الفصل الأول

سمات التفكير العلمي

لم يَكتسب التفكير العلمي سماته المميزة — التي أتاحت له بلوغ نتائجه النظرية والتطبيقية الباهرة — إلا بعد تطوُّر طويل، وبعد التغلب على عقبات كثيرة، وخلال هذا التطور كان الناس يُفكِّرون على أنحاء متباينة، يتصوَّرون أنها كلها تهديهم إلى الحقيقة، ولكن كثيرًا من أساليب التفكير اتَّضح خطؤها فأسقطها العقل البشري خلال رحلته الطويلة، ولم تصمد في النهاية إلا تلك السمات التي تثبت أنها تساعد على العلو ببناء المعرفة وزيادة قدرة الإنسان على فهم نفسه والعالم المحيط به. وهكذا يمكننا أن نستخلص مجموعة من الخصائص التي تتَّسم بها المعرفة العلمية، أيًّا كان الميدان الذي تنطبق عليه، والتي تتميز بها تلك المعرفة عن سائر مظاهر النشاط الفكري للإنسان، ونستطيع أن نتَّخذ من هذه الخصائص مقياسًا نقيس به مدى علمية أي نوع من التفكير يقوم به الإنسان، فما هي هذه السمات الرئيسية؟

(١) التراكمية

العلم معرفة تراكمية، ولفظ «التراكمية» هذا يَصف الطريقة التي يتطور بها العلم والتي يعلو بها صرحُه؛ فالمعرفة العلمية أشبه بالبناء الذي يشيد طابقًا فوق طابق، مع فارق أساسي هو أن سكان هذا البناء يَنتقلون إلى الطابق الأعلى؛ أي إنهم كلما شيدوا طابقًا جديدًا انتقلوا إليه وتركوا الطوابق السُّفلى لتكون مجرَّد أساس يرتكز عليه البناء.

وقد يبدو هذا الوصف أمرًا طبيعيًّا بالنسبة إلى أي نوع من النشاط العقلي أو الروحي للإنسان، ولكن قليلًا من التفكير يقنعنا بأن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى أنواع متعدِّدة من هذا النشاط؛ فقد عَرف الإنسان منذ العصور القديمة نوعًا من النشاط العقلي قد يبدو مشابهًا للمعرفة العِلمية إلى حدٍّ بعيد هو المعرفة الفلسفية، ولكن هذه المعرفة الفلسفية لم تكن تراكمية، بمعنى أن كل مذهب جديد يظهر في الفلسفة لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة، ولم يكن مُكمِّلًا لها، بل كان يَنتقِد ما سبقه ويتخذ لنفسه نقطة بداية جديدة. ومن هنا فإننا إذا استخدمنا التشبيه السابق كان في وسعنا أن نقول: إن البناء الفلسفي لا يَرتفع إلى أعلى، بل إنه يمتد امتدادًا أفقيًّا. وفضلًا عن ذلك فإن سكان هذا البناء لا يتركون طوابقه القديمة، بل يظلون مقيمين فيها مهما ظهرت له من طوابق جديدة؛ ذلك لأن افتقار المعرفة — في ميدان الفلسفة — إلى الصفة التراكمية، يجعل المشتغلين بالفلسفة يجدون في تياراتها القديمة أهمية لا تقل عن أهمية التيارات الحديثة؛ ومن ثم تظل موضوعًا دائمًا لدراستهم.

ومثل هذا يُقال عن الفن؛ فالفن ينمو أفقيًّا، بمعنى أننا نظلُّ نتذوق الفن القديم، ولا نتصور أبدًا أن ظهور فن جديد يَعني التخلي عن أعمال الفنانين القدماء أو النظر إليها بمنظور تاريخي فحسب، وبطبيعة الحال فإن هذا النمو الأفقيَّ لا يعني أن أيَّ اتجاه جديد في الفن كان يمكن أن يظهر في أي عصر سابق؛ إذ إن ظهور الاتجاهات الفنية مرتبط ارتباطًا وثيقًا بمجموع الأوضاع الإنسانية التي يَظهر فيها كلُّ اتجاه منها؛ أعني بالأوضاع الاجتماعية والثقافية والروحية والمادية … إلخ، بحيث لا يُمكن أن يُفْهَمَ هذا الاتجاه حق الفهم إلا في سياقه التاريخي الذي ظهر فيه، ولكن الذي يعنينا هو أن تذوُّقَنا لفنٍّ معاصر لا يمنعنا من أن نتذوق فنون العصور الماضية، وأنَّ الروح الإنسانية التي تجد متعة في أعمال فنية حديثة تجد متعة مماثلة في أعمال السابقين، ولا تُحاول أبدًا أن تنسخ القديم؛ لأن هناك جديدًا ظهر ليحلَّ محله.

أما في حالة المعرفة العلمية، فإن الأمر يختلف؛ إذ إنَّ كل نظرية علمية جديدة تحلُّ محل النظرية القديمة، والوضع الذي يَقبله العلماء في أي عصر هو الوضع الذي يُمثِّل حالة العلم في ذلك العصر بعينه لا في أي عصر سابق، والنظرية العلمية السابقة تُصبح — بمجرد ظهور الجديد — شيئًا «تاريخيًّا»؛ أي إنها تهمُّ مؤرِّخ العلم لا العالم نفسه، ومن هنا فإن سكان البناء العلمي — كما قلنا من قبل — هم في حالة تنقُّل مُستمر، ومقرُّهم هو أعلى الطوابق في بناء لا يكفُّ لحظة واحدة عن الارتفاع.

وتكشف لنا سمة «التراكمية» هذه عن خاصية أساسية للحقيقة العلمية، هي أنها نسبية؛ فالحقيقة العلمية لا تكفُّ عن التطور، ومهما بدا في أي وقت أن العلم قد وصل في موضوع معين إلى رأي نهائي مستقر، فإنَّ التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد.

وهكذا بدا للناس — في وقت معين — أن فيزياء «نيوتن» هي الكلمة الأخيرة في ميدانها، وأنها تُعبِّر عن حقيقة مُطلَقة، ودام هذا الاعتقاد ما يقرب من قرنين من الزمان، ثم جاءت فيزياء أينشتين فابتلعت فيزياء نيوتن في داخلها، وتجاوزتها وأثبتَت أن ما كان يُعَدُّ حقيقة مطلقة ليس في الواقع إلا حقيقة نسبية، أو حالة من حالات نظرية أوسع منها وأعم.

هذا المثل يكشف لنا عن طبيعة التراكم المميِّز للحقائق العلمية؛ ففي بعض الحالات تحل النظرية العلمية محل القديمة وتنسخها أو تلغيها، ولكن في معظم الحالات لا تكون النظرية الجديدة بديلًا يلغي القديمة، وإنما توسعها وتَكشِف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تُفسِّرها أو تعمل لها حسابًا. وهكذا يكون القديم متضمنًا في الجديد، ولا يكون العالم — كالفيلسوف — عقلًا يبدأ طريقه من أول الشوط، وإنما يستمد نقطة بدايته من حيث توقف غيره.

ولكن إذا كانت الحقيقة العلمية نسبية على هذا النحو، فكيف جاز للبعض أن يصفوها بأنها «مطلقة»؟ إننا نَصِف مشاعرنا الانفعالية وأذواقنا الفنية بأنها «نسبية»، ونعني بذلك أنها تختلف من فرد لآخر، وأنه ليس من حق أحد أن يفرض ذوقه — مثلًا — على الآخرين، ولكننا نقول عن الحقيقة العِلمية إنها «مطلقة»، بمعنى أنها لا تتجاوز نطاق الاختلافات بين الأفراد، ولا تتقيَّد بظروف معينة، بل تتخطى الحدود الجزئية لكل عقل على حدة، لكي تفرض نفسها على كل عقل إنساني بوجه عام. وهذه التفرقة بين طريقة حكمنا على عمل فني وطريقة اقتناعنا بالحقيقة العلمية هي تفرقة صحيحة، فكيف إذن نوفِّق بين الاعتقاد — الذي قلنا إنه صحيح — بأن الحقائق العلمية مطلقة وبين ما قلناه منذ قليل من أنها نسبية؟

الواقع أن الحقيقة العلمية — في إطارها الخاص — تصدق على كل الظواهر وتفرض نفسها على كل عقل، وبهذا المعنى تكون مُطلَقة. فحين نقول: إنَّ الماء يتكون من أكسجين وهيدروجين بنسبة ١ إلى ٢، لا نعني بذلك كمية الماء التي أجرينا عليها هذا الاختبار، بل نعني أية كمية من الماء على الإطلاق، ولا نُوجِّه هذه الحقيقة إلى عقل الشخص الذي أُجْرِيَ أمامه هذا الاختبار فحسب، بل إلى كل عقل بوجه عام، ولكننا قد نكتشف في يوم ما أملاحًا في الماء بنِسبة ضئيلة، أو نصنع «الماء الثقيل» (المُستخدَم في المجال الذري) فيُصبح الحكم العلمي السابق نسبيًّا، لا بمعنى أنه يتغيَّر من شخص إلى آخر، بل بمعنى أنه يصدق في إطاره الخاص، وإذا تغيَّر هذا الإطار كان لا بد من تعديله، وهذا الإطار الخاص قد يكون هو المجال الذي تَصدُق فيه الحقيقة العلمية، كما هي الحال في أوزان الأجسام، التي يظل مقدارها صحيحًا في إطار الجاذبية الأرضية، ولكنها تختلف إذا نُقِلَت إلى مجال القمر، كما قد يكون هذا الإطار زمنيًّا، بمعنى أن الحقيقة التي تعبر عن المستوى الحالي للعلم تظل صحيحة وتفرض نفسها على الجميع في حدود معرفتنا الراهنة، وبذلك يكون هناك تعارض بين الطابع النِّسبي للحقيقة، وبين قولنا إنها مطلقة، بل إنَّ الحقيقة المطلقة كثيرًا ما يعبَّر عنها بعبارات نسبية، كما يحدث عندما نقول: إنَّ ضغط الغاز يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع درجة حرارته مقيسة بمقياس كلفن؛ ﻓ «النسبة» ذاتها تصبح في هذا القانون مطلقة، وإن كانت قيَم الضغط والحرارة مختلفة فيها باستمرار. وهكذا فإن صفة «التراكمية» في التفكير العلمي تجمع بين الطابع النسبي والطابع المُطلَق للعلم دون أي تناقض.

