الثعبان

كان مشرق الوجه، باسم الثغر، خفيف الحركة، فصيح اللسان، لا يكاد يجلس إلى أحد أو يجلس إليه أحد إلا أحس جليسه منه قلبًا يضطرب تحمسًا للإصلاح، ونفسًا تتوثب إلى المثل العليا، وعقلًا لا يرى حوله إلا شرًّا، ولا يريد أن يطمئن أو يستقر إلا إذا أزيل هذا الشر، ومحيت آثاره ومعالمه، وقام مقامه هذا الخير المطلق الذي يشمل كل إنسان، وكل شيء، والذي يسبغ على من يشمله وما يشمله جمالًا حلوًا هادئًا، ولكنه قوي ملح كأنه ضوء الشمس، لا يمنح الأشياء والأحباء جمالًا وبهاءً فحسب، ولكنه يبعث فيها وفيهم حياةً وخصبًا وقوةً ونشاطًا.

وكان تحمسه للإصلاح وطموحه إلى الخير ودعاؤه إلى العدل يخرج به أحيانًا كثيرةً عن طوره، ويتجاوز به الهدوء المألوف إلى شيء من العنف لم يكن المصريون يعرفونه في ذلك الوقت، وإذا هو لا يستقر في مكانه مهما يكن هذا المكان في دار أو ناد أو قهوة أو ديوان، وإنما يثب من مجلسه ثم لا يثبت في مقامه؛ ليتحدث إلى من حوله كما يتحدث الخطيب، وإنما يذهب ويجيء، ويأتي من الحركات بيديه ما كان يخيف جلساءه على ما قد يكون حوله من الأشياء، وإذا آية الغضب تظهر في وجهه، قوية حادة فيظلم بعد إشراق ويعبس بعد ابتسام، ويتطاير من عينيه المضطربتين شرر مخيف، وينفجر من فمه صوت هائل يهدر بالجمل التي تتتابع سراعًا في مثل قصف الموج وعصف الريح العاتية، وإذا أصحابه يأخذهم شيء من الدهش لا يلبث أن يستحيل إلى وجوم متصل وذهول غريب، لا يدرون أهما يصوران الإعجاب والرضى، أم هما يصوران الإنكار والسخط، أم هما يصوران الحذر والخوف.

وكان من الحق أن يحذروا أو يخافوا، فلم تكن الأمور في ذلك الوقت تجري في مصر كما أخذت تجري منذ كان في مصر استقلال وحرية ودستور وبرلمان، وإنما كانت الأمور تسعى متعثرة لا تكاد تنهض إلا لتكبو، ولا تكاد تمضي إلا لتقف، فقد كان في مصر احتلال أجنبي يتغلغل سلطانه الظاهر والخفي في جميع المرافق العامة والخاصة، وكان في مصر سلطان وطني شديد الارتياب، عظيم الاحتياط، كثير التلون، يميل إلى المواطنين مرة وإلى المحتلين مرة أخرى، ويحاول أحيانًا أن يرضي أولئك وهؤلاء، فلا يظفر إلا بغضب أولئك وهؤلاء.

وكان هذا كله يفسد الجو المصري، ويجعله خانقًا منهكًا للقوى؛ لأن الناس كانوا موضوع النزاع بين هاتين السلطتين لا يكادون يرضون إحداهما إلا وفي نفسهم إشفاق من الأخرى، وكان لكل واحدة من هاتين السلطتين عيونها وجواسيسها قد انبثوا في الأندية والقهوات والدواوين، واندسوا في المجالس الخاصة. فهم يحصون على الناس ما يقولون، ثم يصورونه كما يحبون، ثم يرفعونه إلى السلطان الأجنبي أو إلى السلطان الوطني، وإذا آثار ذلك واضحة فيما يكون من رضى هذا السلطان أو ذاك، ومن غضب هذا السلطان أو ذاك، فكان المفكرون وذوو الرأي يعيشون في قلق متصل كأنما كانوا يسعون على الشوك، فليس غريبًا أن يثير صاحبنا في نفوس جلسائه شيئًا من الحذر والخوف إذا أخذته أزمته الإصلاحية تلك، وكانت كثيرًا ما تأخذه فيثور، أو قل يستحيل إلى ثورة تريد أن تلتهم كل شيء.

