعب جدًّا أن تتجنَّب أن يراك الآخرون. ويُعتبَر الكثير من أروع حالات التأقلم في الحياة ردَّ فعلٍ لرؤية الآخرين للكائن الحي، سواء أكان جلبًا للجنس أو التلقيح في حالة طائر الطاووس أو الزهرة، أو استعراضًا للدروع الضخمة في ديناصور الستيجوسوروس أو حرصًا على التخفِّي والتمويه كما في الحشرة العصوية. وتهتم مجتمعاتنا بصورتها بدرجة كبيرة، وهو ما يجعلني في غنى عن المزيد من الخوض في هذه النقطة.

وفضلًا عن المنفعة التي يجلبها نشوء الإبصار، فإنه يُعَدُّ رمزًا ثقافيًّا؛ ذلك لأن العينين تبدوان مثاليتين للغاية. فمنذ عصر داروين اعتُبِرَت العينان مثلًا أعلى يستحق التمجيد، وتحديًا قويًّا لمفهوم الانتقاء الطبيعي. فهل يمكن أن ينشأ شيء كامل ومثالي إلى هذه الدرجة بوسيلة تلقائية؟ يقول المتشككون في نظرية الانتقاء الطبيعي: ما فائدة النصف عين؟ إن الانتقاء الطبيعي للكائنات يقتضي إيجاد مليون تدرُّج، كلٌّ منه أفضل بالضرورة مما سبَقَه، أما البنية غير المكتملة فسوف يلفظها العالم بلا رحمة. ويستطرد المتشككون في تلك النظرية قائلين: ولكن العين مثالية كما الساعة؛ فلا يمكن اختزالها أو تبسيطها، فإذا أزلنا قليلًا من مكوناتها فلن تعمل. فالساعة بدون «رقاص» تكون معطلة، وكذلك العين بدون عدسة أو شبكية لا قيمة لها، أو هكذا قِيلَ لنا. فإذا كان النصف عين لا قيمة لها، فلا يمكن أن تكون العين قد نشأت بالانتقاء الطبيعي أو بأي وسيلة أخرى يعرفها علم الأحياء الحديث؛ ومن ثم يجب أن تكون دليلًا على التصميم السماوي.

تلك المجادلات القاسية الكثيرة عن الكمال في علم الأحياء نادرًا ما تفعل أكثر من ترسيخ أوضاع متصلبة بالفعل. ويعترض المدافعون عن داروين قائلين إن العين هي بالفعل بعيدة عن الكمال، وهذا يعرفه كل من يرتدي نظارة أو عدسات لاصقة أو من يفقد بصره. هذا صحيح لا شك، ولكن ثمة خطر يكتنف هذا النوع من الجدل النظري ويتمثل في أنه يتغاضى عن الكثير من التفاصيل الدقيقة الموجودة دون شك. خُذِ العين البشرية مثالًا. يُوجَد رأيٌ شائعٌ بين بعض الناس يزعم أن عيوب تصميم تلك العين عميقة جدًّا وأنها تُعَدُّ دليلًا جيِّدًا على الطريقة التي اتبعتها عملية النشوء والتطور — على حدِّ زعمهم — في التجميع العشوائي لتراكيب غير ملائمة وغير مخطط لها أعجزها نقصان ما لهذه العملية من بصيرة. وزعموا أن المهندس البشري يمكنه أن يقوم بعمل أفضل من هذا بكثير، بل إن الأخطبوط لديه عين أفضل. لكن هذا الزعم الظالم يغفل قاعدة يعرفها الكثيرون، وتُعرَف باسم القانون الثاني لليزلي أورجل، الذي يقول: إن التطور أكثر مهارة منك أيها الإنسان.

دَعْنا ندرس هذه الحالة باختصار. إنَّ لدى الأخطبوط عينًا تشبه عين الإنسان إلى حدٍّ بعيدٍ، عينًا أشبه ﺑ «الكاميرا»، بها عدسة واحدة من الأمام، وطبقة حساسة للضوء، أي الشبكية، من الخلف (وهي بمنزلة فيلم الكاميرا). ولأن آخر سلف تشاركنا فيه مع الأخطبوط كان على الأرجح نوعًا من الديدان الذي حُرِم من وجود عين حقيقية، فلا بد أن عين الأخطبوط وعين الإنسان نشأتا بشكل مستقل وتفرقتا وسارت كلٌّ منهما في طريقها لأداء نفس المهمة. وهذا الاستدلال تدعمه المقارنة بين نوعَيِ العين؛ فكلٌّ منهما تتكوَّن من أنسجة مختلفة في الجنين وينتهي بها الأمر إلى تركيبة مجهرية منفصلة. تبدو تركيبة عين الأخطبوط كأنها أكثر منطقية؛ فالخلايا الحساسة للضوء في الشبكية تشير إلى الخارج تجاه الضوء، بينما تمر الألياف الخلوية العصبية إلى الخلف مباشرةً إلى المخ. وعند المقارنة، نجد أن شبكية الإنسان غالبًا ما يُقال إنها موضوعة على نحوٍ معكوس؛ وهو نسق يبدو ظاهريًّا غير مناسب. فبدلًا من أن تبرز الخلايا الحساسة للضوء إلى الأمام، نجدها تقبع في المؤخرة، مغطاة بالألياف الخلوية العصبية التي تمر إلى الأمام في مسار التفافي إلى المخ. فيجب على الضوء أن يمر خلال هذه الغابة من الأسلاك قبل أن يستطيع الوصول إلى الخلايا الحساسة للضوء، والأسوأ من هذا أن الأسلاك تشكل حزمة تخترق الشبكية متجهة إلى الوراء تحت اسم العصب البصري؛ تاركة بقعة عمياء عند نقطة الاختراق.١

لكن يجب ألا نتسرَّع فنغفل النسق الذي نحن عليه. وكما هو معتاد في علم الأحياء فإن الموقف أكثر تعقيدًا مما يبدو؛ فالأسلاك (أي الألياف العصبية) عديمة اللون، ومن ثم لا تعوق مرور الضوء كثيرًا، وحتى في وضعها هذا فهي تعمل «كعامل توجيه للموجات»؛ إذ تُوجِّه الضوء رأسيًّا نحو الخلايا الحساسة للضوء، مسببة بهذا أكبر استفادة بالفوتونات المتاحة. وربما كان الأهم من هذا أن لدينا ميزة انطمار الخلايا الحساسة للضوء مباشرةً في خلاياها الداعمة (الظِّهارَةُ المُصْطَبِغَةُ للشَّبَكِيَّة) مع وجود إمداد وفير بالدم مباشرةً من أسفل. وهذه المنظومة تدعم التحولات المستمرة للأصباغ الحساسة للضوء. وتستهلك الشبكية البشرية قدرًا من الأكسجين أكثر مما يستهلكه المخ لكل جرام من الوزن؛ مما يجعلها أنشط عضو في الجسم. ومن ثم تُعتبَر هذه المنظومة بالغة القيمة. وفي جميع الأحوال لا يمكن أن تتحمل عين الأخطبوط معدل الأيض المرتفع الذي في عين الإنسان، ولكنها ليست بحاجة إلى هذا على الأرجح؛ فالأخطبوط في معيشته تحت الماء في شدة إضاءة أقل قد لا يحتاج أن يُعِيد تدوير أصباغه الضوئية سريعًا.

ووجهة نظري أن هناك ميزات وعيوبًا في كل منظومة مادية في علم الأحياء، والنتيجة هي حالة توازن القوى الانتقائية التي قلَّما نقدرها. وهذه هي المشكلة عند بحث تلك القضايا الجزئية؛ فكثيرًا ما نرى نصف الصورة وحسب، ودائمًا ما تكون المجادلات المغرقة في الطبيعة المفاهيمية عرضة للهجوم اللفظي. وأنا، مثل أي عالم، أفضِّل أن أتبع قطار المعطيات. وقد حدثت نهضة في علم الوراثة الجزيئية في العقود الأخيرة زودتنا بثروة من المعلومات التفصيلية التي تعطي إجابات شديدة التحديد عن أسئلة شديد التحديد. وحينما ننظم هذه الإجابات جميعًا معًا تنبثق رؤية قوية واضحة عن كيفية نشوء العين ومن أين نشأت: من سلف أخضر اللون وبعيد لدرجة تثير الدهشة. وفي هذا الفصل سوف نتبع هذا الخيط لنرى على وجه التحقيق فائدة النصف عين، وكيف نشأت عدسة العين وتطورت، ومن أين جاءت خلايا الشبكية الحساسة للضوء. وحينما نضم أجزاء هذه القصة معًا سنرى أن نشوء العينين قد غيَّر وتيرة التطور وتدفقه.

•••

من السهل إجابة السؤال: «ما فائدة النصف عين؟!» بأسلوب تهكمي، فنسأل: أي نصف تقصد: الأيمن أم الأيسر؟! ويمكنني أن أتفهم الرد الخاطف اللاذع الذي أطلقه ريتشارد دوكينز حين قال إن النصف عين أفضل بنسبة ١ بالمائة من ٤٩ بالمائة من العين؛ ولكن من منظور الأشخاص الذين يجدون صعوبة في أن يستحضروا في أذهانهم صورة واضحة للنصف عين يكون تصور ٤٩ بالمائة من العين أمرًا أصعب. لكن في الواقع، يمثل مصطلح «النصف عين»، بالمعنى الحرفي، طريقة جيدة جدًّا لمعالجة المشكلة؛ فالعين، من وجهة النظر العلمية، تنقسم إلى نصفين بالتمام والكمال: أمامي، وخلفي. وكل من حضر مؤتمرات لعلماء طب العيون سيعلم أن أولئك العلماء يندرجون في شعبتين كبيرتين: الذين يتعاملون مع مقدمة العين (وهم جرَّاحو المياه البيضاء وعيوب النظر الانكسارية؛ أي الذين يتعاملون مع العدسة والقرنية)، والذين يتعاملون مع خلفية العين (أي الشبكية) فيعالجون الأسباب الرئيسية للعمى مثل الانحلال البقعي للشبكية. وتتفاعل الشعبتان على مضض، وفي بعض الأوقات تبدوان بالكاد كأنهما تتحدثان لغة واحدة، لكن لهذا التمايز ما يبرره. فإذا جُرِّدَتِ العين من جميع تجهيزاتها البصرية فإنها تُختزَل إلى شبكية مكشوفة؛ مجرد لوح حساس للضوء ولا شيء فوقه. وتُعَدُّ تلك الشبكية المكشوفة محور ارتكاز مؤكد للنشوء والتطور.

قد تبدو فكرة الشبكية المكشوفة غريبة، ولكنها تتلاءم بشكل ملائم للغاية مع بيئة غريبة بنفس الدرجة، وهي الفوهات الحرمائية المحيطية العميقة، تلك المداخن السوداء التي زرناها في الفصل الأول. تُعتبَر هذه الفوهات مقرًّا لمجموعة مدهشة من أشكال الحياة، وكلها تعتمد بطريقة أو بأخرى على البكتيريا التي تعيش مباشرةً على غاز كبريتيد الهيدروجين المنبعث من تلك الفوهات. ولعل أغرب تلك الأشكال وأكثرها إثارة للاهتمام هي الديدان الأنبوبية العملاقة التي يَصِل طولها إلى ثماني أقدام. ومع أنها ذات صلة بعيدة بديدان الأرض العادية، فإنها كائنات عجيبة بلا قنوات هضمية، فلا أفواه لها ولا أمعاء، ولكنها تعتمد في بقائها على البكتيريا الكبريتية التي تعيش داخل أنسجتها. وثمة كائنات عملاقة أخرى تعيش في تلك الفوهات الحارة وتشمل رخويات ضخمة من البطلينوس وبلح البحر.

تُوجَد جميع هذه الكائنات العملاقة في المحيط الهادئ، إلا أن فوهات المحيط الأطلسي تحوي أيضًا عجائبها هي الأخرى، ومن أهمها نوع من الجمبري الذي يعيش حياة جماعية، واسمه العلمي «ريميكاريس إكسوكيولاتا»، ويتجمع في حشود كبيرة أسفل تلك المداخن. معنى الاسم العلمي حرفيًّا: «جمبري الصدوع الأعمى»؛ وهي تسمية غير مُوَفَّقة تدل على سوء تقدير من أطلقوها. بالتأكيد، كما هو متوقع من التسمية ومكان المعيشة في الأعماق المظلمة من المحيط الأطلسي فليس لدى ذلك الجمبري أعين تقليدية. فليست لديه السويقات العينية التي لدى أقربائه في الجمبري الذي يعيش في المناطق السطحية المضيئة، ولكن لديه قطعتان كبيرتان على ظهره، ومع أن منظر هاتين الرقعتين يصعب وصفه، فإنهما تعكسان الضوء كعينَي القط في أغوار المحيط العميقة التي يندر فيها الضوء.

أول من رصَدَ هاتين الرقعتين المستكشِفةُ سيندي فان دوفر، ويُعَدُّ اكتشافُها بدايةَ واحدةٍ من أبرز المسيرات العلمية في وقتنا الحالي. إن فان دوفر من نوعية المكتشفين العلميين الذين اعتاد كاتب الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن أن يكتب عنهم؛ إذ يندر وجود أمثالها اليوم مثلما يندر وجود أنواع الحيوانات التي تدرسها. وترأس فان دوفر اليوم المعمل البحري بجامعة ديوك، وقد زارت جميع مناطق تلك الفوهات الحارة المعروفة أو أغلبها فضلًا عن القليل من المناطق التي لم تكن قد اكتُشِفَتْ بعد. وهي تُعَدُّ أول امرأة ترتاد أغوار مناطق «آلفين» البحرية العميقة. وقد اكتشفت فيما بعد أن نفس أنواع البطلينوس والديدان الأنبوبية العملاقة تستوطن المناطق الباردة بالقيعان البحرية، حيث يتسرب غاز الميثان من أعماق الأرض، وهذا يدل على أن الظروف الكيميائية، وليست الحرارة، هي القوة الدافعة وراء ازدهار الحياة في قاع البحر. ولكن في أواخر عقد الثمانينيات من القرن العشرين لم يكن أيٌّ من هذا قد حدث بَعْدُ، ولا بد أنها كانت تشعر بالارتعاد عند إرسالها عينات من الرقع الظهرية للجمبري الأعمى إلى أخصائي في عيون اللافقاريات، ومعها تساؤل ساذج يقول: هل يمكن أن تكون هذه عينًا؟ فإذا اعتبرنا أن الشبكية هي أساس العين فإن الرد المقتضب يكون إن العين قد تبدو بهذا الشكل. فحتى إن كان الجمبري الأعمى محرومًا من المكونات المعتادة للعيون — العدسة والقزحية … إلخ — فإنه يمتلك ما تبدوان كأنهما شبكيتان مكشوفتان تمتدان جزئيًّا على ظهره، بالرغم من معيشته في الأعماق المظلمة للمحيط (انظر الشكل ٧-١).
fig21
شكل ٧-١: الجمبري الأعمى ريميكاريس إكسوكيولاتا، وتظهر عليه الشبكيتان المكشوفتان، باهتتا اللون، اللتان تمتدان على الظهر طوليًّا.

