الفصل الأول

الأوضاع الجغرافية

مكونات نورديا وموقعها

تقع نورديا في شمال أوروبا مما جعلها تتمتع بنوع من الانفصال عن بقية القارة، ولكن هذا الانفصال ليس تامًّا كما هو حادث في بريطانيا وأيرلندا، ولهذا لم يكن أمام دول نورديا الفرصة المماثلة للخروج تمامًا عن مؤثرات القارة الأوروبية، هذا التأثير من القوى الأوروبية المجاورة لم يكن دائم الحدوث، ولكنه في فترات التأثير يصبح عاملًا حاسمًا في تشكيل دول الشمال.

وانفصال نورديا عن أوروبا غير كامل؛ لأن نورديا تتكون من أشباه جزر باستثناء أيسلندا، فهناك شبه جزيرة وجزر الدنمارك، وما يشبه شبه الجزيرة في فنلندا، وأكبر شبه جزيرة في نورديا تتقاسمها كل من السويد والنرويج، أما بحر البلطيق وخليجا فنلندا وبوثنيا فيكونان حدود نورديا الشرقية، ومضايق السوند والكاتيجات وسكاجراك تكون الحدود الجنوبية، بحر الشمال وبحر النرويج يكونان الحدود الغربية والبحر الأبيض والمحيط الشمالي تكون الحدود الشمالية لها، وتغطي الجبال الالتوائية الوعرة غربي سكاندينافيا وتغطي نورديا مساحات شاسعة من الغابات المخروطية والآلاف من البحيرات والمستنقعات، وربما كان ذلك سببًا من أسباب عدم تشجيع الهجرة من الشرق إلى أشباه الجزر النوردية، برغم العرض الكبير لليابس الفاصل بين خليج فنلندا والبحر الأبيض.

وبين طرف خليج بوثنيا وخليج كندلاكشا — الامتداد الغربي للبحر الأبيض — توجد مسافة لا تزيد عن ٣٥٠كم، وإلى الشمال من هذا الخط يوجد اثنان من أشباه الجزر هما:
  • (١)

    شبه جزيرة كولا التي تقع كلها داخل الاتحاد السوفيتي.

  • (٢)

    شبه جزيرة سكندينافيا الممتدة إلى الجنوب الغربي مسافة ٢٠٠٠كم، وهي تنقسم في الجنوب إلى قسمين بواسطة مضيق سكاجراك وفيورد أوسلو، مما يتكون معه مركزان أرضيان منفصلان نشأت في كل منهما نواة دولتي السويد والنرويج، ولكن ليس معنى هذا أن تعرجات اليابسة في داخل أشباه جزر فنوسكانديا قد أدى إلى فصل كل منها إلى دول ثلاث، بل الواقع أن الأحداث التاريخية والحضارية هي المسئولة عن التعدد السياسي في هذه المنطقة المتشابهة.