وكان صاحبنا حديث عهد بأوروبا قد أقام فيها أعوامًا متصلة، وأتم فيها درسه، ورأى فيها حياتها الحرة الطامحة التي لا تقيدها أوضاع النظام الاجتماعي كما كانت تقيد الحياة المصرية في ذلك الوقت، ولا تغلها أغلال السلطان السياسي كما كانت تغل حياة المصريين في ذلك الوقت أيضًا، وإنما رأى حياة سمحة طلقة قد عرفت للإنسان كرامته، وللفرد حقه في أن يأتي ويدع من الأمر ما يشاء، وفي أن يرى ويقول ما يشاء ما دام لا يؤذي غيره بقول أو عمل، وقد شارك في هذه الحياة، واستمتع بما كانت تمتاز به من السماح واليسر، وكان كغيره من المصريين الذين يعيشون في أوروبا لا يكاد يرى شيئًا يعرفه أو ينكره إلا وازن بينه وبين ما يشبهه في الحياة المصرية من قريب أو بعيد، وكانت هذه الموازنة تغيظه، وتحفظه بالطبع؛ لأنها كانت تضطره دائمًا إلى أن يعترف فيما بينه وبين نفسه بأن في أوروبا رقيًّا ماديًّا ومعنويًّا، وبأن لأهل أوروبا حرية في القول والعمل، وبأن مصر بعيدة كل البعد من هذا الرقي، وبأن المصريين قد حرموا هذه الحرية كل الحرمان، فعاد إلى مصر وللغيظ في قلبه نار تتوهج، وللغيرة على نفسه سلطان لا يكاد يهدئ من ثورته أو فورته، ومن أجل ذلك كان صورة ناطقة حية قوية للسخط على كل شيء، والضيق بكل شيء، والحرص على تغيير كل شيء، وقد أقبل الشباب عليه حين عاد من أوروبا معجبين بل مفتونين، ولكنهم لم يلبثوا أن فتروا ثم تفرقوا شيئًا فشيئًا؛ منهم من رده عنه الخوف، ومنهم من رده عنه القصور، ومنهم من رده عنه السأم، ولا بد من الاعتراف بأن أحاديث صاحبنا على عنفها وثورتها كانت تغمض أحيانًا فيعجز أوساط المثقفين عن فهمها، وكانت تتكرر أحيانًا أخرى فيسأم السامعون لها من كثرة تكرارها، وأكبر الظن أن صاحبنا عاد من أوروبا دون أن يتعمق من أمرها شيئًا، وإنما غرته المظاهر فأعجب بها، وخدعته هذه الحضارة الأوروبية ففتن بها، ورأى في هذا الإعجاب، وفي هذه الفتنة شيئًا من الامتياز يتملق كبرياءه فأغرق فيهما إغراقًا شديدًا، وقد كان ما لم يكن بد من وقوعه فنذر به السلطان، وأشفق منه، ونصب له شيئًا من كيد خفي حاول أن يثبت له، وينفذ منه، ولكنه لم يستطع ثباتًا ولا نفوذًا، فاضطر إلى أن يرجع أدراجه، ويعود إلى أوروبا هذه التي ملكت عليه قلبه ونفسه، وفتنته بمحاسنها فتونًا، ولم يكد يستقر في أوروبا حتى دهمته الحرب الماضية، فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، والظاهر أنه انتفع بهذه الإقامة الثانية انتفاعًا عظيمًا، فقد عاد من أوروبا بعد الثورة المصرية الأخيرة فرأى ما لم يكن ينتظر أن يرى. لم ير تغيرًا في الحضارة المادية، ولم ير تطورًا ذا بال في الحياة العقلية، ولكنه رأى حريةً لم يكن له بها عهد، حريةً لا تحفل بمكر الاحتلال الأجنبي، ولا باحتياط السلطان الوطني، ولا بالعيون والجواسيس، ولا بالأحكام العرفية الإنجليزية التي ظلت مفروضة على مصر أعوامًا بعد انتهاء الحرب، ولا بهذا الاصطدام العنيف الذي كان يحدث من حين إلى حين بين الشباب المصريين، والجنود البريطانيين. رأى حرية لا تحفل بشيء من هذا، وإنما تمضي أمامها لا تلوي على شيء، ولا يردها شيء، ولا تزيدها العقبات والمصاعب إلا قوةً واندفاعًا، ورأى المصريين يقولون في كل شيء لا يتحفظون، ولا يتحرجون، ورآهم ينكرون من أمرهم أكثر مما كان ينكر هو قبل الحرب فهم لا يرضون عن الاحتلال الأجنبي، وهم لا يرضون عن النظام السياسي الوطني، وهم لا يطمئنون إلى حياتهم الاجتماعية، وإنما يخرجون عليها في رفق مرة، وفي عنف مرة أخرى، وهم على كل حال يتوثبون إلى الإصلاح، ويطمحون إلى المثل العليا، لا يتحدثون إذا لقي بعضهم بعضًا إلا في الحق، والخير، والعدل، والحرية، والاستقلال، والرقي في الحياة المادية والعقلية.

