الفصل الثالث

تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري

نستطيع أن نجعل كتاب القابسي الأساس الذي نعتمِد عليه في الكلام عن تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري، دون أن يمنعنا ذلك من استقصاء آراء المُسلمين الذين تقدَّموه أو تأخَّروا عنه. على أن يكون المحور الذي ندور حوله ونعود إليه، هو كتاب القابسي؛ لأنه محدود وكامل، ومرآة للعصر الذي عاش فيه.

تُوفِّيَ القابسي سنة ٤٠٣ هجرية، وهي توافق سنة ١٠١٢ ميلادية. ولا نستطيع أن نعرف على وجه التحقيق العام الذي ألَّف فيه هذا الكتاب، من بين الأعوام الثمانين التي عاشها المؤلِّف. وأكبر الظن أنه لم يكتبه في الأعوام الأخيرة التي سبقت وفاته؛ لأننا إذا نظرنا إلى تصانيفه التي ذكرها أصحاب التراجِم، نجدها أربعة عشر كما جاء عن القاضي عياض، وذكر منها صاحب معالم الإيمان عشرًا، أكبرها كتاب «المُمهِّد في الفقه وأحكام الديانة»، بلغ فيه إلى ستِّين جزءًا ولم يُكمله.١

فقد كان في أواخر حياته مشغولًا بإنجاز هذا الكتاب في الفقه، ولم يكن عنده من سَعة الوقت ما يجعله ينصرف إلى الاهتمام بتصنيف كتابٍ في تعليم الصبيان وأحكام المُعلمين. على أن عام وفاته لا يبتعِد عن القرن الرابع الهجري إلا بثلاث سنوات، إذا تجاوزنا عنها، نستطيع أن نقول إن كتابه في التعليم أُلِّفَ في القرن الرابع. ثم إن عالمًا يُولَد في سنة ٣٢٤ﻫ، ويتوفى في سنة ٤٠٣ﻫ، لجدير أن يُعَد من علماء القرن الرابع لا الخامس؛ لأن مُعظم حياته، وفتوَّة شبابه، وبأس رجولته، واكتمال علمه وعقله وعمله، وقع في ذلك القرن.

وقد فطن الدكتور إبراهيم سلامة٢ إلى قيمة هذا الكتاب، ونبَّه إلى قدْر المؤلف، وإلى أهمية آرائه، ولكنه اعتبر وفاته ٧٠٦ هجرية، وهي السنة المكتوبة في آخر المخطوط، وهي تاريخ النَّسْخ لا تاريخ التأليف أو عام وفاة المؤلف، وبذلك اعتبر القابسي من علماء القرن السابع أو الثامن الهجري.

وظهر في عالم التأليف في الإسلام من الفصول في التربية ما ترتفع قيمته من الناحية العلمية والفنية، وما يجعل أصحاب هذه الآراء من رجال التربية البارزين. ونخصُّ بالذكر ابن مسكويه، المُتوفَّى سنة ٤٢١ﻫ، والغزالي المُتوفَّى سنة ٥٠٥ﻫ، وابن خلدون المُتوفَّى سنة ٨٠٨ﻫ. ولكنهم جميعًا متأخرون عن القابسي، ولو أنه كان مُتأخرًا عنهم لتضاءل شأنه بالنسبة إليهم، ولاقتضاه الزمن أن يأخذ عنهم، وينقل عنهم. أما وقد سبقهم فلَهُ فضل السبق ومزية التقدُّم.

لم يفت الدكتور سلامة أن يُشير إلى أهمية القابسي، فذكر في الملحوظات التي قيَّدَها عن المراجع ما يأتي: «وقع اختيارنا من بين كتب التربية التي يمكن اعتبارها كذلك طبقًا لعنوانها على كتابَين ذكرناهما في المُجلد الخاص بالمراجع، وهما للزرنوجي والقابسي. وقد أوردنا عنهما نظرةً دقيقة، بل ترجمة بعض النصوص التي نعتقِد أنها مُهمة من ناحية التربية والمنهج، ولا تزال آراؤهما في الوقت الحاضر أساسًا للتربية.»٣

فقدَّم الزرنوجي (المُتوفَّى ٥٧١ﻫ) على القابسي؛ لأنه مُتقدِّم عليه في الزمن في رأيه الذي دحضناه.

والذي نراه أن كتاب «تعليم المُتعلم طريق التعلُّم» للزرنوجي، ليس من الكتب ذات القيمة الكبيرة في التربية كما سنذكُر فيما بعد. ولذلك لا يصحُّ أن يُقرَن بالقابسي. ولو أن الدكتور إبراهيم سلامة صَحَّحَ تاريخ وفاة القابسي لرفع من شأنه أكثر ممَّا فعل، فهو أكملُ كتاب في التربية والتعليم، جاء بعد كتاب «آداب المُعلِّمين» لابن سحنون.

(١) كتاب ابن سحنون٤

وكتاب «آداب المُعلِّمين» مما دوَّن محمد بن سحنون المتوفَّى سنة ٢٥٦ﻫ عن أبيه صغير الحجم، يبلغ ربع كتاب القابسي أو أقل، وهو خاص بتعليم الصبيان، اعتمد عليه القابسي كثيرًا، ونقل عنه، واسترشد به، وترسَّم خطاه. وتبلغ صفحات هذا الكتاب المطبوع ٦٤ صفحة، منها ٣٨ صفحة مُقدمة الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب في شئون التعليم. فكأنَّ كتاب ابن سحنون نفسه عبارة عن ستٍّ وعشرين صفحة لا غير من الحجم الصغير.

ونثبت فيما يلي فهرست هذا الكتاب، لتتَّضِح لنا الموازنة بين ما تعرَّض له ابن سحنون وبين ما كتبه القابسي:
  • (١)

    ما جاء في تعليم القرآن العزيز.