هذه السمة «التراكمية» التي يتَّسم بها العلم هي التي تقدم إلينا مفتاحًا للرد على انتقادٍ يُشبع توجيهه — في بلادنا الشرقية على وجه الخصوص — إلى العلم، وهو الانتقاد الذي يستغل تطور العلم لكي يتَّهم المعرفة العلمية والعقل العلمي بالنقصان؛ فمن الشائع أن يحمل أصحاب العقليات الرجعية على العلم لأنه متغيِّر، ولأن حقائقه محدودة، ولأنه يعجز عن تفسير ظواهر كثيرة، وهم بذلك يفتحون الباب أمام أنواع أخرى من التفسير الخارجة عن نطاق العلم أو المُعادية له، وواقع الأمر أنَّ هذا ليس اتهامًا للعلم على الإطلاق، فإذا قلتَ: إنَّ العلم متغيِّر، كنت بذلك تُعبِّر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم، وإذا اعتبرت هذا التغيُّر علامة نقص فإنك تُخطئ بذلك خطأً فاحشًا؛ إذ تَفترض عندئذ أن العلم الكامل لا بد أن يكون «ثابتًا»، مع أن ثبات العلم في أية لحظة، واعتقاده أنه وصل إلى حد الاكتمال، لا يعني إلا نهايته وموته؛ ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي يَنبغي أن يُعَدَّ علاقة نقص. إن العلم حركة دائبة، واستمرار حيويته إنما هو مظهر من مظاهر حيوية الإنسان الذي أبدعه، ولن يتوقف هذا العلم إلا إذا توقفت حياة مبدعه ذاته. والتغيير الذي يَتَّخذ شكل «التقدم» والتحسين المستمر هو دليل على القوة لا على الضعف، ومن المؤكد أن هذا هو طابع التغير العلمي، بدليل أن النظرية الجديدة في كثير من الحالات تَستوعِب القديمة في داخلها وتتجاوَزها، وتُفسِّر الظواهر على نطاق أوسع منها كما قلنا من قبل.

ومُجمَل القول أنَّ المعرفة العلمية متغيِّرة حقًّا، ولكن تغيُّرها يتَّخذ شكل «التراكم»؛ أي إضافة الجديد إلى القديم؛ ومن ثم فإن نطاق المعرفة التي تنبعث من العلم يتسع باستمرار، كما أن نطاق الجهل الذي يُبدِّده العلم ينكمش باستمرار. ومن هنا لم يكن انتقال العلم إلى مواقع جديدة على الدوام علامة من علامات النقص فيه، بل إن النقص إنما يَكمُن في تلك النظرة القاصرة التي تتصوَّر أن العلم الصحيح هو العلم الثابت والمُكتمل.

ولكن في أي اتجاه يسير هذا التراكم الذي تتَّسم به المعرفة العلمية؟ إنه — في واقع الأمر — يسير في الاتجاهين؛ الرأسي والأفقي، أعني اتجاه التعمق في بحث الظواهر نفسها، واتجاه التوسع والامتداد إلى بحث ظواهر جديدة.

أما عن الاتجاه الأول — الذي نستطيع أن نُسمِّيَه اتجاهًا رأسيًّا أو عموديًّا — ففيه يعود العلم إلى بحث نفس الظواهر التي سبق له أنْ بَحَثَهَا ولكن من منظور جديد وبعد كشف أبعاد جديدة فيها؛ فالبحث الفيزيائي والكيميائي في المادة — مثلًا — بدأ بخصائص المواد كما نتعامل معها يوميًّا؛ أي على مستوى إدراك حواسِّنا المادية، وبازدياد تقدم العلم ازداد مستوى الأبحاث في الظواهر نفسها تعمُّقًا، فكُشِفَت مستويات جديدة للمادة ألقت مزيدًا من الضوء على ظواهر العالم الفيزيائي والكيميائي، وانتقل البحث إلى مستوى الجزيئات والذرات، ثم إلى مستوى دون الذري؛ أي مستوى أدق مكوِّنات الذرة نفسها. وما زال العلم يتعمق في هذا الميدان الهام إلى مستويات تزداد دِقةً، وتُتيح لنا مزيدًا من السيطرة على العالم المادي، ويَنطبِق هذا على العلوم الإنسانية بدورها؛ إذ يُمكن القول — على سبيل المثال — إن التحليل النفسي عند فرويد هو محاوَلة للتغلغل إلى أبعاد في النفس البشرية أعمق من تلك التي كان يقتصر عليها علم النفس التقليدي، الذي كان يتناول سلوك الإنسان وفقًا لمظاهرِه الخارجية، ويقتنع بالتعديلات والتبريرات الواعية التي تُقدم لهذا السلوك، دون أن يُدرك أن من وراء هذا التبرير «الواعي» دوافع لا شعورية خفية، لا يريد الإنسان أن يفصح عنها، وإنما تُستخلص بعملية تحليل متعمقة.

وأما الاتجاه الثاني — وهو الاتجاه الذي يُمكن أن يُسمى أفقيًّا — فهو اتجاه العلم إلى التوسع والامتداد إلى ميادين جديدة؛ ذلك لأن العلم بدأ بنطاقٍ محدود من الظواهر، هي وحدها التي كان يُعتقد أنها خاضعة لقواعد البحث العلمي، على حين أنَّ ميادين كثيرة كانت تُعَدُّ أعقد أو أقدس من أن يتناولها العلم، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى أن آخر العلوم في ترتيب الظهور كانت مجموعة العلوم التي تدرس الإنسان بطريقة منهجية، مثل علم الاجتماع وعلم النفس اللذَين ظَهَرَا في القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فكانت دراسة الإنسان متروكة للتأمُّلات الفلسفية التي كانت تزودنا — بغير شك — بحقائق عظيمة القيمة عن الإنسان، ولكن هذه الحقائق كانت تتَّخذ شكل استبصارات عبقرية ولا تَرتكِز على دراسة منهجية، والسبب الرئيسي لذلك هو الاعتقاد الذي ظلَّ سائدًا طويلًا بأن العلم لا يستطيع أن يقترب من مجال الإنسان، وأن هذا المجال له حركته وقداسته الخاصة التي لا يصحُّ أن «تُنتهك» بالدراسة العلمية.

والواقع أن مسألة الترتيب الذي ظهرت به العلوم الطبيعية والإنسانية هو موضوع له من الأهمية ما يجعله جديرًا بأن نستطرد فيه قليلًا؛ ذلك لأن أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا الصدد، هو أن الإنسان عندما يبدأ في ممارسة المعرفة العلمية يبدأ بمعرفة نفسِه، على أساس أن هذا هو أقرب الميادين إليه، وهو الميدان الذي تكون فيه الملاحظة مُباشرةً بحق، وبعد أن تَكمل دراستُه لنفسه يُصبح لديه من النضج ما يَسمح له بدراسة العالم الخارجي، وربما كان يُعزِّز هذا الرأي أن الآداب والفلسفات والعقائد والتشريعات — التي تعد شكلًا قديمًا وهامًّا من أشكال معرفة الإنسان — قد ظهرت قبل العلم التجريبي بزمن طويل.

ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذا الشكل الأوَّلي الذي اتخذته معرفة الإنسان لنفسه كان بعيدًا عن الطابع العلمي، ولم يكن من الممكن بالفعل أن يبدأ العلم بدراسة الإنسان، بل كان المعقول أن يبدأ بدراسة الطبيعة الخارجية، ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل في التاريخ؛ ففي العالم القديم كانت المذاهب الفلسفية الأولى مذاهب «طبيعية»، ولم تظهَر المذاهب التي تتناول الإنسان إلا في وقتٍ مُتأخِّر، وهكذا بدأت الفلسفة بالمدرسة الأيونية والذرية … إلخ، التي تركَّزت أبحاثها على العالم الطبيعي، قبل أن يظهر السفسطائيون وسقراط وأفلاطون، الذين جعلوا الإنسان موضوعًا هامًّا لفلسفاتهم. وفي العصر الحديث بدأت النهضة العلمية بدراسة الطبيعة بطريقة مكثَّفة، ولم تَلحقها دراسة الإنسان علميًّا إلا بعد قرنين على الأقل، وهذا أمر غير مُستغرَب؛ إذ إن دراسة الإنسان — وإن كانت تبدو أقرب وأسهل منالًا لأنها تتعلَّق بمعرفة الإنسان لنفسِه على نحو مباشر — هي في واقع الأمر أعقد بكثير من دراسة الطبيعة؛ لأنها تمس أمورًا نعتبرها مقدسة في كياننا الداخلي، ولأنَّ العلاقة بين الأسباب والنتائج فيها شديدة التعقيد والتشابك، على عكس الحال في دراسة الطبيعة؛ حيث تسير هذه العلاقة دائمًا في خطٍّ واحد قابل للتحديد.

وعلى أية حال فإنَّ التطور في الاتجاهَين — أعني اتجاهَي دراسة الطبيعة ودراسة الإنسان — كان متداخلًا، ولم يكن الفاصل بين الميدانَين قاطعًا؛ ففي المحاولات الأولى التي بذَلها العقل البشري من أجل فهم الطبيعة، كان الإنسان يلجأ إلى تشبيه الطبيعة بنفسه، وفهمها من خلال ما يحدث في داخله، فيتصوَّر أن أحواله النفسية والحيوية لها نظير في حوادث الطبيعة، وكأن الطبيعة تسلك كما يسلك الإنسان، وفي العصر الحديث دار الزمن دورة كاملة؛ فبعد أن كانت الظواهر الطبيعية تفسَّر على مثال الظواهر البشرية؛ أصبحت دراسة الإنسان — في كثير من الاتجاهات الحديثة — تتمُّ على مثال الطبيعة، وظهر ذلك في تصور «أوجست كونت» وخلفائه للظواهر الاجتماعية كما لو كانت ظواهر طبيعية، كما ظهر عند «السلوكيين» والمدارس التجريبية في علم النفس بوجه عام؛ حيث يفسَّر السلوك الإنساني كما لو كان سلسلة من ردود الأفعال الطبيعية. وهكذا أصبحت الظواهر المتعلقة بكائن له حياة ونفسٌ أو روح (أعني الإنسان) تُدْرَس كأنها ظواهر تنتمي إلى الطبيعة الجامدة، بعد أن كانت ظواهر الطبيعة الجامدة — في العصور القديمة — تُفَسَّر كما لو كانت ذات حياة ونفس أو رُوح.

والذي يَعنينا من هذا كله أن العلم يتوسَّع ويمتدُّ رأسيًّا وأفقيًّا، وأنه يقتحم على الدوام ميادين كانت من قبل متروكة للخرافات أو للتفسيرات اللاعقلية، فحتى القرن الثامن عشر كانت أوروبا ذاتها تنظر إلى المرض العقلي على أنه ناتج عن تسلُّط رُوح شريرة على الإنسان، وكانت تُعامل المريض بقسوة شديدة بهدف إخراج هذه الروح الشريرة منه، وفي كثير من الحالات كانت هذه القسوة تؤدِّي إلى موته.

وبالتدريج أخذ العلم يَقتحِم هذا الميدان بدورِه — ميدان العقل البشري في صحَّته وفي مرضه — وامتدَّت رقعة المعرفة العلمية إلى أرض جديدة كانت محرَّمة على العلم من قبل، والأمثلة على ذلك عديدة، وكلها تُثبِت أن العلم يتوسَّع في جميع الاتجاهات.

ومرة أخرى نقول إنَّ هذا التوسع يتضمن ردًّا مفحمًا على أولئك الذين يجدون متعة خاصة في اتهام العقل البشري بالقصور، على أساس أن هناك ميادين كثيرة لم يستطع هذا العقل حتى الآن أن يَقتحمها؛ ذلك لأن هؤلاء لو تأملوا مسار العقل في تاريخه الطويل بنظرة شاملة — لا تقتصر على اللحظة التي يعيشون فيها وحدها — لأدركوا أن عصورًا كثيرة قبلنا كانت تؤمن إيمانًا قاطعًا بعجز العقل العلمي عن اقتحام ميادين معيَّنة، ولكن التطور سرعان ما أثبت لهم خطأهم، وهذا درس ينبغي أن يستخلصوا منه عبرة بليغة؛ وهي أن التوسُّع في المعرفة البشرية يسير باطراد، وأن كثيرًا من الميادين التي نتصور اليوم أنها بعيدة عن متناول العلم سوف تُصبح موضوعًا للدراسة العلمية المنظَّمة في المستقبل القريب أو البعيد.