ومع إجراء المزيد من الدراسات، كانت النتائج أفضل مما كانت تأمل فان دوفر. فقد تبيَّن أن الشبكيتين المكشوفتين بهما صبغ له خصائص مشابهة جدًّا لذلك المسئول عن إدراك الضوء في شبكية عين الإنسان، والذي يُسمَّى «رودوبسين». وفضلًا عن هذا، فإن هذا الصبغ يملأ الخلايا الحساسة للضوء المميزة لعيون الجمبري العادي، حتى وإن كان المظهر العام للشبكية مختلفًا جدًّا. ومن ثم فلعلَّ الجمبري الأعمى يستطيع بالفعل أن يرى الأشياء في قاع المحيط. أم هل الفوهات نفسها تنتج بريقًا خافتًا؟ هكذا تساءلت فان دوفر. على أي حال، فإن شعيرات المصباح الساخنة تتوهج، والفوهات المذكورة ساخنة وممتلئة بالمعادن المنصهرة.

لم يحدث قط أن تَمَّ إطفاء الأضواء عند الغطس في منطقة آلفين من قبل. ففي ذلك الظلام الدامس كان هذا الفعل من أشد صور الحماقة؛ إذ كانت هناك احتمالية كبيرة أن تسقط المركبة في إحدى الفوهات الحارة وتُشوَى بمن فيها، أو تُدمَّر أدواتها على الأقل. لم تكن فان دوفر قد نزلت بعد في إحدى تلك الفوهات بنفسها، بل نجحت في إقناع العالم الجيولوجي جون ديلاني الذي كان على وشك أن يغامر بالنزول بإطفاء الأضواء وتوجيه كاميرا رقمية داخل إحدى الفوهات. صحيح أن الظلام كان دامسًا بالنسبة للعين المجردة، لكن ديلاني التقط بالكاميرا صورة لهالة محددة بوضوح حول الفوهة ووصفها بأنها «تحوم في الظلام مثل ابتسامة قط تشيشاير.» وحتى في هذه الحالة، فإن هذه الصورة المبكرة لم تُعْطِ تلميحًا لنوع الضوء الذي انبعث، ولا لون الأشياء ولا درجة إضاءتها. فهل يمكن حقًّا أن «يرى» الجمبري ضوء الفوهات بينما لا نستطيع نحن أن نرى شيئًا على الإطلاق؟

كان من المتوقَّع لتلك الفوهات المظلمة، المتوهجة مثل شعيرات المصباح الساخنة، أن تبرق بلون أحمر تصل أطواله الموجية إلى المدى الحراري (قرب الأشعة تحت الحمراء). ومن المفترض نظريًّا أن الأطوال الموجية الأقصر، في النطاقات الصفراء والخضراء والزرقاء من الطيف، يجب ألا تنبعث إطلاقًا. وقد تمَّ إثبات هذه الافتراضات ببعض القياسات المبكرة، وإن كانت غير دقيقة؛ حيث وُضِعَتْ مرشحات ملونة على عدسة الكاميرا. ومن المفترض أنه إذا كان الجمبري يمكنه أن يرى ضوء الفوهات، فستحتاج «عيناه» لأن تتكيَّفا لرؤية الضوء الأحمر أو ما قرب الأشعة تحت الحمراء. إلا أن أولى الدراسات على عينَي الجمبري افترضت غير ذلك. فعلى العكس، تحقَّقَ أكبر استثارة لمادة الرودوبسين الصبغية عن طريق الضوء الأخضر، بطول موجي حوالي ٥٠٠ نانومتر. ومع أنه من الممكن قبول هذه النتيجة باعتبارها نوعًا من الشذوذ الضوئي، فإن القراءات الكهربائية لشبكية الجمبري، بالرغم من شدة صعوبة الحصول عليها، أفادت كذلك أن الجمبري يمكنه فقط أن يرى الضوء الأخضر. وكان هذا أمرًا غريبًا بالفعل؛ فإذا كانت الفوهات تتوهَّج بلون أحمر، ولا يستطيع الجمبري أن يرى إلا الأخضر فإنه يكون فعليًّا أعمى. فهل كانت تلك الشبكيات المجردة الغريبة بلا وظيفة، ولعلها أعضاء مضمحلة مثل العيون العمياء لأسماك الكهوف المظلمة؟ وقد أوحت حقيقة أنها موجودة على ظهور الجمبري وليست في رءوسها بأنها لم تكن أعضاء أثرية مضمحلة، ولكن لم يكن ذلك بدليل حاسم.

ثم جاء الدليل مع اكتشاف يرقاتها. فليس عالم تلك الفوهات سرمديًّا كما قد يبدو، بل كثيرًا ما تهلك الكائنات الحية ببعض تلك الفوهات اختناقًا بسبب ما قد يتدفق فيها من دخان أو غيره، فلا تزيد أعمارها عن أعمار البشر. وتنبثق فوهات جديدة في أماكن أخرى على قاع المحيط، وغالبًا ما تكون على بعد أميال كثيرة. ولكي تعيش الأنواع الحية بتلك الفوهات يجب أن تَعْبُر «الفجوة» الزمنية بين الموت والعيش قرب فوهات جديدة تعج بالحياة. وفي حين أن حركة معظم الحيوانات البالغة تعوقها عمليات تأقلمها مع أحوال الفوهات — ولتفكر فقط في تلك الديدان الأنبوبية العملاقة المحرومة من الفم والقناة الهضمية — فإن يرقاتها يمكن أن تنتشر بأعداد هائلة في مياه المحيط. وسواء أكانت اليرقات تعثر بالمصادفة على فوهات جديدة (بأن تنتشر بفعل تيارات المحيط العميقة) أو على أداة للاستقرار غير معروفة (باتباع التدرجات الكيميائية على سبيل المثال) فهذا موضع جدل ونقاش، ولكن الأشكال اليرقية ليست متأقلمة مع عالم الفوهات على الإطلاق. فهي تُوجَد في أغلب حياتها أقرب إلى سطح المحيط، وإن كانت لا تزال في عمقه، عند مستوى تتخلل فيه بعض أشعة الشمس المياه. وبتعبير آخر نقول إن اليرقات تعيش في عالم تكون فيه العيون مفيدة.

من بين أوائل اليرقات التي تَمَّ التعرُّف عليها، كانت يرقات نوع من سرطان البحر يحمل المسمى العلمي «بيثوجرايا ثرميدرون». ومما يثير الاهتمام أن السرطان البالغ من هذا النوع يشبه الجمبري البالغ الذي يستوطن تلك الفوهات في كونه يمتلك شبكيتين مكشوفتين بدلًا من العينين الكاملتين، ولكنه يختلف عن الجمبري في أن هاتين الشبكيتين تُوجَدان على رأسه في المكان الذي يُتوقَّع أن نجد العين عنده. ولكن كان الاكتشاف الأقوى أن يرقات ذلك النوع من السرطان كانت لها أعين، وهي أعين طبيعية، بالنسبة للسرطان على الأقل. ومن ثم، حينما كانت العيون مفيدة كانت للسرطانات عيون.

تبع ذلك اكتشاف العديد من اليرقات. تعيش أنواع عدة من جمبري الفوهات الحرمائية بجوار نوع ريميكاريس إكسوكيولاتا، ولكن يغفل العلماء عنها بسهولة، فهي كائنات تعيش مفردة وليست في جماعات كغيرها. وقد تبيَّن أنها تملك هي الأخرى شبكيات مكشوفة على رءوسها وليست ظهورها، وتشبه السرطان في أن يرقاتها لديها عيون طبيعية تمامًا. وفي الحقيقة إن آخر يرقات تمَّ التعرُّف عليها كانت يرقات الريميكاريس نفسه؛ وهذا يرجع جزئيًّا إلى أن تلك اليرقات تكون مشابهة — بشكل محيِّر — ليرقات الأنواع الأخرى من الجمبري، وجزئيًّا لأن لديها هي أيضًا أعينًا طبيعية تمامًا على رءوسها.

كان اكتشاف العيون العادية في اليرقات أمرًا مهمًّا للغاية. فمعناه أن الشبكية المكشوفة ليست مجرد عين مضمحلة، تمثل نهاية لأجيال من الخسارة، تؤدي وظيفة متبقية تنسجم مع الحياة في الظلام الدامس. فللأشكال اليرقية عيون جيدة تمامًا وإذا كانت تفضل أن تفقدها أثناء نضجها، فهذا لا علاقة له بأجيال من الخسارة التطورية المستديمة؛ بل كان شيئًا متعمدًا، أيًّا كانت التكاليف أو الفوائد. ولنفس السبب، نقول إن الشبكية المكشوفة لم تتطوَّر من العدم، بالغة في تلك البيئة المظلمة درجة ضئيلة من الأداء الوظيفي لا يمكنها أن تنافس العين الكاملة التي تكوِّن صورًا حقيقية. بل ما يحدث أنه ما إن تصل اليرقات إلى طور البلوغ تهبط إلى تلك الفوهات وتندثر عيونها وتختفي تمامًا، بأن تُمتَصَّ أجزاؤها، خطوة بخطوة، ولا يتبقى بعد ذلك إلا الشبكيات المكشوفة. وفي حالة الجمبري من نوع ريميكاريس إكسوكيولاتا وحده تختفي العيون تمامًا، وتنمو الشبكيات المكشوفة من لا شيء على ظهورها. ويبدو، بصفة عامة، أن الشبكية المكشوفة أكثر فائدة من العين الكاملة في سلسلة من الحيوانات المختلفة؛ فهي ليست حالة فردية، ولا من المصادفات … فلماذا؟

تكمن قيمة الشبكية المكشوفة في التوازن بين دقة الوضوح وبين الحساسية. وتعني دقة الوضوح: القدرة على رؤية (أو تبيُّن) تفاصيل الصورة. وهي تتحسن عند وجود العدسة والقرنية … إلخ؛ إذ إن تلك التراكيب كلها تساعد في تركيز الضوء على الشبكية؛ لتكوين صورة واضحة. أما الحساسية فهي عملية عكسية؛ إذ تعني القدرة على إدراك الفوتونات الضوئية. فإذا كانت لدينا حساسية منخفضة فإننا نستخدم الضوء المتاح بدرجة ضئيلة. وفي حالتنا هذه يمكن أن تزداد حساسيتنا للضوء باتساع فتحة دخول الضوء إلى العين (حدقة العين) وزيادة عدد الخلايا الحساسة للضوء في الشبكية (الخلايا العصوية). وحتى في هذه الحالة فإن تلك الوسائل ليست بلا نهاية، والآليات الميكانيكية المطلوبة لتوضيح الصور ستحد في النهاية من درجة حساسيتنا للضوء. والطريقة الوحيدة لتحسين الحساسية وزيادتها تكون بفقدان العدسة وتوسيع حدقة العين بدرجة غير محدودة؛ مما يزيد من الزاوية التي يمكن بها للضوء أن يدخل العين. وستتمتع العين بأكبر فتحة على الإطلاق حين لا تُوجَد فتحة من الأساس؛ أي حين تكون الشبكية مكشوفة. وإذا أخذنا تلك العوامل في الحسبان، فبإجراء عملية حسابية بسيطة نكتشف أن الشبكية المكشوفة في جمبري الفوهات البالغ تزيد بمقدار ٧ ملايين مرة أو أكثر في حساسيتها عن العيون كاملة التكوين في يرقاتها.

وهكذا فإن الجمبري، من خلال التضحية بالقدرة على توضيح الصورة، يكتسب القدرة على اكتشاف المستويات شديدة الانخفاض من الضوء وأن يعرف، بدرجة ما، من أين يأتي الضوء، على الأقل من أي جهة: من أعلى أو أسفل، من الخلف أو الأمام. هذه القدرة الرائعة على إدراك الضوء يمكن أن تكون فارقًا بين الحياة والموت في عالم يتقلَّب بين درجات حرارة عالية بما يكفي لشيِّ ذلك الجمبري في ثوانٍ معدودة، أو شديدة البرودة بما يهدد حياتها وبقاءها. وأتصوَّر أحد تلك الحيوانات وهو ينجرف إلى الفضاء الخارجي مثل رائد فضاء يَفْقِد اتصاله بسفينته الفضائية. وهذا قد يُفَسِّر السبب في أن لدى ذلك الجمبري من نوع ريميكاريس إكسوكيولاتا عينين على ظهره؛ إذ إنه يعيش في حشود على سلاسل الصخور التي أسفل الفوهات مباشرةً. ولا شكَّ أنه يكون في قمة ارتياحه حينما يلتقط الكمية المناسبة تمامًا من الضوء المصفَّى عَبْرَ الماء من أعلى لأسفل، حتى يصل إلى ظهره؛ إذ يكون رأسه مدفونًا تحت الأعداد الكبيرة المحتشدة من الجمبري. أما أقرباؤه الذين يعيشون متفرقين، فيكونون في وضع مختلف ظاهريًّا، فتُوجَد شبكياتهم المكشوفة على رءوسهم.

