أكثر من دليل ولكن …

دخل الشاويش مترددًا. وتبعه «تختخ» بعد أن أشار إلى «نوسة» و«لوزة» أن تبقيا بعيدتَين … ثم تبعه «محب» و«عاطف» … كانت الفيلا من الداخل مظلمة … تفوح منها رائحة الرطوبة … وروائح أخرى كريهة … وأحس «تختخ» بشيء من الخوف وهو يجتاز عتبة الباب … هل فعلًا يوجد موتى داخل الفيلا؟ …

كان الشاويش يقف في الصالة … وخلفه «تختخ» الذي قال: إنني أسمع صوت أزيز خفيف صادر من المطبخ.

محب: إنها الثلاجة!

تختخ: هذا يعني أن الكهرباء سارية في الأسلاك … أَضِئ النور يا «محب».

مدَّ «محب» يده فأضاء النور … ووقعت أبصار الجميع على صالة واسعة قد دبت فيها الفوضى … فالكراسي مقلوبة … وبعضها ممزَّق … والكتب ملقاة على الأرض وبعض الصور التي على الحائط قد نزعت من مكانها … وبعض الزهريات الجميلة قد سقطت وتكسرت وتناثرت منها ورود ذابلة …

كان واضحًا أن صراعًا شديدًا قد دار في هذه الصالة … وأن ثمة تفتيشًا دقيقًا قد تم فيها …

وقال الشاويش: هل تدخلون معي بقية الغرف؟

تختخ: بالطبع يا شاويش … إنَّ بعضها مفتوح الأبواب …

ودخل الشاويش وتبعه «تختخ» بينما كان الكلب «الكوكر» يجري هنا وهناك صارخًا نابحًا … وكانت هناك غرفة نوم واحدة … كانت في حالة من الفوضى مُماثلة لحالة الصالة … فالمراتب ملقاة على الأرض، وقد تناثر قطنها … وزجاجات الروائح والملابس قد أُلقيت هنا وهناك …

قال «تختخ» معلقًا: إن الفيلا كلها قد تعرضت لتفتيش دقيق، ومن الواضح أن ثمة شيئًا كان يبحث عنه مَن دخلوا الفيلا.

الشاويش: ولكن لا أثر لأحد هنا.

تختخ: واضح من الملابس أنه كان يسكن هنا شخص واحد … رجل، فليس هنا أية ملابس نسائية.

الشاويش: إنَّ هذا لا يقودنا إلى شيء.

تختخ: ربما بعد أن نفحص بقية الفيلا قد نعثر على ما يضيء طريقنا.

وعادا إلى الصالة … كان «محب» و«عاطف» قد دخلا المطبخ، وقال «محب»: الثلاجة ما زالت تعمل … بها دجاجة واحدة … وبعض المعلبات وقطع الجبن والخس والطماطم … وهناك طعام فاسد على مائدة صغيرة … هو في الأغلب عشاء لم يُتمَّه صاحبه.

نظر «تختخ» حوله ثم قال ﻟ «عاطف»: دعْ «نوسة» و«لوزة» تدخلان … ثم أضاف: هناك غرفة لم ندخلها بعد في نهاية هذا الدهليز.

واتجه الجميع إلى الغرفة التي أشار إليها «تختخ»، وكان بابها مواربًا … وفتح الشاويش الغرفة ثم أضاء نورها … ووقَع بصرهم جميعًا على غرفة مستطيلة الشكل … تُشبه مَعملًا من معامل الكيمياء … تناثرت فيها بعض قِطَع الأحجار المتآكلة … والتماثيل الناقصة … وميزان حساس … وبعض الأنابيب وزجاجات المحاليل … وعلى الحائط عُلِّقَت خرائط للبحر المتوسط ووضعت بعض علامات حمراء على أماكن منه … وبجوارها كانت مكتبة قد تناثرت كتبها على الأرض … وعينات من الأسماك المتوحِّشة المختلفة.

قال «محب»: إنه معمل كيميائي!

تختخ: نعم … لعالم من علماء البحار … فأكثر العينات هنا لرجل يعمل في أبحاث البحار!

وقال «عاطف»: إن هناك دولابًا في الحائط.

ومد يده ففتح الدولاب، ووجدوا بعض ملابس الغوص، وثلاث بنادق للصيد تحت المياه … وبعض الديناميت المستخدم في النسف …

الشاويش: شيء غير مفهوم … لقد أوقعت نفسي في مشكلة عويصة.

لم يردَّ أحد … فقد انتشر الأصدقاء في أنحاء الفيلا يفحصون وينقبون … كانت هناك عشرات الأشياء يمكن أن تكون أدلة … وقد وقعت «نوسة» على أهم الأدلة التي يمكن التعرف منها على شخصية الرجل المجهول الذي كان يسكن هذه الفيلا …

وبعد أكثر من ساعتين … قرَّر الشاويش أن يكتب محضرًا بكل ما شاهده، وقد ساعده الأصدقاء في تسجيل تفاصيل المحضر … وعندما خرجوا أصروا على أخذ «الكوكر» الأصفر معهم … وقد استسلم الكلب الحزين لهم بعد أن أدرك أن صاحبه ليس موجودًا داخل الفيلا …

وفي الثامنة والنصف كان الأصدقاء جميعًا يجلسون في الكشك الصيفي الكبير في حديقة منزل «عاطف»، وأخرجت «نوسة» دفترًا صغيرًا أسود اللون، كان من الواضح أنه دفتر مذكرات … وقد استأذنت الشاويش أن تحتفظ به هذه الليلة فقط … وكتابًا كبيرًا عن الحضارات الغارقة في العالم.