وإلى جانب الربط الأرضي لنورديا في منطقة فنلندا، فإن الجزء الجنوبي من نورديا المشتمل على الدنمارك، يربطه أيضًا بأوروبا امتداد أرضي في شبه جزيرة جوتلند، وعرض هذا الامتداد ٦٥كم فقط، ولكنه أهم بكثير من الرابط الأرضي الفنلندي، لانعدام وجود الغابات والبحيرات، ولسهولة تضاريس جوتلند — جيلاند — وارتباطها بقلب القارة الأوروبية في عروضها المعتدلة مما جعلها أسهل وأهم طريق تمتد من أوروبا إلى نورديا، وتكون جوتلند مساحة الدنمارك، ولكنها برغم ذلك ليست قلب الدنمارك.
وجزر نورديا عديدة، أهمها المجموعة الجزرية الدنماركية، قلب دولة الدنمارك وتقع في الجنوب بين جوتلند وسكندنافيا وعددها ٤٠٠ جزيرة، مائة منها مسكونة، ومساحة الجزر الدنماركية نصف جوتلند، ولكنها المركز الحقيقي للنشاط الاقتصادي في الدنمارك، كما أنها المركز الحضاري والسياسي، وإلى جانب هذه الأهمية بالنسبة لدولة الدنمارك، فإن جزر الدنمارك بقربها الشديد من جنوب السويد — ١٥كم متوسط عرض مضيق السوند، ٦كم أضيق نقطة فيه — قد أصبحت مفتاح بحر البلطيق كله مما ساعد الدنمارك على التحكم في الملاحة في البلطيق، وفي البلطيق عدة جزر تابعة لنورديا منها جوتلاند وأولاند Gotland, Oland التابعتان للسويد، وبورنهولم Bornholm الدنماركية، وأرخبيل Aland الفنلندي الذي يتحكم في مدخل خليج بوثنيا.
fig11
خريطة رقم (١١): دول نورديا المقاطعات والمحافظات والأقسام المحلية.
وأبعد المجموعات الجزرية النوردية تلك الممتدة في الأطلنطي الشمالي إلى المحيط المتجمد الشمالي: وتشمل مجموعات جزر فارو Faeroes الدنماركية ثم سفالبارد النروجية (سبتزبرجن سابقًا) وجرينلند (دنماركية)، والأخيرة برغم انتمائها إلى قارة أمريكا الشمالية، إلا أنها سياسيًّا جزء من الدنمارك برغم أن مساحتها تبلغ (٥٠) مرة قدر مساحة الدنمارك، وجزر فارو تابعة للدنمارك، ولكنها تتمتع بحكم ذاتي محلي، وأيسلندا ظلت تابعة للدنمارك حتى استقلت عام ١٩٤٤، وقد أعطت عصبة الأمم جزر سفالبارد إلى النرويج على شرط استمرار نشاط تعدين الفحم للدول التي كانت تعدنه من قبل ضمها للنرويج، ويمارس الاتحاد السوفيتي وحده هذا الحق.
هذا الموقع المتطرف لنورديا لم يعد كذلك في عهد الطيران الذي فتح آفاقًا جديدة في مجالات الاحتكاك والاستغلال، ولم يعد انعزال نورديا عن أوروبا غير موجود وحسب، بل أصبح الاتصال بأمريكا وآسيا أمرًا قائمًا، ولقد عدل الطيران حقًّا موقع نورديا في عصرنا الحاضر، خاصة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وجعلها في مركز وسط بين القطبين الكبيرين اللذين تخلفا عن الحرب العالمية الثانية وهما: موسكو وواشنطن، فإن الطيران عبر القطب أو المنطقة القطبية أصبح الآن أقصر الطرق الجوية عبر الأطلنطي، والطريق الجوي الجديد المسمى بالدائرة الكبرى The Great Circle يمر بالطرف الجنوبي لجرينلند ثم أيسلند ثم بوسط النرويج والسويد ثم بهلسنكي ثم يدخل الأراضي السوفيتية، وهكذا تقع دول نورديا الآن تمامًا وسط منطقة الصراع بين الكتلتين الكبيرتين.

هذا الموقع في الوقت الحاضر أو في أوقات الجذب والدفع ليس موقعًا تحسد عليه نورديا، لهذا وصلت خطوط دفاع الغرب الأولى إلى نورديا: الدنمارك – النرويج – أيسلندا، وكلها لهذا السبب أصبحت أعضاء في حلف الأطلنطي، ومقابل ذلك تقع فنلندا على حافة الاتحاد السوفيتي، وبالتبعية، ولكي تصبح «جارًا طيبًا» لم يكن أمامها إلا طريق الحياد، ووسط هذا الإقليم تحتله السويد التي تجنبت حربين عالميتين وتسعى بوسائلها إلى تجنب صراع ثالث بواسطة «حياد مسلح».

ولكن نورديا استطاعت أن تحصل على مزايا عديدة من عصر الطيران، فلقد كانت شركة SAS هي التي بدأت عصر الطيران القطبي بافتتاح خطها إلى لوس أنجلوس عام ١٩٥٤ وإلى طوكيو عام ١٩٥٦، وقد عارض الكثيرون هذا الطريق في البداية، ولكن هذه المغامرة الناجحة قد أدت إلى ظهور منافسة شديدة فيما بعد من جانب شركات أخرى.

نورديا: قاعدة موارد هامشية

  • (أ)
    مساحة نورديا مساحة أوروبا بدون الاتحاد السوفيتي.
  • (ب)
    سكان نورديا سكان أوروبا بدون الاتحاد السوفيتي.
هاتان الحقيقتان توضحان الطبيعة الهامشية لنورديا، وهناك عدد آخر من الإحصاءات تساعد على توضيح هذه الطبيعة:
  • (١)

    ١٠٪ من مساحة نورديا زراعية (٨٪ حقول + ٢٪ مزارع طبيعية).

  • (٢)

    ٤٥٪ من مساحة نورديا غابات مخروطة.

  • (٣)

    ٤٥٪ من مساحة نورديا أراض أخرى = صخور جرداء – مستنقعات – رمال … إلخ.

