خاتمة

حين نتأمَّل بعمق مسار التفكير العلمي عبر العصور، وحركته التي تزداد توثبًا ونشاطًا في عصرنا هذا على وجه التخصيص، وحين نُمعِن الفكر في السِّمات التي يَكتسبها العقل البشري نتيجةً للتقدم العلمي المُتلاحِق، ونحاول أن نستشف شكل العالم الذي سيؤدي إليه استمرار هذا التقدُّم في المستقبل، وإذا لم يُقدَّر لعالَمنا هذا أن يَنتحِر عن طريق العلم نفسه في حرب نووية أو بيولوجية لا تُبْقِي ولا تذر؛ حين نمتد بأنظارنا إلى هذه الآفاق المُقبلة للعالم في ظل التقدم العلمي، فإن المرء لا يملك إلا أن يرى أمامه — في المستقبل — صورة عالم متَّحد، تَختفي فيه كثير من الفواصل التي تُفرِّق بين البشر في وقتنا الحالي، وتَجمعه أهداف وغايات واحدة، وإن لم تتلاش مظاهر التنوع الخصب التي لا بد منها لكي تكتسب حياة الإنسان ثراءً وامتلاءً.

وحين نقول: إن النتيجة التي يؤدي إليها مسار هذا التفكير العلمي — في رحلته الطويلة الشاقة — هي توحيد الإنسانية، فنحن نعلم تمام العلم أن هذه النتيجة ما زالت بعيدة عن أن تتحقق، ولكن الأمر الذي نود أن نؤكده هو أن كل العوامل التي تقف حائلًا دون هذا التوحيد تتعارض مع الطبيعة الحقيقية للعلم؛ ومِن ثم فإنَّ تقدُّم التفكير العلمي ينبغي أن يزيحها جانبًا آخر الأمر.

ولكن ما هي هذه العوائق التي تقف في وجه استخدام العلم لصالح الإنسانية جمعاء، بدلًا من أن يُستخدم — كما هو حادث في الوقت الراهن — أداة للتفرقة بين البشر، وزيادة قوة فئات أو مجتمعات معيَّنة على حساب الباقين؟ إن من المعترف به أن العلم كان — منذ بداية تقدُّمه في العصر الحديث — يخدم شتى أنواع المصالح والجماعات البشرية، ولكنَّنا اليوم نستطيع أن نشير إلى طريقتَين واضحتَين في استخدام العلم، تُؤدِّي كلٌّ منهما — بطريقتها الخاصة — إلى إرجاء اليوم الذي سيُصبِح فيه العلم قوة موحدة تخدم أرجاء بلا تَفرقة؛ هاتان هما: النزعة التجارية والنزعة القومية في استخدام العلم.

إنَّ أحدًا لا يستطيع أن يُنكِر أن العلم في كثير من المجتمعات المعاصرة ما زال يُسْتَخْدَم استخدامًا تجاريًّا، وما زال البحث العلمي فيها يُعَد سلعةً تَخضع لمتطلبات السوق وتخدم أغراضه، بل إن بعض العلماء — ممن يقعون فريسة لأوهام «الاقتصاد الحر» على النحو الذي كان يَدعو إليه آدم سميث في القرن الثامن عشر — ما زالوا يُؤمنون بأن هذا الطابع التجاري للعلم هو خير وسيلة للنهوض به؛ إذ يؤدِّي إلى احتدام المنافسة بين المؤسسات التجارية التي تقوم بتشغيل العلماء، مما يُوفِّر للعلماء شروطًا أفضل تُعينهم على التقدُّم في بحوثهم؛ ومِن ثم تكون الحصيلة النهائية مزيدًا من الكشوف العلمية الناتجة عن هذا التنافس.

