إلمامة

الشعر الحديث

هل للشعر اليوم مدرسة حديثة؟ وهل هذه هي المدرسة المثالية المنشودة؟ نعم هي موجودة حقًّا.

والواقع أن الذي وَضَع الحجر الأول في بنائها هو الشاعر خليل مطران.

لقد كان الشاعر خليل مطران يكتب قصصه الشعرية «الجنين الشهيد» وغيرها حين كان حافظ وشوقي يقلِّدان البارودي أو يعارضان القدماء، وكنَّا نحن في صبانا نقرأ شعر مطران كما نقرأ حافظ وشوقي، وقد ترك الثلاثة في نفوسنا آثارًا لا تُمْحى، ولكني أعتقد أن أثر مطران علينا كان قويًّا واضحًا؛ فإذا كتبنا اليوم شعرًا نسمِّيه نحن حديثًا أو جديدًا، فمن فضل ذلك الرجل، وشَدَّ ما أخشى ألا تُعرَف له تلك اليد التي أسلفها، وتوارى كعادته مدعيًا أنها ليست له، وأنها لغيره!

وسيوافقني صديقي أبو شادي الذي أُسَرُّ كلَّ السرور بكتابة هذه الإلمامة لديوانه البديع، على أنَّنا مَدينون لخليل مطران بكثير من التوجُّهات في شعرنا العصري؛ هو وضع البذور وفتح أعيننا للنور، ونحن إنما زِدْنا على ذلك بما عرفناه في مطالعاتنا المتعددة، ويساعدنا على ذلك عِرْفاننا باللغات المتباينة التي أوقفتنا على التيارات الجديدة للآداب والفنون، وأطلعتنا على الثقافات الحديثة في العالم المُتحضِّر، وإذن ﻓ «أطياف الربيع» التي نَظَمَها شاعر من جمعية أبولُّو، هي تحية لمطران رئيس أبولُّو الذي كان يكتب قصيدته «المساء»، ويجلس إلى البحر يستعرض الطبيعة، ويتكلم إلى الكون، ويناجي الله، ويشرح عذاب الإنسانية، ويشعر بالفناء والعدم، ويحس في ساعة واحدة بالماضي والحاضر والمستقبل، بينما غيره كان يتكلم في «قفا نَبْكِ»، ويقلِّد «أمِن أمِّ أَوْفى دِمنة».

إذن فالمدرسة الحديثة التي يتكلم بلسانها أبو شادي، وحسن الصيرفي، وصالح جودت، والشابي وغيرهم، هي رَجْع الصدى لذلك الصوت البعيد الذي ردَّده مطران في غير ضجة ولا ادِّعاء.

وماذا صنعت المدرسة الحديثة؟

لو لم تنشئ غير مجلة «أبولُّو» لكفاها فخرًا. لينكرِ الناس على أبي شادي شعره إذا شاءوا، وليُعجَبوا بأطياف الربيع والشُّعلة وسواهما من دواوينه أو لا يُعجَبوا، ولكنهم لا يستطيعون أن ينكروا لحظة أنه بمجهوده الجبار، وبثباته الممتاز، خَلَق مدرسة، ورَفَع علمًا، وأخرج إلى النور شعراء كانوا بغير حقٍّ في الظلمات. لا يستطيعون أن ينكروا لحظة أنه وسَّع أفق الشعر العربي، وخرج عن قيود أثقلته وقعدت به أجيالًا طوالًا، وقد يكون في الخروج على هذه الأصول المرعية والتقاليد المتوارثة شيء من الصدمة التي لم تألفها النفوس بعد؛ وقد يكثر الخصوم والمعارضون والمنكرون، لا بد من هذا في كل تطوُّر، وفي كل حركة جديدة يُقصَد منها إلى التحرير والخلاص. وطالما رأيت أبا شادي في وسط هذه الزوبعة من المعاول المتساقطة ساهمًا حزينًا، ولكنه لم يكن يائسًا ولا جبانًا، فبينما كان يصدر الأعداد الممتازة الضخمة من أبولُّو، وتارةً عن شوقي، ومرةً عن حافظ، مهما كلَّفه ذلك من التضحية في سبيل نشر آثارهما، مُخلِّدًا ذكراهما وهو المنتقد لأساليبهما، الثائر على طريقتهما، إذا به يقول الشعر في كل شيء وعن كل شيء؛ يقوله واصفًا الشارع والبيت، والزهرة والحقل، والنهر والبحر، والمدينة العامرة والكوخ الحقير، لا يفوت إحساسَه الدقيقَ شيء، شأن الفنان القوي الحواس، وهو بذلك يضرب مثلًا للشعراء عمَّا يجب أن يتناوله الشعر من المعاني، مُنبِّهًا إياهم لما يجب أن يكون عليه الشاعر من الإحاطة بالحياة.