  • (٢)

    ما جاء في العدل بين الصبيان.

  • (٣)

    باب ما يكره محوُه من ذكر الله.

  • (٤)

    ما جاء في الأدب وما يجوز في ذلك وما لا يجوز.

  • (٥)

    ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمُعلم.

  • (٦)

    ما جاء في القضاء بهدية العيد.

  • (٧)

    ما يجب للمُعلم من لزوم الصبيان.

  • (٨)

    ما جاء في إجارة المُعلم ومتى تجِب.

  • (٩)

    ما جاء في إجارة المُصحف وكتُب الفقه.

وبالرجوع إلى نص الكتاب، نجد أن ما نقله القابسي عنه يكاد يكون بلفظه في بعض المواضع، وباختلافٍ يسير في مواضع أخرى، كحذف السند عن رأي فقيه، أو تغييرٍ في العبارة دون إخلال بالمعنى.

على أن القابسي لم يكتفِ بما أخذَه عن كتاب «آداب المُعلمين»، بل نقل عن الفقهاء الذين أخذ عنهم سحنون وابنه، كابن القاسم وابن وهب وغيرهما.

فإذا كان لابن سحنون فضل الصدارة في تحرير كتابٍ خاص في تعليم الصبيان، فللقابسي مزية التوسُّع في هذا الموضوع، والإفاضة في أبوابه المُختلفة، والترتيب الذي يدلُّ على استقرار فكرة التعليم في الذهن والعمل على بيان السُّبل المختلفة المؤدية إلى تحقيق الغاية المنشودة منه. فالقابسي يُسجل في كتابه أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع، وابن سحنون يدوِّن هذه الأحوال في القرن الثالث.

(٢) مرحلة تعليم الصبيان

يختصُّ كتاب القابسي بالبحث في شئون التعليم المُتعلقة بالصبيان فقط. ويتعرَّض كذلك للمكان الذي يتلقَّون فيه العِلم وهو الكُتَّاب. ولو أن المؤلف جعل عنوانه «الرسالة المُفصَّلة لأحوال المُتعلِّمين من الصبيان» لكان ذلك منه فضلًا في الإيضاح والبيان.

وللصبي سِن يبدأ عندها في دخول الكُتَّاب، وسِن ينتهي بعدها من التعلُّم في ذلك المكان. ولكن القابسي لم يُحدِّد سِن الدخول، أو عدد السنين التي يقضيها الصبي، وهي مدة الدراسة في الكُتَّاب. ونستطيع مع ذلك أن نتلمَّس زمن ابتداء التعليم ووقت انتهائه فيما يختصُّ بالصبيان من ثنايا ما كتبه.

يقول الدكتور إبراهيم سلامة: «إن الطفل بعد أن يتلقَّى التعليم في المنزل يذهب إلى الكُتَّاب في السابعة من عمره. والحديث المُتَّبع عند المسلمين: «علِّموا أولادكم الصلاة إذا كانوا بني سبع، واضربوهم عليها إذا كانوا بني عشر.» ثم ذكر في الهامش ما يأتي: «كان هذا هو الأغلب، وهناك حالات كان الأطفال يُدفعون إلى المُعلِّمين في سِنِّ الخامسة والسادسة — انظر طبقات الأطباء، الجزء الثاني، ص٩٩، والتبر للسخاوي، ص٢٤٢.»

ويقول القابسي: «وينبغي للمُعلم أن يأمُرهم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين ويضربهم إذا كانوا بني عشر. وكذلك قال مالك.» ٤٣-ب.

ونص الحديث كما أخرجه أبو داود: «مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر.» من حديث عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جده.

ولا يُستنتَج من ضرب الأولاد على الصلاة إذا كانوا بني سبع سنين، أن سِن التعليم تبدأ منذ ذلك الوقت، وأن يُرجِّح الباحث هذه السن دون غيرها.

والواقع أنه لم يكن هناك سِنٌّ مُعينة يبدأ عندها الطفل في تلقِّي العلم، وإنما كان الأمر متروكًا لتقدير آباء الصبيان، فإذا وجدوا أن الطفل بدأ في التمييز والإدراك، دفعوا به إلى الكُتَّاب. عن أبي بكر ابن العربي قال: «ولِلقَوم في التعليم سيرة بديعة وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب.»٥

ونحن نرجِّح أن هذه السن لم تكن مُحددة، وإنما كانت تشمل مرحلةً بين الخامسة والسابعة، تبعًا لاختلاف نُضج الصبيان وتقدُّمهم في الفهم والتمييز. جاء عن القابسي: «سُئل مالك عن تعليم الصبيان في المسجد، فقال: لا أرى ذلك يجوز؛ لأنهم لا يتحفَّظون من النجاسة.» وفي موضع آخر: «وإن كان صغيرًا لا يَقَرُّ فيه ويعبث، فلا أحب ذلك.» ٦٧-ب.

فالطفل الذي لا يتحفَّظ من النجاسة ولا يستطيع الاستقرار، وهو طفل دون السابعة في الغالب.

ويذكر الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب رأيه، دون النص على المراجع التي اهتدى بها في تقرير هذا الرأي، قال: «إذا بلغ الصبي الخامسة أو السادسة من العمر ساقه أبوه إلى الكتاب.»٦

أما السن التي ينتهي عندها تعلُّم الصبي في الكُتَّاب، فلم تُذكَر صراحةً كذلك، على أنه جاء أن المُعلم ينبغي أن يحذَر من الصبيان إذا بلغوا الاحتلام. ٥٦-أ. و«إنه لينبغي للمُعلم أن يحترس بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده، يُناهز الاحتلام، أو تكون له جرأة.» ٥٧-أ.

