الفصل الثاني

عقبات في طريق التفكير العلمي

العلم ظاهرة متأخِّرة في تاريخ البشرية، وسواء أكنا من القائلين بأن العلم — بمعناه الصحيح — ظهر منذ أربعة قرون في عصر النهضة الأوروبية، أو بأنه يَرجع إلى العصر اليوناني القديم حين اهتدى الإنسان — لأول مرة — إلى منهج البرهان النظري والمنطقي على قضاياه، أو حتى إلى الحضارات الشرقية الأقدم عهدًا التي تركت لنا تراثًا يدلُّ على وجود معارف متراكمة لديها تَستحق اسم العلم. أقول: إننا سواء أكنا من القائلين بهذا الرأي أو ذاك، فلا بد لنا من الاعتراف بأن البشرية عاشت قبل ذلك عشرات الألوف من السنين دون أن يتكشَّف نشاطها عن تلك الظاهرة التي نُطلِق عليها اسم العلم، ولو كنا ممن يتقيَّدون بالمعنى الدقيق لكلمة العلم، ويَشترِطون لكي تكون المعرفة علمًا أن تكون قد اكتسبت مناهج مُنضبطة تجمع بين الملاحظة الدقيقة والفرض العقلي والتجريب التطبيقي، وتصطنع الرياضة لغةً للتعبير عن قوانينها؛ لوجب علينا عندئذ أن نُشبِّه البشرية بإنسان عاش سبعين سنة من عمره أُميًّا، ولم يتعلم القراءة والكتابة إلا في اليومين الأخيرَين من حياته!

بل إننا نستطيع أن نقول إنَّ البشرية — منظورًا إليها ككُل — ما زالت بعيدة عن اكتساب جميع سمات التفكير العلمي، وما زال هذا التفكير يَقتصِر فيها على مجتمعات معيَّنة، وحتى في هذه المجتمعات يتعرَّض العلم لتشويهات عديدة قد تظهر حتى بين المتخصِّصين فيه.

فهل يعني ذلك أن العقل الإنساني ظلَّ خلال هذا التاريخ الطويل خاملًا؟ من المؤكد أن الوعي والتفكير العقلي والنشاط الرُّوحي لم تتوقف لحظة واحدة طوال تاريخ الإنسان، بل إنها تكاد تكون مُرادِفة لهذا التاريخ؛ فمنذ أبعد العصور أنتج الإنسان فنونًا كان بعضها رفيعًا، كما أنتج أشعارًا وحكمًا، وعرَف العقائد والشرائع وكوَّن لنفسه نظمًا اجتماعية وأخلاقية، أي إنَّ عقله يعمل بلا انقطاع، فلماذا إذن لم يُنتِج العلمَ إلا في وقتٍ متأخِّر؟

لقد آثر الإنسان — طوال الجزء الأكبر من تاريخه — ألا يُواجِه الواقع مواجهة مباشرة، وأن يستعيض عنه بأخيلتِه أو صوره الذاتية، وهذا أمر لا يَصعُب فهمه؛ إذ إن المواجهة المباشرة للواقع فيها صعوبة ومشقة، وتحتاج منه إلى بذل جهد كبير، وعليه أن يُروِّض ذاته على اطِّراح ميولها الخاصة جانبًا، وقبول الظواهر على ما هي عليه، ثم استخلاص القانون الكامن من وراء هذه الظواهر، وهو أمر يَقتضي مستوًى عاليًا من التجريد. وهكذا يُمكن القول: إنَّ اتجاه الإنسان نحو العلم يَنطوي على قدرٍ كبير من التضحية؛ التضحية بالراحة والهدوء والاستسلام للخيال السهل الطليق، كما ينطوي على عادات عقلية فيها قدرٌ كبير من الصرامة والقسوة على النفس. ولقد قال البعض: إنَّ العلم لم يبدأ إلا مع «الرياضة»، وأحسب أن هذه العبارة تغدو أبلغَ وأدقَّ في التعبير عن البداية الحقيقية للحلم لو فَهمنا لفظ «الرياضة» هذا، لا بمعنى أنه علم الأرقام والكم فحسب، بل أيضًا بالمعنى النفسي والأخلاقي؛ أي بمعنى رياضة «الروح أو النفس» على اتباع نهجٍ شاقٍّ من أجل فهم الظواهر بالعقل والمنطق الدقيق.

وبعبارة أخرى فإنَّ العلم يظهر منذ اللحظة التي يُقرِّر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما هو موجود بالفعل، لا كما يتمنى أن يكون، ومثل هذا القرار ليس عقليًّا فحسب، بل هو بالإضافة إلى ذلك — وربما «قبل» ذلك — قرار معنوي وأخلاقي، ولا بد للعقل البشري أن يكون قد تجاوَز مرحلة الطفولة — التي نُصوِّر فيها كل شيء وفقًا لأمانينا — إلى مرحلة النُّضج التي تُتيح لنا أن نعلو على الخلط بين الواقع والحلم أو الأمنية، وهذا مُستوى لا يصل إليه الإنسان إلا في مرحلة متأخِّرة من تطوُّره.

أما قبل هذه المرحلة فكان من الطبيعي أن يَستعيض الإنسان عن العلم بالحلم، دون أن يدري أنه يحلم. وكان من الطبيعي أن تظلَّ البشرية كلها — طوال ألوف عديدة من السنين وفي جميع أرجاء الأرض بلا استثناء — مبتعدةً عن رؤية الواقع وفهمه على ما هو عليه. وخلال هذه الفترة «الحالمة» كان الأدب والفن هما المظهر الرئيسي لنشاط الإنسان الرُّوحي. وفي الآداب والفنون يهتمُّ الإنسان بمشاعره الذاتية أكثر مما يهتم بالعالم المحيط به، وإذا اتجه إلى هذا العالم الخارجي فإنما يتَّجه إليه من خلال أحاسيسه الخاصة وميوله الذاتية، فلا يرى إلا مرآةً تَنعكِس عليها انفعالاته وعواطفه.