جدول ١-١: استخدام الأرض في نورديا (المساحة بآلاف كم٢).
الدولة المساحة الكلية ألف كم٢ مساحة الأرض (١) (ألف كم٢) مساحة الأرض الزراعية مساحة الغابات أراض غير صالحة
حقول مراع
السويد ٤٤٦ ٤١١ ٣٣ ٥ ٢٢٥ ١٨٦
النرويج ٣٢٤ ٣٠٨ ٨ ٢ ٧٠ ٢٤٣
فنلندا ٣٣٧ ٣٠٥ ٢٧ ١ ٢١٧ ٩١
الدنمارك ٤٣ ٤٣ ٢٧ ٣ ٤ ٨
أيسلندا ١٠٣ ١٠٠ ٠٫٠١ ٢٢ ٠٫٣ ٨٠
جرينلاند ٢١٧٥ ٠٫٣ (٢) ٠٫١ ٢١٧٥

الجدول عن إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة. (١) مساحة الأرض بدون البحيرات. (٢) ٣٤١ كيلومترًا مربعًا فقط هي الخالية من الجليد الدائم ويمكن سكناها.

fig12
خريطة رقم (١٢).
توضح هذه الأرقام أن سكان نورديا يكادون أن يعيشوا على نتاج نصف أرضهم باستثناء الدنمارك التي تستغل كل مساحتها على وجه التقريب لملاءمة المناخ، والعامل الأساسي في هذا الصدد هو الموقع الشمالي لهذه المجموعة من الدول، ولكن المناخ عامة معقول بالنسبة لدرجة العرض؛ لأن كتل الهواء الممطرة معظم أيام السنة هي القادمة من الجنوب الغربي، ولهذا فإن حرارة جزر لوفوتن أعلى ٢٠°م عن معدل حرارة خط عرضها (٦٨° شمالًا)، ومع ذلك فإن الارتفاع يؤدي إلى خفض درجة الحرارة في هذه المناطق الشمالية بمقدار قرابة ٢°م لكل ٣٠٠ متر ارتفاع، ومن ثم فإن الكثير من أرض النرويج وأيسلندا المرتفعة تقع باستمرار فوق خط الزراعة وخط الأشجارانظر خريطة رقم (١٢).
وكذلك يظهر أثر التضاريس بشكل آخر، ففي النرويج وأيسلندا توجد مساحات كبيرة من الانحدارات التضاريسية الشديدة مما يحدد تمامًا السكن والاستغلال الاقتصادي، ونظرًا لأن مرتفعات النرويج وأيسلندا تواجه الرياح الممطرة، ولارتفاع الجبال، فإن التساقط هناك يحدث على صورة ثلج مما يساعد على استمرار ونمو أكبر ثلاجات أوروبا ويعرقل المواصلات في الشتاء، وجبال النرويج بهذه الصورة والامتداد تجعل هناك تغيرًا مناخيًّا واضحًا بين السهول الساحلية المتناهية الضيق في النرويج، والمتمتعة بتأثير كتل الهواء المحيطي الدافئ وبين بقية مناطق فنوسكانديا المتعرضة لتأثير الكتل الهوائية القارية والقطبية، وعلى هذا النحو فالتغاير المناخي في نورديا على العموم طولي وليس مع درجات العرض — أي مع درجات الطول وذلك نتيجة «خط التقسيم المناخي» المتمثل في جبال النرويج انظر الخريطة رقم (١٢) ورقم (١٣).

أما من الناحية الجيولوجية فهناك اختلافات كبيرة في نورديا، ولكن من ناحية موارد الثروة المعدنية تعتبر نورديا فقيرة برمتها عدا السويد، فنوسكانديا تسودها التكوينات البلورية القديمة، وهي غنية بالحديد والنحاس ومعادن أخرى، ولكن مثل هذه التكوينات البلورية نراها تفتقر إلى الوقود المعدني: الفحم أو البترول، أما أيسلندا فبركانية بأكملها وخالية من المعادن باستثناء الكبريت، أما الدنمارك فتتكون في غالبيتها من الطباشير والجير، وهي بذلك الدولة النوردية الوحيدة التي يمكن أن يوجد فيها البترول برغم سلبية النتائج التي ظهرت من الآبار التي حُفرت حتى الآن.

