الفصل الأول

العالم القطبي في عالم متغير

يمر الكثير من الدراسات في الجغرافيا الإقليمية على الإقليم القطبي مر الكرام؛ أي دون إجراء دراسات تفصيلية له، وليس ذلك دون سبب، فإن الإقليم الواقع في أقصى شمال العالم وجنوبه هو أكثر أقاليم العالم معاداة للحياة الإنسانية في صورته الحالية؛ ولذا فهو أقل مناطق العالم كثافة في السكان، ومن أكثرها تبعثرًا في السكن، وفي الوقت نفسه فإن موارد العالم القطبي كانت حتى فترة ليست بعيدة محدودة جدًّا، وبالقياس إلى هذا كله نجد أن الجغرافيا الإقليمية توجه نفسها إلى دراسات مستفيضة عن الأقاليم ذات الثقل الموزَّعة فوق الكرة الأرضية، وخاصة الأقاليم التي تحتل العروض الوسطى، وإلى حد ما أقاليم العروض الدنيا، بل إن الجغرافيا كانت تدرس بالتفصيل أقاليم مشابهة للعروض الشمالية والقطبية من حيث قلة محتواها السكاني وتخلخل وتبعثر نمط السكن فيها مثل الإقليم الجاف الموجود في العالم القديم: أقاليم الصحراء الأفروآسيوية.

ولكن لهذا الأمر أسبابه أيضًا، ذلك أن العالم الجاف — وإن شابه العالم البارد في جفافه — إلا أن علاقات الموقع مختلفة، فالعالم الجاف يحتل منتصف العالم القديم، ويقع على كل الطرق التي تربط مناطق الكثافة السكانية العالية في أوروبا وآسيا الجنوبية والشرقية وأفريقيا المدارية، بينما يقع العالم القطبي في هامش المعمور الشمالي لأوروآسيا، ومن ثم تجنبه الناس والشعوب، ولم يدخله إلا المجموعات القبلية التي دُفعت إليه دفعًا بواسطة مجموعات أقوى، وفوق ذلك فإن العالم الجاف صالح للسكن البشري في كل ظروفه المناخية في حالة وجود مصدر دائم للمياه، وتظهر المصادر المائية في العالم الجاف في مناطق عديدة مبعثرة في صورة الينابيع والمياه الجوفية الجديدة التي كونت مئات الواحات الكبيرة، كما أن أطراف العالم الجاف تنتهي إليها أحيانًا مياه أنهار قصيرة أو طويلة تنبع من خارج العالم الجاف فتكون سكنًا دائمًا على مر الآلاف المؤلفة من السنين، ومن أمثلة ذلك النيل والدجلة والفرات وسرداريا وأموداريا، وقوس النيجر الشمالي والسنغال الأدنى والسند الأدنى والأردن والعاصي وعشرات الأنهار القصيرة في سوريا وإيران وأفغانستان وسنكيانج ومنغوليا.

وقد أدت الواحات والوديان النهرية المختلفة بالإضافة إلى علاقات الموقع الجغرافي في العالم إلى أن تصبح مناطق العالم الجاف أكثر مناطق العالم المعروف توسطًا وأهمية في الانتقال العالمي، ولظروف كثيرة لا داعي للإفاضة فيها فقد كان العالم الجاف المهد الأول للحضارات العليا القديمة منذ العصر النيوليتي — الحجري الحديث، ففي هضاب إيران إلى دلتا النيل كان الكشف الأول عن الزراعة — حسب المعلومات الراهنة التي تمدنا بها دراسات حفريات ما قبل التاريخ، وفي هذه المنطقة أيضًا كان استئناس الحيوان، وفي هذه المنطقة أيضًا نشأت عشرات الحضارات العليا في فترات لاحقة لاكتشاف المعادن: حضارة مصر فيما قبل الأسر وفي العهود الفرعونية، حضارات العراق القديمة من أكاد إلى سومر إلى بابل وآشور، الحضارات الفينيقية المختلفة وحضارات السند القديمة.

وفوق كل هذا زادت أهمية العالم الجاف بعدًا رابعًا بكونها المهد الأول للديانات السماوية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام.

ولم تقف أهمية العالم الجاف عند ذلك، بل إن العصر الحديث بما فيه من تقدم تكنولوجي قد كشف عن أن العالم الجاف يقع فوق بحيرات عديدة من البترول الذي يكون أحد أهم مصادر الطاقة في عالم القرن العشرين، وهكذا تضافرت جميع العوامل الطبيعية والبشرية والاقتصادية والدينية لتجعل من العالم الجاف مجالًا هامًّا في الدراسات الإقليمية الجغرافية.