بل إننا نستطيع أن نقول إنَّ الفلسفة ذاتها — حين سارت في طريقها الخاص بوصفها نشاطًا عقليًّا خالصًا عند اليونانيين — كانت تهتمُّ باتساق بنائها الداخلي، وبتماسُك التركيب العقلي الذي يُكوِّنه الفيلسوف أكثر مما تهتمُّ بالعالم الواقعي، وهذه سِمة يُمكن استنتاجها بوضوح مما عرضناه من قَبل عن الصفات المميزة للعلم النظري (المختلط بالفلسفة) عند اليونانيين، وحين كانت الفلسفة تتحدَّث عن عالم الواقع كانت في معظم الأحيان تَصفه بأنه خداع، بل تَعُد الحواس خَدَّاعة؛ لأنها تختصُّ بإدراك عالم مادي من طبيعته ألا يكون موضوعًا لمعرفة صحيحة.

وهكذا ظلَّ الإنسان طويلًا يستعيض عن العلم بخيالاته وانفعالاته وحدسه وأفكاره المجردة، ولم يصطنع منهجًا يتيح له الاتصال المباشر بالواقع عن طريق الجمع بين العقل والتجربة إلا في مرحلة متأخِّرة من تاريخه، فلا بد إذن أن عقبات أساسية حالت دون تحقيق هذا الاتصال المباشر بين الإنسان والعالم عن طريق العلم، ولا بد أن الإنسان قد بذَل جهودًا كبيرة حتى استطاع أن يُسَيطِر على عقله؛ ومن ثم يُسَيطِر على العالم، ولا بد أن تاريخ النشاط الروحي والعقلي للإنسان كان تاريخًا للأخطاء والأوهام التي تغلَّب عليها الإنسان بمشقة بقدر ما كان تاريخًا لحقائق اكتُسبَت بالتدريج، فما هي هذه العقبات التي أخَّرت ظهور العلم، والتي لا تَزال تُشوِّه صورة المعرفة العِلمية حتى يومنا هذا عند فئات كثيرة من البشر؟

(١) الأسطورة والخرافة

ظلَّت الأسطورة تحتل المكان الذي يشغله العلم الآن طوال الجزء الأكبر من تاريخ البشرية.

وترجع أسباب انتشار الفكر الأسطوري إلى أنه كان يُقدِّم — في إطار بدائي — تفسيرًا مُتكاملًا للعالم؛ فالأساطير القديمة تُعبِّر عن نظرة الشعوب التي اعتنقتها إلى الحياة والطبيعة والعالم، وتُقدِّم تفسيرًا يتلاءم مع مستوى هذه الشعوب ويُرضيها إرضاءً تامًّا، وهي — فضلًا عن ذلك — تَجمع بين الطبيعة والإنسان في وحدة واحدة، يَزول فيها الحد الفاصل بين هذا وذاك، بحيث يبدو العالَم متلائمًا مع غايات الإنسان محقِّقًا لأمانيه، وهي — كما قلنا منذ قليل — سمة رئيسية من سمات الفكر غير الناضِج في عصور طفولة البشرية.

ومِن الصعب أن يضع المرء حدًّا فاصلًا دقيقًا بين الأسطورة والخرافة، ولكن لو شئنا الدقَّة لقُلنا: إنَّ التفكير الأسطوري هو تفكير العصور التي لم يكن العلم قد ظهر فيها بعد، أو لم يكن قد انتشَر إلى الحدِّ الذي يجعل منه قوة مؤثِّرة في الحياة وفي طريقة معرفة الإنسان للعالم؛ فالأسطورة — كما قلنا — كانت تقوم بوظيفة مماثلة لتلك التي أصبح يقوم بها العلم بعد ذلك، وكانت هي الوسيلة الطبيعية لتفسير الظواهر في العصر السابق على ظهور العلم، أما التفكير الخرافي فهو التفكير الذي يقوم على إنكار العلم ورفض مناهجِه، أو يلجأ — في عصر العلم — إلى أساليب سابقة على هذا العصر، وقد لا يكون هذا التحديد للفارق بين لفظَي: «الأسطوري» و«الخرافي» دقيقًا كل الدقة، ولكنه يفيد على أية حال في التمييز بين هذَين اللفظَين اللذين يختلطان — في كثير من الأحيان — في أذهان الناس. ونستطيع أن نُضيف إلى ذلك فارقًا آخر، هو أن الأسطورة غالبًا ما تكون تفسيرًا «متكاملًا» للعالم أو لمجموعة من ظواهره، على حين أن الخرافة «جزئية» تتعلَّق بظاهرة أو حادثة واحدة. ففي العصور البدائية والقديمة كانت الأسطورة تمثل نظامًا كاملًا في النظر إلى العالم والإنسان، وكان هذا النظام يتسم — في كثير من الأحيان — بالاتساق والتماسك الداخلي، أما الخرافات فتتعلَّق بالتفاصيل، وهي قد تكون مُتعارضة أو متناقضة فيما بينها؛ لأن أحدًا لا يُحاول أن يُوفِّق بين الخرافات المُختلفة ويُكوِّن منها نظامًا أو نسقًا مترابطًا، ومع ذلك فمن الواجب أن نَعترف بأن اللفظين يُستخدمان في أحيان كثيرة بمعنى واحد أو بمعنيَين متقاربين، وإن كانت الدقة العلمية توجب التمييز بينهما.

وأهمُّ مبدأ ترتكز عليه الأسطورة هو المبدأ الذي يُعْرَف باسم «حيوية الطبيعة» Animism، والمقصود بهذا المبدأ هو أن التفكير الأسطوري يقوم أساسًا على صبغ الظواهر الطبيعية غير الحية بصبغة الحياة؛ بحيث تَسلك هذه الظواهر كما لو كانت كائنات حية تُحسُّ وتَنفعل وتتعاطف أو تتنافر مع الإنسان. ولو فكرنا مليًّا في أية أسطورة فسوف نجدها تعتمد على هذا المبدأ اعتمادًا أساسيًّا؛ فأسطورة إيزيس وأوزوريس — التي كان المصريون القدماء يُفسِّرون بها فيضان النيل — هي إضفاء لطابع الحياة ولانفعالات الأحياء على ظاهرة طبيعية هي الفيَضان، وأسطورة خلق العالم على يد سلسلة الآلهة التي تبدأ من زيوس — عند اليونانيين — تقوم على هذا المبدأ نفسه؛ إذ يكون لكل جزء من الطبيعة إله خاص به، ويَسلُك هذا الإله سلوكًا مشابهًا لسلوك البشر، وقل مثل هذا عن أية أسطورة عند أي شعب قديم أو بدائي.