والشرط السابق يدل على أن أغلبية الصبيان لا يصِلون إلى مرحلة البلوغ، وأن بعضهم فقط هم الذين كانوا يظلُّون في الكُتَّاب حتى سِن الاحتلام. وهذه السن تتراوح عند الذكور بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة.

على أن أكثر الصبيان لم يكونوا يمكُثون في الكُتَّاب حتى سِن الاحتلام. وسبب ذلك أن أهمَّ ما كان يُعلَّم هو حفظ القرآن. فإذا بدأ الصبي تعلُّمه في سِنِّ السادسة مثلًا فإنه يحتاج إلى أربع سنوات أو خمسٍ ليُتِمَّ حفظ القرآن، وهو المعروف بالختمة.

وقد روي عن كثيرٍ من النُّجباء أنهم ختموا القرآن في العاشرة. قال ابن عباس: «تُوفِّيَ رسول الله وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المُحكَم.» ٢٥-ب. وذكر ابن سينا يقصُّ سيرة حياته: «ثم انتقلْنا إلى بُخارى وأحضرتُ مُعلم القرآن ومُعلم الأدب وأكملتُ العشر من العمر وقد أتيتُ على القرآن وعلى كثيرٍ من الأدب، حتى كان يقضي مني العجب.»٧

ولا نأخُذ النابغين مقياسًا في الحُكم على العامة وأوساط الناس. فإذا قدَّرْنا أن المُمتاز النابه يحفظ القرآن في العاشرة، فإن المتوسط العادي يحفظه في الثانية عشرة. وأما المُتأخِّرون فإنهم يحتاجون إلى زمنٍ أطول، وهذا هو السرُّ في تخلُّف بعض الصبيان عن الكتاتيب حتى سِن الاحتلام.

ولم يكن حفظ القرآن جميعه واجبًا على كل الصبيان، بل جرى العُرف أنَّ من أحبَّ استظهار القرآن كله بقِيَ مع المُعلم، ومن أحبَّ أن يترك الكُتَّاب قبل استكمال جميع القرآن، فله الحرية. عن القابسي: «وأما الصبي عُلِّم حتى تدانى من الختمة فأراد الخروج من عند المُعلم إلى مُعلم آخر أو إلى صنعةٍ أو إلى ما أحبَّ الانتقال.» ٣٢-أ.

لهذا نستطيع أن نقول: إن الصبي — في الأرجح — كان يبقى في الكُتَّاب في سِن الثانية عشرة أو ما دون ذلك.

فإذا اعتبرنا سِن الالتحاق بالكتَّاب في المتوسط هي السادسة، وسِن الخروج هي الحادية عشرة، فإن هذه المرحلة من التعليم كانت تشغل خمس سنوات.

(٣) مراحل التعليم

تعليم الصبي أول مرحلة من مراحل التعليم. وقد اقتصر القابسي على بحث هذه المرحلة، ولم يتعرَّض لما بعدَها. ولم تأتِ إشارة كذلك إلى تعليم الصبي دون السادسة؛ لأن هذا اللون من التعليم، الذي أُنشِئت له مدارس الحضانة ورياض الأطفال، لم يلقَ عناية علماء النفس والتربية إلا في العصر الحديث.

وقد تصدَّى المؤلِّف للنواحي المختلفة في تعليم الصبيان، فتعرَّض لأغراض التعليم والمناهج والعقاب وطرُق التدريس، وأحكام خاصة بالمعلم، وبمكان التعليم وهو المعروف بالكُتَّاب.

ومرحلة تعليم الصبيان من المراحل الثابتة في حضارات الأمم، يُشاد عليها بنيان الثقافة في الأمة فيما بعد. وتتغيَّر اتجاهات التعليم التي يتلقَّاها الشباب والذين فاتوا دور الشباب، ويظلُّ تعليم الصبيان هو الدعامة الثابتة التي لا تتحوَّل والأساس الذي لا يتعدَّل.

ونبسط في إيجازٍ مراحل التعليم عند المسلمين، ليتَّضِح لنا مصائر الصبيان، بعد الانتهاء من الكُتَّاب.

وقد تغيَّرت هذه المراحل مع تغيُّر الحضارة الإسلامية، واختلاف العصور، وتقدُّم الدول وتأخُّرها، وتبايُن الجهات. ونذكر هذه المراحل إجمالًا، لنشهد البناء الكامل، الذي يُعتبَر تعليم الصبيان فيه اللبنة الأولى.

في ضُحى الإسلام: «أن التعليم كان مرحلة تبتدئ بالكُتَّاب أو بالمُعلمين الخاصِّين، وتنتهي بأن تكون حلقةً بالمسجد.»٨
قال مصعب: «كان لِمالك حلقة في حياة نافع أكبر من حلقة نافع.»٩ وكان التعليم أحيانًا في مجالس خاصة بدلًا من حلقات المساجد. جاء في ترجمة مالك أيضًا: «وكان كالسلطان له حاجب يأذن عليه. فإذا اجتمع الناس ببابه، أمر فدعاهم فحضر أولًا أصحابه فإذا فرغ مَن يحضر، أذِن للعامة، وهذا هو المشهور من سماع أصحاب مالك.»١٠

ومن الشائع عند المسلمين أيضًا الرحلة في طلب العلم. وفضل الارتحال أن العالِم يطوف بدولٍ كثيرة، فيشاهد أحوال الشعوب، وتقاليد الناس وعاداتهم، واختلاف طبائعهم، ثم يتَّصِل بشيوخٍ بأعيانهم يأخُذ عنهم ويتلقَّى العلم عليهم، مما يؤدي إلى كثرة الاطلاع، ووفرة الثقافة، واتساع دائرة الفكر، وأُفق الذهن.

وقد رأينا في ترجمة القابسي أنه رحَلَ فحجَّ وسمِع من علماء كثيرين.