رأى هذا كله فوقف منه موقف الحيرة، لم يدر أيرضى عنه أم يسخط عليه، ولو أنه جرى مع طبيعته الأولى لرضي كل الرضا عما رأى، ولمضى مع مواطنيه جادًّا في الإصلاح طامحًا إلى الرقي، مطالبًا بالاستقلال، ولكن إقامته في أوروبا أثناء الحرب، واحتماله ما جرته الحرب على الناس من خطوب، وما ألقت عليهم من أثقال قد اضطره إلى شيء من المرونة، وسعة الحيلة، وبذل الجهود الملتوية؛ ليتقي الشر إن عرض الشر، وليلتمس الخير إن سنح الخير، فعاد من أوروبا للمرة الثانية، وقد خلقته الحرب خلقًا جديدًا؛ كان قبل الحرب يسبق مواطنيه إلى الرقي والطموح، فأصبح بعد الحرب يستأخر عن مواطنيه، ولا يكاد يشاركهم في توثبهم إلى الرقي والطموح، ومنذ ذلك الوقت اتخذ لنفسه سيرة وسطًا فهو لا يستطيع أن ينكر ماضيه، وهو لا يستطيع أن يقاوم هذا الاندفاع المصري الجارف إلى التطور العنيف، وهو في الوقت نفسه لا يحب أن يشارك مواطنيه فيلهج كما يلهجون بالحرية، ويحرص كما يحرصون على الاستقلال، ويطمع كما يطمعون في مجاراة أوروبا حينًا، ومقاومتها حينًا آخر، وقد زاده حرصًا على هذه السيرة الوسط أنه قد تعب في أوروبا، وشقي بما لقي فيها من جهد وضيق، وعاد إلى مصر، وفي نفسه ميل إلى الدعة، وحاجة شديدة إلى الراحة، ورغبة ملحة في أن يعوض الوقت الذي أضاعه في أوروبا، وأن يستدرك من أمره ما فات، ويحقق لنفسه من المنافع العاجلة والآجلة ما لم يستطع تحقيقه حين كان ثائرًا فائرًا مطالبًا بالإصلاح، وقد رأى المصريين قد انقسموا فيما بينهم قسمين؛ فريق يعتدل، وفريق يتطرف. فلم يرد أن يعتدل مع المعتدلين فيعد مستأخرًا، ولا أن يتطرف مع المتطرفين فيتكلف ما يتكلفون من الجهد، ويحتمل ما يحتملون من العناء، وقد رسم له هذا كله سيرته الوسط، فعرف الثورة المصرية، ولم ينكرها، وأثنى عليها، ولم يشارك فيها، واتخذ لنفسه الأصدقاء والأخلاء من المعتدلين والمتطرفين جميعًا، ولم يقبل في ذلك مراجعةً ولا لومًا، فإن الصداقة ترتفع عن السياسة وأعراضها وأمراضها، والرجل الحر حقًّا هو الذي لا تلهيه السياسة عن إرضاء حاجة قلبه إلى الإخاء الكريم، والمودة الصافية، والوفاء المتين.