ولكي نُدرك مدى الاختلاف بين هذه النظرة الأسطورية إلى العالم وبين النظرة العلمية الحديثة، ينبغي أن نُشير إلى أن مطلب العلم — في الوقت الحاضر — هو المطلب المضاد؛ فعلى حين أن الأسطورة تُفسِّر غير الحي عن طريق الحي؛ فإن العلم يَسعى إلى تفسير الحي عن طريق غير الحي؛ أي إنَّ العلم يُحاول أن يجد لظواهر الحياة تفسيرًا من خلال عمليات فيزيائية وكيميائية، وقد يتفاوَتُ نصيبه في النجاح من مجالٍ إلى آخر، ولكن ما يُهمنا هو الهدف الذي يقف على النقيض من هدف التفسير الأسطوري للظواهر.

ولقد كان من الطبيعي أن يسود هذا النوع من التفسير الأسطوري في عصور طفولة البشرية؛ إذ إن أول ما يُتوقَّع من الإنسان حين يحاول أن يفهم العالم المحيط به هو أن يفهمه في ضوء الحالات التي يمرُّ بها هو ذاته؛ لأن المشاعر والانفعالات هي أمور نُحسُّ بها في أنفسنا مباشرة، ولا تحتاج إلى تعليم أو تدريب خاص، ومن هنا فقد كان طبيعيًّا أن يصبغ الإنسان — في أول عهده بالمعرفة — ظواهر الطبيعة بصبغة تلك الأحاسيس والخبرات التي يشعر بها في نفسه شعورًا مباشرًا، فيتصوَّرها كما لو كانت تنفعل وتفرح وتغضب وتُحبُّ وتَكره مثله. وهكذا علَّل البشر كسوف الشمس في إطار التفسير الأسطوري بأن الشمس غاضبة أو بأنها «مكسوفة» (كما تُغطِّي المرأة وجهها حين «تنكسف»)، وما زال لأمثال هذه التفسيرات وجودُه في مجتمعاتنا الشرقية حتى اليوم.

ومن الجدير بالذكر أن مبدأ «حيوية الطبيعة» — الذي قلنا إن الفكر الأسطوري كله يرتكز عليه — ظلَّ عقبة في طريق العلم في أوروبا ذاتها حتى القرن الثامن عشر على الأقل إن لم يكن بعد ذلك؛ فقد كانت ظاهرة الكهرباء تُعدُّ دليلًا على وجود مبدأ حيوي يتغلغَل في الأجسام غير الحية، كذلك كانت المغناطيسية تُعَدُّ مظهرًا لوجود الحياة في الطبيعة،١ بل إن بعض علماء أوروبا المشهورين ظلُّوا — حتى القرن الثامن عشر — يقولون بإمكان الاهتداء إلى ذكور وإناث في المعادن، وكان ذلك يَبعث في نفوسهم أملًا كبيرًا في أن يأتي اليوم الذي يُكتشَف فيه الذهب المذكَّر والذهب المؤنَّث، حتى يُمكن تحقيق «التكاثر» في هذا المعدن النفيس! بل إنَّ كفاح العالم الفرنسي الكبير «باستير» Pasteur ضد مبدأ التولُّد التلقائي generation spontanée وهو المبدأ الذي كان يَعتقد وفقًا له أن الكائنات الحية الدقيقة — كالديدان وغيرها — تتولَّد في بعض الأجسام الطبيعية «تلقائيًّا» دون أن تكون قد تولَّدت عن كائنات حية مماثلة. أقول: إنَّ هذا الكفاح المرير الذي خاضه «باستر» ضد أكبر علماء عصرِه يدلُّ على أن بقايا مبدأ «حيوية الطبيعة» ظلَّت راسخة في أذهان العلماء الأوروبيِّين حتى وقتٍ متأخِّر من القرن التاسع عشر، ولا يعني ذلك أن العلم الأوروبي كان متخلفًا أو متوقفًا عند مرحلة بدائية، بل إن هناك كشوفًا عظيمة كانت تتحقَّق منذ القرن السابع عشر، وكل ما تعنيه هو أن كشف الحقائق العلمية يتمُّ — في كثير من الأحيان — في إطارٍ تَكتنِفه كثير من عناصر الخطأ.
ولعلَّ من أوضح الأدلة على أن الفكر الأسطوري ظل محتفظًا بمكانته فترة أطول مما ينبغي: استمرار ذلك النوع من التعليل المُسمى بالتعليل «الغائي» Teleological للظواهر، أعني تفسير ظواهر الطبيعة من خلال «الغايات» التي تُحقِّقها هذه الظواهر للبشر، فنحن نتصور — مثلًا — أن الشمس تَطلُع كل صباح لكي تُدفئ أجسامنا، وأن القمر والنجوم تظهر كل مساء لكي تُنير أو تَهدي التائهين منا في الليل. ونحن نعتقد أن المطر ينزل لكي يروي الزرع، وأن رقبة الزرافة طويلة لكي تستطيع أن تصل إلى أوراق الأشجار الحالية وتتغذَّى بها. وهكذا نتصوَّر أن للحوادث الطبيعية أغراضًا وغايات، ونعتقد أن التفسير الحقيقي لهذه الحوادث إنما يَكمُن في تلك الأغراض والغايات.

وإذا كان مبدأ «حيوية الطبيعة» — أي وصْف الطبيعة بصفات الكائنات الحية ولا سيما الإنسان — هو — كما قلنا من قبل — المبدأ الأساسي الذي يقوم عليه الفكر الأسطوري، فمِن السهل أن نُدرك أن فكرة «الغائية» في تفسير الطبيعة إنما هي تطبيق مُباشر لهذا المبدأ أو امتداد له؛ ذلك لأن الغايات تقوم بدور أساسي في عالم الإنسان، وهي في هذا العالم تُؤدِّي وظيفة طبيعية لا يستطيع أحدٌ أن يَزعم بأنها تتعارض مع العلم؛ فالإنسان يوجِّه سلوكه بالفعل نحو غايات معيَّنة؛ أي إنه يستذكر دروسه لكي ينجح، ويطهو الطعام لكي يأكل، ويخرج إلى الشارع لكي يتنزَّه. ولو سألت هذا الشخص في الحالات السابقة: لماذا ذاكرت؟ أو لماذا خرجت … إلخ؟ لكان الجواب الطبيعي: لكي أفعل كذا. أي إن التعليل الطبيعي لتصرفاتنا — في هذه الحالات — يأتي عن طريق الإشارة إلى الغاية منها. ومن هنا كان للغائية دور أساسي في المجال البشري، وكان من المُمكن تحليل كثير من أفعال الإنسان عن طريق الغايات المقصودة منها.