(٢) التنظيم

في كل لحظة من حياتنا الواعية يستمر تفكيرنا، ويعمل عقلنا بلا انقطاع، ولكن نوع التفكير الذي نُسمِّيه «علميًّا» لا يمثل إلا قدرًا ضئيلًا من هذا التفكير الذي يظل يعمل دون توقف؛ ذلك لأن عقولنا في جزء كبير من نشاطها لا تعمل بطريقة منهجية منظمة، وإنما تسير بطريقة أقرب إلى التلقائية والعفوية، وكثيرًا ما يكون نشاطُها مجرد رد فعل على المواقف التي تواجهها دون أي تخطيط أو تدبر، بل إننا حين ننفرد بأنفسنا ونتصور أننا «نُفكِّر»، كثيرًا ما نَنتقل من موضوع إلى موضوع بطريقة عشوائية، وتَتداعى الأفكار في ذهننا حرة طليقة من أي تنظيم، فنُسمِّي هذا شرودًا أو حلم يقظة، ولكنه يظلُّ مع ذلك شكلًا من أشكال التفكير، ومثل هذا التفكير الطليق غير المنظَّم سهل ومريح؛ ولذلك فإننا كثيرًا ما نَستسلِم له هربًا من ضغط الحياة أو تخفيفًا لمجهودٍ قُمنا به، أو نجعل منه «فاصلًا» مريحًا بين مراحل العمل العقلي الشاق.

أما التفكير العلمي فمن أهم صفاته التنظيم؛ أي إننا لا نترك أفكارنا تسير حرةً طليقة، وإنما نُرتِّبها بطريقة محدَّدة، ونُنظِّمها عن وعي، ونبذل جهدًا مقصودًا من أجل تحقيق أفضل تخطيط ممكن للطريقة التي نفكِّر بها، ولكي نصل إلى هذا التنظيم يَنبغي أن نتغلَّب على كثير من عاداتنا اليومية الشائعة، ويجب أن نتعوَّد إخضاع تفكيرنا لإرادتنا الواعية، وتركيز عقولنا في الموضوع الذي نبحثه، وكلها أمور شاقة تحتاج إلى مران خاص، وتَصقُلها الممارسة المستمرة.

ولكن إذا كان العلم تنظيمًا لطريقة تفكيرنا أو لأسلوب ممارستنا العقلية، فإنه — في الوقت ذاته — تنظيم للعالَم الخارجي؛ أي إننا في العلم لا نقتصر على تنظيم حياتنا الداخلية فحسب، بل تنظيم العالم المحيط بنا أيضًا؛ ذلك لأن هذا العالم مليء بالحوادث المتشابكة والمتداخلة، وعلينا في العلم أن نَستخلِص من هذا التشابك والتعقيد مجموعة الوقائع التي تُهمُّنا في ميداننا الخاص، وهذه الوقائع لا تأتي إلينا جاهزة، ولا تحتل جزءًا منفصلًا من العالم أُلصقت عليه بطاقة اسمها «الكيمياء» أو «الفيزياء»، بل إنَّ مهمتنا في العلم هي أن نقوم بهذا التنظيم الذي يمكننا من أن نَنتقي من ذلك الكل المعقَّد ما يهمنا في ميداننا الخاص.

ويَنطبِق ذلك على ميدان العلوم الإنسانية مثلما ينطبق على ميدان العلوم الطبيعية؛ فحين يؤلف المؤرِّخ كتابًا في التاريخ — وليكن مثلًا كتابًا عن تاريخ العالم العربي في القرن العشرين — تكون أمامه مهمَّة شاقة، هي أن يختار — من بين الواقع شديد التعقيد — ما يهمُّه في مجال بحثه؛ ذلك لأن مهمَّة المؤرخ هي إعادة الحياة إلى فترة ماضية، ولكنه لا يستطيع أن يعيد الماضي كاملًا وبكل ما فيه من تعقيدات، فحين يعود بذهنه إلى وقائع حياة العالم العربي في الفترة التي يتناولها بحثه؛ يجد ألوفًا من الظواهر المعقدة المتشابكة؛ حياة الناس اليومية، طريقة ملبسهم ومأكلهم وترفيههم، عاداتهم، أخلاقهم، حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، علاقاتهم السياسية … إلخ، وعليه أن ينتقي من هذا الخضمِّ الهائل من الظواهر المختلفة ما يُهمُّه في موضوع بحثه، ويترك ما عداه جانبًا؛ أي إن عليه أن يُدخل التنظيم في واقع غير منظم أصلًا، وتلك هي مهمة العلم.

على أنَّ التنظيم سِمة لا تبدو مُقتصرة على العلم وحده، فكل نوع من أنواع التفكير الواعي — الذي يهدف إلى تقديم تفسير للعلم — يتَّصف بنَوع من التنظيم. بل إنَّ الأساطير ذاتها تُحاول أن تُوجِد نظامًا معينًا من وراء الفوضى الظاهرية في الكون، وحين تَفترض وجود آلهة أو أرواح خفية وراء كل ظاهرة من ظواهر الطبيعة، فإنها تسعى — عن طريق ابتداع هذه الكائنات الشخصية — إلى إيجاد شكلٍ من أشكال التنظيم في الظواهر، وحين ظهَر الفكر الفلسفي بعد ذلك ليحلَّ محلَّ التفكير الأسطوري كانت فكرة وجود نظام في الكون من أهم الأفكار التي دارت حولها الفلسفة اليونانية. بل إنَّ نظرة اليونانيين إلى الكون — التي عبَّر عنها استخدامهم للفظ cosmos للتعبير عن الكون — كانت مبنيةً أساسًا على فكرة التوافُق والانسجام والنظام الذي يمكن فهمه بالعقل، والذي يؤدِّي كل شيء فيه وظيفة لها معناها داخل الكل المنظم، ويسير بأكمله نحو تحقيق غايات محدودة، ومن هنا كان الاختلاف هائلًا بين ذلك الكون المنسَّق الذي تصوَّره اليونانيون، وبين تصوُّر العلم الحديث للكون، الذي كان في صميمه تصورًا آليًّا مضادًّا للغائية. أما في الفكر الديني فإن فكرة النظام أساسية، بل إنَّ كثيرًا من علماء الكلام واللاهوتيِّين يتخذون من وجود النظام في الكون دليلًا من أدلة وجود الله ومظهرًا من مظاهر قدرته. وهكذا يستحيل تصور العالم بطريقة عشوائية أو غير منظمة ما دام الخالق قادرًا على كل شيء.

وإذن ففكرة وجود «نظام» في العالم هي فكرة تتردَّد في كل محاولة لإيجاد تفسير للعالم، فما هو الجديد الذي يأتي به العلم في هذا الصدد؟ أو على الأصح: فيم يختلف التنظيم الذي يقتضيه التفكير العلمي عن ذلك التنظيم الذي يَظهر في أنماط التفكير المُغايرة للعلم؟

إنَّ الاختلاف الأساسي في أن التنظيم — كما يقول به العلم — يخلقه العقل البشري ويَبعثه في العالم بفضل جهده المُتواصل الدءوب في اكتساب المعرفة، على حين أن العالم — وفقًا لأنماط التفكير الأخرى — مُنظَّم بذاته؛ ففي التفكير الأسطوري وفي التفكير الفلسفي نجد النظام موجودًا بالفعل في العالم، وما على العقل البشري إلا أن يتأمَّله كما هو. أما في التفكير العلمي فإنَّ هذا العقل البشري هو الذي يبعث النظام في عالم هو في ذاته غير منظَّم؛ فالكون في نظر العلم لا يسير وفقًا لغايات، وإنما تَسود مسارَه الآلية، وكلما تقدَّمت المعرفة استطعنا أن نَبتدِع مزيدًا من النظام في مسار الحوادث العشوائي في العالم؛ أي إن الكون المنظَّم — بالاختصار — هو نقطة النهاية التي يسعى العلم من أجل بلوغها، وليس نقطة بدايته.

ولكن كيف يُحقِّق العلم هذا النظام في ظواهر الطبيعة المُتشابِكة والمعقَّدة والمُفتقِرة بذاتها إلى التنظيم؟ إنَّ وسيلته إلى ذلك هي اتِّباع «منهج» method — أي طريق محدَّد — يَعتمِد على خطة واعية. وصفة «المنهجية» هذه صفة أساسية في العلم، حتى إنَّ في وسعنا أن نعرف العلم عن طريقها، فنقول: إنَّ العلم في صميمه معرفة منهجية، وبذلك نُميِّزه بوضوح عن أنواع المعرفة الأخرى التي تَفتقِر إلى التخطيط والتنظيم، ونستطيع أن نقول إنَّ المنهج هو العنصر الثابت في كل معرفة علمية، أما مضمون هذه المعرفة والنتائج التي تصلُ إليها ففي تغير مستمر. فإذا عرَّفنا العلم من خلال نتائجه وإنجازاته كنا في هذه الحالة نقف على أرض غير ثابتة، أما إذا عرَّفنا العلم من خلال منهجه فإنا نَرتكِز حينئذٍ على أرض صُلبة؛ لأن المنهج هو الذي يظلُّ باقيًا مهما تغيَّرت النتائج.

غير أنَّ القول بأن المنهج هو العنصر الثابت في العلم قد يُفْهَم بمعنى أن للعِلم مناهج ثابتة لا تتغيَّر، وهذا فهم لا يُعبِّر عن حقيقة العلم؛ إذ إن مناهج العلم متغيِّرة بالفعل؛ فهي أولًا تتغيَّر حسب العصور؛ لأنَّ كثيرًا من العلوم غيَّرت مناهجها بتقدُّم العلم؛ فالكيمياء مثلًا تزداد اعتمادًا على الأساليب الرياضية بعد أن كانت في بدايتها علمًا تجريبيًّا خالصًا لا شأن له بالرياضيات، كذلك فإنَّ المناهج تتغيَّر تبعًا لنوع العلم ذاته؛ إذ إنَّ المنهج المتَّبع في علم يَدرس الإنسان لا بد أن يكون مختلفًا عن ذلك الذي يُتبع في علم طبيعي، وهكذا لا يُمكن القول بوجود منهج واحد ثابت للمعرفة العِلمية على إطلاقها، ومع ذلك يظلُّ من الصحيح أن منهج العلم — لا النظريات أو النتائج التي يَصِل إليها — هو العنصر المُلازم للعلم على الدَّوام، بمعنى أنَّ وجود منهج معيَّن — أيًّا كان هذا المنهج — سمة أساسية في كل تفكير علمي؛ فالبحث العلمي هو بحثٌ يَخضع لقواعد معينة، وليس بحثًا عشوائيًّا متخبِّطًا، ومع اعترافنا بأن هذه القواعد قابلة للتغيير باستمرار، فإن مبدأ الخضوع لقواعد منهجية هو صفة أساسية تُميِّز المعرفة العلمية.