ولكن مثلما تبيَّن — بعد وقتٍ غير طويل — أن نظام «الاقتصاد الحر» إذا تُرِكَ يسير تلقائيًّا دون ضابط، يُؤدي إلى عكس الغرض الذي كان يَتصوَّره «مُفكِّروه وفلاسفته الأوائل»، يُوقِع الإنسان فريسة للاستِغلال بدلًا من أن يَخدم مصالحه المادية، فكذلك اتَّضح أن للاستخدام التجاري للعلم عيوبًا فادحة، أوضَحَها تشتيتُ جهود العلماء وتبديدها؛ ذلك لأن المشكلة العِلمية الواحدة قد تُصبح عندئذ موضوعًا للبحث في عدة مؤسَّسات تَتنافس فيما بينها، وتسعى كلٌّ منها إلى أن تَسبق الأخريات، فتضيع بذلك جهود عدد كبير من العلماء في بُحوث مُتقاربة وربما متكرِّرة. ولو كان هناك تخطيط موحد لأمكن تركيز الجهود على نحوٍ أفضل من أجل الوصول إلى أفضل وأسرع حلٍّ للمُشكلة، وفضلًا عن ذلك فإن العلم — في ظل الاستغلال التجاري — يُمكن أن يُصبح موضوعًا للاحتكار؛ فنظام براءات الاختراع يعطي المؤسسة — التي تشتري حق استغلال كشف معين — الحرية في استخدام هذا الاختراع أو عدم استخدامه، وقد يظهر كشف علمي أو تكنولوجي هام، دون أن يُعلَن على الملأ ودون أن يَنتشِر بين الناس؛ لأنَّ في نشره إضرارًا بمصالح تجارية ضخمة، وهكذا تُحدِّد المؤسسات التجارية توقيت الانتفاع من عدد كبير من الكشوف الجديدة، وربما اشترت حق الانتفاع بها كيما تحجُبُها نهائيًّا عن الظهور إذا كانت تُهدِّد استثماراتها الكبرى؛ أي إنها تشتري الاختراع لكي تخنقه، إلى أن تعلنه في الوقت الذي تقتضيه مصالحها هي، لا حاجة المجتمع إليه؛ ومن هذا القبيل ما أُشيعَ وقتًا ما من أن محركًا جديدًا للسيارات — أبسط وأقل تكلفة بكثير من المحرِّكات الحالية — قد اختُرِعَ واشترته شركة كبرى لكي تَحجبه وتحمي استثماراتها الهائلة المبنية على نظام المحركات الحالي.

على أن العيب الأكبر في الاستغلال التجاري للعلم هو المبدأ نفسه؛ أعني إخضاع البحث العلمي للاعتبارات التجارية؛ ذلك لأن العمل العلمي الكبير شيء أعظم وأشرف من أن يقوم ويخضع للمقاييس التجارية بالمال، بل إنَّ هذا التقويم المالي يكاد يكون — من الوجهة العملية — مستحيلًا؛ ذلك لأن كل عمل علمي لا يقتصر الفضل فيه على صاحبه فحسب، بل إنه يَرتكز في الواقع على جهد جميع العلماء السابقين في ميدانه، ولو حاولنا أن نَحصره في شخص مكتشفه لاعترضتنا في هذه الحالة صعوبات أخرى؛ إذ إن العمل العلمي الجاد لا يستغرق من حياة العالم أوقاتًا معينة، هي تلك التي يقضيها في معمله أو مكتبه، وإنما يستغرق تفكيره كله، وربما حياته السابقة بأكملها التي كانت كلها إعدادًا وتهيئة لهذا الكشف. ومن هنا كان من العسير حساب وقت العمل اللازم له، على عكس الحال في أنواع الإنتاج الأخرى التي تخضع للتقويم المادي.

إن من الصَّحيح بالفعل — دون أية مُحاوَلةً للكلام بلغة إنشائية أو لتملُّق المشاعر بطريقة بلاغية — أن هناك أمورًا أسمى وأرفع من أن يُعبَّر عنها بلغة التجارة والمال؛ فالكشف العلمي الذي تعمُّ نتائجه الإنسانية كلها، شأنه شأن العمل الفني الرفيع الذي يُسعد الإنسان ويسمو به في كل مكان، هي نواتج للعبقرية البشرية لا يصحُّ أن تُقاس بالمقاييس المادية. ومع ذلك فإن الحقائق المريرة في عالَمنا المعاصر تقول بعكس هذا، وتُؤكِّد أن العلم يُستغلُّ ويُقوَّم تجاريًّا، وأنه يُسْتَخْدَم لتحقيق أرباح لمؤسَّسات معينة، تجني منه أضعاف أضعاف ما أنفقت عليه، وتَستخدمه لتحقيق أهداف مضادة لتلك التي يتجه إليها عقل العالم، ذلك العقل الذي لا يُحرِّكه إلا السعي لخدمة البشرية كلها لتحقيق مصلحة فئة واحدة من فئاتها.