سنترك السؤال القائل: لماذا يرى الجمبري اللون الأخضر في عالم يَسُوده اللون الأحمر الخافت؟ إلى وقت آخر (علمًا بأنه لا يعاني العمى اللوني). أما الآن، فنقول بصفة أساسية إن النصف عين (وهي الشبكية المكشوفة) أفضل لذلك الحيوان من عين كاملة، على الأقل تحت ظروف معينة. ولسنا في حاجة إلى أن نؤكِّد على أفضلية وجود النصف عين تلك على عدم وجود عين على الإطلاق.

•••

تُعتبَر تلك الشبكية المكشوفة البسيطة، التي هي بقعة كبيرة حساسة للضوء، في واقع الأمر نقطة انطلاق لأغلب المناقشات التي تدور حول نشوء العين وتطورها. بل إن داروين نفسه تخيَّل أن تلك العملية بدأت ببقعة حساسة للضوء. وكثيرًا ما يُستشهَد بكلامه على نحوٍ خارجٍ عن سياق الكلام عن موضوع العيون، ليس فقط من جانب الذين يرفضون تقبُّل فكرة الانتقاء الطبيعي باعتبارها واقعًا، ولكن حتى في بعض الأحيان من جانب علماء يتحرَّقون شوقًا من أجل «حل» مشكلة يُفترَض أنها حيَّرَتْ ذلك الرجل والعالم الكبير داروين. وهكذا كتب داروين — وهي المقولة التي يكثر الاستشهاد بها — يقول عن العين:

فيما يخص افتراض أن العين بكل آلياتها الفذة الفريدة لضبط البؤرة من مسافات مختلفة، ولإدخال كميات مختلفة من الضوء، ولتصحيح الانحراف الكروي أو اللوني للضوء، يمكن أن تكون قد تكوَّنَتْ بالانتقاء الطبيعي، فإنني أعترف ببساطة أن هذا كلام سخيف بشدة.

لكن الجملة التي كثيرًا ما يغفل عنها الناس هي الجملة التالية التي توضح بجلاء أن داروين لم يعتبر العين عقبة على الإطلاق:

إلا أن المنطق يخبرني بأنه إذا كان من الممكن إظهار حدوث تدرجات ومراحل متعددة في تركيب العين بدءًا من مرحلة العين التامة معقدة التركيب وصولًا إلى العين الناقصة بسيطة التركيب — كل درجة منها مفيدة للحيوان الذي يمتلكها — إذا كانت العين تختلف حالاتها ولو إلى حد طفيف، وكانت هذه الحالات من الاختلاف يتم توارثها، وهو ما يحدث بالفعل، وإذا كان أي اختلاف أو تعديل في هذا العضو مفيدًا بأي حال لحيوان ما يخضع لظروف متغيرة من الحياة، ففي هذه الحالات جميعًا لا يكون من الصعب، بمعنى الكلمة، تصديق إمكانية أن تتكوَّن عين كاملة ومركبة بالانتقاء الطبيعي حتى وإن كان خيالنا عاجزًا عن تصوُّر ذلك.

وبألفاظ أكثر بساطة نقول: إذا كانت بعض الأعين أكثر تعقيدًا من أعين أخرى، وإذا كان من الممكن توارث الاختلافات في الإبصار العيني، وإذا كان ضعف الإبصار مضرًّا، فعلى حد قول داروين يمكن للعيون أن تتطوَّر. جميع هذه الظروف تحدث وتتحقق بكثرة؛ فما أكثر ما في العالم من عيون بسيطة وغير كاملة، بدءًا من البقع والنقر العينية التي تفتقر إلى وجود عدسة، إلى العيون الأكثر تعقيدًا التي تزدان ببعض، أو كل، الآليات الفذة والإمكانيات الفريدة التي تحدَّثَ عنها داروين! ومن المؤكد أن الإبصار العيني يختلف ويتفاوت، ويعرف هذا كلُّ من يرتدي نظارة، أو حتى من فَقَدَ إبصاره. ومن الواضح أننا نكون أكثر عرضة لأن يأكلنا أسد أو نمر، أو يصدمنا قطار أو سيارة، إذا لم نَرَ تلك الأشياء الخطيرة بأعيننا. وبطبيعة الحال، إن «الكمال» في هذه الدنيا أمر نسبي. فعَيْنَا النسر تزيدان في قوة الإبصار وتوضيح الصورة عن عينَيِ الإنسان، مع قدرة النسر على تبيُّن تفاصيل الأشياء من بُعد ميل، بينما تكون قوة إبصار الإنسان أفضل بمقدار ثمانين مرة من كثير من الحشرات، التي تكون الصورة لديها مشوشة كأنها لوحات من الفن الحديث.

أتصوَّر أن معظم الناس يتقبَّلون ما قاله داروين عن الظروف والأحوال دون تردُّد، لكن لا يزال من الصعب إدراك جميع المراحل البينية؛ فتخيُّل السلسلة المتصلة كلها يبدو أمرًا غير يسير، إن لم يكن مستحيلًا، وذلك بتعديل بسيط لكلمات الكاتب بي جي وودهاوس.٢ وما لم تكن كل خطوة مفيدة في حدِّ ذاتها، فلا يمكن أن تتطوَّر العين المعقَّدة، كما رأينا. لكن في حقيقة الأمر تبيَّنَ أن التطوُّر التقدُّمي للعين يمكن استيعابه بسهولة. ولقد تم تصويره على هيئة سلسلة من الخطوات البسيطة، مبينة في الشكل ٧-٢، على يد عالمين سويديين؛ هما: دان إريك نيلسون، وسوزان بلجر. إن كل خطوة تُعتبَر تحسُّنًا؛ بدءًا من الشبكية المكشوفة وانتهاءً بعين مشابهة لعين السمكة ولا تختلف كثيرًا عن عين الإنسان. ويمكن بالطبع أن تتقدَّم لأكثر من هذا بكثير (وهذا يحدث فعلًا)، فيمكن أن تُضاف قزحية قادرة على توسيع حدقة العين أو انقباضها لتغيير كمية الضوء الداخل إلى العين، من ضوء النهار المبهر إلى غسق المساء. كما يمكن ربط بعض العضلات بعدسة العين لتغيير شكلها، فتُشَد أو ترتخي؛ مما يتيح للعين أن تنقل بؤرتها من نقطة قريبة إلى نقطة بعيدة (وهو ما يُسمَّى بالتكيُّف). ولكن هذه الأمور تُعتبَر لمسات دقيقة لا تُوجَد لدى الكثير من أنواع العيون، ولا يمكن أن نُضِيفها في رسم التصميم إلا لعين تُوجَد فيها هذه الأشياء بالفعل. ومن ثم فسوف نقنع في هذا الفصل بوجود تسلسل مشابه، من أجل تطوير عين عاملة مكونة للصور، حتى إن لم يسعفنا هذا التصور المبدئي بشأن العديد من الإضافات الاختيارية.٣
fig22
شكل ٧-٢: تسلسل الخطوات المطلوبة من أجل تطور العين، طبقًا لكل من دان إريك نيلسون وسوزان بلجر، مع عدد تقريبي للأجيال المطلوبة لحدوث كل تغيير. وإذا افترضنا أن كل جيل يستغرق عامًا واحدًا، فإن التسلسل الكامل يتطلب أقل قليلًا من نصف مليون عام.
النقطة الحاسمة في هذا التسلسل هي أنه حتى أكثر العدسات العينية بدائية أو ضآلةً تكون أفضل من عدم وجود عدسة على الإطلاق (في مكان آخر غير المداخن السوداء بالطبع)، والصورة المشوشة أفضل من عدم وجود صورة. ونقول مجددًا إن ثمة مقايضة بين وضوح الصورة والحساسية للضوء؛ إذ يمكن تكوين صورة جيدة بشكل مثالي باستخدام كاميرا ذات ثقب دقيق، على سبيل المثال، بدون عدسة على الإطلاق. وحقًّا، تُوجَد عيون ذات ثقب دقيق في بعض أنواع الكائنات، ومن أوضح نماذجها حيوان بحري يُسمَّى «النوتي» وهو من الرأسقدميات الحية التي تمَّتْ بصلة قرابة لحيوان رخوي صدفي منقرض يُسمَّى الأمونيت.٤ وتتمثَّل المشكلة بالنسبة لحيوان «النوتي» في الحساسية للضوء؛ إذ يتطلَّب الحصول على صورة حادة الوضوح وجود فتحة ضيقة لتقليل كمية الضوء الداخل للعين. وعند قلة الضوء، تكون الصورة مُعتِمة لدرجة تجعل من غير الممكن تمييزها عمليًّا. وهي بالضبط مشكلة ذلك الحيوان الذي يعيش في المياه العميقة المظلمة. وقد توصَّلَ عالم يُدْعَى مايكل لاند، وهو أحد كبار الخبراء البريطانيين في عيون الحيوانات بجامعة ساسكس إلى أن إضافة عدسة إلى عين لها نفس الحجم يجعلها أكثر حساسية بمقدار ٤٠٠ مرة، وأكثر توضيحًا للصورة بمقدار ١٠٠ مرة. ومن ثم، فهناك فائدة كبيرة تنجم عن أي خطوات تجاه تكوين عدسة من أي نوع، وهي فائدة تترجم فوريًّا إلى المزيد من فرص البقاء على قيد الحياة.

ويُرجَّح أن أول عدسة مكونة للصور «بشكل صحيح» نشأت كانت تنتمي إلى إحدى ثلاثيات الفصوص، وهي طائفة من المفصليات المنقرضة كانت تُغطِّي أجسامها دروع مصفحة تُذكِّرنا بفرسان العصور الوسطى، وكان الكثير من أنواع تلك الطائفة يهيمن على البحار على مدى ٣٠٠ مليون عام. ظهرت أقدم عين في تلك الطائفة في أقدم حيوان معروف منها، ويعود إلى ٥٤٠ مليون عام مضى، قرب بداية «الانفجار» الكمبري، كما ذكرنا في بداية هذا الفصل. وبالرغم من كونها عيونًا متواضعة بالمقارنة بالروائع البصرية التي ظهرت بعدها ﺑ ٣٠ مليون عام. فقد أثار الظهور المفاجئ لتلك العيون لدى ثلاثيات الفصوص في سجل الحفريات تساؤلًا: هل يمكن حقًّا أن تكون العيون قد نشأت بهذه السرعة؟ وإذا كان الجواب نعم، فمن المرجح أن تكون حاسة الإبصار قد حفزت على حدوث الانفجار الكمبري، وذلك حسبما يذهب أندرو باركر. وإذا كان الجواب بالنفي، فلا بد أن تكون الأعين قد وُجِدَتْ في وقت سابق، لكن لسبب ما لم تدخل ضمن الحفريات. وإذا كان الأمر كذلك فلا يُعقَل أن يكون نشوء العيون قد دفع إلى حدوث الانفجار البيولوجي الكبير.

توحي أغلب الدلائل بأن الانفجار الكمبري حدث في وقته ذلك؛ لأن تغيُّر الأحوال البيئية سمح بالهروب من قيود الحجم. فالمرجح أن أسلاف حيوانات العصر الكمبري كانت صغيرة الحجم وتفتقر إلى أجزاء صلبة؛ مما يفسر قلة حفرياتها. كما منع هذا الأمر نشوء أعين مفيدة. ويتطلب الإبصار المكاني وجود عدسة كبيرة وشبكية متسعة ومخ قادر على تفسير ما يصله من إشارات، ومن ثم يمكن أن ينشأ فقط في الحيوانات التي تصل إلى حجم يكفي للوفاء بهذه الاحتياجات. ومن المرجَّح أن جانبًا كبيرًا من أجهزة الإبصار الأصلية مثل الشبكية المكشوفة والجهاز العصبي البدائي كان يُوجَد في حيوانات صغيرة عاشت قبل العصر الكمبري، ولكن في الغالب أُعِيقَ حدوث تطورات أخرى، بسبب صغر أحجام الحيوانات. كان الدافع المباشر لنشوء الحيوانات الكبيرة، على الأرجح، هو تزايد مستويات غاز الأكسجين في الهواء والبحار. فلا يمكن الحصول على الحجم الكبير ولا حدوث عملية الافتراس للفرائس إلا في وجود مستويات مرتفعة من الأكسجين (ولا شيء آخر غير الأكسجين يمكنه إتاحة الحصول على الطاقة الضرورية؛ انظر: الفصل الثالث). وقد وصل الأكسجين سريعًا إلى مستوياته المعاصرة قبل حلول العصر الكمبري بفترة قصيرة، في أعقاب سلسلة من تراكمات الجليد؛ بما يُعرَف باسم «الكرة الأرضية الثلجية». وفي هذه البيئة الجديدة المكهربة، المشحونة بالأكسجين، صار من الممكن ظهور الحيوانات الكبيرة التي تعيش على الافتراس لأول مرة في تاريخ الكوكب الأرضي.

كل هذا جميل، لكن لو لم تكن العيون الحقيقية موجودة قبل العصر الكمبري لبرز السؤال الذي ذكرناه، بقوة أكبر: هل يمكن حقًّا أن تكون العيون قد نشأت بهذه السرعة بالانتقاء الطبيعي؟ فلم تكن ثمة عيون إطلاقًا منذ ٥٤٤ مليون سنة مضت ثم نشأت عيون تامة التكوين بعد ذلك بأربعة ملايين سنة. ظاهريًّا، تبدو الحفريات مناقضة للمتطلبات الداروينية الخاصة بضرورة حدوث مليون تدرج سلس، كلٌّ منها مفيد في حدِّ ذاته. لكن في واقع الأمر، يمكن تفسير المشكلة بدرجة كبيرة من خلال ما يحدث من تعارض في المقاييس الزمنية بين المدى المألوف للحياة والأجيال من ناحية وبين المرور الرتيب للعصور الجيولوجية من ناحية أخرى. فأي تغيُّر يحدث عَبْرَ مليون سنة إذا قسناه مقابل ما يمر من مئات الملايين من السنين في إيقاع رتيب فإنه يبدو كأنه حدث في عجالة سريعة، ولكنه لا يزال يُعتبَر زمنًا طويلًا بالغ الطول بالنسبة لما تعيشه الكائنات الحية. فكل ما لدينا من أجيال حديثة من الكلاب، على سبيل المثال، نشأت أصلًا من الذئاب وتطوَّرت، بمساعدة من البشر، في خلال واحد على مائة من ذلك الزمن.