ولكن الخطأ الذي وقع فيه المفكرون والعلماء أنفسهم أحيانًا — خلال عصور طويلة ماضية — هو أنهم نقلوا هذه الفكرة بحذافيرها من مجال الإنسان إلى مجال الطبيعة، وتصوَّروا أن الحوادث الطبيعية يُمكن تعليلها بغاياتها، قياسًا على ما يحدث في عالم الإنسان. وهكذا فإنك إذا سألتَ: لماذا يسقط المطر؟ كان رد أنصار التفكير الغائي هو: لكي يرويَ الزرع. وإذا سألت: لماذا يحدث الزلزال أو الفيضان؟ كان الرد: لكي يُعاقِب أناسًا ظالِمين. وهكذا يتصور هؤلاء أن مسلك الطبيعة مُماثل لمسالك الإنسان، فيقعون بذلك في شَرَك التفكير الأسطوري.

والواقع أن الطبيعة لا تعرف «غايات» بالمعنى الذي نفهم به نحن هذا اللفظ، بل إن حوادثها تَحكُمها الضرورة فحسب، ولا يحدث فيها شيء — كسقوط المطر أو وقوع فيضان … إلخ — إلا إذا توافرت الأسباب الطبيعية المؤدية إليه، وعندما تتوافر هذه الأسباب يكون حدوث الظاهرة أمرًا حتميًّا. أما الغايات فإننا نحن الذين نَخلقها، ونستغل من أجلها حوادث الطبيعة؛ فنحن قد وجدنا المطر بالفعل ثم اكتشفنا بالتجربة فائدته في ريِّ الزرع، فخلقنا هذه الغاية له، أما المطر ذاته فكان سيَسقُط سواء رَوينا به زرعنا أم لم نَروِه، وقِسْ على ذلك بقيَّة الحالات.

والدليل الواضح على إخفاق التعليل الغائي للظواهر الطبيعية، هو أن هذا التعليل كثيرًا ما يتخبَّط ويَتناقض؛ ففي الوقت الذي يَعتقِد فيه البعض أن المطر يسقط من أجل ريِّ زراعته، يرى البعض الآخر أنه يَسقُط لكَي يَروي ظمأه أو ظمأ ماشيته، ويرى غيرهم أنه يسقط لكي يصنع بِرْكة يستحم فيها، بينما يرى صاحب الكوخِ الهشِّ أن سقوط المطر نقمة عليه، وحتى الفيضان أو الزلزال — الذي يَبدو أنه لا يُمكن أن يفسر إلا بأنه نقمة — لا يُصيب الأشرار وحدهم، وإنما تضيع فيه أرواح بريئة كما تَضيع فيه أرواح آثمة، بل إن الأرواح البريئة — كما في حالة الأطفال والمسنِّين مثلًا — ربما كانت أكثر تعرُّضًا للضياع فيه من الأرواح الآثمة … هذا فضلًا عن أن حادثًا مؤلمًا كهذا لا يخلو من النفع لبعض الناس، كمتعهِّدي نقل الموتى مثلًا! وهكذا تتباين الغايات التي يُمكننا أن نَنسبها إلى الظاهرة الواحدة حسب مصالِحنا ووجهات نظرنا الخاصة، ويتَّضح لنا أن تفسير ظواهر الطبيعة على أساس غايات مُستمَدة من المجال البشري هو تفسير باطل لا يخلو من التخبُّط والتناقض؛ ولذا لم يكن من المستغرب أن يتخلى التفكير العلمي عن فكرة «الغائية» ويعدَّها امتدادًا للطريقة الأسطورية في فهم العالم، وإن يكن التفسير الغائي للظواهر أشدَّ خفاءً وأصعب تفنيدًا من التفسير الأسطوري المباشر.

وهكذا أصبحَ العلم يقتصر — في فهمه للظواهر الطبيعية — على الأسباب التي تؤدِّي إلى حدوث هذه الظواهر؛ أي على ما يُطلق عليه اسم «العلل أو الأسباب الفاعلة»، وهي الشروط الضرورية التي لا يَحدث الشيء إلا إذا توافَرَت، ولا بد إذا توافرت من أن يحدث الشيء. وهذا النوع من الأسباب يتعلَّق بالمقدمات التي تمهد لحدوث الظاهرة، والتي تسبقها في الزمان، أي إن الماضي هو الذي يتحكَّم في الحاضر في حالة الظواهر الطبيعية، أما في حالة الظواهر البشرية — التي يُمكن أن يكون للغايات وجود فيها — فإن «المستقبل» أيضًا، بالإضافة إلى الماضي، يمكن أن يكون سببًا للأحداث؛ فالإنسان لا يتصرَّف بناءً على سوابق ماضية فحسب، بل يتصرَّف أيضًا لأنه يُخطط لهدف أو لمشروع في المستقبل، ولكن هذه صفة يَنفرِد بها الإنسان ولا تعرفها الطبيعة، وربما كانت هي التي أعطت الإنسان مركزه الفريد في الكون.

على أنه إذا جاز لنا أن نقول إن الفكر الأسطوري — في مجمله — قد اختفى باختفاء العصر الذي كانت فيه الأسطورة تحلُّ محلَّ العِلم، فإن الفكر الخرافي ظل يعايش العلم فترة طويلة، وما زال يمارس تأثيره على عقول الناس حتى يومنا هذا. ولقد عاشت البشرية أمدًا طويلًا وهي حائرة بين الخرافة والعلم؛ لأنَّ الخط الفاصل بينهما لم يكن في البداية واضحًا كما هو اليوم، وخلال هذه الفترة كانت الأمور مختلطة ومتداخلة، وكان كثير من العلماء يجمعون بين عناصر من الخرافة وعناصر من البحث العلمي في مركب واحد لا يَشعُرون بأنه يَنطوي على أي تنافر.