أما النزعة القومية في العلم فربما كانت أشد خفاءً من النَّزعة التجارية التي تُعلن عن نفسها صراحةً وبِلا مُوارَبة؛ ذلك لأن دول العالم المُعاصِر وأوساطها العلمية لا تكفُّ عن ترديد القول: إنَّ العلم لا وطنَ له، وإنه يتخطَّى الحدود القومية، مثلما يَتخطَّى الحواجز السياسية والعقائدية؛ فمِن المُستحيل أن نتصوَّر — مثلًا — كيمياء رأسمالية أو فيزياء اشتراكية، مثلما أن علم الأحياء الإنجليزي لا يُمكن أن يكون — في أسسِه الرئيسية — مختلفًا عن علم الأحياء الصيني؛ فالحقيقة العلمية تفرض نفسها على العقل — في أي مكان أو زمان — بقوة المنطق والبرهان وحدها؛ أي إن هذه الحقيقة بطبيعتها عالَمية، ولا مجال فيها للتفرقة القائمة على أسس قومية.

ولكن إذا كان هذا هو ما يعلنه الجميع، فإن المُمارسات الفعلية تختلف عن ذلك في كثير من الأحيان اختلافًا بيِّنًا؛ ففي نفس الوقت الذي يؤكد فيه الناس عالَمية العلم، تظهر لديهم اتجاهات تتحدَّى هذا الاعتقاد الأساسي، وتُؤكِّد أن النزعة القومية ما زالت مُسيطِرة على عقول الناس في هذا المجال بدوره، ويَظهر ذلك بوضوح قاطع حين نقرأ الكتب التي تَصدُر عن مؤلِّفين ينتمون إلى الدول المتقدمة علميًّا؛ فالأمثلة التي يَضربها المؤلف الفرنسي لعلماء أو لاكتشافات علمية هامة، نجد أغلبها مستمدًّا من علماء فرنسيين، وحين يتحدَّث الإنجليزي عن تاريخ العلم فكثيرًا ما يبدو للقارئ كما لو كان هذا التاريخ قد كُتِبَ على أيدي العلماء الإنجليز. وقل مثل هذا عن الألمان وربما عن الأمريكيين وهلمَّ جرًّا. وكثيرًا ما لاحظت أن علماء ومؤرخي الدول الغربية حين يتحدَّثون عن الهندسة اللاإقليدية، يبرزون دور «ريمان Riemann» الألماني، ويُقلِّلون من دور «لوباتشفسكي Lobatchevsky»، على حين أن الرُّوس يرفضون حتى أن يُوضع هذا الأخير على قدم المُساواة مع الأول؛ لأن مُواطنَهم كان أسبق من زميله زمنيًّا؛ ومن ثم فإن له في نظرهم الفضل الأول في وضع هذه الهندسة.
وكم من مرة قرأتُ كتابًا فرنسيًّا فوجدته — حين يعرض لنظرية التطور — يتحدَّث عن بيفون Buffon ولامارك Lamarck أكثر مما يَتحدَّث عن دارون، وحين يَتكلَّم عن الكيمياء، فإن «لافوازييه» يحجب عنده أية شخصية أخرى، وربما تكلم في الفيزياء عن باسكال أكثر مما يَتكلَّم عن نيوتن.
وفي عَصرنا الحاضر تختلط النزعة القومية بالانحياز الأيديولوجي، فيدافع الكُتَّاب الاشتراكيون عن العلم الذي يظهر في ظلِّ أيديولوجية اشتراكية، أو على يد عالم له اتجاهات اشتراكية، بينما يميل علماء البلاد الرأسمالية إلى الإقلال من دور هؤلاء الأخيرين، وتأكيد فضل نظامهم على العلم؛ فمنذ العهد النازي في ألمانيا نجد العلماء الألمان يتجاهلون «فيزياء أينشتين» زمنًا طويلًا؛ لأنه غادر ألمانيا هاربًا من النظام، وأدَّى هذا التجاهل إلى تقدُّم الإنجليز والأمريكيين عليهم في هذا المجال، وفي العهد الستاليني كان عالم الأحياء المشهور «ليسنكو Lyssenko» هو الحاكم بأمره في ميدانه؛ لأنه عرف كيف يُوفِّق — بطريقة لا تخلو من التلاعب — بين النظريات البيولوجية وبين الفلسفة المادية الديالكتيكية؛ ولذلك كانت نظرياته مدعَّمة بسلطة الدولة، وكان خصومُه — على المستوى العلمي البحت — خصومًا للدولة، ومعرَّضين لكلِّ ضروب الاضطهاد، وما زلنا نجد في الاتحاد السوفيتي اهتمامًا كبيرًا بأفكار «تسيولكوفسكي Tsiolkovsky» الذي تحدَّث عن الصواريخ وغزو الفضاء بإسهاب منذ أوائل القرن العشرين، كما نجد من يُؤكِّد أن اختراعات كثيرة — منها التليفزيون مثلًا — كان أول مَنْ تَوصَّل إليها روسيًّا. أما في أمريكا فهناك حرص شديد على تأكيد الدور الرائد لعلماء ومُخترِعين ربما لم يكن العالم الخارجي يَعرف عن كشوفهم إلا أقل القليل، مثل بنجامين فرانكلين وفولتون Fulton، ولا نَنسى أن سفن «أبولو» التي هبطَت مركباتها على سطح القمر قد حرصت على أن تغرس في تربته العلم الأمريكي.