من وجهة النظر الجيولوجية، حدث الانفجار الكمبري كغمضة عين؛ فيما لا يزيد على ملايين قليلة من السنين. ولكن من وجهة النظر التطورية يُعتبَر هذا الحدث زمنًا طويلًا، وحتى مدة نصف مليون عام من الزمن تُعتبَر أكثر مما يكفي لكي تنشأ عين وتتطور. وقد عكف العالمان نيلسون وبلجر، وهما يُقدِّمان فرضيتهما لتسلسل الخطوات (انظر الشكل ٧-٢) على حساب الزمن المطلوب. وقد افترضا على نحوٍ متحفظ أن كل خطوة لن تُحدِث سوى تغيير قَدْره ١ بالمائة فيما يتعلَّق بتلك التركيبة العينية بالذات، في صورة تعمُّق طفيف في كرة العين، أو تغيُّر طفيف في العدسة … إلخ. وحينما أحصيا جميع الخطوات، صعقَا حينما وجدَا أن العين تحتاج إلى ٤٠٠ ألف تغيُّر محدد لكي تتطور من مرحلة الشبكية المكشوفة البدائية إلى العين مكتملة التكوين (وهذا الرقم لا يبتعد كثيرًا عن رقم المليون الذي طرحته ارتجالًا). ثم افترضَا أن التغيُّر الواحد يستغرق جيلًا واحدًا (وإن كان من الممكن بسهولة أن تحدث تغيرات عدة دفعة واحدة؛ مما يوضح أن التقدير المذكور متحفظ). وافترضَا في نهاية الأمر أن النوع العادي من الحيوانات البحرية الذي تَحْدُث فيه تلك التغيُّرات يُتوقَّع أن ينجب مرة واحدة في العام. وعلى هذا الأساس، استنتجا أن عينه تستغرق أقلَّ من نصف مليون عام حتى تتطوَّر إلى عين كاملة.٥

وإذا كانت جميع هذه الاعتبارات صحيحة، فإن نشوء العيون يُعتبَر حقًّا بمنزلة شرارة إطلاق للانفجار الكمبري. وإذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يُعَدَّ نشوء العين وتطوُّرها ضمن أهم الأحداث وأكثرها إثارةً في تاريخ الحياة على الأرض.

•••

لكن ثمة خطوة تثير الارتباك في منظومة نيلسون وبلجر؛ وهي المرحلة الأولى في تطوُّر عدسة العين. فما إن تُوجَد العدسة البدائية، حتى يصبح من السهل أن ترى كيف يمكن أن يحدث الانتقاء الطبيعي تعديلًا وتحسينًا فيها، ولكن كيف تتجمَّع المكونات المطلوبة في المقام الأول؟ وإذا كانت الأجزاء والقطع المطلوبة لبناء عدسة العين لا فائدة منها في حد ذاتها، أفلا يجب أن تتخلَّص منها عملية الانتقاء الطبيعي جزافيًّا قبل أن تبدأ أعمال البناء؟ وهل يمكن أو يُحتمَل أن تفسر هذه الصعوبة السبب في أن حيوان النوتي لم يكن لديه عدسة عين مطلقًا، حتى وإن كان ممكنًا أن تكون مفيدة له؟

الواقع أن هذا السؤال ليس سؤالًا مشروعًا من الأساس، وفي وقتنا الحالي على الأقل يجب أن نعتبر حيوان النوتي بمنزلة أعجوبة فريدة لأسباب غير معروفة؛ إذ وجدت معظم الأنواع طرقًا ممهدة لذلك (ومنها أقرباء أحياء قريبون جدًّا من النوتي؛ مثل: الأخطبوط والحبار)، وبعضها كانت طرقه تلك إبداعية مذهلة. ومع أن العدسة تُعتبَر نسيجًا متخصصًا، فإن عملية تكوينها تتم بطريقة انتهازية، المرة تلو الأخرى؛ إذ تُجلَب لبناتها البنائية من أي مصدر في متناول اليد، من المعادن والبلورات إلى الإنزيمات، وحتى فتات الخلايا.٦
تُعَدُّ ثلاثيات الفصوص مثالًا ممتازًا لتلك الانتهازية، وقد تتعجب إذا عرفت أن عين الحيوان منها تحتوي بالفعل على قطعة حجر؛ إذ إن عدسات عيون ثلاثيات الفصوص تتكوَّن من البلور بالأساس، مادة الكالسيت المعدنية. والكالسيت هو اسم آخر لمادة كربونات الكالسيوم. والحجر الجيري صورة غير نقية من تلك المادة، أما الطباشير فهو صورة أكثر نقاوة بكثير. وتتكوَّن منحدرات دوفر الصخرية البيضاء من الكالسيت النقي تقريبًا، الذي يتخذ صورة بلورات دقيقة غير منتظمة تنتثر بخفة وبشكل عشوائي، بما يكسب الطباشير لونه الأبيض. وعلى العكس من هذا، إذا كانت بلورات الكالسيت تنمو ببطء (وهذا يحدث غالبًا في العروق الصخرية المعدنية) فيمكن أن يتخذ صورة تراكيب رائقة دقيقة شبه مكعبة تُعرَف باسم المعينات. ولتلك المعينات خاصية بصرية تثير الانتباه، وتنتج طبيعيًّا عن التشكل الهندسي للذرات المكونة لها؛ إذ تكسر الضوء من جميع الزوايا فيما عدا الضوء المحوري الساقط باستقامة وبدقة مرورًا بمنتصف البلورة. فإذا دخل الضوء عَبْر هذا المحور المميز، ويُسمَّى المحور سي، فإنه يمر باستقامة تامة لا يَعُوقه شيء، وكأنه مَلِكٌ يسيرُ على بساط أحمر. وقد تحوَّلَتْ هذه الظاهرة المثيرة إلى فائدة لصالح ثلاثيات الفصوص. فكلٌّ من السطيحات العينية العديدة التي لديها تستخدم عدساتها الكالسيتية الدقيقة مستفيدة من المحور سي المفضَّل الذي ذكرناه آنفًا (انظر الشكل ٧-٣). ويمكن أن يمر الضوء من كل عدسة من اتجاه واحد فقط إلى الشبكية التي تحتها.
fig23
شكل ٧-٣: عدسات بلورية من إحدى ثلاثيات الفصوص من نوع «دالمانيتينا سوشياليس»، وُجِدَتْ في صخور أورودوفيشيا في بوهيميا بجمهورية التشيك تظهر تفاصيل السطح الداخلي للعدسات، ويبلغ عرض كلٍّ منها نصف مليمتر تقريبًا.

إن الكيفية التي نَمَتْ بها العدسات البلورية لدى ثلاثيات الفصوص — بحيث تصطفُّ في الاتجاه السليم — غير معروفة، ويُرجَّح أن تبقى كذلك؛ إذ إنها انقرضت في العصر البرمي، وقد هلك آخرها منذ ٢٥٠ مليون عام مضى. ولكن الواقع الذي يقول إن ثلاثيات الفصوص قد دخلت في غياهب الصمت بمرور تلك الأحقاب الزمنية لا يعني عدم وجود وسيلة لمعرفة كيفية نشوئها. وقد برز فجأةً دليلٌ جيِّدٌ من مصدر غير متوقَّع في عام ٢٠٠١. ويبدو أن عدسة عين ثلاثيات الفصوص ليست فريدة في نوعها كما كان يُظَنُّ سابقًا؛ إذ يُوجَد حيوان حي من نوع يُسمَّى النجم الهش، يستخدم العدسات الكالسيتية أيضًا للرؤية.

fig24
شكل ٧-٤: العدسات البلورية للنجم الهش من نوع «أوفيوكوما وندتيي» الموجودة على الصفيحات الهيكلية أعلى كل ذراع، التي بدورها تحمي المفاصل.
يُوجَد حوالي ألفَيْ نوع من النجوم الهشَّة، وكلٌّ منها لديه خمس أذرع مثل أبناء عمومتها من نجوم البحر. ولكن النجم الهش يختلف عن نجم البحر العادي في أن أذرعه رفيعة، طويلة، وتتدلى إلى أسفل، وتتكسَّر إذا رُفِعَتْ إلى أعلى (ومن ثمَّ جاءت التسمية). ولجميع النجوم الهشة هياكل صُنِعَتْ من صفيحات متشابكة من الكالسيت، وهذه تتكوَّن منها أيضًا أشواك على الأذرع تستخدمها في الإمساك بالفرائس. وأغلبها غير حساس للضوء، ولكن يُوجَد منها نوع يُسمَّى «أوفيوكوما وندتيي»، يربك من يلاحظه بأن يسعى سريعًا نحو الشقوق المظلمة على بعد متر إذا جاء حيوان مفترس. كانت المشكلة أن هذا النوع ليست لديه أعين، أو هكذا كان يُظَن، إلى أن لاحظ فريق بحثي من معامل بل وجود مجموعات من البروزات الكالسيتية على أذرعه تضاهي عدسات ثلاثيات الفصوص (انظر الشكل ٧-٤). وتمكَّنوا من إظهار أن هذه البروزات تعمل بالفعل كعدسات عينية، تركز الضوء على خلايا حساسة للضوء تُوجَد تحت العدسات.٧ فبالرغم من حرمان النجم الهش من وجود ما يمكن اعتباره مخًّا، فإن لديه عيونًا تؤدي وظيفتها. وعلى حدِّ قول مجلة «ناشونال جيوجرافيك»: «على نحوٍ غير متوقَّع من جانب الطبيعة، يملك البحر عيونًا في نجومه.»

فكيف تكوَّنَتْ عدسات النجم الهش؟ بالرغم من عدم معرفة الكثير من التفاصيل حتى الآن، فبصفة عامة نقول إنها تكوَّنَتْ بنفس الطريقة مثل غيرها من التراكيب البيولوجية ذات التكوين المعدني؛ مثل أشواك قنافذ البحر (مصنوعة أيضًا من الكالسيت). وتبدأ تلك العملية داخل الخلايا، حيث تتفاعل التركيزات العالية من أيونات الكالسيوم مع البروتينات؛ ومن ثم تربط هذه البروتينات في أوضاع ثابتة، وتُعَدُّ بمنزلة بذرة لتكوين البلورة، وذلك تمامًا مثلما كان الشخص المتفائل الواقف أمام متجر بقالة خاوٍ من البضائع في الاتحاد السوفييتي السابق يكوِّن نواةً لطابور متتابع. فمثلما يقف الشخص دون حِراك ويأتي آخرون من بعده ليقفوا إلى جواره، كذلك تثبُت الذرة في موضعها وتلتصق بها الذرات الأخرى.

وعلى نحوٍ يؤكد فكرة الاختزالية، إذا تمَّتْ تنقية البروتينات المسئولة عن بذر بلورات الكالسيت وفُرِشَتْ على فرخ من الورق، ثم وُضِعَتْ في محلول مُركَّز من كربونات الكالسيوم، فستتكوَّن بلورات مثالية على الورق، متشكلة بأشكال معينة مع اتجاه محور سي البصري الخاص بها باستقامة لأعلى، كما يحدث تمامًا لعدسة عين ثلاثيات الفصوص (انظر الشكل ٧-٥). بل إن ثمة تلميحًا لكيفية تكوُّنها في المقام الأول. ولا يهم كثيرًا انتقاء نوع البروتين بالضبط؛ فكل ما يهم فقط هو أن تكوُّن جزيئات البروتين محفوفة بسلاسل جانبية حمضية. وفي عام ١٩٩٢، أي قبل أن يعرف أي امرئ شيئًا عن عدسات النجوم الهشة بعقد كامل، قام عالمان متخصصان في علم المعادن الحيوية — هما ليا أدادي وستيفن واينر — بإنماء عدسات واضحة من الكالسيت على فرخ من الورق، مستخدمين بروتينات حمضية معزولة من أصداف حيوانات رخوية، بالتأكيد لا تستطيع الرؤية. وبتعبير آخر نقول إنه بالرغم من روعة هذه العملية، فإنها بالكامل تحدث تلقائيًّا حينما تمتزج بروتينات عادية بمعادن عادية. إنها رائعة بالتأكيد، ولكنها ليست أروع مما يحدث من عمليات تكوُّن طبيعية لمجموعات من البلورات الناتئة العجيبة التي تُوجَد في كهوف طبيعية؛ مثل كهف السيوف في المكسيك.
fig25
شكل ٧-٥: بلورات معينة من الكالسيت تنمو على ورقة فُرِشَتْ عليها بروتينات حمضية من أصداف حيوانات رخوية، ووُضِعَتْ في محلول مُركَّز من كربونات الكالسيوم. ويشير المحور سي البصري إلى أعلى باستقامة؛ وهو الاتجاه الوحيد الذي يمر الضوء عَبْرَه خلال البلورة دون أن يتشتَّت.