وكذلك كنت تراه في مجالس المعتدلين يسمع منهم، ولا يرد عليهم إلا قليلًا، وكنت تراه في مجالس المتطرفين، يسمع منهم ولا يجاريهم إلا بمقدار، وكنت تراه في كل حفل يقيمه المعتدلون، وفي كل حفل يقيمه المتطرفون يشهد الحفلين جميعًا؛ لأن له الأصدقاء والأخلاء بين أولئك وهؤلاء، ولكنه كان ماهرًا أشد المهارة في الاستخفاء حين الجد، وحين تبدي الخطوب عن نواجذها لأولئك أو هؤلاء. هنالك يلتمس القوم صاحبنا فلا يجدونه، ولا يقفون له على أثر، وهنالك يسأل القوم عن صاحبنا أهل المعرفة فلا يحدثهم عن ثابت لاق كما يقول الشاعر القديم، حتى إذا هدأت العاصفة، واستقرت الأمور في نصابها، واطمأنت القلوب في الصدور، نظر المعتدلون والمتطرفون فإذا صاحبنا يغدو بينهم ويروح كعهدهم به دائمًا، مشرق الوجه باسم الثغر عذب اللفظ حلو الحديث.

وقد استطاع من الأمر ما لم يستطعه من المصريين إلا الأقلون عددًا، فأرضى المحافظين والمسرفين في المحافظة بنوع خاص، وأرضى المجددين والغلاة في التجديد بنوع خاص، ثم جعلت الأحوال تحول، والأمور تتغير، وتتابعت المحن على مصر، وكان الطبيعي حين تمتحن مصر في آمالها وأمانيها، وفي حريتها الداخلية والخارجية أن يتطرف المعتدل، ويجدد المحافظ إن كان صادقًا في اعتداله ومحافظته، لا يتأثر فيهما بالمنفعة، ولا يتقي بهما الخوف.

ولكن صاحبنا لم يتطرف، وقد تطرف المعتدلون من حوله، ولم يجدد، وقد جدد المحافظون من حوله، وإنما ظل كعهده دائمًا مشرق الوجه باسم الثغر خفيف الحركة عذب اللفظ حلو الحديث.

وربما أحس المحافظون المصرون على المحافظة منه ميلًا إليهم، وحرصًا على أن تتصل أسبابه بأسبابهم، ولكن على شرط ألا تنقطع أسباب المودة والإخاء بينه وبين المتطرفين. من الحقائق المقررة أن صلات الود والإخاء يجب أن ترتفع عن اختلاف الرأي في السياسة والنظم الاجتماعية. وقد تلقاه المحافظون حفيين به مستبشرين بقربه منهم، واتصاله بهم، وأغضى عنه المتطرفون؛ لأنه صاحب وفاء يرتفع بالصداقة عن أغراض السياسة وأمراضها، ثم أصبحت المحافظة في بعض الأوقات لونًا من ألوان الحفاظ والغيرة على مصالح الوطن وكرامته، وأصبح من البدع المحبوب أن يتحدث الناس بأنهم محافظون، وأن يسرفوا في النعي على المتطرفين، فأظهر صاحبنا أنه محافظ يذكر مجد الوطن، ويحرص على تقاليده، وينكر الخروج على النظام المألوف والسنة الموروثة، ولكنه في الوقت نفسه لم يقصر في ذات أصدقائه المتطرفين، وإنما جاملهم حين كانت تحسن المجاملة، وواساهم حين كانت تحسن المواساة، وضمن بذلك رضاهم عنه، وإغضاءهم عن غلوه في المحافظة، وفي أثناء هذا كله مضت أموره على خير ما يجب. شجعه المحافظون حين كان السلطان يصير إليهم، وأغضى عنه المتطرفون حين كان السلطان يستقر فيهم، وعرف عامة الناس وخاصتهم أنه رجل لا يحب الأحزاب، ولا يشارك في سياستها، وإن كان محافظ الميل قديم الهوى معتدل السيرة والرأي جميعًا.

قلت لصاحبي: أتستطيع أن تحدثني بما تريد إليه من هذه القصة التي لا تنتهي، قال صاحبي: لا أريد إلا إلى شيء يسير جدًّا، وهو أن الذين يريدون العافية، وقضاء المأرب، وتحقيق المصالح، وتجنب الأذى في أنفسهم وأموالهم وأعمالهم، يحسن أن يسيروا سيرة هذا الرجل البارع. قلت لصاحبي: ليس كل الناس يقدر على أن يكون ثعبانًا، وليس من الخير أن تكثر في مصر الثعابين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