وفي ترجمة النسائي صاحب السُّنن أنه: «طوَّف وسمع بخُراسان والعراق والحجاز ومصر والشام والجزيرة.»١١
وفي ترجمة سحنون أنه «رحل في طلب العلم في حياة مالك وهو ابن ثماني عشرة سنة.»١٢

ثم تطوَّر التعليم من حلقات المساجد، إلى مدارس منظمة، حُبست عليها الأوقاف لضمان حياتها. وبدأ ذلك التطوُّر في القرن الرابع الهجري في زمن الفاطميين، وازدهرت المدارس في عصر الدولة الأيوبية والمَماليك، ثم تدهورت بعد ذلك.

قال ابن جبير في معرض الحديث عن مصر: «ومن مناقب هذا البلد، ومفاخِرِه العائدة في الحقيقة إلى سُلطانه (يقصد صلاح الدين): المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطلب والتعبُّد.»١٣
وكانت كتب العلم الجليلة الشأن تُوقف على هذه المدارس ليستفيد منها الطلاب والمُدرسون. جاء في صدر مخطوط فيه تلخيص كتُب أرسطوطاليس لابن رشد الفيلسوف ما يأتي: «وقف وحبس وسبل وتصدق العبد الفقير صرغتمش … على المُشتغِلين بالعلم الشريف، وعلى المُقيمين بالمدرسة الحنفية المُجاورة لجامع ابن طولون.»١٤
ويرى الأستاذ خليل طوطح أن التعليم يمرُّ في المراحل الآتية:
  • (١)

    المكتب أو الكُتَّاب.

  • (٢)

    الجامع.

  • (٣)

    مجلس العِلم أو مجلس الأدب.

  • (٤)
    المدرسة أو الكلية.١٥

(٤) تصوير حالة التعليم

يخرج المرء من قراءة كتاب القابسي بصورة واضحة عن حالة تعليم الصبيان في القرن الرابع الهجري أو العاشر الميلادي.

وهي صورة واضحة، وتُعتبَر كثيرة الجلاء بالنسبة لِما كتبه غير القابسي من المُؤلفين في هذا الموضوع؛ لأنه أسهب حين أوجزوا، وذكر ما لم يذكُروا، وجمع شئون تعليم الصبيان في كتابٍ واحد.

يُبعث الصبي إلى الكُتَّاب إذا عقَل. هذه الكتاتيب مُنتشرة في أنحاء المدن والقرى، قد تكون إلى جوار المساجد، وقد تكون بعيدةً عنها، ولا تكون بداخلها على أي حال.

ويقوم بالتعليم في هذا الكُتَّاب مُعلم، هو الذي يستأجِر الكُتَّاب، ويتَّخِذه مكانًا للتعليم. وقد يشترك مُعلِّمان أو أكثر في التعليم بالكُتَّاب إذا كان عدد الصبيان كثيرًا، ولكن الغالِب أنه مُعلم واحد. وليس للحاكِم سلطان على هذه الكتاتيب، فهو لا يُنشئها، ولا يشرف على سير التعليم فيها، ولا شأن له بها. وإنما يفتتح المُعلمون الكتاتيب من تلقاء أنفسهم، ويدفع إليهم الآباء بأبنائهم حسب رغبتهم، ويتلقَّى الصبيان التعليم في نظير أجر يدفعونه إلى المُعلم، قد يكون مشاهرةً،١٦ وقد يكون مُساناةً،١٧ وقد يكون بمقدار ما تعلَّم الصبي.

وليس الكُتَّاب دارًا كبيرة فيها فصول كثيرة كما هي الحال في المدرسة الأولية المعروفة الآن، وإنما هو مكان مُتواضع، يتَّسِع لهذا العدد من الصبيان الذين يشرف عليهم مُعلم واحد، قد يكون حانوتًا، وقد يكون بضع حجراتٍ في منزل.

ويذهب الصبي مُبكرًا إلى الكتَّاب، فيبدأ بحفظ القرآن، ثم يتعلَّم الكتابة، وعند الظهر يعود إلى المنزل لتناوُل الغداء، ثم يرجع بعد الظهر ويظلُّ حتى آخر النهار.

وبطالة الصبيان من بعد ظهر يوم الخميس، وسحابة يوم الجمعة، ثم يعودون صباح السبت.

يتعلَّم الصبي مدة دراسته التي قد تستمرُّ إلى وقت البلوغ أو بعده بقليل، القرآن والكتابة والنحو والعربية. وقد يتعلم الحساب والشِّعر وأخبار العرب. على أنَّ أهم ما يَدرُس الصبي هو حفظ القرآن على الطريقة الفردية أو الجمعية؛ إذ يبدأ المُعلم أو العريف بآية يُردِّدها الصبيان من بعده. ولكل صبي لَوح يكتب فيه، يُثبِت فيه ما يُريد أن يحفظه، ثم يمحوه ليكتُب شيئًا جديدًا، ولم يكن من اللازم أن يحفظ الصبي القرآن كله، إلا إذا كانت تلك رغبة أبيه.

فإذا أخطأ الصبي في الكتابة والهجاء والحفظ، أو أهمل أو انصرف إلى اللعب والعبث دون الدرس والعلم، أو هرب من الكُتَّاب، عاقَبَهُ المُعلم بالنصح تارةً، والعزل والتهديد مرة أُخرى، والضرب تارةً ثالثة إن لم تفلح النصائح ولم يُجْدِ التهديد.

وإذا أتمَّ الصبي مرحلة التعليم في الكُتَّاب، جاز امتحانًا فيما حفِظ من القرآن وفي الكتابة. واختبار حفظ القرآن كله يُعرَف بالختمة. وعندئذٍ إما أن ينقطع عن التعليم ويتَّجِه إلى الصناعة التي يريد أن يُزاولها لكسب المعاش، وإما أن ينصرِف إلى مرحلةٍ أُخرى من التعليم أرقى من التعليم في الكتَّاب.