ولنَضرِب لذلك مثلًا من ميدان التنجيم وعلم الفلك؛ فممارسة التنجيم كانت تتطلَّب معرفة واسعة بالحقائق الفلكية، و«الأبراج» التي يقول المنجِّمون إنهم يعرفون بها الطالع هي أشبه ما تكون بخريطة كبرى للسماء، تضمُّ كثيرًا من المعلومات الفلكية الصحيحة. واسم التنجيم ذاته يَفترض معرفة بالنجوم، ومن ثم كان تداخله مع علم الفلك، بل إن كبار الفلكيِّين كانوا في الوقت ذاته منجمين، وهذا ينطبق على العصور القديمة والعصور الوسطى الإسلامية والأوروبية، بل وعلى أوائل العصر الحديث أيضًا. فحتى كبلر ذاته — أعني ذلك العالم الألماني العظيم الذي حدَّد المدارات البيضاوية للكواكب واهتدى إلى مجموعة من أعظم القوانين الفلَكية الرياضية — كان يؤمن بالتنجيم ويمارسه، ولم يكن يعتقد أن ممارسته له تتعارَض على أي نحو مع عمله العلمي الدقيق. بل إن السعي إلى جعل التنجيم والتنبؤ بالطالع أدقَّ ربما كان واحدًا من أهم الأسباب التي حفَّزت العلماء على الاشتغال بعلم الفلك، والتي جعلت هذا العلم — الذي يتناول ظواهر تبدو بعيدة كل البُعد عن اهتمام الإنسان على هذه الأرض — يُصبِح واحدًا من أقدم العلوم البشرية عهدًا ومن أدقِّها منهجًا، ولولا أن الحكام كانوا يَحرصون على معرفة طالعها، ويستشيرون المُنجِّمين في قراراتهم الهامة لما أَوْلَوا علم الفلك ذلك الاهتمام وقدَّموا إليه ذلك التشجيع الذي أدى إلى نهوضه منذ وقت مبكِّر.

ولدينا مثل آخر في ظاهرة السِّحر، فقد تداخلت الممارسات السحرية مع الممارسات العلمية وقتًا طويلًا، وبالرغم من أن السحر كان مبنيًّا على معتقدات خرافية لا صلة لها بالعلم، فقد كان السَّحَرة يلجئون، في كثير من الأحيان، إلى التعامل مع مواد الطبيعة وعناصرها على نحو يؤدِّي بهم إلى الكشف عن كثير من أسرارها، مما دعا بعض مؤرِّخي العلم إلى النظر إلى السحر بوصفه ممهدًا للعلم التجريبي ولعلوم الكيمياء والأحياء بوجه خاص. ومع ذلك فقد نشبت معركة حامية بين العلم والسحر في مطلع العصر الأوروبي الحديث، ولم يكن رجال الكنيسة بمعزل عن هذه المعركة، وإن كانوا قد وقفوا موقفًا معاديًا للطرفَين معًا؛ فالسحرة في نظرهم تتقمصهم أرواح شريرة؛ ومن ثم كان من الواجب حرقهم. أما العلماء فهم ينادون بتعاليم مضادة لما تقول به الكنيسة، ومن ثم فمِن الواجب اضطهادهم، وفي بعض الأحيان كان العلماء يُتَّهمون بالسحر؛ حتى تكون إدانتهم أيسر، وبالفعل راح عدد غير قليل من الباحثين في العلوم الحديثة ضحية الاتهام بالسحر.

على أن هذا التداخُل والاختلاط بين النظرة الخرافية والنظرة العلمية لم يَدُم وقتًا طويلًا، بل إن معالم النظرتين قد أخذت تتَّضح بالتدريج، وبدأت الطريقة العلمية في النظر إلى الأمور تُثبت تفوُّقها الساحق على الطريقة الخرافية؛ وذلك لسببَين؛ أولهما أن فهم قوانين الطبيعة من خلال العلم يُتيح للإنسان سيطرة حقيقية على ظواهرها، ويُمكِّنه من تغيير مجرى حوادثها لصالِحه، على حين أن النظرة الخرافية تجعله يقف من الطبيعة موقفًا سلبيًّا عاجزًا، وحين بدأت ثمار التطبيقات العلمية تُصبح متاحة للجميع، وأثبت العلم — بطريقة ملموسة — قدرته على السيطرة على الطبيعة بطريقة لا يَحلم بها الساحر ذاته، لم يعد هناك مبرِّر لبقاء الطريقة السحرية الخرافية.

أما السبب الثاني فهو أن العلم قد أثبَت أن نتائجه مضمونة يمكن التنبؤ بها، على حين أن نتيجة السحر الخرافية غير مضمونة على الدوام، فحين يدرس العالم ظاهِرة معيَّنة ويتوصل إلى العوامل المتحكِّمة فيها يستطيع أن يضمن استخدامها لصالح الإنسان بطريقة معلومة مقدمًا، أما إذا واجَه هذه الظاهرة عن طريق أحجبة أو تعاويذ سحرية، فقد يصل إلى النتيجة المطلوبة مرة، ولا يصل إليها عشرات المرات، والأدهى من ذلك أنه لن يكون قادرًا حتى على التنبُّؤ بالحالة التي سيكون سحرُه فيها فعالًا، وسط عشرات الحالات التي يعجز فيها هذا السحر. وهكذا آثر الإنسان العلم؛ لأنه اكتسب ثقةً في نتائجه، ولم يعد الناس يلجئون إلى الخرافات — في معظم الأحيان — إلا في الحالات التي لا يكون العلم فيها قد أحكم قبضته على الظواهر، كما في حالة الإصابة بمرضٍ عُضال لم يستطع العلم بعدُ أن يكتشف علاجًا له.