وعلى أيَّة حال فقد استطاع العلم الحديث — بفضل جهود روَّاده الأوائل وإضافات العلماء اللاحقين — أن يُطور لنفسه منهجًا أصبح يرتبط إلى حدٍّ بعيد بالدراسة العلمية، ولعلَّه من المفيد — ونحن في معرض الكلام عن صفة التنظيم المنهجي في العلم — أن نقول كلمة موجزة عن هذا المنهج، لا بوصفِه المنهج الوحيد الذي يُمكن تصوُّره للعلم، ولكن بوصفه المنهج الذي أصبح غالبًا على الدراسة العلمية في ميادين العلم الطبيعي، دون استبعاد أيَّة تطورات أخرى ممكنة في المستقبل.

  • (١)

    فالمنهج العلمي يبدأ بمرحلة ملاحظة منظَّمة للظواهر الطبيعية التي يراد بحثها، ولا شك أن هذه الملاحظة تَفترض — كما قلنا من قبل — عملية اختيار وانتقاء وعزل للوقائع التي تُهمُّ الباحث في ميدان عمله من بين ألوف الوقائع الأخرى التي تتَشابك معها في الطبيعة، بل إنَّ الواقعة أو الظاهرة الواحدة يُمكن تناولها من زوايا متعدِّدة وفقًا لنوع اهتمام العالم؛ فقطعة الحجر يُمكن أن تُدرس بوصفها ظاهرة فيزيائية إذا ركزنا اهتمامنا على حركتها أو طريقة سقوطها أو ثقلها، ويمكن أن تُدرس كيميائيًّا بتحليل المعادن أو الأملاح التي يمكن أن تكون موجودة فيها، كما تُدْرَس جيولوجيًّا بتحديد الطبقة الصخرية التي تنتمي إليها وعصرها الجيولوجي … إلخ.

  • (٢)

    ومن الجدير بالذكر أن الملاحظة الحسية المباشرة نادرًا ما تُستخدم في العلم المعاصر. صحيح أنها في أوائل العصر الحديث كانت هي الوسيلة التي يلجأ إليها العلماء، والتي يدعو إليها فلاسفة العِلم مثل بيكون؛ من أجل جمع معلومات عن الواقع، ولكن ذلك كان هو الوضع السائد قبل أن تُكتشف أجهزة المُلاحظة والرصد الحديثة، وأبسط مثال على ذلك أنَّ ملاحظة الطبيب للمريض في البلاد المتقدمة طبيًّا أصبحت أقلَّ اعتمادًا على اليد أو سماعة الأذن، وازداد اعتمادُها على الأجهزة الدقيقة في تسجيل ضربات القلب، أو على التصوير بكاميرات داخلية، أو على الأنواع الجديدة من الأشعة. كذلك فإن ملاحظات عالم الفيزياء لم تَعُد تَعتمِد على العينَين، بل تتمُّ عن طريق قراءة مؤشِّرات أو ومضات داخل أجهزة إلكترونية شديدة التعقيد. وبالمثل فإن العالم الفلكي أو الجيولوجي لم يَعُد يَعتمِد على ما يراه، بل على الصور التي تَلتقِطُها الأقمار الصناعية؛ أي إنَّ مفهوم الملاحَظة ذاته قد تغيَّر، فلم تَعُد هي تلك المادة الحسية الخام التي عرفها العلم في المراحل الأولى من تطوُّره الحديث، وإنما أصبحت عملية شديدة التعقيد، تحتاج إلى جهود سابقة ضخمة، وإلى معلومات واسعة من أجل تفسير «القراءات» أو «الصور» التي تَنقُلها الأجهزة المعقَّدة؛ أي إنَّ الخطوة الأولى في العلم متداخلة مع خطواته المتأخِّرة، وهي ليست حسِّية خالصة، بل فيها جوانب عقلية هامة.

  • (٣)

    وتأتي بعد الملاحظة مرحلة التجريب؛ حيث توضع الظواهر في ظروف يُمكن التحكم فيها، مع تنويع هذه الظروف كلما أمكن، وقد أصبحت التجارب العلمية بدورها أمرًا شديد التعقيد في عصرنا هذا، ولكنها مع ذلك لا تُمثِّل المرحلة النهائية في العلم، بل تظلُّ مرحلة أولية؛ ذلك لأن القوانين النهائية التي نتوصَّل إليها في هذه المرحلة قوانين جزئية، تربط بين ظاهرة وأخرى، وتُقدِّم إلينا معرفة بجانب محدود من جوانب الموضوع الذي نُريد بحثه، ومن مجموع التجارب يتكوَّن لدينا عدد كبير من القوانين الجزئية التي يبدو كلٌّ منها مستقلًّا عن الآخر، والتي نظلُّ في هذه المرحلة عاجزين عن الربط بينها؛ لأنَّ التجربة وحدها لا تُتيح لنا أن نصل إلى أية «نظرية» لها طابع عام.

  • (٤)

    وفي المرحلة التالية يَستعين العلم بتلك القوانين الجزئية المتعدِّدة التي تمَّ الوصول إليها في المرحلة التجريبية، فيضمُّها كلها في نظرية واحدة. وهكذا فإن نيوتن قد استعان بكل القوانين التي تمَّ كشفها عن طريق تجارب جاليليو وباسكال وهيجنز وغيرهم من العلماء السابقين عليه؛ لكي يضعَها كلها في نظرية عامة هي نظرية الجاذبية (أو قانون الجاذبية بالمعنى العام لهذا اللفظ).

  • (٥)

    وفي كثير من الحالات يلجأ العلم — بعد الوصول إلى النظرية العامة — إلى الاستنباط العقلي؛ إذ يتَّخذ من النظرية نقطة ارتكاز أو مقدمة أولى، ويستخلص منها — بأساليب منطقية ورياضية — ما يُمكن أن يترتب عليها من نتائج، وبعد ذلك قد يقوم مرةً أخرى بإجراء تجارب — من نوع جديد — لكي يتحقَّق من أن هذه النتائج التي استخلصها بالعقل والاستنباط صحيحة، فإذا أثبتت التجارب صحَّة تلك النتائج كانت المقدِّمات التي ارتكز عليها صحيحة، أما إذا كذَّبَتها فإنه يعيد النظر في مقدماته، وقد يرفضها كليًّا أو يُصحِّحها عن طريق إدماجها في مبدأ أعم؛ ومن أمثلة ذلك أن أينشتين — عندما وضع نظرية النسبية بناءً على ملاحظات وتجارب جزئية سابقة قام بها هو وغيره من العلماء — استخلص النتائج المترتِّبة عليها بطريقة «الاستنباط العقلي»، وكان لا بد من تجربة لكي يُثبت أن هذه النتائج تتحقَّق في الواقع، وبالفعل أُجريت هذه التجربة في حالة الكسوف الشمسي التي حدثت في عام ١٩١٦، وأُثبتت صحة النظرية التي اتخذ منها أينشتين مقدمة لاستنتاجاته.

وهكذا يَسير المنهج العلمي المُعترف به — في ضوء التطور الحاضر للعلم — من الملاحظات إلى التجارب ثم إلى الاستنتاج العقلي وإلى التجارب مرةً أخرى؛ أي إنَّ العنصر التجريبي والعنصر العقلي مُتداخلان ومتبادلان، كما أنَّ الاستقراء — الذي نتقيد فيه بالظواهر الملاحظة — والاستنباط — الذي نستخدم فيه عقولنا متخطِّين هذه الظواهر الملاحظة — يتداخَلان بدورهما، ولا يمكن أن يُعَدَّ أحدهما بديلًا عن الآخر؛ فالتجريبية والعقلية ليسا — في العلم — منهجين مستقلين، بل هما مرحلتان في طريق واحد. وفي أغلب الأحيان يكون العلم في بداية تطوُّره تجريبيًّا، وعندما ينضج يكتسب إلى جانب ذلك الصيغة العقلية الاستنباطية؛ ففي المرحلة الأولى يجمع أكبر عدد ممكن من المعارف بطريقة منظمة، وفي المرحلة الثانية يتوصل إلى المبادئ العامة التي تُفسِّر هذه المعارف وتضعها في إطار موحَّد. وقد بدأت الفيزياء مرحلتها التجريبية الأولى منذ القرن السادس عشر، وانتقلت بعد قرنين إلى المرحلة الثانية. أما العلوم الإنسانية فربما كانت — في معظم حالاتها — تمرُّ حتى الآن بالمرحلة التجريبية التي تُكدِّس فيها المعارف؛ انتظارًا للمرحلة التي تنضج فيها إلى حدِّ اكتشاف القوانين أو المبادئ العامة.

تلك لمحة موجزة عن هذا الموضوع الذي يُعدُّ أهم مظاهر التنظيم العلمي، وأعني به البحث المنهجي. ولا بد أن نؤكد مرة أخرى أن هذا المنهج الذي أشرنا إليه ليس ثابتًا، وإنما هو يُمثِّل حالة العلم في المرحلة الراهنة، كما أنه لا يَنطبِق بالضرورة على جميع مجالات البحث العلمي، بل هو تلخيص للطريقة التي يَتبعها العلماء في العصر الحديث في أهم ميادين بحثهم.

فهل يعني ذلك أن المرء إذا أراد أن يكون عالِمًا فما عليه إلا أن يُتقن هذه القواعد؟ وهل يكفي لتكوين العالم في عصرنا هذا أن نُلقِّنه الخطوط العامة للطرق التي اتبعها العلماء السابقون عليه لكي يَصِلوا إلى كشوفهم؟ الواقع أن هذا خطأ يقع فيه كثير من غير المتخصِّصين في العلم؛ ذلك لأن معرفة أية مجموعة من القواعد — مهما بلغت دقتها — لا يمكن أن تجعل من المرء عالمًا، بل إن هناك شروطًا أخرى لا بد من توافُرها لتحقيق هذا الهدف، والمسألة ليست مسألة تطبيق آلي لمجموعة من القواعد التي ثبتَت فائدتها في أي علم من العلوم، بل إنَّ العلم أوسع وأعْقَد من ذلك بكثير، ونستطيع أن نقول إنَّ فيلسوفًا ذا عقلية علمية جبارة مثل «ديكارت» قد وقَع في هذا الخطأ، فنظر إلى إيمانه بأهمية المنهج في الحلم (وهو على حق في ذلك) فقد استنتج أن العلم ليس إلا منهجًا، وأكَّد أن الناس لا يتفاوتون في استعداداتهم العقلية، وإنما يتفاوَتون في كيفية استخدامهم لهذه العقلية بالطريقة الصحيحة؛ ولذا ركَّز ديكارت اهتمامه على وضع مجموعة من القواعد التي يستطيع العقل — إذا ما التزمها بدقة — أن يهتدي بواسطتها إلى حلِّ أية مشكلة في أي ميدان من ميادين العلم.