هذه هي الصورة التي نُدركها من الاطلاع على كِتاب القابسي على وجه الإيجاز، وأركان هذه الصورة التي تتركَّب منها أربعة: هي الكُتَّاب والمُعلم والصبي والقرآن. هذه العُمُد الأربعة هي الأساس الذي يقوم عليه التعليم الأوَّلِي كما وصفه القابسي. وعلينا أن نبحث بعد ذلك أهذه الصورة مُستمدَّة من الواقع أم يصِف فيها ما ينبغي أن يكون، ثم نتبيَّن إذا كان هذا النوع من التعليم إقليميًّا أم عامًّا.

(٥) صورة واقعية أم مثالية

عنوان كتاب القابسي يُرشِدنا إلى الاتجاه الذي سلكَه في معالجة مشكلة تعليم الصبيان، فهي الرسالة المُفصلة لأحوال المُتعلمين، وأحكام المُعلمين والمُتعلمين، والأحوال والأحكام كلاهما مُستمَد من الواقع لا من المثال.

فقد ينصرف الذهن إلى أن هذه الصورة المذكورة عن الصبيان وما يتلقَّون من مواد مختلفة، وعن طريقة تعليمهم وتأديبهم وسلوكهم، وعن صِلة المُعلم بهم، ليست مُنتزعة من الواقع، بل هي المثل الأعلى الذي ينشُده القابسي في التعليم.

وليس غريبًا أن يسلُك بعض المُفكرين والفلاسفة طريقةً مثالية في كتابتهم عن التربية. في الزمن القديم كتب أفلاطون عن التربية في (الجمهورية). وفي العصر الحديث أخرج روسُّو كتاب (إميل) في تربية الطفل. وكِلاهما مِثالي لم يصِف حقيقة الحال ولم يأخُذ الناس بجميع آرائهما بعدهما. وكثيرًا ما يخرج المفكرون في مُثُلهم عن حدود القوانين الطبيعية والاجتماعية، مما يجعل تطبيق نظرياتهم العقلية ضربًا من المستحيل. فقد أراد روسو أن يعود بالإنسان إلى نوع من المعيشة البدائية الفطرية لا يستقيم مع حال الحضارة ولا يتفق مع طبيعة العمران.

ولم يكن القابسي مِثاليًّا من طراز هؤلاء المُربِّين، وإنما كان يصف الواقع، لا ما ينبغي أن يكون. ثم هو لا يتعدَّى في أحكامه القوانين الاجتماعية.

اتخذ القابسي الواقع أساسًا له فيما كتب، وصوَّره، ثم بيَّن بعد ذلك الأسباب التي تجعله يُجيز ما كان سائدًا، وكل ذلك بأحكامٍ شرعية. وهو يُصور الواقع بما لا يعدو حدود الوصف بكل ما في أحوال التعليم من خيرٍ وشر وحُسن وقُبح. والمظاهر الاجتماعية فيها الصالح وفيها الفاسد في كل زمانٍ ومكان. أما الصالح فإن القابسي يُقِرُّه، ويأمر به، ويُجيزه ويستحسِنُه. وأما الفاسد فإنه ينهى عنه، ويزجُر المُعلمين عن الإتيان به، ويَستقبحه وينصح بالابتعاد عنه.

وهو حين يحكُم على شيءٍ بأنه حسَن، فهو يتبع طريقة الفقهاء التي ذكرناها، وهي الاستناد إلى أصولٍ من الكتاب والسنة والإجماع. والمصلحة التي يذكُرها هي المصلحة الشرعية أو الدينية. فتعليم «الأنثى القرآن والعِلم حسَن، ومن مصالحها.» لأن ذلك هو السبيل إلى معرفة الدين وتأدية الصلاة المفروضة على المؤمنين والمؤمنات. ولم تكن هناك حاجة إلى النص على وجوب فصل الجنسَين، خشية ما يلحق من فساد، لولا الجمع بين الذكور والإناث في الكتاتيب.

والصورة واقعية؛ لأن كثيرًا من المسائل تجري مع العرف الذي أجاز القابسي أغلبه. فوجوب الختمة للمُعلم تكون على قدرِ يُسر الأب وعُسره، وليس في ذلك حدٌّ مؤقت، إنما هو ما يرى أنه واجب في عادات الناس في مثل هذا المعلم. والعطية في العيد مُستحسنة، ولم يزل ذلك مُستحسنًا فعله في أعياد المُسلمين.

ولا ننسى أن الكتاب دار على أسئلةٍ وجَّهها سائل إلى القابسي، فأجاب عنها. وأسئلة السائل هي وصف لأحوال التعليم في عصره، أتتفق مع مبادئ الشرع، أم لا تتفق؟ ولذلك فزع إلى الفقيه يطلُب رأيه فيها. ويُجيب القابسي بقوله: «وأما وصفك لِما جرى عندكم من صنيع مُعلِّميكم إذا تزوَّج رجل …» ٦٢-ب، فيبعث المعلم صبيانه في طلب طعام وما أشبه بمناسبة الزواج، ويتبطَّل الصبيان يومًا أو بعض اليوم، فطلب الهدية على هذا النحو حرام، وينبغي أن يترك المُعلم هذا العمل؛ لأنه من العادات المُستقبحة، والعُرف المذموم.

وقد يقتضي الأمر في بحث مسألة من المسائل أن يرُدَّها إلى أصولها التاريخية، ويتتبَّع تطوُّرها إلى أن تبلُغ زمانه. فالحاضر وليد الماضي. مثال ذلك: مسألة أجر المعلم، ففي عصر القابسي كان المُعلمون يتناوَلون الأجر على التعليم، ولم يكن الأمر كذلك في زمن الصحابة، فما الحاجة التي ألجأت الناسَ إلى تغيير أحوالهم، والخروج على أفعال الصحابة والتابعين؟ وأفعالهم كما تعلم هي الصراط المُستقيم الذي ينبغي أن يسير الناس عليه من بعدهم. إنها حاجة الدين، وحاجة العصر والزمان.