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا إذن نهتم بدراسة العوالم القطبية والباردة؟ قد يبدو لأول وهلة أن الإجابة على هذا السؤال صعبة، وهي حقًّا صعبة وذلك لأن كثيرًا مما سنقوله يقع في عالم الغد، فإلى جانب أن الدراسة الجغرافية للأقاليم الباردة في العروض العليا تمثل الأهمية الضرورية للمعرفة العلمية لجزء من سطح كوكبنا الأرضي، فإن العالم القطبي قد أصبح يبرز على خريطة العالم بروزًا واضحًا منذ الخمسينيات من هذا القرن، وقد بدأ بروزه يتضح من خلال عوامل جيوبوليتيكية تعود إلى نمو عصر الطيران بعد الحرب العالمية الثانية وظهور عصر الفضاء والصواريخ.

لقد ترتب على الحرب العالمية الثانية نزول القوى العالمية الأولى في أوروبا الغربية — الإمبراطوريتان الإنجليزية والفرنسية، وقوى المحور الأوروبي الأوسط ألمانيا وإيطاليا — إلى المرتبة الثانية، بينما صعدت قوتان جديدتان إلى المرتبة الأولى: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وتواجه هاتان القوتان بعضهما — ليس عبر الطريق التقليدي العادي الذي يخترق أوروبا والمحيط الأطلنطي الشمالي — إنما مواجهة مباشرة عبر العالم القطبي الشمالي، الولايات المتحدة بامتدادها إلى ألسكا ومناطق نفوذها في جرينلاند وشمال كندا، أصبحت تواجه سيبريا السوفيتية التي تطوق المحيط الشمالي فيما يشبه نصف حلقة كاملة، وفيما بين الكتلتين المتواجهتين تحتل سكندنافيا الأوروبية (فنلندا – السويد – النرويج – أيسلندا) جزءًا مهمًّا في المواجهة العالمية للقطبين السياسيين الكبيرين، ولكنه صغير، وهذه الأهمية ترجع إلى: أولًا: إن هذا الجزء الأوروبي من العالم الشمالي يمثل المدخل الأساسي الواسع بين المحيط الشمالي والأطلنطي الشمالي — المدخل الذي يتحكم فيه مثلث يرتكز على: (١) سواحل النرويج، (٢) أيسلندا، (٣) جزر سفالبارد. ثانيًا: إن هذا المدخل هو الذي يمثل البحر المفتوح طوال السنة نتيجة تأثيرات مشتركة من تيار الخليج الدافئ وكتل الهواء الجنوبية الغربية التي تدور حول منطقة أعاصير أيسلندا، بينما تتجمد مياه المحيط الشمالي ومضيق برنج ومداخل الأرخبيل الهندي وبحار جرينلاند، ومن هنا تتضح أهمية الجزء الأوروبي في العالم القطبي من الناحية الجيوبوليتيكية بالنسبة لعالم الكتلتين الشرقية والغربية المعاصر، وعالم الصواريخ العابرة للقارات وعصر الطيران القطبي وعصر الفضاء، وإلى جانب ذلك فإن العالم القطبي الأوروبي هو — حتى الآن — أكثر مناطق العروض العليا سكنًا وسكانًا ونشاطًا اقتصاديًّا وحضارة، ومن ثم كانت الأهمية التي تدعونا إلى دراسته بالتفصيل كجزء له ثقله الخاص في إقليم العروض الشمالية والقطبية.

وإلى هنا تنتهي الأسباب الواقعية في أهمية العالم القطبي وبداية بروزه على خريطة العالم الحديثة، وهي في حد ذاتها أسباب مقنعة لكي نفرد لهذا العالم دراسة خاصة.

ولكنَّ هناك أسبابًا أخرى، معظمها مستقبلي، تدعونا إلى دراسة هذا العالم أيضًا، وتنحصر هذه الأسباب في المستقبل الاقتصادي والحضاري لعالم العروض العليا، وأقرب أشكال المستقبل الاقتصادي للتحقيق هي الاكتشافات الكبيرة للثروة المعدنية في أجزاء متفرقة من العالم القطبي: حديد نوربوتن في شمال السويد وحديد شبه جزيرة نبرادور في شمال شرق كندا وفحم شغالبارد ونونازميليا وذهب ألسكا وسيبيريا وبترول سيبيريا وألسكا والنحاس والمواد المشعة في مناطق مختلفة من سيبيريا وشمال كندا، وهذه وغيرها من الكشوف المعلنة وغير المعلنة والمستقبلة قد أصبحت تعطي للعالم الحديث نقط ارتكاز جديدة داخل العروض الشمالية العليا تمثل قواعد ثابتة لغزو هذا العالم المنعزل وضمه إلى قائمة الأراضي المستغلة بصورة أو بأخرى.