إلا أن تلك العيون البلورية بالرغم من حساسيتها للضوء، تُعتبَر عمياء من الناحية العملية. وتكمن الأهمية الحقيقية لعيون ثلاثيات الفصوص في قيمتها التاريخية، بوصفها أول عيون حقيقية وليس في كونها أثرًا باقيًا من معالم النشوء والتطور. وقد تكوَّنَتْ أنماط أخرى من البلورات الطبيعية لتؤدي وظائف لدى كائنات أخرى، لا سيما الجوانين (إحدى اللبنات البنائية للدي إن إيه)، الذي يتبلور في شكل صفيحات يمكنها أن تركِّز الضوء في البؤرة. وتكسب بلورات الجوانين قشور السمك مظهرها اللوني الفضي، وتُضاف إلى الكثير من مستحضرات التجميل لنفس الغرض، لكنها تُوجَد أيضًا في الجوانو (ومنه اكتسبت اسمها)؛ وهي الفضلات الجافة للطيور والخفافيش. كما تعمل بلورات عضوية مشابهة كمرايا بيولوجية، ومعظم الناس يعرفونها؛ إذ تظهر على شكل عاكسات للضوء في عيون القطط. فهي تُحسِّن الرؤية الليلية عن طريق ردِّ الضوء وإعادته للشبكية، مانحة مستقبلات الضوء فرصة أخرى لالتقاط الفوتونات القليلة في عتمة الليل. وتُوجَد مرايا أخرى طبيعية تُركِّز الضوء على الشبكية لتكوين صورة حقيقية. وهذه تشمل العيون الجميلة المتعدِّدة لمحار الإسكالوب، التي تلوح من بين اللوامس الموجودة على حواف المحارة، وتستخدم مرايا مقعرة تحت الشبكية لتركيز الضوء. كما تعتمد العيون المركبة لكثير من القشريات — بما فيها القريدس والجمبري وجراد البحر (الإستاكوزا) — على مرايا لتركيز الضوء، وتستخدم كذلك بلورات طبيعية على طول خطوط الجوانين.

لكن — بصفة عامة — فإن الدفعة الأساسية للنشوء والتطور، وأكبر أمجادهما، هي أن العدسات العينية تكوَّنَتْ من بروتينات متخصصة مثل التي لدينا. فهل هذه أيضًا تراكيب انتهازية تم ترقيعها معًا من مكونات موجودة بالفعل ولها استخدامات أخرى في الجسم؟ مع أنه أحيانًا ما يُفترَض أن النشوء والتطور علم تاريخي؛ ومن ثم لا يمكن إثباته بطريقة أو بأخرى، فإنه يمكن عن طريقه التوصُّل إلى توقُّعات محددة جدًّا يمكن اختبارها. وفي هذه الحالة تتوقع النظرية أن بروتينات العدسة يجب الحصول عليها وتوظيفها من بين البروتينات الموجودة بالفعل، التي لها استخدامات أخرى في الجسم، على أساس عدم إمكان نشوء بروتين متخصص للعدسة قبل وجود العدسة نفسها.

من الواضح أن عدسة عين الإنسان نسيج متخصص للغاية؛ فهي شفافة، خالية من الأوعية الدموية، وقد فقدَتْ خلاياها جميعَ خواصها تقريبًا، مكتفية بتركيز البروتينات في تجمُّع بلوريٍّ سائل، قادر على كسر الضوء لتكوين صورة واضحة على شبكية العين. وبطبيعة الحال، إن العدسة قادرة على تغيير شكلها لتغيير عمق المجال البصري. وعلاوة على هذا، فإن مدى انكسار الضوء بمروره خلال العدسة يتفاوت، متجنِّبًا عيوبًا مثل الانحراف (أو التشوُّه) الكروي (حيث يتم تركيز الضوء المار خلال مركز العدسة أو حافتها في نقاط بؤرية مختلفة). وفي ضوء كل تلك المعلومات، قد نخمِّن أن تكون البروتينات المطلوبة لتشكيل ذلك التجمع النقي من مادة العدسة فريدة في نوعها، ولها خصائص بصرية لا نجدها في البروتينات المعتادة في حياتنا اليومية، ولكننا إذا ظننا هذا فسنكون مخطئين تمامًا.

فالبروتينات التي تُوجَد في عدسة عين الإنسان تُسمَّى البلَّوْرينات (أو الكريستالينات)، وقد أُطلِق عليها هذا الاسم تبعًا لما كان يُظَنُّ من أن لها بالفعل خصائص فريدة تقتصر على عدسة العين. وهي تُشكِّل حوالي ٩٠ بالمائة من البروتينات الإجمالية في عدسة العين. ولأن العدسات تتشابه إلى حدٍّ بعيدٍ في أنواع الكائنات المختلفة، في مظهرها ووظيفتها، فيبدو من المعقول افتراض أن جميعها تتكوَّن من بروتين مشابه. ولكن حينما أُتِيحَتْ على نطاق واسع تقنيات حديثة لمقارنة تسلسل اللبنات البنائية في البروتينات المختلفة، بدءًا من بدايات عقد الثمانينيات من القرن الماضي، ظهرت الحقيقة المفاجئة. فالبلورينات ليست من البروتينات البنيوية (التركيبية)، بل إن أغلبها لا يقتصر وجوده على عدسة العين بل يمارس أعمالًا أخرى في أماكن أخرى بالجسم. بل الأعجب في هذا، والأبعد عمَّا كان يُظَنُّ سابقًا، أن تبيَّنَ أن الكثير من البلورينات هي من الإنزيمات (أي المحفزات البيولوجية) التي لها وظائف طبيعية في «تسيير الأمور» في بعض الأماكن الأخرى في الجسم. وأكثر أنواع هذه البلورينات توافرًا في عدسة العين البشرية يُسمَّى ألفا-بلَّورين (ألفا-كريستالين) على سبيل المثال، وله صلة بأحد بروتينات التوتر؛ الذي اكتُشِف لأول مرة في ذبابة الفاكهة، ومن المعروف الآن أنه واسع الانتشار في الحيوانات. أما في البشر، فإنه يقوم بدور «الحارس الشخصي» للبروتينات الأخرى؛ بمعنى أنه يحميها من التلف. وبهذا الاعتبار، فإنه لا يُوجَد في العين فحسب، بل يُوجَد أيضًا في المخ والكبد والرئتين والطحال والأمعاء الدقيقة والجلد.

وقد تمَّتْ حتى الآن فهرسة أحد عشر نمطًا من البلورين، ويُوجَد منها ثلاثة فقط في عيون جميع الفقاريات، ويتفاوت الباقي من مجموعة لأخرى، بما يدل على أنها «وُظِّفَتْ» لتعمل في عدسة العين بشكل مستقل تمامًا، وهو الأمر المتوقع تمامًا من الانتقاء الطبيعي. لن نركز كثيرًا على أسماء هذه الإنزيمات أو وظائفها، ولكن من العجيب أن هذه المجموعة من البروتينات الأيضية التي يضطلع كلٌّ منها بمهمة محددة في الخلية قد أُخِذَتْ ودُفِعَتْ لأداء خدمة مختلفة بمعنى الكلمة. وكأن الجيش لم يُجَنِّد فيه سوى التجار وأعضاء نقابة العاملين بالتجارة والصناعة. ولكن أيًّا كانت الأسباب؛ فلا يُوجَد شيء يتعلَّق بهذه السياسة الشاذة يوحي بأن من الصعب تحديدًا تجنيد بروتينات عدسة العين.

وبصفة عامة، لا شيء يُمَيِّز بروتينات العدسة؛ فهي أُخِذَتْ من أماكن أخرى بالجسم ودُفِعَتْ لأداء المهمة المطلوبة منها. جميع البروتينات تقريبًا تتميَّز بأنها شفافة؛ ومن ثم لا يُعتبَر اللون مشكلة (والبروتينات التي تقترن بالأصباغ الطبيعية، مثل الهيموجلوبين، هي فقط التي تتميز بلون قوي خاص بها). ويمكن تحقيق تغييرات في الخصائص البصرية مثل درجة تحريف الضوء (أو ما يُسمَّى الانكسار) عند مروره بالعدسة ببساطة عن طريق تغيير تركيز البروتين، الأمر الذي يتطلَّب بالتأكيد الدقة والبراعة، ولكنه لا يُعَدُّ عقبة كئودًا. وليس معروفًا السبب في أن الكثير من البروتينات العدسية من الإنزيمات، إذا كان ثمة سبب لذلك من الأساس، ولكن أيًّا كان السبب، فإن البروتينات العدسية المتكوِّنة بشكلٍ مثاليٍّ لم تقفز إلى الوجود من الفراغ.

ثمة نافذة نفذت من خلالها كل تلك البروتينات إلى الوجود؛ وهي نوع من الحيوانات اللافقارية الدنيا التي تُعرَف باسم غير تقليدي هو «نفاخات البحر» (واسمه العلمي المحدد هو «سيونا إنتستيناليس»؛ ومعناه الحرفي «عمود الأمعاء». ولم يكن نظام لينيوس رحيمًا عند منحه هذا الاسم). لا يفصح الطور البالغ من هذا الحيوان إلا عن القليل من صفات سلالته؛ فهو في الأساس في شكل كيس نصف شفاف يلتصق بإحدى الصخور، ولديه سيفونان متأرجحان أصفرَا اللون، يدخل من خلالهما الماء ويخرج. وتنتشر تلك الحيوانات في المياه الساحلية حول المملكة المتحدة، لدرجة أن البريطانيين يعتبرونها من الآفات. إلا أن يرقات تلك الحيوانات تفشي السر الدفين لهذا الحيوان، وتظهر أن هذا الحيوان أكثر بكثير من أن يكون مجرد آفة؛ إذ تبدو اليرقات قليلًا كحيوانات أبي ذنيبة (أفراخ الضفدع) ويمكنها السباحة هنا وهناك، مستفيدة من جهازها العصبي البدائي وعينين بدائيتين تخلوان من العدسات. وما إن تجد اليرقة مسكنًا مناسبًا، حتى تلصق نفسها بإحكام بتلك البقعة، ثم تقوم بامتصاص مخها الذي لم تَعُدْ تحتاجه (ويقول ستيف جونز متندرًا إن هذا عمل باهر يُثِير الكثير من الإعجاب لدى أساتذة علم الحيوان الجامعيين).

مع أن الطور البالغ من نفاخة البحر لا نعرف عنه أي صلة بالإنسان، فإن الطور اليرقي ذو صلة به؛ فنفاخة البحر حيوان حبلي بدائي بمعنى أن له حبلًا ظهريًّا، وهي المرحلة التطورية السابقة على الحبل الشوكي. وهذا الأمر يضعه في مصاف الفروع المبكرة للحبليات، ومن ثم جميع الفقاريات. وفي الواقع إنه انشق عن الفقاريات قبل نشوء عدسة العين، وهذا يعني أن هذا الحيوان قد يعطي فكرة عن كيفية تكوُّن عدسات عيون الفقاريات في المقام الأول.

وقد حدث هذا بالفعل. ففي عام ٢٠٠٥، وجد سباستيان شيميلد وزملاؤه بجامعة أكسفورد أن هذا الحيوان، بالرغم من افتقاره إلى عدسة عينية، فإن لديه بروتينًا سليمًا من البلورين، ليس في عينه، ولكن في مخه بعيدًا عن العين. لا نعلم تحديدًا ما يفعله في المخ، ولكن هذا لا يعنينا في هذا المقام. بل ما يعنينا هو أن نفس الجينات التي تتحكم في عملية تكوُّن عدسة العين في الفقاريات تتحكم أيضًا في نشاط هذا البروتين في نفاخة البحر؛ إذ يؤدي وظيفة في المخ كالتي يؤديها في العين. وهكذا فإن المنظومة الكلية المخصصة لتكوين عدسة العين كانت موجودة أصلًا في السلف المشترك للفقاريات ولنفاخات البحر، قبل أن يشق كلٌّ منهما طريقه. وقد حدثت عملية تحويل تنظيمية صغيرة في الفقاريات نقلت هذا البروتين من المخ إلى العين. ويُفترَض أنه حدثت عمليات غزو مشابهة أدت إلى عمليات «تجنيد» متكررة لبلورينات أخرى من أماكن أخرى بالجسم، بعضها في السلف المشترك للفقاريات، بينما وُجِدَ البعض الآخر في وقت أحدث في مجموعات حيوانية معينة. وليس معروفًا السبب في عدم حدوث عملية التحويل البسيطة لاستخدام مصدر البلورين لدى حيوان نفاخة البحر؛ ربما لأن حصوله على صخرة يلتصق بها أمر سهل نسبيًّا حتى بدون عدسة للعين، فهو لا يحتاجها. وحتى في هذه الحالة فإنه يُعَدُّ حالة فريدة؛ فمعظم الفقاريات حدثت فيها هذه العملية — إذ حدثت إحدى عشرة مرة على الأقل — ومن ثم لا تُوجَد خطوات شديدة الصعوبة في تسلسل تكوين العين.

•••

وإذا تركنا هذا الخضم المتوافق من البروتينات والبلورات والمعادن التي تُشكِّل تركيبة عدسة العين لدى أنواع متشعبة من الحيوانات، فسنجد أن بروتينات شبكية العين تختلف اختلافًا كبيرًا. من هذه البروتينات نوع محدد يبرز في تميزه؛ إذ تُعتبَر جزيئاته مسئولة عن الإحساس بالضوء، وهي مادة صبغية تُسمَّى «الرودوبسين». وعلينا العودة بالذاكرة إلى نوع جمبري الفوهات، الذي يُسمَّى علميًّا «ريميكاريس إكسوكيولاتا»، بما لديه من شبكيتين مكشوفتين سطحيتين. فبالرغم من التميُّز الواضح لعالم الفوهات في أعماق المحيط، وبالرغم من غرابة الشبكيتين المكشوفتين على ظهر هذا النوع من الجمبري، وبالرغم من قدرة هذا الجمبري العجيبة على إدراك البصيص الخافت من الضوء، بينما لا يستطيع البشر ذلك، وبالرغم من تعيُّشه على بكتيريا الكبريت، وأن دمه أزرق، وليس لديه عمود فقاري، ومع أن آخر تشارك له مع البشر في سلف مشترك هو منذ حوالي ٦٠٠ مليون سنة مضت، أي قبل ما يُسمَّى الانفجار الكمبري بكثير … بالرغم من كل ذلك، فإن هذا النوع من الجمبري يستخدم نفس البروتين الذي نستخدمه نحن البشر في الإبصار. فهل هذه الرابطة العميقة عَبْر الزمان والمكان لا تزيد عن كونها مجرد مصادفة عجيبة، أم أنَّ الأمر أكثر أهمية من هذا؟

صحيح أن بروتين الإبصار الموجود في الجمبري وذلك الذي في البشر ليسا متماثلين تمامًا، ولكنهما متشابهان لدرجة كبيرة جدًّا، لدرجة أنك إذا وقفت في ساحة القضاء محاولًا إقناع القاضي بأن وجود الرودوبسين لديك ليس انتحالًا مكشوفًا لما سبق؛ فالأرجح ألا تكسب القضية، بل ربما تحوَّلت إلى مادة للضحك والسخرية، فالرودوبسين لا يقتصر وجوده على جمبري الفوهات والبشر، ولكنه واسع الانتشار في جميع أنحاء المملكة الحيوانية. على سبيل المثال نحن لا نعرف سوى القليل عن آليات العمل الداخلية للعين في ثلاثيات الفصوص، تلك الآليات التي لم يتم حفظها مع عدساتها العينية البلورية، ولكننا نعرف ما يكفي عن أقربائها بحيث نقول بشيء من الجزم إن أعينها احتوت على الرودوبسين. وجميع الحيوانات، عدا استثناءات قليلة، تعتمد على نفس البروتين تمامًا. وإن محاولتك إقناع القاضي بأن الرودوبسين الذي لديك ليس منتحلًا يشبه محاولتك الادعاء أن جهاز تليفزيونك مختلف أساسًا عما لدى الآخرين من أجهزة التليفزيون لمجرد أنه أكبر حجمًا أو لأن شاشته مسطحة.