والواقع أن هذه الحقيقة الأخيرة تُشير إلى سمة هامة من سمات التفكير الخرافي؛ فقد ذكرنا أن نتائج السحر أو الخرافة غير مضمونة، وأنها في مقابل كل مرة تَنجح فيها تُخفق عشرات المرات، ومع ذلك فإن من أهم أسباب استمرار هذا اللون من التفكير: اتجاه العقل البشَري إلى التعميم السريع، حيث يؤمن بفاعلية السِّحر أو الخرافة بناءً على نجاح أمثلة قليلة جدًّا (وهو قطعًا نجاح تحقَّق بالصدفة)، دون أن يختبر الحالات الكثيرة الأخرى التي أخفق فيها هذا الأسلوب؛ فنحن نقول عن فلان أو فلانة (وغالبًا ما تكون «فلانة»): إن أحلامها لا تَخيب، وإن لديها القدرة على رؤية حوادث مقبلة في الأحلام؛ لمجرَّد أنه حدث مرة أو مرتَين أنْ تحقَّق شيء رأته في حلم، ولو سلَّمنا بأن هذا حدث (مع أنها ربما كانت قد روَت هذا الحلم — بحسن نية — «بعد» وقوع الحادث، بحيث يبدو لها أنها حلمَت به، وربما لم تكن تَذكُر بدقة ما حدث في الحلم، وربما كانت مشغولة بهذا الحادث مدة طويلة وتتوقَّع حدوثه لوجود مقدِّمات تدلُّ عليه). فلنتذكر أننا نُسْقِط من حسابنا ألوف الأحلام التي حلمت بها صاحبة «الرؤية التي لا تخيب»، والتي لم يتحقَّق منها شيء، وكل ما يعلق في ذهننا هو تلك الأحلام القليلة التي «تصادف» أنها تحقَّقت.

ولما كان التركيز يَنصبُّ على الحالات القليلة التي تحقَّقت، فإن الناس «يُعمِّمون» الحكم بحيث ينطبق على «جميع الحالات»، وعلى هذا النحو تنمو لدى الناس وتَنتشِر أسطورة صاحبة الرؤية الصادقة أو بصيرة عراف يستشفُّ المستقبل … إلخ.

والواقع أن ظاهرة الفكر الخرافي أعقد من أن تكون مجرَّد بقية من بقايا عصور ماضية، يستطيع العلم في مسيرته الظافرة أن يكتسحها ويمحو جميع آثارها؛ ذلك لأن الفكر الخرافي يظلُّ متأصِّلًا في أذهان كثير من الناس حتى في صميم عصر العلم، ويظلُّ منتشرًا بين الناس حتى في أكثر المجتمعات تمسُّكًا بالتنظيمات العلمية. فالعلم والخرافة — وإن كانا ينتميان إلى عصرين مختلفين — يظلان متعايشَين في نفوس البشر أمدًا طويلًا، وكأنهما طبقتان جيولوجيتان متراصَّتان الواحدة فوق الأخرى في الجبل الواحد، وكلٌّ منهما ترجع إلى زمن مختلف،٢ بل إن الشخص الذي نال من التعليم حظًّا رفيعًا قد يظلُّ متمسكًا بالفكر الخرافي في كثير من جوانب حياته التي لا يَمسُّها العلم مساسًا مباشرًا، وهكذا لا يكون اتِّباعه للمنهج العلمي في المعمل أو المُختبر أو جمعه حصيلة ضخمة من المعلومات العلمية؛ لا يكون ذلك عاصمًا لذهنه من أن يؤمن في جانب من جوانبه بالخرافات، ويَرضى بتفسير للظواهر لا علاقة له — من قريب أو بعيد — بالمنهج العلمي الذي يُجيد استخدامه.

وهكذا نجد في أكثر المجتمعات تقدُّمًا بقايا من التعلُّق بالخرافة تتمثَّل في إعطاء مكان الصدارة — في كثير من الصحف — للحوادث التي تبدو خارقة للطبيعة، وفي استمرار ظهور أعمدة صحفية مثل «حظك هذا اليوم»، أو قراءة الطالع من الأبراج، أو التشاؤم من الرقم ١٣، أو انتشار تعبيرات تَحمل معنًى خرافيًّا مثل: «امسك الخشب». إلى آخر هذه المظاهر التي تدلُّ على أن التفكير الخرافي ما زال — في عصر الصعود إلى القمر — متشبثًا بكثير من مواقعِه.

ولقد ظهرت تعليلات متعدِّدة ومتباينة الاتجاه تُفسِّر استمرار تيار اللامعقول في مساره الخفيِّ تحت سطح العقلانية الظاهرة للمجتمع الحديث، وإصرار الغيبيات على عدم الاختفاء من حياة الإنسان العصري، وربما كانت التعليلات النفسية أكثرها انتشارًا، فهنالك من يقولون: إنَّ الأحلام في حياة الإنسان مصدر دائم للخرافة؛ إذ إن الصور الخيالية — غير المترابطة وغير الواقعية — التي تظهر في الأحلام يمكن أن تختلط بالواقع، وتكتسب في حياة الناس طابعًا متجسِّدًا يتخذ شكل الخرافة، وربما كان الأصل الأول لكثير من الخرافات راجعًا إلى وجود شخصيات مريضة لديها استعداد أكبر للخلط بين الحلم والواقع، ولتأكيد الوجود الفعلي لأشباح وأَرواح تراءت لها بإلحاح في منامها. وقد ركَّزت مدرسة التحليل النفسي عند فرويد جهودها — في هذا الميدان — في بحث تأثير اللاشعور في رؤية الإنسان للواقع، وأسهمَت بذلك في استكشاف أسباب استمرار التفكير الخرافي في عصر يُنظِّم الناس حياتهم فيه على أساس من العلم؛ ذلك لأن الخرافة — في ضوء التحليل النفسي — لا تظهر بوصفها شيئًا ماضيًا لم يعد له في حياة الإنسان مكان، بل تبدو جزءًا من التكوين النفسي للإنسان يظلُّ كامنًا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروف تصعَد به إلى السطح الخارجي.

على أنَّ التعليل المُستمَد من مجال علم النفس والتحليل النفسي بوجهٍ خاص ربما لم يكن كافيًا إلا لإيضاح جانب واحد من جوانب مشكلة استمرار الفكر الخرافي في المجتمع الحديث، فحتى لو سلَّمنا بالإيضاح الذي تُقدِّمه مدرسة التحليل النفسي، فسيظلُّ علينا أن نعرف تلك الظروف التي تَبعث الخرافة من أعماق اللاشعور إلى مستوى التفكير أو السلوك الواعي، ولا بد أن تكون هذه الظروف مُنتميةً إلى طبيعة المجتمع، ونوع القيم السائدة فيه، والعوامل الاجتماعية التي تتحكَّم في تحديد هذه القيم.