وطالما انتقدتُ أنه يكتب بكثرة وإفراط، حيثما الشعر يحتاج إلى غربلة، ثم أعود فأعتذر إليه بين نفسي ونفسي، قائلًا إنه كشاعر فنان شَرِه يحب الحياة يريد أن يلتهمها التهامًا؛ فمن الواضح أنه لا يستطيع التَّمهُّل، ما دام دائب التذوُّق، دائب الجري وراء مفاتن الكون ومحاسنه، وما دام يشعر في كل لحظة شعور ألف شاعر.

والواقع أن دواوينه معرض ممتاز لحياة مليئة بالفن والجمال وعبادة الفن والجمال، فيَّاحة بشتَّى الصُّوَر والخوالج، غاصَّة بما يعتورها من السخط والرضا والهدوء والثورة. ومما يميِّزها ويرفعها في نظري أن أبا شادي ليس أنانيًّا؛ فليس شعره مقصورًا على نفسه محيطًا بها كدائرة مركزها انفعالاته الخاصة، كلا، بل هو حُرٌّ طليق كالطائر الذي يسبح في جو فسيح مترامي الأطراف، يرى الكون من عَلٍ؛ فيبهجه جماله وتفتنه محاسنه، فيندمج الجزء في الكل، فتصير الأغنية الخاصة وصفًا عامًّا، وصدحة شاملة للعوالم بأجمعها.

وهو يشبه الطائر أيضًا في أنه يكره القيود، يكره أن يستقرَّ في وَكْر واحد، أو يأوي إلى أيكٍ واحد؛ فما تكاد القافية تقيِّده، حتى تشعر أنه ثار عليها ومضى إلى أخرى، ولعل هذا الطبع قد اكتسبه هو من كثرة مزاملته للنَّحل الذي لا يقنع بزهرة واحدة!

ويدرك القارئ بسرعةٍ اقتناع أبي شادي بأن الشعر فن من الفنون الجميلة، وأن الشاعر يجب أن يعيش عيشة الفنان لا عيشة الكاتب الناظم، وما هي عيشة الفنان؟ هي أن يرهف أذنه للأصوات ويفتح عينه للألوان والصُّوَر، وأن يستدقَّ شمُّه ولمسه، كذلك عاش ابن الرومي، وكذلك عاش الشاعر كيتس الذي كان ينام في الحقل ليشرب من ندى الطبيعة، وكذلك كان سيد درويش الذي كان يستقي أنغامه من جدول الكون، وكذلك يجب أن يعيش كل شاعر مُلهَم، وأن يستمد وَحْيَه من لوحة الكون، لا من الكتب والدواوين الأخرى، وأن يغمس قلمه في مداد الحياة، وأن يكتب ممَّا اكتسبه من التجارب والإحساسات، وما عرفه من مخالطة الناس، وألا يعبأ بما يصيبه منهم من خيبة وعثار، وألا يجزع لما يلقى من إنكار للجميل وعدم تقدير للمجهود والعبقرية؛ فكل هذه الآلام والمتاعب والأشجان لازمة للعبقريِّ الفنان يستمد منها شِعره ويغذِّي خياله.

في نظرة سريعة يدرك القارئ أن أبا شادي ساخط غير راضٍ عن البيئة، اقرأ له مثلًا قصيدة «منازل النيل»، وهي عزيزة عليه للظرف الذي قيلت فيه، كتبها بسرعة وهو منفعل متأثر بما يلقى أبناء النيل من النكران والغبن، أخبرني أنه نظمها في القطار وهو تحت تأثير الغضب من أجنبي ذَكَّره بما نلقاه في مصر من الحَيْف والضَّيْم، وتحت تأثير حُسْن سيدة فتانة بجواره، فكان الغضب والحُسْن يمليان القصيدة روحًا وصياغة في وقت معًا!