هذا التشابه الواضح يمكن أن يأتي من طرق عدة؛ فقد يعني أن الجميع ورثوا نفس البروتين من سلف مشترك. لقد حدث الكثير من التغيرات الصغيرة خلال اﻟ ٦٠٠ مليون سنة الأخيرة بطبيعة الحال، ولكنه لا يزال نفس البروتين كما هو واضح. أو قد يعني أنه تُوجَد ضغوط تصميمية شديدة على الجزيئات القادرة على إدراك الضوء جعلت جميع الأنواع مدفوعة إلى تطوير البروتين عينه. وهذا يشبه مشاهدة برامج التليفزيون على شاشة الكمبيوتر؛ فهذه حالة من التقنيات المختلفة التي تتلاقى عند حل متماثل. أو قد تعني، في نهاية المطاف، أن الجزيئات قد تم نقلها من نوع إلى آخر، في حالة من السطو العدواني لا الوراثة.

لكن يمكننا بسهولة حذف ذلك الاحتمال الثالث والأخير. فصحيح أن هناك ما تُسمَّى سرقة الجينات بين أنواع الكائنات (إذ تنقل الجينات عن طريق حالات العدوى الفيروسية على سبيل المثال)، ولكنه ليس أمرًا شائعًا خارج نطاق البكتيريا، وحينما يحدث فإنه يكون بارزًا بوضوح مثل إصبع داحس. إن قائمة الفروق الطفيفة بين البروتينات عَبْر أنواع الكائنات يمكن مطابقتها بالعلاقات المعروفة بين الأنواع. وإذا كان قد حدث سطو على البروتين البشري وتم إدخاله في جمبري الفوهات، فسيكون واضحًا للغاية أمام أنظارنا؛ إذ سيبدو واضحًا أنه ينتمي إلى البشر وليس إلى الجمبري. من ناحية أخرى، إذا كانت الفروق قد تراكمت تدريجيًّا بمرور الزمن في أسلاف الجمبري فسيكون بروتين الجمبري أشد شبهًا بأقرب أقربائه وهما القريدس وجراد البحر، وسيكون أشد اختلافًا عن أبعد أقربائه، مثل البشر، وهذا هو الحال حقًّا.

فإذا لم يكن الرودوبسين قد سُرِق، فهل أُعِيدَ تخليقه لضرورات الهندسة الوراثية؟ يصعب قبول هذا الرأي؛ لأنه يستلزم حدوث عملية إعادة اختراع، ولو لمرة واحدة. فبالنسبة لجزيئين متشابهين، يُعَدُّ رودوبسين جمبري الفوهات بعيدًا عن الرودوبسين البشري لأقصى درجة ممكنة. وفيما بين الاثنين يُوجَد طَيْفٌ من الأشكال الوسيطة، ولكن هذا الطيف ليس مستمرًّا تمامًا؛ بل إنه يتركز في مجموعتين تنتميان بالتقريب إلى الفقاريات من ناحية، وإلى اللافقاريات من الناحية الأخرى (بما فيها الجمبري). وهذا الفرق يتضخم بفعل نطاق كامل من المتضادات. ففي كلتا الحالتين تُعتبَر الخلايا الحساسة للضوء خلايا عصبية معدلة، ولكن التماثل ينتهي عند هذا الحد. ففي الجمبري واللافقاريات الأخرى يحدث توصيل للرودوبسين بالأغشية التي تبرز من قمة الخلية مثل الشعر الشائك (وتُسمَّى الزغيبات)، وفي الفقاريات يبرز نتوء واحد (يُسمَّى الهدب) من قمة الخلية مثل برج الاتصالات. ويلتفُّ هذا البرج في شكل ثنيات أفقية عميقة؛ مما يجعله يبدو مثل كومة من الأقراص تستقر فوق قمة الخلية.

وفي داخل الخلايا المستقبلة للضوء يكون لهذه الاختلافات نظائرها في علم الكيمياء الحيوية. ففي الفقاريات، حينما يحدث امتصاص للضوء تنطلق سلسلة من الإشارات لتقوِّي الشحنة الكهربية عَبْر غشاء الخلية. ويحدث العكس تمامًا لدى اللافقاريات؛ فحينما يُمتَص الضوء، تنطلق سلسلة مختلفة تمامًا من الإشارات التي تجعل الغشاء يفقد شحنته الكهربية بالكامل؛ وهذا بالذات هو ما يحفز العصب لكي يطلق رسالة إلى المخ تقول: هناك ضوء! وبصفة إجمالية يُوجَد نوعان متماثلان تقريبًا من الرودوبسين في نمطين خلويين متناقضين بمعنى الكلمة. ألا يعني كل هذا أن الخلايا المستقبلة للضوء قد نشأت مرتين: مرة في اللافقاريات ثم مرة أخرى في الفقاريات؟

هذا يبدو بالتأكيد إجابةً مقبولةً، وهو ما كان يعتقده أغلب المنتمين إلى هذا الحقل العلمي حتى منتصف عقد تسعينيات القرن العشرين حينما تغيَّرَ كلُّ شيء فجأةً. لا خطأ في أيٍّ من هذه الحقائق، ولكن تبيَّنَ فقط أنها تُمثِّل نصف القصة فحسب. ويبدو الآن كما لو أن كل إنسان يستخدم الرودوبسين لأنه ورثه عن سلف مشترك. ويبدو كما لو أن الأصل الأول للعين قد نشأ مرة واحدة فقط.

انبرى فالتر جيرنج، وهو عالم أحياء سويسري محطم للمعتقدات البالية من جامعة بازل، معلقًا على هذا التنقيح بأقوى صورة. إن جيرنج الذي كان أحد مكتشفي جينات هوكس (المسئولة عن وضع مخطط الجسم) توصَّلَ أيضًا إلى اكتشاف بارز ثانٍ في عام ١٩٩٥، وذلك في واحدة من أكثر تجاربه إثارةً للدهشة في علم الأحياء. فقد أخذ فريق جيرنج جينًا من أحد الفئران وأدخلوه في ذبابة الفاكهة. لم يكن ذلك جينًا عاديًّا له دور تركيبي هيِّن وإنما كان خطير التأثير؛ فعند إدخاله بدأت ذبابة الفاكهة فجأة في إنبات أعين كاملة على أرجلها وأجنحتها وحتى قرون استشعارها (انظر الشكل ٧-٦). وهذه العيون الصغيرة الغريبة التي تنبثق من أماكن مميزة لم تكن تلك الأعين المألوفة التي تشبه الكاميرا والموجودة لدى الفئران والبشر، ولكنها أعين مركبة، تتصف بكل أنواع الصفات المميزة للحشرات والقشريات. والذي أثبتته هذه التجربة القاسية هو أن الجينات المطلوبة لتكوين العين لدى الفأر ولدى الذبابة متماثلة. فقد تَمَّ حفظ تلك الجينات بأمانة مذهلة على مدى ٦٠٠ مليون سنة من التطوُّر منذ آخر سلف مشترك للفقاريات واللافقاريات، إلى درجة أنها ما زالت قابلة للعمل على نحوٍ تبادلي. فإذا وضعت جين الفأر في ذبابة فسيتولَّى أمر أجهزة الذبابة، أينما تمَّ وضعه، موجهًا مجموعة الجينات الفرعية الخاضعة له بالذبابة بصنع عين في نفس المكان على الفور.
fig26
شكل ٧-٦: صورة مسحية بالمجهر الإلكتروني لرأس ذبابة الفاكهة تظهر عينًا زائدة شديدة الصغر على قرن الاستشعار، تكوَّنَتْ بتأثير الهندسة الوراثية؛ باستخدام الجين باكس٦ من فأر. إن الجين نفسه يتحكَّم في نشوء العين في كلٍّ من الفقاريات واللافقاريات، ويُرجَّح أنه قام بهذا الدور في سلفهما المشترك، ربما منذ ٦٠٠ مليون عام.

درَّس الفيلسوف الألماني نيتشه لبعض الوقت في جامعة بازل. وربما لتكريمه، أطلق جيرنج على جين الفأر اسم «الجين المسيطر»، قياسًا على فكرة «الجنس المسيطر» الخاصة بنيتشه. وأتساءل إن كان من الأنسب أن نطلق عليه اسم «الجين المايسترو»، فبالتأكيد تلك التسمية أقل تفخيمًا وأقرب إلى روح الجماعة المترابطة؛ إذ يعمل الجين مثل قائد الأوركسترا الذي يستحضر أجمل الصيغ الموسيقية دون أن يصدر أي نغمات موسيقية من جهته. فيعمل الجين على تجميع تراكيب العين عن طريق حثِّ «العازفين»، كلٌّ على حدة وكلٌّ مؤدٍّ دوره المنوط به. ثمة صور مختلفة معروفة لنفس الجين بالفعل من خلال ما حدث له من طفرات في الذباب والفئران والبشر. ففي الفئران والذباب أُطْلِق على الجين اسم «العين الصغيرة» و«اللاعيني» على الترتيب، مُعَبِّرًا بألفاظ معكوسة — وهو ما دأب علماء الوراثة على القيام به — عن مقدار النقص الذي يتسبَّب به غيابه. أما في حالة البشر، فإن الطفرات في نفس الجين تُسبِّب مرض اختفاء قزحية العين؛ إذ لا تتكوَّن قزحية العين، وهي حالة مزعجة وكثيرًا ما تُسبِّب العمى، إلا أن هذه تُعَدُّ نتيجةً محدودةَ الأثر بالنسبة لجين مسيطر يُفترَض أنه يُشرف على عملية تكوين العين ككلٍّ. ولكن هذه الحالة المرضية تَحْدُث فقط إذا كان ثمة تلف في نسخة واحدة فقط من هذا الجين، ولكن إذا كانت كلتا النسختين تالفتين أو مفقودتين فلا يتكوَّن الرأس بكامله.

ولقد زادت الصورة تعقيدًا منذ تجربة جيرنج الرائدة. يُعرَف «الجين المسيطر» الذي اكتشفه جيرنج اليوم باسم باكس٦. وقد اتضح أنه أكثر قوة وأكثر تفاعلًا مع جينات أخرى مما كان يُظَن سابقًا؛ فقد اتضح أن باكس٦ يعمل في جميع الفقاريات واللافقاريات، بما فيها الجمبري، بل اكتُشِف جينٌ آخرُ وثيق الصلة به في قنديل البحر. كما اتضح أن باكس٦ ليس مسئولًا عن عملية تكوين العينين فحسب، بل عن تكوين أجزاء كبيرة من المخ؛ ومن ثم يَحْدُث قصور في تكوين الرأس في حالة غياب كلتا نسختَيْ هذا الجين المهم. وفي نفس الوقت، فإن جين باكس٦ لا يُوجَد وحيدًا، بل تُوجَد جينات أخرى يمكنها أيضًا أن تشرف على تكوين العيون الكاملة في ذبابة الفاكهة. وفي الواقع يبدو الأمر سهل الحدوث. هذه الجينات ترتبط فيما بينها جميعًا، كما أنها موغلة في القِدَم، وأغلبها يُوجَد في كلٍّ من اللافقاريات والفقاريات، ولكن مع أدائها أدوارًا مختلفة وفي سياقات مختلفة لدرجة طفيفة. ومما يثير الحزن أن موسيقى الحياة الجميلة لا يتم استدعاؤها على يد مايسترو، ولكن على يد «لجنة» صغيرة.

الخلاصة أن نفس «اللجنة» من الجينات تتحكَّم في عملية تكوُّن العين في كلٍّ من الفقاريات واللافقاريات. وخلافًا لما يحدث بالنسبة للرودوبسين فلا يُوجَد سببٌ «هندسيٌّ» عمليٌّ يجعل تلك العملية خاضعة لتحكم نفس الجينات؛ فجميعها تعمل كموظفين بيروقراطيين عديمي المشاعر، وكان من الممكن أن تُؤدَّى المهام التي يؤدونها على يد مجموعة أخرى من الموظفين البيروقراطيين عديمي المشاعر. لكن حقيقة أن هذا العمل تقوم به المجموعة نفسها دومًا (بعكس ما يحدث بالنسبة لبروتينات عدسة العين مثلًا)، تكشف عن اليد الخفية للتاريخ، عن غرابة المصادفة لا قوة الحتمية. وهذا التاريخ يُوحِي بأن الخلية المستقبلة للضوء قد نشأت دفعة واحدة لدى سلف مشترك للفقاريات واللافقاريات، تحت تحكُّم لجنة صغيرة من الجينات.