fig13
خريطة رقم (١٣).
ويعوض نقص الوقود المعدني غنى الأجزاء الجبلية من نورديا بالطاقة المائية خاصة في النرويج وأيسلندا والسويد، وفي فنلندا فالطاقة المائية موجودة، ولكن ليس بدرجة غنى الدول الثلاثة السابق ذكرها، أما الدنمارك فمحرومة تمامًا من الطاقة المائية انظر الخريطة رقم (١٣).
ومصادر الطاقة المائية الغنية في نورديا راجعة إلى التأثير السابق للتعرية الجليدية التي كونت مستويات تصريف مختلفة وبحيرات عديدة، ولكن الغطاء الجليدي السكندنافي، وإن كان قد ساعد على إمكانيات توفر هذه الطاقة، إلا أنه عرى التربة التي انتقلت بواسطة الرياح أساسًا إلى الدنمارك وشمال ألمانيا، ولم يبق في فنوسكانديا من التربة سوى رمال وحصى وصخور متناثرة، ولقد غطى الجليد رقعة الدنمارك أيضًا، ولكن تأثيره على الجير والطباشير مختلف مما أدى إلى تكوين أغنى تربات نورديا فيها، وإن كانت هناك في الدنمارك أتربة رملية وحصوية كثيرة غير صالحة، وكذلك أثر الجليد على أيسلندا تأثيرًا كبيرًا، ولكن الهواء نقل معه من خط ذوبان الجليد تربة «لوس» الجيدة وأرسبها في جيوب صغيرة متناثرة على الساحل، ولكن تربة اللوس تعرضت لتعرية خطيرة نتيجة تدمير غابات البتولا Birch في هذه الجيوب مما يساعده، ولا يزال، على تدهور خطير ونمو لصحاري الرمال والحصى على حساب التربة الخصبة المحدودة في هذه المنطقة الباردة.

وإذا تركنا هذا الأثر السيئ للتعرية الجليدية على التربة في فنوسكانديا، فإننا نجد للغطاءات الجليدية آثارًا غير سيئة، فإن فنوسكانديا قد هبطت تحت ثقل الجليد، وحينما بدأ الجليد في الانقشاع، ارتفع مستوى البحر مما تسبب في إغراق الكثير من الأودية السفلى فرسبت عليها طبقات سميكة من الطين البحري ظهرت مرة أخرى على سطح اليابسة بعد ارتفاع اليابس السكندنافية حينما تخلص من ثقل الجليد، وهذه التربة الطينية الصلصالية الموجودة في كل من فنلندا والسويد والنرويج هي أحسن تربة يمكن استغلالها في أراضي هذه الدول الثلاث في نواحي الزراعة والرعي.

ويعطينا الغطاء النباتي الطبيعي صورة مجملة لأثر التضاريس والمناخ والتربة المشترك على نورديا، ففي الدنمارك وفي جنوب السويد الغربي يتكون الغطاء النباتي الطبيعي من غابات البلوط والزان، وفي معظم جنوب السويد والسواحل الجنوبية لفنلندا والنرويج كانت الغابات مختلطة ومتكونة من الأشجار السابق ذكرها، وهي عريضة الأوراق وأشجار إبرية أخرى من نوع الصنوبر والتنوب، وبقية فنوسكنديا تغطيها الأشجار المخروطية الكثيفة التي هي امتداد التابيحا الروسية، وفي المناطق الشمالية وعلى جبال النرويج أحراش بتولا، ثم في المناطق الشمالية القصوى وأعالي الجبال البتولا القزمية ونبات أعالي الجبال من الحشائش.

الأهمية الجيوبوليتيكية لأوضاع نورديا الطبيعية

إلى جانب الوضع الهامشي لموارد نورديا فإن لكل عنصر من عناصر هذه المنطقة الطبيعية أهمية خاصة من الناحية الجيوبوليتيكية، فلنتعمق مثلًا في الموقع الخاص لهذا الإقليم، فمجرد وقوع الدنمارك على مفاتيح البلطيق يعني أن كل السفن المتجهة من وإلى دول الكتلة الشرقية حاليًّا (ألمانيا – بولندا – الاتحاد السوفيتي) يجب أن تمر في المياه الدنماركية، ومن ناحية أخرى تشرف سواحل النرويج الشمالية على الممر البحري المفتوح طوال أيام السنة إلى بحر بارنتس وموانئ الاتحاد السوفيتي الشمالية، وعلى هذا فكل السفن المتحركة من وإلى ميناء مورمانسك السوفيتي يمكن مراقبتها باستمرار، ليس فقط من سواحل النرويج الطويلة، بل وأيضًا من أيسلندا، وعلى هذا فإن مياه الاتحاد السوفيتي المنفتحة على طريق الملاحة الرئيسي المار في بحر الشمال والأطلنطي الشمالي كلها يجب أن تعبر المضايق أو تمر بجوار سواحل دول نورديا الثلاث الأعضاء في حلف الأطلنطي (الدنمارك – النرويج – أيسلندا).