وهذا الذي فعله في مسألة الأجر فعله في جميع المسائل الأخرى، فهو يصِف ما يجري عليه المُعلمون في أحوالهم، ثم يُفسِّرها في ضوء التاريخ، لهذا رجع إلى مالك، وإلى ابن وهب وإلى ابن القاسم، وإلى ابن سحنون في كتابه الذي دَوَّنه عن سحنون. ولم يتطوَّر العالم الإسلامي كثيرًا في طريقة تعليم الصبيان منذ عصر سحنون إلى زمن القابسي.

الواقع إذَنْ هو الصورة التي يدور حولها القابسي، فيؤيد ما يَستحسِنه ويذُم ما يستقبِحُه وما ذكره ابن خلدون في مُقدمته خاصًّا بطريقة التعليم بإفريقية ينطبق على الوصف الذي ذكره القابسي من أن الصبي يتعلم القرآن، والكتابة والخط، وبعض النحو والإعراب. على حين أن الحساب والشِّعر والنحو والعربية والغريب، ليس تعليمها لازمًا إلا إذا تطوَّع المعلم.

رأيٌ واحد هو الذي نستطيع أن نعتبره من النظريات المثالية التي تمنَّى القابسي ذُيوعها، وهو الرأي القائل بإلزام التعليم. فقد أوجب تعليم الصبي من مال أبيه أو وصيِّه أو أحد أقاربه أو من مال أحد المُحسنين، أو يُعلمه المُعلم احتسابًا. ولم يكن جميع صبيان المُسلمين يتلقَّون التعليم ويعرفون القراءة والكتابة، ولكنه رأيٌ رغب القابسي في أن ينتشِر، فسبق بذلك عصره، ودلَّ على بُعد نظره.

من هذا كله نخرج بالنتيجة الآتية، وهو أن موضوع التعليم الذي ذكره القابسي كان وصفيًّا يُقرَّر فيه الواقع، ويُحيطنا بلَونٍ من ألوان البيئة العقلية في أحد جوانبها، وهي بيئة المُعلمين في الكتاتيب.

وتختلف هذه الصورة عما كان معهودًا عن حال التعليم في الصدر الأول من الإسلام، وتختلف أيضًا عن صورتها بعد عصر القابسي، إلى جانب اختلافها في المكان مما سنذكره فيما بعد، في أن هذا اللون من التعليم الذي بين أيدينا هو تعليم إقليمي وليس عامًّا. وهذا التغيير في الزمان طبيعي؛ لأن المجتمع لا يدوم على حال، بل يتطوَّر وينمو ويزدهر وقد ينحطُّ ويتدهور، كما هي سنة الكائنات الحية جميعًا. ولم يكن هذا التطوُّر خافيًا عن ذهن القابسي، فقد أشار إليه في مناسباتٍ عدة وذكر أن المُسلمين الأوائل لم يعرفوا المُعلمين المُنقطِعين إلى هذه الصناعة التي يتناولون عليها الأجر، ويجعلونها مصدر الكسب وعماد المعاش. فإذا انتفى وجود المُعلمين فقد اختفت صورة التعليم المنظمة الداخلة بين جدران الكتاتيب، واختفى معها أوقات الدراسة، وطرُق التعليم، ومناهج العِلم، وأدوات التأديب. وإنما نشأ هذا كله بعد النبي وبعد عصر الصحابة. حتى إذا بلَغْنا القرن الرابع قدَّم إلينا القابسي هذه الصورة التي سادت في شمال إفريقية. وتغيَّرت أحوال التعليم بعد القرن الرابع الهجري، ولكنه ليس تغييرًا عظيمًا يختلف عن الجوهر المألوف، بل هو تغيير شكلي. فقد انتظمت الكتاتيب نوعًا ما، واستقرَّت لعناية أُولي الأمر بها، ورصد الخيرات من مال الأوقاف للصرْف عليها. وبذلك ضمِنَت البقاء والحياة.

(٦) تعليم إقليمي أم تعليم عام

هل الوصف الذي بسطه القابسي يختصُّ بالإقليم الذي يعيش فيه، أم هو وصف لحالة التعليم والمُعلمين في جميع أنحاء العالم الإسلامي؟

هذه مسألة لا بدَّ أن نرجع فيها إلى التاريخ، للموازنة بين رأي القابسي وآراء غيره. والعالَم الإسلامي ينقسِم على وجه العموم إلى قسمَين كبيرين: الشرق ويشمل بلاد العرب وفارس والعراق والشام ومصر؛ والغرب ويشمل شمال إفريقية والأندلس.

وقد وصف حالة تعليم الصبيان في هذه الأقطار المختلفة ابن خلدون في مُقدمته وأبو بكر ابن العربي في بعض كتبه. ونجد شذرات مُتفرقة خلال كتب التاريخ والفقه والأدب تُفيد في الحُكم على طريقة التعليم في المشرق والمغرب.

وهناك أمور اتفق عليها المُسلمون جميعًا منذ أشرق نور التعليم واهتمَّ به أولياء الأمر. هذه الأمور هي التعليم في الكتَّاب، وقيام مُعلمين مَخصوصين بالتعليم يتناولون الأجر على ذلك. فالثابت أن الكتاتيب انتشرت بعد الصدر الأول من الإسلام، وأصبحت المكان المخصوص بتعليم الصبيان. واتَّخذ بعضهم التعليم صناعةً عُرف بها، ومنهم من برز في العلم والأدب، مثل الحجاج بن يوسف الثقفي وأبيه، وعبد الحميد الكاتب١٨ وغيرهم. والمعروف أن هؤلاء المُعلمين كانوا يتناوَلون الأجر على صناعتهم.