ويَصِل اصطباغ العلم بالصبغة الأيديولوجية في الصين إلى حدِّ أن العقيدة الماوية تحكَّمت في شروط اختيار المشتغلين بالعلم، وفي ظروف عمل العلماء؛ ففي الصين المعاصرة ظهرت — منذ سنوات قليلة — حملة عنيفة ضد العلماء المُتخصِّصين المُتفرِّغين الذين وُصِفُوا بأنهم يُكوِّنون «صفوة» متعالية، لا تعرف كيف تجمع بين نظرياتها العلمية وبين ظروف حياة الشعب، واتَّجهت الدعوة — بجدية شديدة — إلى السماح للإنسان «الاشتراكي» العادي بدخول الجامعات ومعاهد البحث، مُؤكِّدة قدرته على تحصيل العلم الرفيع والوصول إلى كشوف جديدة فيه. وكان هذا تحديًا جريئًا حتى لمبدأ «التخصص» ذاته، الذي يبدو لنا مبدأً مستقرًّا منذ بداية العصر الحديث. وعلى الرغم من غرابة فكرة اشتغال العامل العادي أو الفلاح البسيط بالأبحاث العلمية الرفيعة، فإنها تؤخذ هناك بجدية شديدة، وقد كانت واحدًا من الأسباب التي أدَّت إلى تغييرات أساسية في مناصب الدولة الكبرى وقتًا ما.

أما إذا انتقلنا إلى عالَمنا العربي، فإنا نجد كُتَّابنا حريصين — بطبيعة الحال — على تأكيد الدور الذي قام به العالم العربي في العصور الوسطى، ويَصِل هذا الحرص إلى حدِّ تأكيد ريادة كثير من العلماء العرب في ميادين علمية غير قليلة، وربما بالغ البعض فأكَّدوا أن أصول عدد من النظريات المعاصرة — كنظرية النِّسبية مثلًا — موجودة لدى العرب في العصور الوسطى، وهو تأكيد واضح البطلان، لا لأن العرب كانوا أقلَّ من غيرهم؛ بل لأن ظهور نظرية كهذه يحتاج إلى تطور معيَّن في العلم، ولا يُمكن تفسيره إلا في ضوء ظروف عصرٍ معيَّن كان العصر الذي ظهرَ فيه العلم العربي مختلفًا عنه كل الاختلاف.