ولكن التجارب أثبتت أن المرء قد يتبع أدقَّ القواعد المنهجية دون أن يُصبح لهذا السبب عالِمًا؛ ذلك لأن العلم يحتاج إلى أمور منها التحصيل وحدَّة الذكاء — وهو استعداد طبيعي — وتلك الموهبة التي تجعل العالم أشبه بالفنان، بل تجعله قادرًا على تجاوز القواعد المنهجية المُتعارَف عليها في ميدانه ووضع قواعده الخاصة به إذا اقتضى الأمر ذلك، ومع ذلك فقد كان لديكارت كلُّ العذر في إلحاحه على أهمية معرفة القواعد المنهجية في البحث العلمي، وفي تأكيده أن أيَّة مشكلة لن تستعصي على العقل الذي يهتدي بهذه القواعد؛ إذ إنه ظهَر في مطلع العصر الحديث، وفي الوقت الذي كان لا بد فيه للمُفكِّر من أن يُقدِّم للباحثين صورة للعمل العلمي تُعطي الجميع أملًا في بلوغ الحقيقة، ولا شك أن تأكيد القواعد المنهجية، ورفض الرأي القائل بأنَّ الاستعدادات والقدرات العقلية تختلف من شخص لآخر، يَفسح أمام الجميع مجال البحث، ويقضي على أرستقراطية الفكر التي كانت سائدة في العصور الوسطى؛ لتحلَّ محلها ديمقراطية فكرية كانت ضرورية في المرحلة التاريخية التي ظهر فيها ديكارت.

وإذا كنا حتى الآن قد اقتصَرنا على الكلام عن المنهج العلمي بوصفه المظهر الرئيسي لسِمَة التنظيم في العلم، فمن الواجب أن نشير — قبل أن نَنتقِل إلى سمة أخرى — إلى مظهر آخر للتنظيم العلمي، هو الترابط الذي تتصف به القضايا العلمية؛ فالعلم لا يكتفي بحقائق مفكَّكة، وإنما يحرص على أن يُكوِّن من قضاياه نسقًا محكمًا، يؤدي فهمُ كل قضية فيه إلى فهم الأخريات، وكل حقيقة عِلمية جديدة لا تضاف إلى الحقائق الموجودة إضافة خارجية، بل تُدْمَج فيها بحيث تكوِّن معها كلًّا موحدًا، وربما اقتضَت عملية الإدماج هذه التخلي عن بعض العناصر القديمة التي تَتنافَر مع الحقيقة الجديدة، أما إذا ظهرت حقيقة جديدة ولم نعرف كيف نَدمِجها في نسق الحقائق الموجودة بالفعل، فإن ذلك يقتضي إعادة النظر في النسق بأكمله من أجل تكوين نسق جديد قادر على استيعاب الحقيقة الجديدة، وهذا بالفعل ما حدث عندما أعاد أينشتين النظر في نسق الفيزياء الذي كوَّنه نيوتن، والذي ظلَّ يُعَدُّ حقيقة نهائية طوال مائتي عام، نتيجةً لتجارب «ميكلسون ومورلي» في الضوء، وهي التجارب التي لم يكن من المُمكِن إدماجها في النسق القديم. وقد أسفرت إعادة النظر هذه عن تكوين نسق جديد أرحب، يستوعب النسق القديم في داخله بوصفه حالة من حالاته، ويتجاوزه بحيث يقدم تفسيرًا أوسع منه بكثير، وهذا النسق الجديد هو نظرية النسبية.

وهكذا يمكن القول إنَّ صفة التنظيم تحتلُّ مكانها عند نقطة بداية البحث العلمي؛ حيث تتمثَّل في اتِّباع العالم لمنهج منظَّم، وكذلك عند نقطة نهاية هذا البحث، عندما يُكوِّن العالم من النتائج التي يتوصَّل إليها نسقًا مترابطًا يستبعد أي نوع من التنافُر في داخله.

(٣) البحث عن الأسباب

لا يكون النشاط العقلي للإنسان علمًا — بالمعنى الصحيح — إلا إذا استهدف فهم الظواهر وتعليلها، ولا تكون الظاهرة مفهومة — بالمعنى العلمي لهذه الكلمة — إلا إذا توصَّلنا إلى معرفة أسبابها، وهذا البحث عن الأسباب له هدفان:
  • (أ)

    الهدف الأول هو إرضاء الميل النظري لدى الإنسان، أو ذلك النزوع الذي يدفعه إلى البحث عن تعليلٍ لكلِّ شيء، ولنُلاحظ أن هذا الميل — الذي نَصِفه بأنه نظري — لا يوجد في جميع الحالات بدرجة متساوية؛ فهناك حضارات بأكملها كانت تعتمد على الخبرة والتجربة المتوارثة، وتكتفي بالبحث عن الفائدة العملية أو التصرف الناجح، دون سعي إلى إرضاء حبِّ الاستطلاع الهادف إلى معرفة أسباب الظواهر. وهكذا كانت هذه الحضارات تُشيِّد مبانيَ ضخمة، أو تقوم في تجارتها بحسابات دقيقة، دون أن تُحاول معرفة «النظريات» الكامنة من وراء عملية البناء أو الحساب، وحسبها أنها حقَّقت الهدف العلمي المطلوب فحسب، بل إنَّ في وسعنا أن نرى من حولنا أشخاصًا لا يهتمون إلا «ببلوغ النتيجة»، ولا يَكترثون بأن يسألوا: «لماذا» كانت النتيجة على هذا النحو، وربما رأوا في هذا السؤال حذلقةً لا تستحق إضاعة الوقت، ما دامت الإجابة عنه لن تُقدِّم ولن تؤخر في بلوغ النتيجة المطلوبة.

  • (ب)

    ولكن هذا الاعتقاد بأن معرفة الأسباب ليس لها تأثير عملي هو اعتقاد واهم؛ ذلك لأن معرفة أسباب الظواهر هي التي تُمكِّننا من أن نتحكم فيها على نحوٍ أفضل، ونصل إلى نتائج عملية أنجح بكثير من تلك التي نصل إليها بالخبرة والممارسة؛ فمن الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية وكيفية انتقالها أمكن ظهور سلسلة طويلة من المُختَرَعات كالتليفون ولاقط الأسطوانات («البيك أب»، أو ما كان يُسمى في تعريب قديم باسم «الحاكي») والراديو ومسجل الشرائط … إلخ. وكلها وسائل لنقل الصوت أدت وظائف عملية رائعة، وكان من المستحيل بلوغُها لولا الدراسة المعتمدة على معرفة أسباب الظواهر. ومعرفة أسباب الأمراض يُمكِّن من معالجتها، كما أن المعرفة النظرية للعناصر الفعالة في مدة معينة يمكِّن من استخراج هذه العناصر بطريقة صناعية وإنقاذ ملايين الأرواح (كالأنسولين المستخدم في علاج مرض السكر مثلًا). وهكذا تؤدِّي المعرفة السببية ليس فقط إلى إرضاء نزوعنا النظري إلى فهم حقائق الأشياء، بل إلى مزيد من النجاح في الميدان العملي ذاته، وتُتيح لنا تحوير الظواهر وتغيير طبيعتها على النحو الذي يَضمن تسخيرها لخدمة أهدافنا العملية.

من أجل هذَين العاملين كانت المعرفة العلمية الحقيقية مُرتبطةً بالبحث عن أسباب الظواهر، وإذا كان كثير من المؤرخين يتَّخذون من آراء الفلاسفة اليونانيين القدماء نقطة بداية للعلم، فما ذلك إلا لأن هؤلاء الفلاسفة قد تفوَّقوا على غيرهم في التساؤل، وفي البحث عن الأسباب، صحيح أنهم لم يَجِدوا إجابات إلا عن قليل من الأسئلة التي طرَحوها، وأن كثيرًا من إجاباتهم كانت ساذجة أو قاصرة، ولكن المُهم أن يطرح السؤال، وهذا الطرح هو في ذاته الخطوة الأولى في طريق العلم. بل إن هذا التساؤل عن الأسباب هو أول مراحل المعرفة في حياة الفرد نفسه؛ ففي السنوات الأولى من عمر الطفل تحكم تصرُّفاته الدوافع الطبيعية والاستجابات المباشِرة، ويسودها مبدأ الفعل ورد الفعل، ولكن في مرحلة معيَّنة — تحدَّد بحوالي سن السابعة وربما قبل ذلك — يبدأ الطفل في السؤال عن أسباب كلِّ ما يراه حوله، وتُصبح كلمة «لماذا» أكثر الكلمات تردُّدًا على لسانه، وربما أضجر المحيطين به بتكرارها، وباستخدامها في السؤال عن أسباب ظواهر لا تحتاج إلى تعليل (كأن يسألك: «لماذا» عندما تقول له إنك شبعت). وفي هذه المرحلة بالذات تبدأ حصيلة المعرفة تتراكم في ذهن الطفل، ويكون ترديد هذا السؤال إيذانًا بدخوله مرحلة استخدام التفكير العقلي، وإذن فالعلم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبحث عن أسباب الظواهر، ومع ذلك فإن طبيعة هذا البحث عن الأسباب، ومعنى كلمة «السبب» ذاتها، لم تكن واضحة كل الوضوح في أذهان الناس، على الرغم من أنهم لا يكفُّون عن استخدامها في تفكيرهم العلمي، وربما في تفكيرهم اليومي أيضًا.

فعند اليونانيين ظهر مفهومٌ معقَّد لفكرة «السبب» و«السببية»، على الرغم من اهتمامهم الشديد بهذا الموضوع وريادتهم له، وقد لخَّص فيلسوفهم الكبير «أرسطو» آراء اليونانيِّين السابقين عليه بالإضافة إلى آرائه الخاصة حول الموضوع، فذكر أن هناك أنواعًا أربعة من الأسباب:
  • (أ)

    السبب المادي؛ كأن نقول عن الخشب الذي يُصْنَع منه السرير إنه سبب له.

  • (ب)

    السبب الصوري؛ أي إن الهيئة أو الشكل الذي يتخذه السرير والذي يُعطيه إياه صانعُه هو أيضًا سبب له.

  • (جـ)

    السبب الفاعل؛ أي إن صانع السرير أو النجار هو سببه.

  • (د)

    السبب الغائي؛ أي إن الغاية من السرير — وهي استخدامه في النوم — سبب من أسبابه.

ومن الواضح أن هذا التحديد لمعاني كلمة «السبب» وأنواع الأسباب ينطوي على خلط شديد؛ إذ إن «المادة» التي يُصْنَع منها الشيء ليست إلا أداة لا سببًا، كما أن «الصورة» هي فكرة في الذهن، لا تنتج شيئًا في العالم المحسوس بصورة مباشرة، أما الغاية فلا يأتي دورها إلا بعد أن يتمَّ إيجاد الشيء أو الظاهرة بالفعل؛ فاستخدام السرير يحدث بعد صنع السرير، ومن هنا لم يكن من المعقول أن تكون هذه الغاية سببًا، وهكذا يتبقى لدينا في النهاية نوع واحد من الأنواع الأربعة التي تحدَّث عنها أرسطو، هو السبب «الفاعل» وهو النوع الذي يُمكن الاعتراف به.