ومنها هذا الشعر الجميل:

مَنَازِلَ النِّيلِ كَمْ فِي النَّاسِ ذِي ظَمَأٍ
يَكْفِيهِ رِيٌّ فَيُمْسِي غَيْرَ ظَمْآنِ
وَكَمْ شَكَاةٍ عَلَى طِرْسٍ وَفِي صُحُفٍ
تُتْلَى وَتُنْسَى كَمَا يُنْسَى الْجَدِيدَانِ
وَكَمْ حَوَادِثَ يَمْضِي الْخَائِضُونَ بِهَا
كَأَنَّهَا لَمْ تَقُمْ يَوْمًا بِأَذْهَانِ
أَمَّا أَنَا فَحَيَاتِي كُلُّهَا ظَمَأٌ
وَإِنْ نَسِيتُ فَمَا أَحْيَا لِنِسْيَانِ

وعلى ذكر الظمأ، يتميَّز أبو شادي بأنه لا يرتوي أبدًا، يقول مثلًا:

أَوَّاهُ مِنْ ظَمَئِي وَهَلْ مِنْ ظَامِئٍ
مِثْلِي وَهَلْ ظَمَأٌ بِغَيْرِ حُدُودِ
لَوْ كُنْتِ لِي لَعَرَفْتُ عَيْشِي نَاضِرًا
خَضِلًا كَعَيْشِ الْبُلْبُلِ الْغِرِّيدِ

تقول: إنه يشكو البيئة، يشكو عدم إنصاف الناس له، وديوانه هذه المرة زاخر بأنَّةِ الشكوى:

قَدْ مَزَّقَتْنِي الْمَآسِي فِي مَعَارِكِهَا
فَمَا رَثَيْتُ لِعُمْرِي حِينَ أَبْكِيهِ
لَكِنْ بَكَيْتُ عَلَى قَوْمٍ وَفَيْتُ لَهُمْ
فَكَافَئُونِي بِتَعْذِيبٍ وَتَسْفِيهِ

ثم تعاوده نفسه السمحة الكريمة فيغفر، كما غفر المسيح، قائلًا: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، فيقول أبو شادي:

مَا بَالُ سُخْطِي يَسْتَحِيلُ مَحَبَّةً
كَالنَّارِ سَاعَةَ تَسْتَحِيلُ ضِيَاءَ
مَا بَالُ أَطْيَافِ الرَّبِيعِ تَحَوَّلَتْ
شَجَنًا وَعَادَتْ نَشْوَةً وَصَفَاءَ
وَأَعِيشُ فِي دُنْيَا التَّفَاؤُلِ نَاسِيًا
دُنْيَا تَفِيضُ قَسَاوَةً وَعَدَاءَ

وعندما يرجع إلى نفسه السمحة الكريمة، ويتجرد من غضبه وسخطه ترِقُّ قيثارته وينظم شعرًا من أعذب الشعر وأحلاه، كما ترى في مقطوعة «النظر الجريء»:

لَا تَرْهَبِي نَظَرِي الْجَرِيءْ
هُوَ لَنْ يُسِيءَ وَلَوْ أُسِيءْ
هُوَ نَشْوَةُ الْحُبِّ الطَّهُورِ
وَوَثْبَةُ الرُّوحِ الْمُضِيءْ
رُوحِي تُطِلُّ عَلَيْكِ فِيهِ
وَتَجْتَلِي الْقُدْسَ الْوَضِيءْ
وَتَعُبُّ مِنْ هَذَا الْحَنَانِ
شَرَابَ كَوْثَرِهَا الْهَنِيءْ
هُوَ خِلْسَةٌ مِنْ نِعْمَةٍ
عُلْوِيَّةٍ لَيْسَتْ تَفِيءْ
فَعَلَامَ نَخْشَاهَا وَمَا
فِيهَا سِوَى السُّكْرِ الْبَرِيءْ

ولطالما جلستُ إليه فأصغيت إليه يقصُّ ما يلاقيه من قسوة الناس وجحودهم، فأقول له: يا صديقي، نحن جنود في هذه الدنيا، نعمل لصالح الناس، ولا نبالي ما يقولون عنَّا، نعمل لخير الإنسانية ونترك الحكم علينا للتاريخ، ويبدو لي أنه كتب مقطوعة «الناس» تحت تأثير هذه الفكرة، وفيها يقول:

أَسِيرُ فَلَا أَرَى فِي النَّاسِ نَاسًا
وَلَكِنِّي أَرَى صُوَرًا أَمَامِي
فَدَعْنِي فِي إِبَائِي فَهْوَ عِنْدِي
أَجَلُّ مِنَ انْتِقَامِكَ وَانْتِقَامِي

وأبو شادي مشغوف جدَّ الشغف بالمثل الأعلى، ولعل هذا هو سر شقائه الذي يفيض من صفحات ديوانه فيضًا.