أما الخلاف فيقع في طريقة التعليم، أو في المنهج الذي يدرُسه الصبيان، وفي ترتيب العلوم التي يبدءون بتعلُّمها.

وقد يقع الخلاف أيضًا في سياسة الصبيان وعقابهم، وفي أمور فرعية تتَّصِل بوقت الدراسة والبطالة وأشباه ذلك من الأمور الخاصة بالتعليم. ولكن الكتُب التي عالجت مثل هذه المواضيع لم تشمل كثيرًا من التفاصيل.

عن ابن خلدون١٩

  • (١)
    أما أهل المغرب فمذهبهم في الوُلدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء الدراسة بالرسم ومسائله.٢٠ واختلاف حملة القرآن فيه،٢١ ولا يخلطون ذلك بسواه في شيءٍ من مجالس تعليمهم، لا من حديث ولا من فقهٍ ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه …
  • (٢)

    أما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو، وهذا هو الذي يُراعونه في التعليم، إلا أنه لمَّا كان القرآن أصل ذلك، وأُسَّهُ، ومنبع الدين والعلوم، جعلوه أصلًا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم الوُلدان رواية الشِّعر في الغالب والترسُّل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتابة. ولا تختصُّ عنايتهم بالقرآن دون غيره، بل عنايتهم بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة.

  • (٣)

    وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب …

    إلا أن أكثر عنايتهم بالقرآن واستظهار الوُلدان إيَّاه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءته ممَّا سواه، وعنايتهم بالخط تبَعٌ لذلك.

  • (٤)

    وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلُغنا، ولا أدري بمَ عنايتهم منها، والذي يُنقَل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العِلم وقوانينه في زمن الشبيبة، ولا يخلطونه بتعليم الخط، بل لتعليم الخط عندهم قانون ومُعلمون له على انفرادٍ كما تُتَعلَّم سائر الصنائع، ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان.

ونخلص من هذا إلى أن جميع الأقطار تبدأ بتعليم القرآن، ثم أهل المغرب يقتصِرون عليه، ويخلط أهل إفريقية القرآن بالحديث والخط، ويهتمُّ أهل الأندلس مع القرآن بعلوم العربية والخط، ويخلط أهل المشرق أيضًا في التعليم فيُضيفون إلى القرآن بعض العلوم، ولا يهتمُّون بالخط في الكتاتيب.

أما أبو بكر ابن العربي

فلا يصف طريقة التعليم المُتبعة، ولكنه يذكُر ما يرى أنه الواجب، وقد لخَّص ابن خلدون رأيه فقال: «وقد ذهب القاضي أبو بكر ابن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم، وأعاد في ذلك وأبدأ، وقد قدَّم تعليم العربية والشِّعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس … ثم ينتقل منه إلى الحساب … ثم ينتقل إلى درس القرآن … ثم قال: «ويا غفلة أهل بلادنا في أن يُؤخَذ الصبي بكتابِ الله في أول أمره يقرأ ما لا يفهم».»٢٢

وفي تعليق ابن خلدون على كلام ابن العربي ما يدلُّ على أن هذه الطريقة غير مُتبعة، قال: «وهو لَعَمري مذهب حسن، إلا أن العوائد لا تساعد عليه.»

قال ابن العربي في كتاب (القواصم والعواصم) يصف التعليم بالأندلس: «فصار الصبيُّ عندهم إذا عقل، فإن سلكوا به أمثلَ طريقةٍ لهم علَّموه كتاب الله، فإذا حذقه نقلوه إلى الأدب، فإذا نهض منه حفَّظوه المُوطأ، فإذا لُقِّنَهُ نقلوه إلى المدونة …»٢٣

وعن أبي بكر ابن العربي يصِف التعليم بالمشرق.

«وللقوم في التعليم سيرة بديعة؛ وهي أن الصغير منهم إذا عقل بعثوه إلى المكتب، فإذا عبر المكتب أخذوه يتعلَّم الخطَّ والحساب والعربية. فإذا حذقه كُلَّهُ أو حذق منه ما قُدِّر له خرج إلى المُقرئ فلقَّنَه كتاب الله فحفظ منه كل يومٍ ربعَ حزبٍ أو نصفه أو حزبًا، حتى إذا حفظ القرآن خرج إلى ما شاء الله من تعليمٍ أو تركه.»

ومنهم — وهم الأكثر — من يؤخِّر حفظ القرآن ويتعلم الفقه والحديث وما شاء الله. فربما كان إمامًا وهو لا يحفظه. وما رأيتُ بعينَيَّ إمامًا يحفظ القرآن وما رأيتُ فقيهًا يحفظه إلا اثنَين، ذلك لتَعْلموا أن المقصود حدودُه لا حروفه.٢٤
ويبدو لنا أن وصف ابن العربي حال التعليم في المشرق بعيدٌ عن الواقع، إذا كان من الضروري تعلُّم قدْرٍ من القرآن تَصحُّ به الصلاة، ويجوز أن يُحمَل كلام ابن العربي على مَنْ يريد حفظ القرآن كله، وليس موضوعنا، فقد أجمع كل من كتبَ عن التعليم على أن القرآن هو الأصل الذي يبدأ الصبيان بتعلُّمه، كما ذكرنا عن ابن خلدون. وذكر ابن حزم ما نصه: «مات رسول الله والإسلام قد انتشر وظهر في جميع جزيرة العرب من منقطع البحر المعروف ببحر القلزم مارًّا إلى سواحل اليمن كلها إلى بحر فارس إلى منقطعه مارًّا إلى الفرات، ثم على ضفة الفرات إلى منقطع الشام إلى بحر القلزم، وفي هذه الجزيرة من المُدن والقرى ما لا يعرف عدده إلا الله كاليمن والبحرين وعمان ونجد وجبلي طي، وريبة وقضاعة والطائف ومكة، كلُّهم قد أسلم وبنوا المساجد، ليس منها مدينة ولا تربة ولا حلة لأعرابٍ إلا قد قُرئ فيها القرآن في الصلوات وعُلِّمَه الصبيان والرجال والنساء وَكُتِب.»٢٥

من هذا يتضح لنا أن تعليم القرآن في المشرق كان هو المبدوء به؛ لنفعه في الصلاة مع ما كان يصحبه من تعلُّم الكتابة.