ومن أهم الأمثلة على ذلك نشأة مدن التعدين الرئيسية، وأقدمها كيرونا في السويد التي يزيد سكانها عن ٢٠٠٠٠ شخص، وفي المنطقة السوفيتية مدن حديثة ارتفع عدد سكانها بصورة مذهلة مثل كيروفسك التي أُنشئت عام ١٩٣٠ وأصبح عدد سكانها أكثر من ٥٠٠٠٠ شخص الآن، ومدينة إيجاركا التي أنشئت بعد عام ١٩٣٥ ويبلغ عدد سكانها أكثر من ٢٥٠٠٠ شخص، ومدينة فركوتا التي أُنشئت عام ١٩٤٣ ويبلغ عدد سكانها نحو أربعة آلاف شخص، ومدينة أوختا، ونجني يانسك وأوست كويجا … إلخ.

ولا يمثل التعدين كل المستقبل الاقتصادي للعالم القطبي، بل إن مشروع دفع حد الزراعة الشمالي إلى العروض العليا، الذي تُعنَى به الأجهزة والسياسة الزراعية الاستيطانية السوفيتية على وجه الخصوص، يعطي أملًا في إمكان الحصول على بعض الأغذية من داخل العروض العليا، وفي سبيل ذلك تقوم معاهد أبحاث كثيرة بنجاح في الحصول على بذور مؤهلة للنمو في ظل الظروف القاسية الموجودة في المناطق القطبية، تتكيف تمامًا مع نظام المناخ والضوء القطبي، وقد استطاع السوفيت فعلًا القيام بمشروعات زراعية صغيرة في العروض العليا السيبيرية بواسطة هذه البذور المؤهلة، وبعد استصلاح التربة بإزالة الأحجار وحقن التربة بالجير والبكتيريا وتوفير المخصبات.

وقد استطاع السوفيت نقل وإسكان حوالي مليون شخص في مناطق العروض العليا من بلادهم خلال الأعوام الثلاثين الماضية، وقد تم ذلك بخلق بيئة صناعية تُستخدم فيها الأشعة فوق البنفسجية والمساكن ذات العوازل والغذاء المطعم بالفيتامينات من أجل مكافحة أثر المناخ القاسي، وهذا دليل على انتصار تكنولوجية كُفأة وقوية — لكنها مكلفة بدون شك، وبطبيعة الحال، فإن استخدام هذه الوسائل على نطاق واسع أمر مشكوك فيه حتى الآن ولكنه يتم لأغراض خاصة، ولا ريب أن اهتمام السوفيت أكثر من اهتمام غيرهم من الدول المشاركة في العروض العليا مثل النرويج أو كندا، بسبب كثرة السكان الهائلة بالقياس إلى بقية دول العالم القطبي، وبسبب وجود المساحات الضخمة السهلية والتخطيط الاقتصادي المركزي في الاتحاد السوفيتي.

وعلى هذا النحو الكامل تتكامل لدينا ثلاث مجموعات من الأسباب التي تدعونا إلى تخصيص هذه الدراسة للعالم القطبي والعوالم الشمالية الباردة.

المجموعة الأولى تتركز حول زيادة المعرفة الجغرافية بجزء من العالم كان إلى وقت قريب جدًّا نطاقًا هامشيًّا، وما زال معاديًا للسكن البشري إلى حدود كبيرة، ولعل أقرب المعارف التي تزيد حجمًا معلوماتنا عن المناخ ودراسات أخرى جيوفيزيقية.

المجموعة الثانية تتعلق بالأهمية الجديدة التي يحتلها العالم القطبي الشمالي اليوم من النواحي الجيوبوليتيكية في مجال الصراع السياسي الدولي الراهن على ضوء التغيرات الحديثة في تكنولوجية الحرب والاستراتيجية.

المجموعة الثالثة تدور حول مستقبل المناطق القطبية في المجالين الاقتصادي والسكني، وليس المقصود هنا استغلال الموارد التعدينية التي بدأت تظهر وتحتل مكانة واضحة نتيجة الأبحاث الجديدة، ولكن المقصود أيضًا إمكانية الحصول على موارد غذائية تنتج داخل العالم القطبي لتدعم سكن أعداد من البشر أكبر بكثير مما هو عليه عدد سكان هذا العالم في الوقت الحاضر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