أذكر أني قرأت قصة لتوماس هاردي تُدعى «الحبيبات» مُؤدَّاها أن رجلًا فنانًا عاش يطلب المَثَل الأعلى في الجمال، فصار المَثَل الأعلى يخذله، حتى بلغ المشيب ووجد نفسه يتهدَّم وينحدر إلى الفناء، فماذا صنع؟ مضى إلى تماثيله وأخذ مِعْوَله فهدمها كلها؛ لأنها أضاعت حياته هباءً منثورًا.

فأبو شادي مُغرَم بالمثل الأعلى يريده في الأخلاق، ويريده في الجمال — بدليل الصُّوَر التي يتخيَّرها لديوانه — ويريده في أُمَّته بدليل إعجابه بغاندي: انظر قطعته الجميلة عنه، [في «صوم غاندي»]:

تَصُومُ مُكَفِّرًا عَنْ إِثْمِ دُنْيَا
يَسِيرُ بِهَا الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ
أَتَيْتَ إِلَى الْوَرَى مِنْ قَبْلِ يَوْمٍ
يُقَدِّسُ كُلَّ مَا تَعْنِي وَيُوفِي
وَذَنْبُ الْمُصْلِحِينَ إِذَا عَدَدْنَا
لَهُمْ ذَنْبًا مُنَاصَرَةُ الضَّعِيفِ

ولعل غرامه بالمثل الأعلى هو الذي دفعه إلى الكتابة عن الشامل المجهول، وأغراه بلفظة الألوهية بين حين وآخر، وجعله كَلِفًا بالتصوُّف والعبادة.

انظر قوله الجميلة [في] «لو كنتِ لي»:

لَوْ كُنْتِ لِي لَرَفَعْتُ كُلَّ نَظِيمِي
لَكِ وَاتَّخَذْتُكِ نَشْوَتِي وَنَدِيمِي
وَجَعَلْتُ مَجْلِسَكِ الشَّهِيَّ عِبَادَةً
تُخْتَصُّ بِالْقُرْبَانِ وَالتَّكْرِيمِ

ولعل غرامه بالمثل الأعلى أو نزوعه إليه هو الذي جعله يشعر بالغربة والانفراد في هذه الأرض، و«باليتم» الذي يتكرَّر في شعره في هاتِهِ الأيام:

الشَّيْبُ أَشْعَلَ عَارِضَيَّ وَلَمْ أَزَلْ
ذَاكَ الصَّبِيَّ شَرَابُهُ الْأَحْلَامُ
كُنَّا نَخَافُ مِنَ الرَّقِيبِ فَعَلَّمَتْ
دُنْيَا الْهُمُومِ الْحُبَّ كَيْفَ يُضَامُ
وَحَيِيتُ مِثْلَكِ كَالْيَتِيمِ وَإِنَّمَا
أَنَا وَحْدِيَ الْبَكَّاءُ وَالْبَسَّامُ

وما أمرَّ هذا اليتم والانفراد الذي يُشعِره «بالأصفار» التي يراها حوله:

الْأَرْضُ قَدْ مُلِئَتْ أَحَبُّ شِعَابِهَا
بِمَسَاوِئِ الْحَشَرَاتِ وَالدِّيدَانِ
حَتَى أَكَادُ أُحِسُّ أَنَّ فِجَاجَهَا
فَقَدَتْ بَشَاشَةَ حُسْنِهَا الْفَتَّانِ
وَغَدَتْ حَرَامًا لِلنُّبُوغِ وَمَرْتَعًا
لِلْعَاجِزِينَ وَوَصْمَةَ الْإِنْسَانِ

ولعل غرامه بالمثل الأعلى هو الذي جعله يكره النِّفاق، ويثور حين يرى الذين يجب أن يأخذوا بيدنا إلى المثل الأعلى هم الذين يتمرَّغون في الحضيض.