كذلك هناك مثال آخر، فأحداث التاريخ توضح الأهمية السياسية لأنماط المناخ النوردي، فالكثير من المعارك الحربية كان يعتمد على مدى قسوة المناخ، فالمناخ ذو الشتاء البارد يعني جليد صلب، والجليد الصلب كثيرًا ما غير الأهمية الاستراتيجية لكثير من المواقع أو النقط العسكرية على البحيرات والمجاري المائية: يعني إمكان غزو الموقع بالسير على الجليد، كذلك فإن مثل هذا الشتاء في الماضي كان باستمرار موسم نقل البضائع الثقيلة على الزحافات، ويسهل استعمال التزلج دون أن تقف الصخور أو البحيرات أو الأنهار عائقًا أمام المرور، كذلك ولهذا السبب كان الشتاء هو موسم إقامة الأسواق التجارية الكبرى، وموسم زيارة الأساقفة لأبروشياتهم المتناثرة، ولهذا نجد أن الكثير من حدود الأبروشيات أو الحدود السياسية قد أقيمت في سكندنافيا في الماضي على أساس مدى إمكانية الاتصال شتاء، ولهذا فإن وادي فالدرز Valdres وهالنجدال Hallingdal في شرق النرويج كانا يتبعان أسقفية ستافنجر على الساحل الجنوبي الغربي، كذلك فإن إقليم يامتلاند Jamtland السويدي في منتصف سكندنافيا يقع تاريخيًّا ضمن نطاق النفوذ النرويجي.
ولكن لم يكن المناخ وحده هو المحدد لمثل هذه الأنواع من التوجيه، فإن طبوغرافية الإقليم قد ساعدت بقوة في التفريق الإقليمي، وخاصة في النرويج، ففي هذه الدولة يخيم تاريخ طويل من العزلة المحلية ينعكس في صورة تنوع في اللهجات لا مثيل له في نورديا، ولهذا فإن الاختلافات السياسية الداخلية في النرويج أوضح منها في أية دولة في نورديا، ولهذا أيضًا فالحدود الإقليمية الداخلية في النرويج تعكس صورة الانقطاع الجغرافي بواسطة قوة المظاهر التضاريسية، وللنبات دوره أيضًا في تحديد الحدود السياسية في نورديا، وفي النرويج والسويد تتضح هذه الحقيقة بصورة مدهشة، ففي كثير من نقاط حدود الدولتين تلعب الغابات دورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في تخطيط الحدود في الماضي، ومسافات طويلة من خط الحدود يعود تخطيطها إلى وجود نطاقات واسعة من الأرض غير المنتجة أو الغابات الشاسعة قليلة السكان، وفي العصور الوسطى في السويد كان التوجيه الجغرافي يعبر عنه باصطلاحين شائعين هما «شمال الغابة» أو «جنوب الغابة» Nordanskog-Sunnankog تمامًا كما يتكلم النرويجيون عن «نرويج شمال الجبال ونرويج جنوب الجبال Nordonf jollske-Soudenf jollske».
فلقد كانت الغابة عائقًا أمام الاتصال لدرجة أن الاختيار كان يقع على أي طريق يتجنب الغابة مهما طال، ويمكن أن يتضح ذلك من المثل النرويجي القائل «الغابة تفصل والجبل والهضبة توحد» Skogene skiller, Viddene Binder Sammen ويفسر لنا المثل لماذا كان هناك ارتباط بين بعض المناطق في الماضي، مثل ارتباط ستافنجر بواديا فالدرز وهالنجدال برغم بعد الشقة.