ثمة سبب آخر للاعتقاد بأن الخلية المستقبلة للضوء نشأت دفعة واحدة؛ وهو دليل مباشر مأخوذ من حفرية حية. هذا الكائن هو دودة بحرية صغيرة؛ تُسمَّى «بلاتينيريس»، طولها مليمترات قليلًا ومغطاة بشعيرات صلبة. وهي تعيش في مصابِّ الأنهار الموحلة وتُعَدُّ طعمًا مفضلًا لصيَّادِي الأسماك بالشص. وقد يتساءل المرء كم شخصًا يعرف أن هذا الحيوان لم يتغيَّر شكله العام وتركيبه ككلٍّ إلا بالكاد منذ العصر الكمبري. العجيب أن دودة كهذه كانت السلف المشترك لكلٍّ من الفقاريات واللافقاريات. وهي مثل جميع الفقاريات، وكثير من اللافقاريات جسمها متماثل جانبيًّا، أي إن جانبيها متطابقان، بخلاف حيوان كنجم البحر. وهذا التماثُل الجانبي هو من الصفات المميزة للبشر ولحيوانات كثيرة أخرى كالحشرات. ومن المهم أن نعرف أن تلك الدودة البسيطة نشأت وفيها مسبقًا هذا التصميم التكويني القوي، قبل أن يحدث الانفجار الحيوي الذي تمخَّضَتْ عنه جميع الحيوانات الرائعة التي نراها حولنا اليوم. إنها بمنزلة حفرية حية لكائن متماثل جانبيًّا، أولى الحيوانات المتماثلة جانبيًّا. ولهذا اهتم العالم دتليف أرينت وزملاؤه بالمعمل الأوروبي للبيولوجيا الجزيئية في هايدلبرج بألمانيا بخلاياها المستقبلة للضوء.

عرف أولئك العلماء أن عيون تلك الدودة مشابهة في تصميمها لعيون اللافقاريات، وليس لعيون الفقاريات، حتى في نوع الرودوبسين الذي تستعمله. ولكن في عام ٢٠٠٤ اكتشف فريق هايدلبرج مجموعة أخرى من الخلايا المستقبلة للضوء مدفونة في مخ الدودة. لم تكن تلك تُستخدَم في الإبصار مطلقًا ولكنها تُستخدَم كساعة توقيتية بيولوجية، تتعلق بتلك الإيقاعات الحيوية الداخلية التي تتحكَّم في النوم واليقظة وتُميِّز الليل عن النهار، حتى في البكتيريا. ولم يقتصر الأمر بالنسبة لتلك الخلايا المستقبلة للضوء التي تعمل كساعة بيولوجية على استخدامها للرودوبسين، بل كان جليًّا أيضًا (لخبراء مثل أرينت على الأقل) أنها مثل الخلايا الضوئية للفقاريات، وهو اكتشاف تمَّ إثباته فيما بعد باختبارات مفصَّلة كيميائية حيوية وجينية. واستنتج أرينت أن ذلك الحيوان لديه كلا النوعين من الخلايا الضوئية. وهذا يعني أنَّ نوعَي الخلايا هذين لم ينشآ مستقلَّين في خطَّيْن مختلفين بالكامل، ولكنهما يُعتبَران خلايا «شقيقة» نشأت معًا في نفس هذا الكائن، الذي هو سلف الحيوانات المتماثلة جانبيًّا.

بطبيعة الحال، إذا كان هذا السلف المشترك للفقاريات واللافقاريات امتلك كلا النوعين من الخلايا الضوئية، فلربما ورثنا نحن كلا النوعين هذين، وما علينا إلا أن ننظر في الاتجاه الصحيح كي نجدها. ويبدو أننا فعلنا ذلك بالفعل. ففي العام التالي للعام الذي باحت فيه تلك الحفرية الحية بأسرارها، قام العالم ساتشين باندا وزملاؤه بمعهد سولك في سان دييجو بولاية كاليفورنيا الأمريكية بمتابعة إحساسٍ راوَدَهم بشأن بعض الخلايا في عين الإنسان — وهي الخلايا العقدية الشبكية — التي تؤثِّر في إيقاعات الساعة البيولوجية لدى البشر. ومع أن تلك الخلايا ليست متخصصة في الإحساس بالضوء، فإنها أيضًا تحتوي على الرودوبسين، ولكنه شكل فريد منه يُعرَف بالميلانوبسين، وقد عُرِف أنه مميز للخلايا الضوئية في اللافقاريات. المثير للاهتمام أن هذا الرودوبسين الموجود في الأعين البشرية أقرب في تركيبه إلى الرودوبسين الذي في الشبكيات المكشوفة لدى جمبري الفوهات أكثر مما هو للنوع الآخر من الرودوبسين الموجود معه في الشبكية البشرية.

كل هذا يوحي بأن الخلايا الضوئية لدى الفقاريات واللافقاريات نبعت من معين واحد. ويقول العلماء إنها ليست إبداعات منفصلة، ولكنها خلايا شقيقةٌ، لها أمٌّ مشتركة. وتلك الأم المشتركة — الخلية الضوئية البدائية التي هي سلف جميع عيون الحيوانات — نشأَتْ دفعة واحدة.

ومن هنا تبرز صورة أكبر، وهي وجود نمط واحد من الخلية الحساسة للضوء، يحتوي على الصبغ البصري الرودوبسين ونشأ في سلف مشترك للفقاريات واللافقاريات، تحت سيطرة لجنة صغيرة من الجينات. وفيما بَعْدُ حدَثَ تضاعفٌ للخلية الحسَّاسة للضوء، وصارت الخليتان الوليدتان متخصصتين في أداء وظائفهما إما في عيون وإما في ساعة بيولوجية. ولأسباب ما، قد تكون من قبيل مصادفة، تمَّ انتقاء أنماط مختلفة من الخلايا لكلٍّ من الفقاريات واللافقاريات لأداء هذه المهام، بحيث تكوَّنَتِ العيون من أنسجة مختلفة في هذين الخطين؛ مما أدَّى إلى حدوث اختلافات جنينية رئيسية بين عيون متشابهة في كائنات كالأخطبوط والإنسان، على سبيل المثال. كانت المحطة الأولى على طريق تكوُّن العين الكاملة هي الشبكية المكشوفة؛ وهي رقعة من الخلايا الحساسة للضوء، تتكوَّن من نمط أو آخر من الخلايا الحساسة للضوء؛ تبعًا لتوارث الصفات. وتبقى لدى بعض الكائنات الشبكيات المكشوفة المسطحة البسيطة بينما حَدَثَ لدى البعض الآخر تجوُّف للرقع الحساسة للضوء فتحوَّلَتْ إلى حفر يمكنها أن تعطي صورة باهتة وإحساسًا بالمصدر الذي يأتي منه الضوء. ومع ازدياد تعمُّق هذه الحفر حدثَتْ علاقة تبادلية بين الحساسية للضوء وتوضيح الصورة؛ مفادها أن أي شكل من أشكال العدسات العينية كان أفضل من لا شيء مطلقًا، وأن جميع أنواع المواد غير المتوقعة، من المعادن إلى الإنزيمات، كانت مجنَّدة لهذه المهمة. وقد حدثت عملية متشابهة في خطوط مختلفة، أدَّتْ إلى تشكيلة متنوِّعة من أنماط العدسات، إلا أن القيود البصرية حيال تكوين عين عاملة قيَّدَتْ هذا التنوع عند المستوى الجزيئي إلى مدى محدود من التراكيب الرئيسية؛ التي تتراوح من العيون الشبيهة بالكاميرا (مثل عيون البشر) إلى العيون المركبة (عند الحشرات).

هناك بالطبع تفاصيل لا حصر لها، ولكننا هنا نُقدِّم نبذة مختصرة عن كيفية نشوء العين. ولا غرو أننا نتشارك في نفس الرودوبسين مع جمبري الفوهات؛ فلقد ورثناها كلنا عن نفس السلف القديم. ولكن هذا الأمر يتركنا أمام تساؤل كبير نختتم به هذا الفصل: من كان ذلك السلف؟ والإجابة مرة أخرى تكمن في الجينات الوراثية.

•••

كانت سيندي فان دوفر وهي تغوص في أعماق البحر تجاه الفوهات مهمومة بشأن الضوء في تلك البقاع. فمن الظاهر أن الجمبري الذي يسكن هناك يمكنه إدراك الضوء الأخضر بحساسية غير عادية مستخدمًا نوعًا من الرودوبسين مشابهًا لما يُوجَد في عيون البشر، إلا أن الفحوص المبكرة أظهرت أن تلك الفوهات لا يُوجَد فيها ضوء أخضر. فما الذي يحدث إذن؟

قدَّم أحد الباحثين البارزين نصيحة تشوبها المرارة إلى عدد من العلماء الشبان أثناء خطبة له بمناسبة تقاعده، مؤكدًا فيها على أنه لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف أن يكرر المرء تجربة ناجحة؛ حتى لا تفضي إلى نتيجة مريرة ومخيبة للآمال.٨ أما النصيحة المناقضة — وهي ألا يتردَّد المرء في أن يكرِّر تجربة فاشلة — فهي أقل واقعية، إلا أن فان دوفر كان لديها سبب قوي للتجربة. الرودوبسين مادة جامدة، وهي كالرجل الميت لا تكذب، وإذا كانت هذه المادة تمتص ضوءًا أخضر فلا بد أنه كان ثمة ضوء أخضر لكي تمتصه. ويبدو أن الأجهزة العتيقة التي كانت تُستخدَم في الدراسات المبكرة لم تكن في درجة حساسية شبكية الجمبري المكشوفة.

وقد أعدَّ علماء الفضاء بوكالة ناسا مقياسًا للضوء جديدًا وأكثر دقة وتعقيدًا، وهم يعرفون كل المعلومات اللازمة للكشف عن الإشعاع في الظلمة الحالكة التي تَسُود الفضاء الخارجي. وهذا الجهاز الذي أُطلِق عليه اسم «نظام التصوير الضوئي المحيطي والطيفي» بإمكانه الكشف عن الضوء بفاعلية ولكن بأطوال موجية أخرى. وعند إنزال الجهاز إلى عالم الفوهات العجيب سجل قمة صغيرة في الجزء الأخضر من الطيف الضوئي بدرجات قوية من الشدة أعلى مما كان متوقعًا على أساس نظري. وسرعان ما تأكدت القياسات الجديدة في فوهات أخرى. ومع أن مصدر هذا الوهج الأخضر الغريب لا يزال غامضًا، فما أكثر ما أُطلِق من نظريات غريبة لتفسيره! فعلى سبيل المثال يمكن أن يتسبَّب انبثاق فقاقيع صغيرة من الغاز من الفوهات وانسحاقها بفعل الضغط المرتفع بالمحيط في نشوء ضوء مرئي، كما يمكن أن ينتج الضوء أيضًا عن تكوُّن البلورات وتهشُّمها بفعل الحرارة والضغط.

وإذا كان اعتقاد فان دوفر المتعلِّق بالرودوبسين صحيحًا؛ فهذا لأنه الأكثر ترجيحًا. فللرودوبسين قدرة كبيرة على التأقلم حسب الظروف السائدة. ولقد سُمِّي المحيط الأزرق العميق بهذا الاسم لأن الضوء الأزرق يتغلغل أكثر خلال الماء من سائر الأطوال الموجية الأخرى. فالضوء الأحمر سرعان ما يمتصه الماء، ولا يمكنه التوغل كثيرًا، والضوء الأصفر يمكنه التوغل أكثر قليلًا فقط، والبرتقالي أكثر من الأصفر قليلًا أيضًا. ولكن بدءًا من عمق عشرين مترًا في الماء يكون معظم الضوء أخضر وأزرق، ثم يزداد الماء زرقة بازدياد العمق. ويتشتَّت الضوء الأزرق فيما حوله؛ مما يجعل كل الأشياء في عمق المحيط تكتسب مسحة من اللون الأزرق. وتتبع أصباغ الرودوبسين لدى الأسماك هذا التحوُّل إلى اللون الأزرق ببراعة؛ وهي حيلة تُعرَف بالتناغم الطيفي. ومن ثم فعلى عمق ٨٠ مترًا في الماء نَجِدُ سمكًا فيه أنواع من الرودوبسين تمتص الضوء الأخضر لأعلى درجة (عند طول موجي حوالي ٥٢٠ نانومترًا)، ولكن على عمق ٢٠٠ متر، عندما يكون الضوء في أَخْفَتِ درجاته، يكون لدى السمك أنواع من الرودوبسين تمتص الضوء الأزرق (عند حوالي ٤٥٠ نانومترًا). ومما يثير الاهتمام أن سرطان الفوهات من نوع بيثوجرايا ثرميدرون، الذي ذكرناه من قبل، يقوم بعكس هذا التحول أثناء تحرُّكه إلى الفوهات. فيرقات هذا السرطان تعيش في المياه الزرقاء العميقة، ولديها نوع من الرودوبسين يمتص الضوء الأزرق لأعلى درجة عند طول موجي مقداره ٤٥٠ نانومترًا. وعلى النقيض من هذا يُوجَد في الشبكية المكشوفة في السرطان البالغ نوع من الرودوبسين يمتص الضوء عند طول موجي ٤٩٠ نانومترًا، وهو أقرب إلى اللون الأخضر. إنها طفرة صغيرة لكنها مقصودة. وحينما عرفت فان دوفر أن رودوبسين جمبري الفوهات أيضًا يمتص الضوء الأخضر عند ٥٠٠ نانومتر تأكدت شكوكها بدرجة كبيرة.

يعتمد الإبصار اللوني لدى البشر على قدرة الرودوبسين على تحويل الأطوال الموجية. لدينا نمطان من مستقبلات الضوء في شبكية العين: الخلايا العصوية، والخلايا المخروطية (أو ما تُسمَّى بالعصي والمخاريط). وتحديدًا نقول إن العصي فقط هي التي تحتوي على الرودوبسين، بينما تحتوي المخاريط على واحدة من ثلاثة أنواع من «الأوبسينات المخروطية». ولكن في حقيقة الأمر إن هذا التمييز غير مفيد؛ إذ إن جميع هذه الأصباغ البصرية متماثلة أساسًا في تركيبتها. فكلها تتكوَّن من نمط محدد من البروتين — يُسمَّى «الأوبسين»، يسد غشاء الشبكية في خط متعرج سباعي — ويرتبط بمادة مشتقة من فيتامين أ تُسمَّى «رتينال». والرتينال مادة صبغية، وتُعتبَر في حد ذاتها الوحيدة المسئولة عن امتصاص الضوء. وحينما تمتص فوتونًا من الضوء يتغيَّر شكلها من الملتوي إلى المستقيم، وهذا يكفي لجعله في حالة حركة على مدار العملية الكيميائية الحيوية التي تنتهي بإعطاء إشارة إلى المخ بأن هناك ضوءًا.