خُذْ مثلًا أبياته البديعة عن سُبْحَة الفقيه:

كَمْ مِنْ فَقِيهٍ فِي ثِيَابِ مُنَزَّهٍ
وَيُطِلُّ مِنْ عَيْنَيْهِ رُوحُ أَثِيمِ
تَجْرِي أَنَامِلُهُ عَلَى خَرَزَاتِهِ
جَرْيَ اللِّئَامِ عَلَى حِسَابِ كَرِيمِ
وَتَلُوحُ سُبْحَتُهُ كَثُعْبَانٍ بِلَا
رُوحٍ سِوَى رُوحِ الْفَقِيهِ الْعَاتِي
مَنْ ذَا رَأَى الثُّعْبَانَ سُبْحَةَ عَابِدٍ
وَرَأَى الصَّلَاةَ مُصَابَ كُلِّ صَلَاةِ

مسكين أنت أيها الصديق! أشقاك تعلُّقك بالمثل الأعلى، ولكنك تذكر أنك سابق زمنك فتقول:

لَا تُضْحِكُونِي بِالْمَدِيحِ فَإِنَّنِي
مُتَعَثِّرٌ خَجَلًا عَلَى أَمْدَاحِي
بَلْ فَانْعَتُونِي بِالْجُنُونِ لِأَنَّنِي
آمَنْتُ بِالْأَخْلَاقِ وَالْأَرْوَاحِ
وَنَسِيتُ أَنِّي سَابِقٌ زَمَنِي وَمَا
زَمَنِي بِدُنْيَا اللُّؤْمِ وَالْأَشْبَاحِ

وأين تذهب في ضيقك ولمَن تشكو؟ لا المنصورة تُنسِيك، ولا الإسكندرية بما فيها من جمال وفتنة، ولا بورسعيد التي تتخيَّل الحُسْن فيها متوثبًا للزوال.

مَا بَالُ هَذِي الشَّمْسِ تُرْسِلُ وَجْدَهَا
فَوْقَ اللَّهِيبِ عَلَى الْمِيَاهِ حِيَالِي
مَا بَالُ هَذَا الْمَوْجِ يَخْفِقُ هَكَذَا
خَفْقَ الْحَيَاةِ تَوَثَّبَتْ لِزَوَالِ

وعندما يبدو لك سَخْفُ الحياة، عندما تُحِسُّ بالفناء والزوال تتصل بالله، وتقول في بيت رائع:

إِنْ شِئْتَ صَافَحْتَ الْإِلَهَ مُحَدِّثًا
وَقَرَأْتَ مَا أَوْحَى بِهِ الدَّيَّانُ

فيا أخي الشاعر، هذه الشاعرية التي تتدفَّق، وهذه الإنسانية المُعذَّبة الجيَّاشة بالآلام والآمال والأحلام والأوهام، المُحاطة بالصُّوَر والألوان والطيور والأشباح، المندمجة في الطبيعة، المتصلة بالخالق الفنان الأعظم عن سبيلها؛ هذه القوة التي تزخر بها نفسك فتنظمها شعرًا جديدًا ممتازًا، لهي مظاهر جديرة بالإعجاب الكبير.

ولعل هذه الحيوية العجيبة هي التي جعلتك لا تُعنَى بالصياغة اللفظية؛ فإذا حضرك المعنى وساعفك الخيال حلَّقْت بأي جناح تلقاه، ولعلك لهذا السبب كالشلال المنحدر لا يهمه إلا أن يبدو رائعًا وجليلًا، وأن يكون مظهرًا من مظاهر القوة، من أمثلة نيتشه، ومن أبطال إبسن كبراند مثلًا، تؤمن بالقوة، وتحتقر الضَّعف والضعفاء، وترثي لهم وتبكي عليهم.

وماذا يُراد من الشاعر أكثر من أن يكون حيوية تتدفق؟ وما هو الفرق في الواقع بين الشعر وسواه؟ الفرق هو ذلك الاسترسال والتسلسل في الشعر، والتقطع والهدوء في غيره، وماذا يُرَاد من الشاعر أكثر من أن يندمج في الحياة والكون اندماجًا تامًّا؟

وأراك في الحق متصلًا بالحياة والكون اتصالًا عجيبًا، وماذا يُرَاد من الشاعر أكثر من أن يكون فنه ناضجًا طليقًا؟ وقد عبَّر شاعرنا عن هذه الروح في قصيدة «طلاقة الفن» أجمل تعبير.