والواقع أن «السبب الغائي» يستحق وقفة خاصة؛ إذ إنه كان من أهمِّ عوامل تشويه التفكير في موضوع السبَبية، بل في العلم بأسرِه؛ ذلك لأن الأذهان قد اتَّجهت إلى البحث في كل ظاهرة عن «الغايات» المقصودة منها، فكانت النتيجة أنها تصوَّرت الحوادث الطبيعية بل والعالم كله، كما لو كانت تستهدف «غايات»، وكأنها تسير في طريقٍ يؤدِّي إلى تحقيق رغبات بشرية معيَّنة أو إلى معاكسة هذه الرغبات، وكان من المستحيل أن يقوم علمٌ حقيقي في ظل هذا التصور «الغائي» للطبيعة؛ لأنه يَصرف الأنظار عن كشف الأسباب الحقيقية، ويُوجِّهها نحو طبع الصورة البشرية على أحداث الطبيعة. وعلى أية حال فهذه مسألة عولجت بمزيد من التفصيل في موضع آخر من هذا الكتاب.١
لذلك كان من الطبيعي أن تُستبعَد كل أنواع الأسباب الأخرى — وخاصةً الأسباب الغائية — من مجال العلم الحديث عند بداية ظهوره؛ بحيث يقتصر البحث على «الأسباب الفاعلة»، وتظهر الطبيعة على أنها سلسلة متشابكة من الحوادث التي يؤثر كلٌّ منها في الأُخريات ويتأثَّر بها، وترتبط فيما بينها برابطة السببية، وأصبح هدف العلم هو أن يكشف — بأساليب مُقنعة للعقل — عن الأسباب المتحكِّمة في الظواهر؛ من أجل السيطرة عليها عقليًّا بالفهم والتعليل، وعمليًّا بالتشكيل والتحوير، وكان لتقدُّم العلوم الرياضية واستخدامها في التعبير عن قوانين العالم الطبيعي دور كبير في دعم فكرة السببية في أول عهد العلم الحديث؛ أي في القرنين السادس عشر والسابع عشر،٢ إذ أصبح الاعتقاد سائدًا بأن حوادث الطبيعة المادية تَترابط فيما بينها برابطة لا تقلُّ ضرورة عن تلك التي تجمع بين طرفَي معادلة مثل ٢ + ٢ = ٤، فإذا كانت هناك نارٌ «فمن الضروري» أن تكون هناك حرارة، مثلما أنه إذا كان هناك مثلَّث «فمن الضروري» أن يكون مجموع زواياه قائمتَين. وهكذا كان العلم المزدهر في ذلك العصر هو الفيزياء الميكانيكية، التي هي أكمل تعبير عن فكرة الترابط السبَبي بين ظواهر الطبيع؛ إذ إن العالم يُعدُّ عندئذ آلة ضخمة، تترابَط أجزاؤها بقانون الفعل وردِّ الفعل، وتَنتقِل الحركة من جزء إلى آخَر وإن ظلَّ المجموع الكلي للحركة في الكون واحدًا، ويُصبح القانون المسيطر على كل شيء والذي يتوقف عليه مصير العلم هو قانون السببية. على أن العلماء كانوا يَستخدمون فكرة السببية دون تحليل، فلم يُفكِّر أحد منهم في إيضاح معنى «السبب» وطبيعة العلاقة التي تَربط بين السبب وما ينتج عنه، وكان الاهتمام الكبير الذي أبدى بفكرة السببية في مطلع العصر الحديث — نتيجةً لسيطرة النظرة الميكانيكية إلى العالم — هو الذي دعا أحد فلاسفة هذا العصر — وهو «ديفد هيوم» David Hume — إلى القيام بتحليل فلسفي لمفهوم السبَبية، انتهى منه إلى نتيجة كانت لها من الناحية السببية أصداء عميقة؛ فقد انطلق هيوم من المفهوم الذي أوضَحناه من قبل، والذي كان سائدًا في العلم الميكانيكي؛ أي في أهم علوم عصره، وأعني به أن العلاقة بين السبب والنتيجة فيها من الضرورة بقدرِ ما في العلاقة بين المثلَّث ومجموع زواياه، وتبيَّن له — من خلال تحليله الفلسفي — أن المسألة في حقيقتها على خلاف ذلك؛ فمن المستحيل أن تكون هناك ضرورة حتمية بين الحوادث الطبيعية ونتائجها؛ أي بين ارتفاع نسبة الرطوبة وسقوط المطر مثلًا. صحيح أننا نقول: إنَّ الأول سبب الثاني، ولكن هل يعني ذلك أن هناك قوة خفية في الحادث الأول تؤدي إلى وقوع الحادث الثاني؟ وهل تقوم الرطوبة بإسقاط المطر، مثلما نقوم نحن — بجهدنا البشري — بصنع أشياء؟ الواقع أن الأسباب الموجودة في الطبيعة لا تتضمَّن أية قوى تنتج شيئًا، ولا توجد أية ضرورة تُحتِّم سقوط المطر بعد ارتفاع نسبة الرطوبة، وكل ما في الأمر أننا «اعتدنا» أن نرى الظاهرتين تتعاقبان، فنشأ عن هذا التعاقُب المتكرِّر ميل ذهني لدينا إلى الربط بينهما؛ بحيث إننا كلما رأينا الظاهرة الأولى توقَّعنا الثانية؛ فالخبرة والتجربة البشرية تكشف لنا عن أن الطبيعة لا تتضمَّن إلا أحداثًا متعاقبة، ونحن الذين نربط بين هذه الحوادث المتعاقبة نتيجة التعود، بحيث يكون أصل الضرورة في عقولنا نحن التي يدفعها التعود إلى توقع شيء بعد شيء آخر. أما الطبيعة ذاتها فلا تتضمَّن حوادثها أي ارتباط ضروري من ذلك الذي نجده في الرياضيات.

وهكذا اعتقد «ديفيد هيوم» أن الأساس الأول للعلم — وهو فكرة السبَبية — بات مُزعزِعًا نتيجة هذا التحليل الذي قام به، ولكن حقيقة الأمر هي أنَّ هذا التحليل لا يمتد تأثيره إلا إلى ميدان التفكير الفلسفي فحسب، أما الممارسات العلمية فلا تتأثَّر به؛ ذلك لأن العالم يستطيع أن يمضي في طريقه دون أن يغير اتجاهه، سواء أكان معنى السببية هو الارتباط الضروري، أم كان معناها مجرد التعاقب؛ لأن هذه مسائل تتعلَّق بالجذور الفلسفية للمفاهيم العلمية، وما يهمُّ العالم هو استخدام المفهوم على ما هو عليه، أما استخلاص معانيه وأسسه وجذوره، فتلك مهمَّة الفيلسوف وحده.

لذلك فإن العلم — عندما عدَّل المفهوم التقليدي للسببية فيما بعد — لم يَفعل ذلك لأسباب فلسفية، أو نتيجة لنقد من النوع الذي قال به هيوم، وإنما قام بهذا التعديل لأسباب علمية خالصة؛ فقد تبيَّن له أن هناك ظواهر كثيرة تبلغ من التعقيد حدًّا يستحيل معه أن نجد لها سببًا واحدًا، وإنما تشترك فيها مجموعة من العوامل، لكلٍّ منها دور في أحداث الظاهرة، فإذا كنا مثلًا بصدد تعليل ظاهرة الإجرام كان في إمكاننا أن نجد مجموعة كبيرة من العوامل التي تؤدِّي إلى هذه الظاهرة، فلو أخذنا مجموعة كبيرة من المجرمين؛ لوجدنا أن منهم من ارتكب جريمته لأسباب اجتماعية اقتصادية كالفَقر، ومنهم من ارتكبها لأسباب متعلقة بالقيم كالمحافظة على الشرف أو الأخذ بالثأر، أو لأسباب عضوية وراثية كوجود اختلال معين في العدد أو في التركيب العقلي، أو لأسباب متعلِّقة بالبيئة والتربية وهلم جرًّا. كلٌّ من هذه العوامل له دوره في ظاهرة الجريمة، فهل يُفيدنا أن نلجأ إلى فكرة السببية بمعناها المعتاد في هذه الحالة؟ من الواضح أن الظاهرة تبلغ من التعقيد حدًّا لا نستطيع معه أن نَنسبها إلى سبب معيَّن؛ ولذلك نلجأ إلى فكرة الارتباط الإحصائي لكي نبيِّن النسبة التي يسهم بها كل عامل من العوامل السابقة في إحداث هذه الظاهرة، فنقول: إنَّ نسبة (أو معامل) ارتباط العوامل الوراثية بارتكاب الجرائم هي كذا … ومن مزايا هذه الطريقة أنها تُمكِّننا من تحليل الظواهر شديدة التعقيد، وخاصةً تلك التي تَحدُث في مجال العلوم الإنسانية، حيث تتعدَّد عوامل الظاهرة الواحدة وتَتشابك على نحوٍ يستحيل فيه استخدام علاقة السببية المباشرة، كما أن من مزاياها أنها تُتيح المقارنة — بطريقة رقمية دقيقة — بين هذه العوامل، بحيث نَستخلِص مثلًا أن العوامل المُكتَسَبة أقوى تأثيرًا في ظاهرة الإجرام من العوامل الوراثية … إلخ.

والمهم أن العلم في الوقت الحالي يبحث عن بدائل لفكرة السببية — بمفهومها التقليدي — في المجالات التي لا يتَّسع فيها هذا المفهوم للتعبير عن العلاقات بين الظواهر تعبيرًا دقيقًا، ولكن من المهم أن نَذكر على الدوام أن هذا لا يعني «إلغاء» فكرة السببية، بل يعني «توسيعها»؛ ففي المجالات التي تكون العلاقات فيها مباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه — كالعلاقة بين جرثومة معيَّنة ومرض معين — تظلُّ فكرة السببية مستخدَمة، وتظلُّ لها فائدتها الكبرى في العلم، والتطور الذي حدث في هذا الصدد مُشابه للتطور الذي يحدث في النظريات العلمية ذاتها في أحيان كثيرة؛ حيث لا يؤدي ظهور النظرية الجديدة إلى إلغاء القديمة، بل يُوسِّع نطاق تطبيقها ويمتدُّ بها إلى مجالات لم تكن النظرية القديمة قادرةً على استيعابها. ومن المؤكَّد أن التوسيع المستمر لنطاق البحث العلمي، والكشف الدائم عن مجالات جديدة أو عن أبعادٍ جديدة للمجالات المعروفة من قبل، يجعل فكرة السببية — بمعنى العلاقة المباشرة بين عامل وعامل آخر ناتج عنه — غير كافية للتعبير عن كلِّ متطلبات العلم، وإن ظلَّ لها دورها في مجالات محددة.

(٤) الشمولية واليقين

المعرفة العلمية معرفة شاملة، بمعنى أنها تَسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم، ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية، وحتى لو كانت هذه المعرفة تبدأ من التَّجربة اليومية المألوفة، مثل سقوط جسم ثقيل على الأرض، فإنها لا تكتفي بتقرير هذه الواقعة على النحو الذي نُشاهدها عليه، وإنما تعرضها من خلال مفاهيم ذات طابع أعم، مثل فكرة الجاذبية والكتلة والسرعة والزمن … إلخ، بحيث لا تعود القضية العِلمية تتحدَّث عن سقوط هذا الجسم بالذات، أو حتى عن مجموعة الأجسام المُماثلة له، بل عن سقوط الجسم عمومًا، وبذلك تتحوَّل التجربة الفردية الخاصة — على يد العلم — إلى قضية عامة أو قانون شامل، على أن شمولية العلم لا تَسري على الظواهر التي يبحثها فحسب، بل على العقول التي تتلقَّى العلم أيضًا؛ فالحقيقة تفرض نفسها على الجميع بمجرد ظهورها، ولا يعود فيها مجال للخلاف بين فرد وآخر؛ أي إنَّ العلم شامل بمعنى أن قضاياه تَنطبِق على جميع الظواهر التي يبحثها، وبمعنى أنَّ هذه القضية تَصدُق في نظر أي عقل يلم بها.