أما الطريقة التي أرادها ابن العربي فهي طريقة مثالية وليست واقعية.

وشبيه بهذا ما أُثِرَ عن بعض رجال الفكر وقادة العرب في طريقة تعليم أبنائهم. قال الحجاج لمُعلِّم ولدِه: «علِّم ولدي السباحة قبل الكتابة.»٢٦
وعن عمر بن الخطاب: «علِّموا أولادكم العوم والرماية، ومُرُوهم فليَثِبوا على الخيل وثبًا، ورَوُّوهم ما يجمُل من الشِّعر.»٢٧ وقال ابن التوأم: «علِّم ابنك الحساب قبل الكتاب، فإن الحساب أكسَبُ من الكتاب، ومَئُونة تعلُّمه أيسر، ووجوه منافعه أكثر … وفي ما يجب على الآباء من حفظ الأبناء، أن يُعلِّمه الكتاب والحساب والسباحة.»٢٨

فهذه كلها وصايا خاصة تُفصِح عن مزاج أصحابها، ولكنها لا تدل على شيوع هذه المبادئ. ولم يكن مُعلم الكتَّاب هو المخصوص بتعليم الرماية والسباحة، ولا يتعلَّم الصبي الرماية في سنِّ السادسة أو السابعة فسنُّه أصغر من تعلُّم هذه الصناعة. ولم يكن صبيان العامة يُؤخَذون بتعلم مثل هذه الأمور، وإنما هي نوع من الترَف في التعليم لا يتلقَّاه إلا أبناء الخاصة على أيدي مُعلمين ومُدربين خاصين بذلك.

والنتيجة التي ننتهي إليها هي أن الطريقة المذكورة في رسالة القابسي تصِف التعليم في شمال إفريقية. وأبرز ما في هذه الطريقة البدء بتعليم القرآن واتِّباع أشهر المُقرئين في حفظه والعناية بالخط والهجاء، ويَصحَب ذلك بعض النحو والعربية. أما الحساب وهو من المواد المُهمة اللازمة للكسْب والعمران، فلم تكن العناية بدرسه ضرورية، إن لم يكن مُهملًا.

وقد اتضح لنا من كلام ابن خلدون أنه أثبت اختلاف طريقة التعليم في الأقطار المختلفة، ويُشبه ما ذكرَه عن التعليم في إفريقية والمغرب ما نص عليه القابسي.

وإذا كان القابسي قد وصف طريقة التعليم بما جرى به العُرف في بلاده، فالغالب أن بقية الأبحاث المُتعلقة بالتعليم والتربية، هي التي كانت مُتبعة في موطنه. وإذا رجعْنا إلى نصِّ المخطوط وجدْنا أنه كثيرًا ما يحكم بما اشتُهر بين الناس، وبما جرى به العُرف. وهو يقصد من العُرف ما جرى عليه الناس في بلاده.

لكل هذا نقول: إن التعليم الذي وصفه القابسي إقليمي وليس عامًّا.

١  معالم الإيمان، ص١٦٨.
٢  Bibliographie Analytique Ibrahim Salama p. 10.
٣  Bibliographie Analytique Ibrahim Salama, Introduction p. XXI.
٤  اعتنى بنشره وتصحيحه والتعليق عليه الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب، سنة ١٣٤٨ﻫ، طبع تونس وسننشُرُه في ذيل هذا الكتاب تحقيقًا للفائدة.
٥  كتاب أحكام القرآن لأبي بكر بن العربي، ج٢، ص٢٩١، مطبعة السعادة، سنة ١٣٣١ﻫ، بالقاهرة.
٦  آداب المُعلمين، حسن حسني عبد الوهاب، المقدمة، ص٣١.
٧  طبقات الأطباء، ج٢، ص٢.
٨  ضحى الإسلام، أحمد أمين، ج٢، ص٦٦.
٩  الديباج، ص٣١.
١٠  الديباج، ص٢٣.
١١  الخلاصة، ص٦.
١٢  الديباج، ص١٩٠.
١٣  رحلة ابن جبير، طبع بغداد، ١٩٣٧م، ص٩.
١٤  مخطوط رقم ٢٤٦، المكتبة الملكية بالقاهرة. وانظر كتاب تلخيص كتاب النفس لابن رشد، نشر أحمد فؤاد الأهواني، ١٩٥٠م.
١٥  التربية عند العرب، خليل طوطخ، ص١١.
١٦  أي شهريًّا (المُحرر).
١٧  أي سنويًّا (المُحرر).
١٨  البيان والتبين، ج١، ص٩٢.
١٩  مقدمة ابن خلدون، ص٣٩٧-٣٩٨.
٢٠  تعني الكتابة والخط العربي.
٢١  أي القراءات. (المُحرر).
٢٢  ابن خلدون، ص٣٩٨.
٢٣  عن الديباج، ص١٢١، في ترجمة القاضي أبي الوليد الباجي.
٢٤  أحكام القرآن لابن العربي، ج٢، ص٢٩١.
٢٥  ابن حزم، ص٦٦.
٢٦  البيان والتبيين، ج٢، ص٩٢.
٢٧  الكامل للمبرد، ج١، ص١٨٥.
٢٨  البيان والتبيين، ج٢، ص٩٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