وفي اعتقادي أن الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة واستمرارها، وهذا الشعور يتَّخذ أشكالًا تختلف باختلاف البيئة والعصر، ولكن نتيجته دائمًا واحدة؛ هي أن يلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قُوى لا عقلية تُساعِده على التخلُّص من المشكلات التي يواجهها تخلصًا وهميًّا، بدلًا من أن تُساعده على حلها أو حتى مواجهتها بطريقة واقعية.

ومن الممكن القول: إنَّ شعور الإنسان بالعجز كان يتخذ في العصور القديمة شكل العجز عن الفهم، والقصور في معرفة العالم المحيط به؛ ولذا كان يُعلل الظواهر التي لا يفهمها تعليلات خرافية. أما في العصر الحديث — بعد أن توصَّل الإنسان إلى معرفة تُتيح له إجابات علمية عن الأسئلة الأساسية التي كان يعجز من قبل عن فهمها — فإن المسألة لم تَعُد تتعلَّق بالعجز عن الفهم أو المعرفة، بل أصبح العجز يتمثَّل في عدم القدرة على التحكُّم الواعي في مسار المجتمع، وفي القوى التي تُسيطِر عليه؛ أي إنه أصبح عجزًا اجتماعيًّا، وهذا ما يعلل استمرار ظهور الفكر الخرافي في مجتمعات لا يُمكن القول إنَّ الجهل مخيِّم عليها، أو إن الفقر يطمس عقول الناس فيها. ففي كثير من البلاد الأوروبية — وفي الولايات المتحدة الأمريكية بوجهٍ خاص — تَنتشر مظاهر واضحة للتفكير الخرافي، تتمثل في «قراءة الطالع» التي تَحدُث أحيانًا عن طريق أجهزة إلكترونية معقَّدة (وهو مظهر واضح لتعايش العلم والخرافة معًا: الجهاز علمي متقدِّم، والهدف من استخدامه خرافي متخلِّف). كما تتمثَّل في وجود جماعات تُمارس أنواعًا من السحر (السحر الأسود) والطقوس الغريبة في قلب أغنى المجتمعات الصناعية. والتعليل المعقول لذلك هو أن الناس — برغم ما توافَر لهم من معرفة وعلم وما يتمتَّعون به من مُستوًى عالٍ للمعيشة — يعجزون عن فهم القوى التي تتحكَّم في مسار حياتهم، وينظرون إلى المستقبل نظرة قاتمة، ويتصوَّرون أن العالم تشيع فيه قُوًى شريرة وحتمية كئيبة تَفرض على الناس أن يَعيشوا في توتُّر وخوف دائم من المصير المجهول، وهي قُوى لا يُمكن محاربتها إلا بقوى أخرى من نفس نوعها.

على أن الأمر الذي ينبغي أن نؤكِّده — في هذا الصدد — هو أن ظاهرة استمرار الفكر الخرافي بأشكال مختلفة — في المجتمعات الصناعية المتقدمة — لا تُشكِّل مع ذلك خطرًا داهمًا على المسار العام لهذه المُجتمعات، بل إنها تظلُّ على الدوام ظاهرةً هامشية؛ فنوع الحياة التي تسود المجتمع الصناعي، حيث يُحْسَب كل شيء ويُنَظَّم بدقة وانضباط، وحيث لا يَسمح أسلوب الإنتاج السائد بأن تظلَّ هناك عناصر غير محسوبة أو غير متوقَّعة، وحيث تخضع الحياة اليومية ذاتها لنظام محدَّد لا مجال فيه للاستثناءات أو الانحرافات. أقول: إن نوع الحياة هذا يُشكِّل ضمانًا مؤكدًا يعصم المجتمع — في مجموعه — من أضرار التفكير الخرافي مهما كانت درجة انتشاره على مستوى الأفراد أو الجماعات المنعزلة؛ ففي مثل هذه المجتمعات يظلُّ المجرى العام بحياة خاضعًا للعقلانية والترشيد والتخطيط المدروس، أما الميول الخرافية فتتَّخذ شكلًا فرديًّا لا يؤثر على هذا المسار العام.

بل إنَّ من الممكن القول — بمعنًى معين — أنَّ الحياة الصناعية المخططة الدقيقة هي ذاتها التي تَفرض على مجتمعاتها — من آنٍ لآخر — اللجوء إلى ألوان من التفكير الخرافي. فانتشار الخرافات في هذه البلاد هو في أساسه «ردُّ فعل» على العلم المتغلغل في صميم كيان المجتمع، ومُحاوَلة للتخلُّص من قبضة تلك العقلانية المحكمة التي تُمسك بجميع جوانب حياة الناس، عن طريق بعث عناصر لا عقلية من مكمنها اللاشعوري. إنه تعبير عن تمرد الشعوب الخاضعة للعقل على هذا العقل نفسه، ورغبتها في الخروج عنه، وإن كان ذلك لا يتمُّ إلا بصورة مؤقتة؛ لأنها في النهاية تعود إليه، ولا تستطيع أن تتخلَّص منه بعد أن أصبحت كل جوانب حياتها تُنظَّم وفقًا له. إنها قفزة مؤقتة إلى الماضي البعيد عبر الحاضر، وربما كانت هذه العودة تُساعدهم على تحمُّل الضغط والتوتر الذي تجلبه لهم الحياة الصناعية بإيقاعها السريع ونظمها الحتمية الصارمة. وهكذا يكون التفكير الخرافي — في هذه الحالة — مُنبثقًا من قلب التفكير العلمي والعقلي، ولا يُفْهَم إلا في إطاره. بل إن العودة إلى الماضي السحيق هي في هذه الحالة نتاج للمجتمع الصناعي ذاته؛ إذ إنها تعبير عن الرغبة في «التغيير»، وعدم القدرة على الاستقرار طويلًا على حالة واحدة. وهذه الرغبة في التغيير هي ذاتها جزء لا يتجزَّأ من طبيعة الحياة في المجتمعات الصناعية المتقدمة؛ فمن سمات هذه الحياة أنها تُغيِّر إيقاعها بسرعة، وتُجدِّد نفسها باستمرار وتَرفض الجمود والاستقرار، بل إن الرغبة في التغيير تمتد عندها حتى إلى القيم الأخلاقية والاجتماعية ذاتها؛ ولذلك كان الابتعاد عن العقل والعلم — في ظاهرة الفكر الخرافي — يتمُّ في حالة المجتمعات الصناعية المتقدِّمة في إطار عصر العقل والعلم واستجابة لمُقتضياته. وهو وضعٌ تبدو فيه مفارقة واضحة، ولكنه يُعبِّر بالفعل عن وضع الفكر الخرافي في المجتمعات المعاصرة المتقدمة.