وهنا يظهر الاختلاف واضحًا بين العمل العلمي والعمل الفني أو الشعري؛ ذلك لأن الموضوع الذي يتناوله هذا العمل الأخير هو بطبيعته موضوع فردي، وحتى لو كان يتناول قضية عامة — مثل أزمة الإنسان — فإنَّ الفنان أو الشاعر يُعالج هذه القضية العامة من خلال شخصية فردية ومواقف محسوسة وملموسة. ومن ناحية أخرى فإن العمل الفني يظلُّ على الدوام مرتبطًا بصاحبه وبالأصل الذي نشأ منه ارتباطًا عضويًّا، بحيث لا يُفهم أحدهما فهمًا تامًّا بدون الآخر. وهكذا يتعرف الخبير في الموسيقى أو الشِّعر على مؤلف القطعة الموسيقية أو القصيدة الشعرية من خلال إنتاجه ذاته، وكلٌّ من العمل وصاحبه يُحيلنا على الدوام إلى الآخر. أما العمل العلمي فلا يوجد ارتباط عضوي بينه وبين جميع العوامل والظروف الشخصية المتعلِّقة بكيفية نشأته والشخص الذي ظهر على يدَيه … إلخ. ومن هنا كانت الحقيقة العلمية «لا شخصية impersonal» على عكس العمل الفني، وكان صدق هذه الحقيقة غير متوقِّف على ظروف المكان والزمان الذي تنشأ فيه إلا من حيث تعبيرها عن مستوى العلم في مرحلة معيَّنة من تطوره فحسب. أما العمل الفني فإن الظروف الفردية والشخصية لمُبدع هذا العمل تقوم فيه بدور يستحيل تجاهله إذا شئنا أن نفهم هذا العمل ونتذوَّقه من جميع جوانبه.
وعلى ذلك فإنَّ الحقيقة العلمية قابلة لأن تُنقل إلى كل الناس الذين تتوافَر لديهم القدرة العقلية على فهمها والاقتناع بها، أي إنها حقيقة عامة أو مَشَاع public تُصبح بمجرد ظهورها مِلْكًا للجميع، مُتجاوِزةً بذلك النطاق الفردي لمُكتشفِها والظروف الشخصية التي ظهَرت فيها، وهذه الصفة هي التي تجعل الحقيقة العِلمية «يقينية».
والواقع أن «اليقين» في العلم مرتبط ارتباطًا وثيقًا بطابع «الشمول» الذي قلنا: إن القضايا العلمية تتَّسم به؛ إذ إنَّ كل عقل لا بد أن يكون «على يقين» من تلك الحقيقة التي تَفرض نفسها عليه بأدلة وبراهين لا يُمكن تفنيدها. على أن كلمة «اليقين» ذاتها — بقدر ما تبدو واضحة للوهلة الأولى — يمكن أن تُستخدم في الواقع بمعنيَين مُتضادَّين، ينبغي أن نميِّز بينهما بوضوح حتى تتبيَّن لنا طبيعة اليقين العلمي:
  • (أ)

    فهناك نوع من اليقين نستطيع أن نُطلق عليه اسم «اليقين الذاتي»، وهو الشعور الداخلي لدى الفرد بأنه مُتأكِّد من شيء ما، هذا النوع من اليقين كثيرًا ما يكون مُضلِّلًا؛ إذ إن شعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيًّا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية. وإنَّا لنلاحظ في تجربتنا العادية أن أكثر الناس «يقينًا» هم عادة أكثرهم جهلًا؛ فالشخص محدود الثقافة «مُوقن» بصحة الخبر الذي يقرؤه في الجريدة، وبصحَّة الإشاعة التي سمعها من صديقه، وبصحَّة الخرافة التي كانت تُردَّد له في طفولته، وهو لا يقبل أيَّة مناقشة في هذه الموضوعات؛ لأنها في نظره واضحة يقينية، وكلما ازداد نصيب المرء من العلم تضاءل مجال الأمور التي يتحدَّث فيها «عن يقين»، وازداد استخدامه لألفاظ مثل «من المُحتمَل» و«من المرجَّح» و«أغلب الظن» … إلخ. بل إننا نجد بعض العلماء يُسرفون في استخدام هذه التعبيرات الأخيرة في كتاباتهم إلى حدٍّ لا نكاد نجد معه تعبيرًا جازمًا أو يقينيًّا واحدًا في كل ما يكتبون؛ إذ ممارستهم الطويلة للعمل العلمي، وإدراكهم أن الحقائق العلمية في تغيُّر مستمر، وأنَّ ما كان بالأمس أمرًا مؤكدًا قد أصبح أمرًا مشكوكًا فيه، وقد يُصبح غدًا أمرًا باطلًا؛ كل ذلك يدفعهم إلى الحذر من استخدام اللغة القاطعة التي تُعبِّر عن يقين نهائي.

    أما في أساليب التفكير العادية فإنَّ اليقين يعتمد — كما قلنا — على الشعور الداخلي للشخص نفسه بأنه واثق من شيء معيَّن، وهذه الثقة قد تكون ناتجة عن أن الفكرة التي يردِّدها تخدم مصالحه؛ فإذا سمع الموظف إشاعة تقول إنَّ الحكومة ستصرف علاوة للموظَّفين، ردَّدها للآخرين باعتبارها خبرًا «يقينيًّا». أو قد تكون الثقة ناتجةً عن عدم الاطلاع على وجهة النظر المضادة، فيؤكد الفرد شيئًا بصفة قاطعة؛ لأنَّ الفرصة لم تُتَحْ له كيما يَعرف الرأي المخالف في الموضوع، وهذا أمر شائع في كثير من المناقشات السياسية، وخاصةً في البلاد غير الديمقراطية؛ حيث يَعرف المرء وجهة نظر حزبه أو بلاده ولا تُتاح له معرفة أية وجهة نظر أخرى. كما أن هذا العامل قد يكون سببًا في «يقين» من ينتمي إلى أي طائفة دينية بأن طائفته وحدها على حق، وكل الطوائف الأخرى على خطأ.

  • (ب)

    على أن العلم لا يمكن أن يرتكز على هذا النوع من اليقين النفسي الذي يَختلف من فرد لآخر، والذي تتحكم فيه الظروف والمصالح والعوامل الذاتية، وإنما يكون اليقين فيه «موضوعيًّا»، بمعنى أنه يَرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل، ولا بدَّ للوصول إلى هذا اليقين الموضوعي من هدم كل أنواع اليقين الذاتية الأخرى، فلا بد أن يُزعزِع العالم — كخطوة أولى في بحثه — ما رسخ في عقول الناس من أوهام وتحيُّزات عملت على تثبيتها عوامل غير موضوعية. وكثيرًا ما كانت نقطة البداية المؤدية إلى كشفٍ علمي هام هي التشكيك في يقين راسخ حتى عند العلماء أنفسهم، كما هي الحال عندما شكَّك بعض علماء الهندسة في المصادرة القائلة أن الخطين المتوازيين لا يلتقيان، ثم توصلوا من ذلك إلى هندسة جديدة هي الهندسة «اللاإقليدية» التي ترتكز عليها النظريات الحالية في الفيزياء. كذلك يؤدي أي كشف علمي هام إلى زعزعة اليقين الذي كان متوطِّدًا من قبل في عقول البشر دون أن يفكر أحد في المساس به؛ أي إلى حلول يقين علمي موضوعي محلَّ يقين ذاتي، كما حدث عند ظهور نظرية كبرنيكوس التي هَدمت الاعتقاد «اليقين» القديم بأن الأرض ثابتة وبأنها هي مركز الكون.

    ولكن إذا كان اليقين العلمي يعتمد على براهين وأدلة منطقية، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنه يقين ثابت أو نهائي. فالعلم لا يَعترِف بشيء اسمه الحقائق النهائية التي تَسري على كل زمان ومكان، بل يعمل حسابًا للتغيُّر والتطور المستمر. أي إن اعتماد العلم على أدلة مقنعة للعقل بصورة قاطعة لا يعني أن الحقائق تعلو على التغيُّر، بل إن المقصود من ذلك أن البرهان العلمي يُقنع كل من يستطيع فهم هذا البرهان في ضوء حالة العلم في عصر معيَّن. أما أن تتحوَّل القضية العلمية إلى حقيقة تَفرض نفسها على الناس في جميع العصور، فهو شيء يتنافى مع طبيعة العلم ذاتها.

(٥) الدقة والتجويد

في حياتنا المعتادة نستخدم في أحيان كثيرة عبارات تتَّسم بالغموض وتبتعد عن الدقة، كأن يقول شخص: «قلبي يُحدِّثني بأنه سيحدث كذا …» وأمثال هذه التعبيرات ليست مرفوضة في الأحاديث اليومية المألوفة، بل إنها قد تؤدِّي فيها وظيفة عامة، هي الإيحاء بشيء معين دون تحديد دقيق له، أما في العلم فمن غير المقبول أن تُتْرَكَ عبارة واحدة دون تحديد دقيق، أو تُسْتَخدم قضية يَشوبُها الغموض أو الالتباس، بل إنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يجزم بشيء ما على نحوٍ قاطع، وإنما يظلُّ هذا الشيء «احتماليًّا» في ضوء أحدث معرفة وصَل إليها العلم. حتى في هذه الحالات يُعتبَر العلم عن هذا «الاحتمال» بدقة؛ أي بنسبة رياضية محدَّدة، وبذلك فإنه يُحدِّد بدقة درجة عدم الدقة، إذا جاز لنا أن نستخدم تعبيرًا فيه مثل هذه المفارقة. والوسيلة التي يلجأ إليها العلم من أجل تحقيق صفة الدقة هذه هي استخدام لغة الرياضيات. وبالفعل يتبيَّن لنا من دراسة تطور العلم أنه كلما انتقل إلى مرحلة أدق، أصبح من المحتَّم عليه أن يستخدم الصيغ الرياضية على نطاق أوسع. وبالعكس تظلُّ العلوم غير دقيقة ما دامت تُعبِّر عن قضاياها باللغة المادية، ومن هنا كنا نجد بعض مؤرِّخي العلم يُفرِّقون في تاريخ أي علم بين مرحلتين؛ المرحلة قبل العلمية pre-scientific التي يُستخدم فيها لغة الحديث المعتادة. والمرحلة العلمية scientific التي يتوصل فيها إلى استخدام اللغة والأساليب الرياضية. والمثل الواضح على ذلك علم الطبيعة؛ فمنذ العصور القديمة كانت هناك محاولات لدراسة الطبيعة على أسس علمية، ولكن كان يعيب هذه المحاولات اعتمادها على لغة «كيفية»؛ أي على الكلام عن الظواهر الطبيعية من خلال صفاتها التي تبدو للحواس المعتادة كالحار والبارد والثقيل والخفيف، أو من خلال الصفات التي يَنسبها إليها العقل الفلسفي كالمادة والصورة والقوة والفعل، وخلال ذلك كله لم يكن هناك علم طبيعي بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، ولم يبدأ ظهور هذا العلم إلا على أيدي أقطاب الفيزياء في أوائل العصر الحديث وعلى رأسهم جاليليو؛ إذ استطاع هؤلاء الأقطاب أن يُطبِّقوا الرياضيات على البحث الطبيعي، ويُطبِّقوا لغة الكم في التعبير عن الظواهر الطبيعية. وبالمثل ظلت الكيمياء تَستخدم اللغة الكيفية طويلًا، وتجمعت لديها خلال ذلك كمية لا بأس بها من المعلومات، وخاصةً في الوقت الذي كان فيه الكيمائيون القدامى يبحثون بلا جدوى عن وسائل تحويل المعادن الرخيصة (كالنحاس) إلى ذهب، فخلال فترة «الهوس» الطويلة هذه عُرِفَت أشياء كثيرة عن خواص الأجسام وتفاعلاتها، ولكن هذه المعرفة كانت خبرات متوارثة أو تجارب عشوائية ولم تكن علمًا؛ لأنها لم تكن تستخدم إلا لغة الكيف، ولم تبدأ الكيمياء دخول المرحلة العلمية إلا في القرن الثامن عشر عندما طُبِّقَت فيها المناهج الكمية، واستُخْدِمَت في التعبير عن حقائقها النسب والمعادلات الرياضية.