وكان دفتر المذكرات ممزقًا في أكثر من موضع … ومكتوبًا باللغة الإيطالية، وقد تولى «محب» وهو يجيد الفرنسية؛ الاطلاع عليه … وبرغم غرابة الخط وأن أكثر المعلومات كانت مكتوبة في شكل كلمات أو أرقام أو رموز، فقد استطاع «محب» بعد فترة من الوقت أن يُكوِّن فكرة معقولة عما جاء في مذكرات الرجل المجهول … لقرب اللغة الفرنسية من اللغة الإيطالية.

قال «محب»: إن الاسم المكتوب على جلدة المذكرة هو «ف. بورتللي» وهو بالطبع إيطالي … والمذكرات تشمل قسمين … قسمًا في العام الماضي، وقسمًا هذا العام … وفي القسمين يسجل «بورتللي» مواعيد وصوله إلى مصر … ثم الإسكندرية … ويسجل أوصاف بعض أشياء عثر عليها تحت الماء، وبينها فيما يُظن تمثال لأحد آلهة الرومان … وهناك تاريخ يعود إلى عام ١٩٦٣م لا أدري ما هو … وكلمة «العينين الجميلتين» ثم كلمة كيف …

وصمت «محب» قليلًا ثم قال: بعد ذلك هناك عدد من أسماء لأشخاص … وعلامة «x» و«ب» أمام بعضها.

قال «تختخ»: من الواضح أن هذا الرجل «بورتللي» يعمل في البحث عن الآثار تحت الماء، وأن له مع مجموعة من زملائه نشاطًا في الإسكندرية … والسؤال الآن هل هو نشاط مشروع أو غير مشروع؟

لوزة: ماذا تقصد يا «تختخ» بهذا الكلام؟

تختخ: أقصد هل يقوم «بورتللي» بعمله هذا في حدود القانون … أو خارج القانون؟

عاطف: أكاد أجزم أنه خارج القانون.

تختخ: ومن أين أتيت بهذا الجزم يا «عاطف»؟

عاطف: إن مَن يرى الفيلا من الداخل والصراع الذي دار فيها يؤكد أن ثمة شيئًا غير عادي في هذا الموضوع كله.

تختخ: قد يكون «بورتللي» يقوم بنشاط في حدود القانون، ولكن عصابة ما أرادت استخدامه في عمل غير مشروع … أو حاولوا سرقته!

عاطف: وهذا جائز أيضًا.

كانت «نوسة» منهمكة في قراءة كتاب «حضارات غارقة»، فقالت: إن المؤلف وهو الدكتور «سليم أنطون» يؤكد أن هناك ألغازًا ما زالت بلا حل عن قصة المدن التي غرقت تحت البحر، وأن هذه الألغاز تجذب انتباه العلماء والمغامرين، وفي أحد فصول الكتاب يتحدث عن اكتشافات تمت عام ١٩٦٣م في الميناء الشرقي لمدينة الإسكندرية.

قال «محب»: إن هذا يفسر ما جاء في مذكرات «بورتللي» عن تاريخ يعود إلى عام ١٩٦٣م … إذن فإننا نقترب من حقيقة مؤكَّدة، هي أن «بورتللي» — سواء أكان عالمًا يعمل في حدود القانون، أم مغامرًا يعمل خارج القانون — مهتم بآثار الميناء الشرقي …

نوسة: هذا صحيح … فهو يضع خطوطًا حمراء، وترجمة إيطالية بخط دقيق على هوامش الصفحات التي تتحدث عن هذه الاكتشافات.

لوزة: ألم أقل لكم إن «الكوكر» الأصفر وراءه شيء هام؟!

عاطف: شيء هام فعلًا … ولكن الأهم ماذا سنفعل؟

وصمت الجميع مُفكِّرين ثم قال «تختخ»: أقترح أن نسأل المفتش «سامي» عن هذا الشخص المدعو «بورتللي» … بالطبع أن اسمه مسجل في وزارة الداخلية باعتباره من الأجانب؛ وذلك حسب القانون.

واتصل «تختخ» بالمفتش «سامي» في منزله … وروى له باختصار كل الأحداث التي مروا بها … واستمع المفتش بانتباه … ثم قال: وما هي طلباتكم؟

تختخ: نريد أن نعرف إذا كان عندكم أية معلومات عن شخص يُدعى «ف. بورتللي»، نظن أنه إيطالي يعمل في علوم البحار!

المفتش: من المؤكد أن عندنا معلومات عن حركته ما دام من الأجانب … ولكن المعلومات لن تتوفر إلا غدًا.

تختخ: ذلك شيء مناسب جدًّا.

المفتش: وعندما أتلقى تقرير الشاويش عن تفتيش الفيلا سأرى أيضًا ما يمكن عمله.

تختخ: إننا نشكرك غاية الشكر يا سيادة المفتش … إنك تهتم بنا كثيرًا.

المفتش: بل إنني الذي أشكركم … فطالما ساعدتم رجال الشرطة في الكشف عن الحقائق وتحقيق العدالة.

ووضع «تختخ» السماعة ثم قال: سنلتقي غدًا صباحًا في التاسعة بالضبط في نفس هذا المكان … وستكون عندنا معلومات كافية عن «بورتللي» ربما تقودُنا إلى حل لغز اختفائه المريب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