كذلك للتربة دور هام أيضًا في عملية بناء الدولة في نورديا، بل وبصورة يندر وجود مثيل لها في العالم، ولا شك أن قوة الدولة ترجع في جانب كبير منها إلى نجاح وثبات مزروعاتها، وهذا يرتبط بمدى خصوبة وإنتاجية التربة، وعلى هذا نجد أن مركز القوة في كل من دول نورديا الخمس قد يكون في إقليم يتميز بتربة جيدة، ويصبح هذا المركز قلب الدولة أو نواتها، ففي النرويج كانت الإرسابات الناجمة عن التعرية السهلة لصخور الكمبري والسيللوري في المجاري الدنيا للأنهار الشرقية + الطين البحري على شواطئ فيورد أوسلو قد جعلت منطقة أوسلو مهد أولى الممالك المحلية في النرويج، وفي السويد كانت رسوبات الطين البحري في السهول الوسطى هي مصدر القوة التي أنشئت عليها الأمتين السويدية والقوطية، وفي فنلندا كان وما زال مركز القوة مرتبطًا بالسهول الطينية الساحلية على خليج فنلندا وبوثنيا، وبرغم أن كل جزيرة رئيسية أو شبه جزيرة في الدنمارك قد نمت فيها سلطات سياسية خاصة، فإن واحدة من هذه السلطات لم تتخذ لها من غرب جتلند الفقيرة التربة مركزًا للحكم، وحتى أيسلندا التي لم تصل إلى مرحلة الدولة المنتجة للمحاصيل فإن مركز القوة السياسية فيها كان محصورًا دائمًا في السهول الجنوبية، وهي أحسن مناطق الجزيرة إنتاجًا.

ولقد لعب وجود المعدن دورًا هامًّا في التطور السياسي لدولة واحدة من نورديا هي السويد، فمنذ العصور الوسطى كانت للسويد شهرة في تصدير خام النحاس والحديد، وقد ساعد دخل السويد من هذا النوع من التجارة، بالإضافة إلى إمكان صناعة السلاح محليًّا، على أن تصبح السويد دولة كبيرة قبل سنة ١٧٠٠، ولكن نقصان الوقود المعدني في نورديا — الذي أشرنا إليه سابقًا — كان بدون شك عاملًا حاسمًا في هبوط النفوذ السياسي لنورديا ككل بالنسبة لأوروبا منذ بدء العصر الصناعي، ففقدان الخامات والوقود قد منع هذه الدول من الاندفاع للتصنيع مبكرًا كغيرهم من الأوروبيين وليس بالسرعة ذاتها كغيرهم من دول العالم، ولكن تأخر دخول الصناعة إلى نورديا كان له آثار حسنة، ذلك أن هذا التأخر في التصنيع قد ساعد على حدوث هجرات نوردية كبيرة بالنسبة لعدد سكانها الأكثر من أية دولة أوروبية أخرى عبر الأطلنطي، فالكثير من أبناء الريف الذين لم يجدوا عملًا بالمدن قد هاجروا باستمرار إلى أمريكا، وقد وصلت الهجرة إلى قمتها في الثمانيات من القرن الماضي، ولو أن هذه الهجرة وُصفت بأنها ذات آثار خطيرة بالنسبة لسكان الدول النوردية؛ لأنها اشتملت على شباب وشابات الريف، إلا أنها كانت صمام أمن خلال فترة اقتصادية حرجة في نورديا — هي فترة عدم نشوء الصناعة، ولو لم «تتخلص» هذه الدول من ذاك الضغط السكاني على هذه الصورة في الماضي القريب لكان هناك شك كبير في أن يصل النورديون إلى ما وصلوا إليه الآن من ارتفاع عظيم في مستواهم الاقتصادي.

ولقد ارتبط نمو الصناعة في نورديا بتطوير فكرة استغلال الموارد المائية لإنتاج الطاقة، ولهذا فإن التوزع الصناعي يوضح نمط الانتشار والتناثر بدلًا من التمركز المكاني في أحواض أو مناطق محدودة مثل ألمانيا وبريطانيا «حول حقول الفحم»، وبدلًا من نشوء تجمعات صناعية عملاقة ومدن ضخمة مليونية فإن الصناعة غزت أقاليم سكندنافيا بطريقة أرقى وأحسن، فالفحم الأبيض لا ينتج المؤثرات الصحية السيئة التي تظهر في الأقاليم السوداء، والاتساع والانتشار يمنع تدهور المساكن لضيق الحيز ويمنع نشوء الأحياء العمالية الفقيرة، وكثير من صناعات سكندنافيا تمت في إطار صحي: أقاليم ريفية – بحيرات – غابات، وليست هناك مشاكل ازدحام ومواصلات كما هو الحال في مناطق الصناعة الألمانية أو البلجيكية أو الإنجليزية، أو حتى بتسبورج، ولم يترتب على ذلك نشوء الفوارق الاجتماعية والسكنية والصحية العميقة التي تتميز بها الأمم الصناعية الأوروبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