أما في مجال العلوم الإنسانية، فيمكن القول أن النزاع لم يُبَت فيه بعدُ بين أنصار التعبير الكيفي والتعبير الكمي عن الظواهر البشرية؛ إذ لا تزال توجد حتى يومِنا هذا مدارس تؤكِّد أن الظاهرة الإنسانية مختلفة — من حيث المبدأ — عن الظاهرة الطبيعية؛ ومن ثم فإن أساليب التعبير عن الثانية لا تَصلُح للأولى، وإنما يجب أن نحتفظ للإنسان بمكانته الخاصة، ونعترف بطبيعته شديدة التعقيد، فلا نفرِّق في تبسيطها باستخدام لغة الرياضيات، وفضلًا عن ذلك فإن الإنسان كائن فريد، وأهم ما في أي فرد هو العناصر التي يختلف فيها عن الآخرين، لا تلك التي يَشترِك فيها معهم. ومن هنا كان استخدام لغة الرياضيات يعني إزالة أهم مميِّزات الإنسان، واستبقاء أقل الأشياء أهمية، أعني تلك العناصر المشتركة التي تقبل التعبير عنها بلغة عددية، وفي مقابل ذلك يؤكد غيرهم أن مسار المنهج العلمي ينبغي أن يكون واحدًا في جميع المجالات، وأن الدراسة الفردية للإنسان تعود بنا إلى عهد التعبير الفلسفي أو الفني أو الشِّعري عن مشاكله، على حين أننا إذا أردنا أن ننتقل إلى المرحلة العلمية في دراسة الإنسان فلا بدَّ أن نتبع نفس الأساليب التي اتُّبِعَت بنجاح في بقية العلوم، مع عمل حساب الفوارق المميزة بين موضوع الدراسة الإنسانية وموضوع الدراسة الطبيعية. ويُمكن القول أن هذا الرأي هو الذي ترجح كفته حاليًّا في ميدان العلوم الإنسانية، وإن كانت هناك مدارس لا يمكن تجاهلها ما زالت مُتمسِّكة بالرأي الأول.

والرياضة بطبيعتها علم مجرد؛ أي إنه لا يتحدث عن أشياء ملموسة، فحين نقول: إنَّ ٣ + ٢ = ٥ يكون المقصود من هذا أية ثلاثة أشياء محددة، وإنما المقصود هو العلاقة المجرَّدة بين حدود معيَّنة، بغضِّ النظر تمامًا عما إذا كانت هذه الأرقام تُعبِّر عن بشر أو فاكهة أو كتب … إلخ. وتلك حقيقة يعرفها تلميذ المدرسة الابتدائية، الذي نُعوِّده التجريد منذ مرحلة مبكِّرة من عمره، بعد أن يكون قد بدأ يُلِم بحقائق الحساب البسيطة في بداية مرحلته التعليمية بصورة ملموسة، عندما نقدم إليه فكرة الجمع والطرح عن طريق «البلي الملون» الذي نجمعه أو نطرحه على أسلاك حديدية. ففترة التعليم من خلال أمثلة ملموسة كهذه لا تستمر طويلًا، وسرعان ما يصبح من الضروري أن نعوِّده كيف يتعامل مع الرقم «ثلاثة» ناسيًا أنه يعبر عن ثلاث بليات أو ثلاث برتقالات، وعندما ينتقل إلى المرحلة التعليمية التالية، نعوِّده على مزيد من التجريد حين نقدم إليه حقائق الرياضة في صورة رمزية جبرية، فيعرف أن المعادلة س + ص = ص + س تظل صحيحة مهما كانت القيم العددية للحرفين س وص، أي إن التجريد هنا أصبح يسري على الأرقام ذاتها.

ومن هنا كان التجريد صفةً ملازمة للعلم: سواء تمَّ ذلك التجريد عن طريق الرياضة (وهو الأغلب) أو عن طريق أي نوع آخر من الرموز أو الأشكال، فحين يتحدَّث عالم الفلك مثلًا عن المدار البيضاوي لكوكب معيَّن، لا يعني بذلك أن هذا الكوكب يَرسُم وراءه مدارًا محددًا في السماء، وإنما يعني ذلك الخط الذي نتصور — بناءً على تتبُّع حركة الكواكب — أنه يسير فيه. وحين يتحدَّث عالم الجغرافيا عن خط الاستواء أو خط جرينتش لا يقصد خطًّا عرضيًّا أو طوليًّا مرسومًا على صفحة الكرة الأرضية، بل يقصد خطًّا تخيُّليًّا نرمز به إلى الأماكن والمواقع على سطح هذه الأرض، وهذه الخطوط ومعها مختلف الرموز التي نستخدمها في العلم هي عالَم مُصطنَع يَخلقه العالِم، ولا وجود له في الطبيعة، بل إن وجوده ذهني فحسب.

هذا العالَم المُصطنَع الذي نستحدثه في أبحاثنا العلمية وتلك التجريدات العقلية التي نفهم من خلالها الظواهر الطبيعية، تُباعد بيننا وبين عالم التجربة اليومية بالتدريج، ولو تتبَّعنا مسار العلم لوجَدْنا أن نصيب هذه التجربة المألوفة يتضاءل فيه على الدوام، على حين يَزداد العلم إيغالًا في عالم الرموز والتجريدات الذي خلَقَه بنفسه، ويُصبح القدر الأكبر من التعامل الذي يقوم به العالم هو تعامُلُه مع تلك الكيانات الفعلية التي استحدَثها لكي يَفهم بواسطتها الظواهر. ومِن هنا كان ذلك الاتهام الذي وجَّهه البعض إلى العلم بأنه يَفصلنا عن منابع الحياة العينية الملموسة، ويُقيم عالِمًا مصطنعًا أشبه بالهيكل العَظمي الذي خلا من اللحم والدم والحيوية، ويكتفي بالعلاقات المجرَّدة بين الظواهر، وهي دائمًا علاقات خارجية لا تنفذ أبدًا إلى صميم الواقع، ولسنا في حاجة إلى مناقشة هذا الاتهام ما دُمنا قد ردَدنا عليه في موضِع آخر،٣ ولكن الأمر الذي نودُّ أن نوجِّه إليه نظر القارئ هو أن تطور العلم نحو التجريد كان أمرًا تُحتِّمه مصلحة العلم ذاته، وبالتالي يحتمه تقدم المعرفة وتقدم الإنسان؛ فاستخدام الرموز الرياضية ولغة الكم يساعد — كما قلنا — على التعبير عن حقائق العلم بمزيد من الدقة؛ إذ إن الفرق هائل — من حيث الدقة — بين قولنا: إن الحديد ساخن كما — كان يقول القدماء بمن فيهم من العلماء حتى أوائل العصر الحديث — وبين قولنا: إن درجة حرارة الحديد ٣٥٠ درجة مئوية مثلًا. وفضلًا عن ذلك فإن هذا التحديد الكمي يسمح بالمقارنة بين الظواهر؛ إذ تتحول الألوان مثلًا من صفاتٍ كيفية إلى أرقام تُعبِّر عن موجات ضوئية معيَّنة، فيسهل المقارنة بينها، على حين أن النظرية الكيفية تُقيم بين كل لون وآخر حواجز لا يُمكن عبورها، وأخيرًا فإن التعبير الكمي يُتيح لنا أن نتخطى النطاق المحدد للحواس البشرية أو لقُدراتنا بوجه عام. فهناك أصوات أعلى وأصوات أكثر انخفاضًا مما تستطيع الأذن البشرية سماعه، وهذه الأصوات يمكن تحديد ذبذباتها كميًّا، وإن لم يكن من الممكن التعبير عنها باللغة الكيفية المألوفة، كذلك فإن درجات الحرارة التي يتسنَّى لنا تحمُّلها هي درجات محدودة، وإذا ارتفعت الحرارة عن درجة معينة (ولتكن ٥٠ مئوية مثلًا) قلنا عن الجسم: إنه ساخن، ولأننا لا نستطيع أن نلمسه فإن الساخن بدرجة ٦٠ لا يختلف — في ضوء النظرة الكيفية — عن الساخن بدرجة ٦٠٠، ولكن التحديد الكمي والرياضي هو الذي يمكنا — مع الاستعانة بأجهزة القياس المرتبطة به — من تحديد الدرجات التي تعجز الحواس البشرية عن التعبير عنها، كما يُعبِّر عن الفوارق الجزئية الضئيلة التي لا تستطيع حواسنا العادية تمييزها.

ولنَذكُر أخيرًا — في صدد صفة التجريد هذه — أن هذه الصفة — التي يبدو أنها تُباعد بين العلم وبين الحي الملموس — هي التي تُكسب الإنسان مزيدًا من السيطرة على هذا الواقع، وتُتيح له فهمًا أفضل لقوانينه؛ فالعلم المعاصر الذي تبدو كتبُه وأبحاثه كما لو كانت تعيش متقوقعة في عالمها الخاص المليء بالرموز والمعادلات والأشكال الهندسية. هذا العلم هو الذي يتمكَّن — عن طريق هذه الرموز المجرَّدة ذاتها — من أن يقدم إلينا في كل يوم كشفًا واختراعًا جديدًا يجعلنا نُسَيطر على نحو أفضل على ظروف معيشتنا، ويرفع مستوى حياتنا اليومية ذاتها بلا انقطاع، وتلك هي الصفة الفريدة حقًّا في العلم؛ أن طريقتَه في السيطرة على العالم الملموس والتغلغل فيه هي أن يبتعد عنه ويُجرِّده من صفاته العَينية المألوفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