•••

لكي نضع أبا شادي ومريديه في مواضعهم، ولكي نحدد بالضبط مكانهم في الأدب المصري الحديث، يجب أن نُعَيِّن بالضبط أغراضهم في الشعر، ويجب أن نتساءل: هل لهم طابع خاص؟ أم هم يكتبون الشعر جُزافًا؟ ويجب أن نحدِّد بالضبط صِلَتَهم بالشعر العالمي الحديث، ويجب أن نعلم حقًّا مبلغ اتصالهم بالحركة الأدبية العامة، ويجب أن نفهم تمامًا مقدار ما كان للحرب العالمية من أَثَر في أذهانهم وأعصابهم.

إن الذي يريد أن يبحث هذا كله يجب عليه أن يحيط إحاطة واسعة بالأدب العالمي، قبل الحرب وبعدها؛ إذ من الثابت أن أهم ميزة للعصر الحاضر هي اتصال الأمم بعضها ببعض، وانحدار التيارات الفكرية وغيرها من بلد إلى آخر، فأصبحنا نرى كاتبًا مثل أندريه موروا الفرنسي يغرم بالأدب الإنجليزي ويؤلِّف كتابًا قَيِّمًا عن الشاعر بيرون، ونرى كاتبًا فرنسيًّا مثل ليجوي يكتب كتابًا عن الأدب الإنجليزي يصير مرجعًا عند الإنجليز. وبقدر ما تقترب الفوارق من الزَّوال، بقدر ما تكون التغيُّرات في الأمم شاملة ومتقاربة. فقد لاحظنا من اطِّلاعنا على الأدب الحديث في الأمم المختلفة، في إنجلترا وفرنسا وألمانيا مثلًا، شبهًا غريبًا في الاتجاهات الشعرية الجديدة: نرى أدباء الشباب يكوِّنون أسرة متشابهة الأفراد وإن اختلفت ملامحهم قليلًا، ويَضربون على نغمة واحدة وإن تنوَّعت ألحانهم، ويمكن أن نَصِفَهم وصفًا عامًّا بما كتبه ليجوي عن أدباء الإنجليز الحديثين في كتابه «تاريخ الأدب الإنجليزي الحديث»، قال: «يتميَّزون بالرشاقة والإيمان، وأحيانًا بالابتكار، وغالبًا الصراحة التي تمزِّق كل المظاهر الخادعة التي تُبرقِع أوجه التقاليد، ونجد إحساسهم بالواقع ممتزجًا بالظرف والحنان، وفي شعرهم استسلام دائم ومرارة ومَيْل للرجوع بالروح إلى مواطن الذكريات الغالية.»

أمَّا نحن في مصر فبين عاملَين: عامل الأدب العربي بتقاليده المحفوظة وحرماته المتوارثة، وبين ما وصل إلينا من ثقافة أوروبا. وبينما نحن لا يمكننا مطلقًا أن ننفصل عن مجد قوميتنا؛ فإنا كذلك لا يمكننا أن نهرب من تيار أوروبا الذي يغمرنا غمرًا. يستحيل أن نعيش في عزلة، يستحيل ألا نقرأ باللغات التي تعلَّمناها، فإذن نحن لا نزال نقرأ المتنبي مثلًا، ونحبه ونحفظ له، ولا يمنعنا ذلك من تناول ديوان للشاعر ت. س. إليوت فيه شعر عصري حديث، عليه طابع الزمن الحاضر بكل ما فيه من حركات اقتصادية واجتماعية، أو ديوان للشاعر إميل فارهارت مثلًا فيه شعر عن الآلات والمعامل.