من هذه الأمثلة كلها يتبيَّن لنا بوضوح أن النزعات القومية أو الأيديولوجية ما زال لها تأثيرها القوي — حتى في أرقى المجتمعات المعاصرة — في نظرتنا إلى العلم، ونحن لا نعني بذلك التنديدَ بتدخل هذه النزعات في العلم؛ إذ إن من المشروع — في بعض الحالات على الأقل — أن يفخر شعبٌ ما أو نظام أيديولوجي مُعيَّن بعلمائه، ويهتمَّ بتأكيد الدور الذي قاموا به أكثر مما يهتمُّ بدور الآخرين، ولكن ما نعنيه من إيراد هذه الأمثلة هو أننا جميعًا نُعلن على الملأ أن العلم ملك للإنسانية كلها، وأن حكمنا عليه ينبغي أن يكون موضوعيًّا ونزيهًا، وأن العالِم الكبير مُواطِن للعالم كله لا لوطنه فحسب، ولكننا نتصرَّف عمليًّا على نحو مُغاير، ونحتفظ في أحكامنا على العلماء وعلى إنتاجهم بكثير من الأفكار التي تنتمي إلى الإطار القومي أو الأيديولوجي، وهو إطار بعيدٌ كلَّ البُعد عن النزعة العالمية التي تتجاوَز حدود الأوطان أو المذاهب الفكرية.

هكذا يُمكن القول: إنَّ كثيرًا من مظاهر العلم ما زالت تتأثَّر بنزعات مضادة للنزعة العالَمية، ومع ذلك فإن العالم يتجه — رغمًا عن كل شيء — إلى مزيد من التوحُّد بفضل العلم؛ فالتكنولوجيا الحديثة — التي هي نتاج مباشر للعلم — خلقت عالَمًا تتقارَب فيه المسافات، وتَتشابه فيه الأفكار والعادات، وتُهْدَم فيه بالتدريج كل الحواجز التي تُفرِّق بين البشر، ويومًا بعد يوم يزداد تأثير تلك «الثقافة العالمية» التي خلقتها وسائل الإعلام الحديثة، والتي تجعل الشابَّ في الشرق الأقصى لا يختلف في مظهره وفي هواياته عن نظيره في غربِ أوروبا، والتي تَنشُر في العالم كله ألوانًا متقاربة من الفنون الجماهيرية تُزيل الفوارق بين الأذواق إلى حدٍّ بعيد.

ولقد عابَ الكثيرون على هذه «الثقافة العالمية» سطحيتها وابتذالها ونزعتها التجارية، وكانوا على حقٍّ في ذلك، ولكن إذا كان مضمون هذه الثقافة مبتذلًا — نتيجة لظروف المرحلة الراهنة من تطوُّر العالم — فإن ما يُهمنا هو المبدأ نفسه؛ أعني وجود ثقافة على مستوًى عالمي. ولا بد أن يأتي اليوم الذي تُسْتَغَل فيه هذه الإمكانات الهائلة من أجل نشر ثقافة ذات مستوًى إنساني رفيع على نطاق العالم كله، وهذا ما تنبَّهت إليه الهيئات الدولية — وعلى رأسها منظمة اليونسكو — التي تُمثل هي نفسها مظهرًا هامًّا من مظاهر التوحيد الثقافي بين البشر، والتي تبذل جهودًا كبيرة من أجل صبغ الثقافة العالَمية بصبغة أرفع من تلك التي تتَّسم بها الثقافة التجارية الحالية.

إن توحُّد العالم — بفضل التقدم العلمي — ليس هدفًا مرغوبًا فيه فحسب، بل هو هدف لا غناء عنه من أجل بقاء البشرية، وقد بينَّا — عند الحديث عن الأبعاد الاجتماعية للعلم المعاصر — كيف أن المُشكلات الخطيرة التي يواجهها العالم في الوقت الراهن تُشير كلها إلى اتجاه واحد للحل، هو الاتجاه العالَمي، وعلى العكس من ذلك فإن تجاهل الحلول التي تتمُّ على مستوًى عالَمي أو إرجاءها، لا بد أن يُؤدِّي إلى كارثة للبشرية، وهذه حقيقة أدركها كثير من المُفكِّرين المعاصرين الذين رفع بعضهم شعار: إما عالم واحد أو لا عالم على الإطلاق!