ومع أن الرتينال هو الذي يمتص الضوء، فإن أهم عامل لإحداث التناغم الطيفي — إلى حد بعيد — هو تركيبة بروتين الأوبسين؛ إذ يمكن أن تؤدِّي التغيرات الصغيرة في تلك التركيبة إلى تحويل امتصاصية هذا البروتين من الأشعة فوق البنفسجية (حوالي ٣٥٠ نانومترًا) في الحشرات والطيور إلى اللون الأحمر (حوالي ٦٢٥ نانومترًا) في الحرباء. ومن ثم، عن طريق الجمع بين أنواع عدة من الأوبسينات المتباينة قليلًا — وكلٌّ منها له معدل امتصاص مختلف — يمكن أن يتحقَّق الإبصار اللوني. وتستطيع أوبسينات المخاريط في الإنسان أن تمتص الضوء في أعلى الدرجات عند الأجزاء الزرقاء (٤٣٣ نانومترًا) والخضراء (٥٣٥ نانومترًا) والحمراء (٥٦٤ نانومترًا) من الطيف، وبتجميعها معًا تعطي المدى البصري المألوف لدى البشر.٩

ومع أن الأوبسينات بصفة عامة تتشابه في تركيبتها الإجمالية، فإن الفروق بينها تكشف عن تاريخ حياة مثير. فجميعها تكوَّنَتْ بالتضاعف متبوعًا بالتباعد، ومن ثم يمكن اقتفاء أصولها حتى نصل إلى جين أوبسيني سلفي. وتبسيطًا نقول إن بعض عمليات التضاعف هذه حدثت في وقت أكثر حداثة من البعض الآخر. وتُعتبَر الأوبسينات الخاصة باللونين الأحمر والأخضر وثيقة الصلة فيما بينها، على سبيل المثال: لقد حدث تضاعف للجين لدى سلف مشترك للرئيسيات (التي تشمل الإنسان والقردة العليا). وأعطى هذا التضاعف الرئيسيات ثلاثة أنماط من أوبسين المخاريط (أو ربما حدَثَ هذا بعد أن تباعدت قليلًا) وليس اثنين فقط؛ مما أكسب معظمنا نحن البشر إبصارًا ثلاثي الألوان. ولكن هناك قلة سيئة الحظ ممن يعانون العمى اللوني فيما يتعلَّق باللونين الأحمر والأخضر؛ لأنهم يفتقدون واحدًا من هذه الجينات؛ مما جعل إبصارهم ثنائي الألوان مثل جميع الثدييات الأخرى تقريبًا، ولعل ضعف إبصارهم انعكاسٌ لماضٍ حديث نسبيًّا كان فيه الحيوان يقضي لياليه مختبئًا من الديناصورات! ثمة عدم اتفاق بشأن السبب في أن الرئيسيات استردَّتِ الإبصار ثلاثي الألوان. وتفترض النظرية الأكثر انتشارًا أن هذا الإبصار ساعَدَها على تمييز الثمار الحمراء من بين الأوراق الخضراء. وثمة فكرة ذات وجهة اجتماعية أكثر تقول إنه ساعدها على تمييز المشاعر والتهديدات والإشارات الجنسية، التي تتراوح من احمرار الوجه (خجلًا أو ارتباكًا) إلى ظهور الكذب على الوجوه المكشوفة (ومما يثير الاهتمام أن جميع الرئيسيات ثلاثية الإبصار اللوني وجوهها مكشوفة؛ أي غير مغطاة بالشعر).

قلتُ توًّا إن الرئيسيات «استردَّت» الإبصار ثلاثي الألوان، ولكننا في الواقع ما زلنا أكثر فقرًا، من ناحية الإبصار اللوني، من فقاريات أخرى كثيرة. فجميع الزواحف والطيور والبرمائيات وأسماك القرش لديها إبصار رباعي الألوان، ويبدو من المرجح أن السلف المشترك للفقاريات كان رباعي الإبصار اللوني متمتعًا بقدرة على رؤية حتى المنطقة فوق البنفسجية من الطيف.١٠ وقد أكدَّتْ تجربة رائعة هذا الاحتمال، وذلك عن طريق مقارنة التسلسلات الجينية لدى فقاريات حية. وقد تنبأ عالمان هما يونجشنج شي وشوزو يوكوياما من جامعة سيراكيوز في نيويورك بتسلسل الجين لدى سلف الفقاريات ولكن حتى الآن ليست لدينا وسيلة للتخمين — من خلال المبادئ الأولية وحدها — بما يمكن أن يكون الطول الموجي بالضبط لما امتصَّه هذا الرودوبسين السلفي من ألوان. ولقد استخدم شي ويوكوياما تقنيات الهندسة الوراثية لبناء المادة البروتينية، ثم قاسَا امتصاصيتها للضوء مباشرةً. وقد تبيَّن لهما حينئذٍ أنها تقع في المنطقة فوق البنفسجية (٣٦٠ نانومترًا).

ويقع أعمق فرع في شجرة الأوبسينات فيما بين الفقاريات واللافقاريات كما رأينا. ولكن حتى تلك الحفرية الحية، التي هي أول الحيوانات المتماثلة جانبيًّا، وهي تلك الدودة المَهينة المسماة بلاتينيريس، لديها مع ذلك نمطان من الأوبسينات الحيوانية، يقابلان ما بالفقاريات واللافقاريات. ومن ثم يكون السؤال: ما طبيعة ذلك السلف الأصلي لجميع الأوبسينات الحيوانية، ومن أين جاء؟ الإجابة غير معروفة بشكل مؤكَّد، وهناك نظريات عدَّة تحاول الإجابة عن هذا السؤال. إلا أن مرشدنا لهذا هو الجين نفسه، ولقد تتبَّعنا أثره إلى ماضي الزمان عَبْر ٦٠٠ مليون عام مضت. فإلى أي مدى يمكننا الرجوع إلى الوراء أكثر من هذا؟ يُصرِّح بيتر هيجمان وزملاؤه بجامعة ريجنزبورج في ألمانيا بأن الجين يعطينا إجابة بالفعل، وهي إجابة غير متوقَّعة بمعنى الكلمة؛ إذ يقولون إن أقدم سلف للعين نشأ في الطحالب.

الطحالب — مثلها في ذلك مثل النباتات — تستخدم عملية البناء الضوئي بكفاءة، ويمكن أن تتكوَّن فيها جميع أنواع الأصباغ الدقيقة الحساسة للضوء. ويستخدم كثيرٌ من الطحالب هذه الأصباغ التي تُوجَد في بقع عينية بسيطة، وظيفتها الإحساس بشدة الضوء، وفعل شيء حياله، إذا لزم الأمر. وعلى هذا الأساس، نجد على سبيل المثال الطحلب الرائع الجميل المسمى «فولفوكس» يتركب من كرات مجوفة تتكون من مئات الخلايا، وقد يصل قطر كل كرة طحلبية منها إلى مليمتر واحد. ويخرج من كل خلية سوطان تضرب بهما الخلية كالمجاديف في الماء، وأسواط الفولفوكس تتوقَّف حينما يكون الضوء مبهرًا، وتضرب حينما يسود الظلام، أو يكون الضوء خافتًا؛ لتوجه الكرة الطحلبية بكاملها تجاه الشمس؛ متوخِّيةً أفضل ظروف لأداء عملية البناء الضوئي. وتتحكم البقع العينية في عملية إصدار الأمر للطحلب بالتوقف. والمفاجأة هي أن الصبغ الحساس للضوء في البقع العينية للفولفوكس هو الرودوبسين.

ولعلَّ الأعجب من هذا أن رودوبسين طحلب الفولفوكس يبدو كأنه سلف لجميع الأوبسينات الحيوانية. ويحتوي موقع ارتباط الرتينال بالبروتين في الشبكية على أقسام تكون مماثلة تمامًا لأوبسينات كلٍّ من الفقاريات واللافقاريات، وهي في الواقع خليط من كلٍّ منهما من الناحية العملية، كما أن التركيب العام للجين بما فيه من خلط انتقائي من تسلسلات مشفِّرة وغير مشفِّرة (تُعرَف تقنيًّا بالأنترونات والإكسونات) ينمُّ عن وجود ارتباط قديم بأوبسينات كلٍّ من الفقاريات واللافقاريات. لا يُعَدُّ هذا برهانًا، ولكنه بالضبط ما قد يتوقَّعه المرء لسلف كلتا العائلتين. وهذا يعني أن هناك احتمالًا قويًّا أن تكون أم جميع العيون الحيوانية، وربما الحيوانات ككلٍّ، متمثلة في طحلب أخضر يمارس عملية البناء الضوئي.

هذا، بطبيعة الحال، يُثِير تساؤلًا: كيف بحق السماء وصل الرودوبسين الطحلبي إلى الحيوانات؟ من المؤكد أن طحلب الفولفوكس الجميل هذا ليس على خطٍّ وراثيٍّ مباشر مع الحيوانات. ولكن نظرة سريعة إلى تركيبة البقع العينية تُوحي على الفور بمفتاح هذا اللغز؛ فالرودوبسين مدفونٌ في أغشية بلاستيدات الكلوروفيل (تلك التراكيب الدقيقة في الطحالب والخلايا النباتية؛ المسئولة عن عملية البناء الضوئي). ومنذ مليار سنة، كانت أسلاف تلك البلاستيدات هي البكتيريا حرة المعيشة الممارسة لعملية البناء الضوئي، المسماة بالبكتيريا الزرقاء، التي التهمتها خلايا أكبر (انظر الفصل الثالث). وهذا يعني أن البقع العينية لا يقتصر وجودها على الفولفوكس بالضرورة. ولكن لها صلة ببلاستيدات الكلوروفيل، أو ربما أسلافها المسماة بالبكتيريا الزرقاء.١١ وتُوجَد بلاستيدات الكلوروفيل في كثيرٍ من أنماط الخلايا الأخرى، بما فيها قليل من الحيوانات الأولية (وحيدة الخلية) التي يُعَدُّ بعضها ضمن الأسلاف المباشرة للحيوانات.

والحيوانات الأولية هي كائنات تتكوَّن كلٌّ منها من خلية واحدة متكاملة. وأكثر تلك الأوليات شهرةً هي الأميبا. كان رائد علم دراسات المجهر الهولندي أنتوني فان لوفنهوك أول من شاهدها، بالإضافة إلى فحص حيواناته المنوية، وقد أطلق عليها اسم الحييوينات (أي الحيوانات الصغيرة)؛ لتمييزها عن الطحالب المجهرية التي صنَّفَها مع النباتات باعتبارها نباتية بالأساس. ولكن هذا التقسيم أخفى وراءه العديد من الأخطاء؛ لأننا إذا استطعنا تكبير حجم بعضٍ من هذه الحييوينات الصغيرة حتى تصل إلى أحجام البشر، فسوف نُصعَق لمرأى مسوخ بشعة المنظر، نصف وحوش ونصف نباتات، وهي تحملق فينا، مثل لوحات الفنان الإيطالي آرسيمبولدو. وبألفاظ أكثر هدوءًا نقول إن بعض الحيوانات الأولية المتحركة التي تسبح متجولة سعيًا وراء فريستها تحتوي أيضًا على بلاستيدات كلوروفيل (مثل اليوجلينا)؛ مما يكسبها بعدًا طحلبيًّا، وحقًّا إنها اكتسبته بنفس الطريقة التي حدثت للطحالب بالضبط؛ وذلك عن طريق ابتلاع خلايا أخرى. أحيانًا ما تبقى هذه البلاستيدات تؤدي وظائفها؛ لتفي بالاحتياجات الغذائية لعائلها، ولكنها تتحلل في حالات أخرى، تاركة وراءها أغشيتها الخاصة وجيناتها المميزة، مثل ذكرى باهتة لماضٍ كان رائعًا، أو مثل قطع وأجزاء متنوِّعة في ورشة سمكري، كأساس لابتكار جديد؛ ابتكار قد يكون في شكل مثل العين. وهذا الكائن الهجين المجهري، وليس الفولفوكس نفسه، هو نوع الكائن الذي يظن بعض الباحثين (ولا سيما فالتر جيرنج مرة أخرى) أنه قد يخفي في داخله أم جميع العيون الحيوانية.

فأي كائن هجين دقيق هذا؟ لا أحد من العلماء يعرف الإجابة، ولكن هناك دلائل وقرائن مُحيِّرة، وأمامنا الكثير لنتعلمه. إن بعض الحيوانات الأولية (الدينوسوطيات) تثير الدهشة باحتوائها على عيون دقيقة مُعقَّدة بها شبكية وعدسة وقرنية، كلها محتشدة في نفس الخلية. ويبدو أن هذه العيون نشأت من بلاستيدات كلوروفيل متحللة، وهي أيضًا تستخدم الرودوبسين. وهناك تساؤل مفتوح عمَّا إذا كانت العيون الحيوانية قد نشأت منها مباشرةً أم بشكل غير مباشر (من خلال عملية تكافلية) في هذا الكائن الصغير المليء بأشياء مهمة الذي لا يعرفه إلا القليلون. ولا يمكننا تحديد ما إذا كانت عملية تكوُّن العيون قد حدثت كخطوة متوقعة أم كمحض مصادفة؛ فهذا ما لا نعرفه. إلا أن هذا النوع من التساؤل، المحدد والشامل في الآن عينه، يقع في صميم العلوم، وآمل أن يلهم جيلًا صاعدًا يتطلع بعيونه إلى النجوم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