فماذا تصنع مدرسة أبولُّو إذن؟

ماذا يصنع أبو شادي؟ ولأي غرض يرمي حين يخرج ديوان «أطياف الربيع» أو «الشعلة» أو غيرهما من دواوينه؟

مَن هم هؤلاء — شعراء الشَّباب — ولأي فريق ينتمون؟ أرومانطيقيُّون هم؟ أم شعرهم واقعي؟ أم بين هذا وذاك؟

إن شعرهم جميعًا له تلك الصفات التي سبق أن ذكرتها عن ليجوي: ويبدو أن شعراء الشباب عندنا شديدو الشبه بشعراء الشباب في إنجلترا وفرنسا، لا أدعي أنهم جَوَّدوا مثلهم أو بلغوا مبلغهم، وإنما أؤكد أنهم على آثارهم، وأن التغيُّرات العالمية لم تتناول بلدًا دون آخر؛ فإني كلَّما طالعت لشاعر من هؤلاء الشباب خطر في بالي أن أقارنه بنظيره في مصر، أو بالذي روحه من روحه، أو بمَن كان على غراره.

فالذي يقرأ شيئًا لهارولد منرو أو همبرت وولف يذكر في الحال حسن الصيرفي والشاعر رامي، في الذكريات البعيدة، والتنويح المُلازم لروح ظامئة تنتعش بما تشربه من العذاب.

ومن أي صنف أبو شادي؟

الحق أنه شيء قائم بذاته، وإن كان بلا شك من مدرسة الصُّوَرِيِّين الذين تتألَّف مواد فنِّهم من حقائق الحياة، من صُوَر مجتمعة، وكتل متماسكة، من الخوالج العقلية والعاطفية، ووظيفتهم أن يبرزوها لنا بدون أن تُشَوَّه، يُبدونها بكل نضارتها وقوَّتها؛ فنُحِسُّها كما هي مباشرة قبل أن تعبث بها يد الحياة العملية الجبارة؛ ولذلك يقتصد الشاعر في لفظه فلا يزخرف ولا يبني.

ولكنه في كثير من الأحيان يجعلني أتذكر الشاعر والتر دلامار، وخصوصًا عندما قرأت للصديق أبي شادي قصيدته «الأصداء»، فإن للشاعر أبي شادي كما للشاعر دلامار نظرة إلى الدنيا كنظرة الطفل الحائر، ولهما كذلك غرام باستثارة الأشباح على طريقة رمزية.

وعلى ذكر الشعر الرمزي أقول إن الشاعر الموهوب عبد الرحمن شكري هو رافع علم هذا النوع من الشعر، وإني أوجه نظر الذين يحبونه إلى أن د. ﻫ. لورنس الشاعر والروائي المعروف، هو الذي حوَّل الشعر الرمزي إلى عاطفة مُركَّزة، بحيث تصير الكلمات العادية «حُمَمًا سائلة، ممَّا قالته، ومما تركته بدون أن تقوله»، ومن البديهي أن المدرسة الحديثة التي يرفع علمها أبو شادي في مصر ويتزعَّمها بحق متأثرة بالثقافة الإنجليزية، أمَّا في البلاد الأخرى كسوريا وشمال أفريقيا فالثقافة الفرنسية هي الغالبة، وإذا ذُكِر الشعر الفرنسي الحديث فأكيد ما قاله رينيه لالو من أن أثر بودلير وموسيه ولامارتين لا يزال حيًّا، وهو الذي يلوِّن شعر شُبَّان فرنسا، والبلاد المتأثِّرة بثقافة فرنسا؛ فعندما تقرأ شعرًا لأندريه دوما وهنري دي رينييه في فرنسا يطالعك من ورائهما خيال موسيه وبودلير وفرلين، وعندما تطالع شعر الشابي بالعربية تقسم أنه متأثِّر كذلك بهؤلاء الشعراء، وعندما تقرأ لشعراء سوريا أو تعلم ما يطلقونه عليهم من الألقاب تؤكد في الحال أثر الثقافة الفرنسية في آدابهم.

ومهما يكن من أثر الثقافة الفرنسية؛ فإن شعراء الشباب في سوريا كعمر أبي ريشة وعلي الناصر (بودلير سوريا) والشابي في تونس، ينطبق عليهم من الوصف ما ينطبق على شعراء الشباب الإنجليز، وعلى شعراء الشباب في مصر، وهو الوصف الذي أطلقه ليجوي عليهم وسبق أن ذكرتُه.