ولكن هل يَعني ذلك أن العلم وحده وبقُواه الخاصة هو الذي سيؤدي إلى هذا التوحيد؟ إنَّ الكثيرين — ولا سيما في المعسكر الغربي — يؤمنون بذلك؛ فهم يعتقدون أن التقدُّم العلمي والتكنولوجي يستطيع — هو وحده — أن يقرب بين الاتجاهات المتباينة في هذا العالم، حتى في أشد الحالات تنافرًا، كما هي الحال في التضاد الأيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكية؛ ففي رأي هؤلاء أن حرص الدول التي تأخذ بهذين النظامين المتعارضَين على اتباع أحدث الأساليب العلمية والتكنولوجية، هو في ذاته كفيل بأن يُحقِّق تقاربًا بينها قد يؤدي آخر الأمر إلى إلغاء التعارض المذهبي بينها؛ أي إنهم يرون أن الصراع الأيديولوجي سيُخلي مكانه في النهاية للتقدم العلمي، ولما كان هذا التقدم متشابهًا في الحالتين، فإن الأمر سينتهي بهذه المجتمعات المتعارضة إلى التقارب. غير أن مفكري المعسكر الاشتراكي لا يميلون إلى هذا الرأي؛ لأنَّ الصِّراع الأيديولوجي هو الذي يُقرِّر في النهاية — حسب رأيهم — مصير العالم. صحيح أنهم يَعترفون بالأهمية القصوى للتطورات العلمية والتكنولوجية المعاصرة، غير أنهم يرون أنها ليسَت هي الحاسمة، بل إنها تخضع للأيديولوجيا التي تُعطي هذه التطورات اتجاهها ومعناها، ويُؤكِّدون أن نظرية «التقارب» القائم على أساس العلم والتكنولوجيا إنما هي محاولة من المفكرين الغربيين للتستُّر على الفوارق الأيديولوجية الأساسية بين النظامَين العالميَّين، ولتمييع الصراع الحاسم بينهما.

وأيًّا ما كان الأمر، فمِن المؤكَّد أننا لا نستطيع في عصرنا الحاضر أن نَفصِل على نحوٍ قاطع بين العوامل الأيديولوجية والعوامل العِلمية والتكنولوجية؛ لأنَّ التأثير بين الطرفَين مُتبادَل؛ فالعِلم يتأثر بالاتجاه الأيديولوجي للمجتمع؛ إذ تتحدَّد في ضوء هذا الاتجاه أهداف العلم والأولويات التي تُعطى للأبحاث العلمية، كما يتحدَّد في ضوئه مركز العلم وسط أنواع النشاط الأخرى التي يقوم بها المجتمع. ولكن الأيديولوجيا ذاتها تتأثَّر بالعلم؛ لأن نوع الصراع الأيديولوجي الدائر في عصرنا الحاضر يتحدَّد إلى مدًى بعيد بالشكل الذي وصلت إليه المجتمعات المعاصرة بفضل العلم، ولا سيما في ميدان الإنتاج، وهو الميدان الرئيسي الذي يدور فيه الصراع الأيديولوجي.

وهكذا نستطيع أن نقول — مرة أخرى — إنَّ العالم يتجه إلى التوحُّد بفضل العلم، حتى لو أخذنا بالرأي القائل إن هذا التوحُّد لن يُقرِّره إلا الصراع الأيديولوجي، وحين نتأمل صورة الإنسانية في المستقبل، فلن نملك إلا أن نتصورها وهي تفكر بعقلية عالَمية، وتُراعي مصلحة الإنسان في كل مكان، بغض النظر عن فوارق اللون والجنس والوطن والعقيدة، وعندئذٍ فقط سيكون التفكير العلمي لدى البشر قد استعاد طبيعتَه الحقَّة، بوصفه بحثًا موضوعيًّا نزيهًا عن الحقيقة، يَعلو على كل ضروب التحيُّز والهوى، ويَزِن كل شيء بميزان واحد، هو ميزان العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