وصفتان أُخرَيان لاحظتهما في شعر الشباب على الإطلاق: الأولى القلق العميق وعدم الاستقرار، وديوان أبي شادي الجديد «أطياف الربيع» ناطق بذلك، زاخر بما فيه من آيات الخوف وقلَّة الأمان؛ فهو غير آمِن على حبه، غير آمِن على حياته، غير آمِن على مستقبله، غير آمِن على حاضره. هذا القلق الممزوج بالتشاؤم تارةً وبالتفاؤل أخرى، هو ما عابه وسيعيبه عليه نقاد كثيرون، ولكنه في الحقيقة نتيجة لازمة لما يصطدم به من الحوائل ويعترضه من التثبيط، وما تُقابَل به جهوده من المَعاوِل التي لا ترحم.

أمَّا الصفة الثانية فهي الجرأة النادرة في إبداء الأفكار، وفي طَرْق المواضيع التي لم تُطرَق من قبل، وأمامنا من الأمثلة قصيدة للشاعر صالح جودت في أبولُّو يصف فيها نفسية امرأة عاهرة؛ فقد أخبرني أنه انتُقِد لطرق موضوع كهذا، فقيل له: كيف تطرق موضوعًا كهذا وشعرك أجدر بشيء غيره؟ فأجاب مندهشًا: وهل هذه المرأة خارجة عن الإنسانية؟ هل هي من الأُلَى نبذهم الدَّهر:

وَخَلَّفَهُمْ وَصَدَّ الْبَابَ عَنْهُمْ
فَنَامُوا خَلْفَ أَسْوَارِ الْحَيَاةِ

ولذلك أصبحت لا تليق بالشعر ولا أن يكتب عنها الشعراء؟ وإذا لم يكن الشعر العصري شعرًا إنسانيًّا شاملًا فما ميزته إذن؟ ولكن محرِّر أبولُّو رحَّب بها ونشرها في غير تردُّد. إن الإنسانية العميقة والشعور القوي بعذاب المضطهدين وحرمان الضعفاء، يجب أن يكونا ممَّا يهتم له الشاعر الحديث إذا أراد أن يكون لشِعره صبغة عالمية، أو إذا أريد أن يطمع في الخلود.

وأبو شادي متفرد في هذه الجرأة، اقرأ له مثلًا «الجمال العربيد». إني لواثق أن أصدقاءنا المحافظين سيُصدَمون بما فيها من تصوير قوي جريء، وبما فيها مما يُسمَّى نداء الجنس Sex Appeal. وقد قرأت قصيدة فريدة في هذا الباب للشاعر لورنس تُدعى «البرق» شبيهة كل الشَّبَه في روحها الجريئة بقصيدة أبي شادي، وإني أحثُّ الأدباء على قراءتها.

•••

وميزة أخرى في شعر أدباء الشباب لا يجب أن تفوتني الإشارة إليها، ميزة سيجدها القارئ ظاهرةً في شعر أبي شادي من أول ديوانه إلى آخره، ولو لم يكن فيه غيرها لكفاه فخرًا، ولكان جديرًا بالإشادة والذِّكْر، تلك الميزة هي أن الأشياء المألوفة التي نراها كل يوم في حياتنا، الأشياء الأرضية البسيطة، إنما هي مواضيع لشعر الشاعر الذي يكسبها جلالًا؛ ويغدق عليها من خياله، ويلبسها من ثياب الروعة، ممَّا يجعل لها قيمة الظواهر العلوية، والروائع الكونية، فقِطُّهُ «مشمش» له قصة، وكلبه «بنجو» له أخرى، والشجرة التي يراها أمام منزله يخاطبها، وفي هذا الشأن يقول الشاعر الأمريكي هويتمان: إن الناس يفقدون التمتع ببناء الأبراج الشامخة يوم يفقدون التمتع ببناء الحانوت المتواضع.

ولا جدال في أن مدرسة أبولُّو في اتصالها بالأدب العالمي، ومتابعتها للتيارات الفكرية الجديدة، وفي إيمانها برسالتها كمجددة للشعر العربي، مُوسِّعة لأغراضه، محدِّدة لوظيفته كعمل إنساني شامل، وكجامعة تضم شباب أدباء الشرق في ندوة واحدة.

إن مدرسة أبولُّو بهذا قد استرعت الأنظار إليها؛ فهي تمثِّل طلاقة الفن، كما تمثِّل التجاوب الفني بين أعضائها، وهما الركنان الأصيلان لروعة الحياة الفنية التي هي عماد الشعر الحي في أي أمة، ومآل مثل هذه الحركة أن تنهض بالشعر العربي في غير حدود.

إبراهيم ناجي

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