ولقد حرصنا على تأكيد هذه الحقيقة لكي نوضِّح — بصورة قاطعة — الاختلاف الأساسي بين وضع العالم الشرقي عمومًا والعربي بوجه خاص، ووضع العالم الصناعي المتقدم بالنسبة إلى موضوع التفكير الخرافي؛ ذلك لأن هناك كثيرين في بلادنا العربية يُحاوِلون التخفيف من تأثير هذه الظاهرة — أعني ظاهرة انتشار التفكير الخرافي في بلادنا — عن طريق الإشارة إلى وجود ظواهر مُماثِلة في البلاد المتقدِّمة. ومثل هذه المحاولة للتهوين من شأن الفكر الخرافي والتخفيف من خطرِه على مجتمعاتنا يَعيبها أنها تقف عند حدود السطح الخارجي للظواهر ولا تتغلغل في أعماقها؛ إذ يبدو ظاهريًّا أن الوضع مُتشابه في الحالتين (وإن كان مقدار انتشار الخرافات عندنا أعظم بمراحل منه في البلاد المتقدمة)، ولكنَّ الحقيقة أن دلالة الظاهرة مختلفة في الحالتين تمام الاختلاف.

ففي حالة مجتمعاتنا يتَّخذ التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل، ويُمثل هذا العداء امتدادًا واستمرارًا لتاريخ طويل كان العلم يُحارب فيه معركة شاقة لكي يثبِّت أقدامه في المجتمع، وإذا كان قد بدا خلال فترة قصيرة أن العِلم تمكَّن من تأكيد ذاته في مجتمعنا العربي، فمن المؤكَّد أن ذلك لم يحدث على مستوى المجتمع كله، وأن العداء للعلم كان هو الغالب في بقية الفترات في تاريخنا. وهكذا فإن انتشار الخرافة يمثل — في حالتنا — تعبيرًا عن جمود المجتمع وتوقُّفه عند أوضاع قديمة ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب. والفرق واضح بين هذا الأسلوب في الفكر الخرافي وبين أسلوب تلك المُجتمعات التي مرَّت بتجربة التفكير العقلي حتى أعلى مراتبها، والتي يُحاول بعض أفرادها أن يرتدُّوا عن هذه التجربة «من موقع الاندماج فيها» لا من موقع الجهل بها أو الخوف منها أو العجز عن تحقيقها؛ أي إنَّ الفرق واضح بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرًا عن جمود متأصِّل وتَحجر على أوضاع ظلَّت سائدة طوال ألوف السنين دون أن يَرغب المجتمع في تغييرها أو يَجرُؤ عليه، وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرًا — محدود النطاق — عن رغبة في التغيير يَشعُر بها مجتمع لا يستطيع أن يظلَّ أمدًا طويلًا على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحالة هي التفكير العقلي الرشيد.

وتلك مسألة نجد لزامًا علينا أن نُنبه إليها؛ لأن بعض كُتَّابنا — الواسعي الانتشار للأسف الشديد — يُردِّدون نفس الحُجَج التي يقول بها أنصار التفكير اللاعلمي في الغرب؛ لكي يُبرِّروا بها ابتعادنا — نحن الشرقيين — عن التفكير العلمي وعدم ثقتنا في قدرات العقل، وهذا خطأ كبير ومغالطة أكبر؛ إذ إن دوافعنا في الابتعاد عن التفكير العلمي تختلف كل الاختلاف عن دوافع مجتمعٍ مارَسَ هذا التفكير قرونًا عديدة، في الوقت الذي لا نزال فيه نحن نُكافح من أجل الدخول لأول مرة في عصر العلم الحديث.

على أننا يَنبغي أن نعترف بأن أنصار الخرافة — سواء في بلادنا أم في خارجها — لا يَقتصِرون على تأكيد هذا النوع «المضاد للعلم» من الخرافات؛ فهناك نوع آخر يدَّعي الانتساب إلى العلم، ويستند على شواهد يَزعُم أنها علمية، ويتظاهَر أنصاره بأنهم يتبعون مناهج علمية في التحقُّق منه، ومن هذا القبيل الاعتقاد بوجود قُوى خارقة لدى بعض البشر، كالاستشفاف عن بُعْد telepathy، أو الأشكال المختلفة لما يُسمى بالحاسة السادسة أو غيرها. وربما وصَل الحماس بالبعض إلى حدِّ تأكيد قدرة «العلم» على إثبات «تحضير الأرواح»، وهو للأسف أمر ليس بعيدًا عن المألوف بين بعض المُشتغلين بالعلم، وكأنهم أصبحوا واثقين من أن الرُّوح «شيء»، وأن هذا الشيء يمكن «تحضيره»؛ أي يمكنه أن يذهب ويَجيء، وأن هذا الشيء الذي يذهب ويجيء يستطيع أن «يتكلم»، أو يُؤثِّر في أشياء «مادية» كتحريك أكواب أو إسقاط منضدة. وهذا كله يستحيل لو لم تكن الرُّوح بدورها شيئًا «ماديًّا»، مع أن هذا يتناقَض أساسًا مع تعريف الروح.

والمهم في الأمر أن هؤلاء الذين يتمسَّحون بالعلم لتأكيد هذه الخرافات يلجئون إلى أساليب لا تتوافر فيها شروط التجربة العلمية على الإطلاق؛ فالملاحظات التي يعتمدون عليها قليلة غير قابلة للتكرار، مع أن من أهمِّ شروط التجربة في العلم أن يكون من الممكن تكرارها أمام أي عدد من المُشاهِدين وفي مختلف الظروف، وسواء أكان هؤلاء المشاهدون من المقتنعين أم من غير المقتنعين. ومن المعروف أن شهود هذا النوع من التجارب هم في الأغلب من النوع الذي يَتوافر لديه مُقدَّمًا استعداد لتصديق نتائجها. هذا فضلًا عن أن التجارب تتم دائمًا في جوٍّ لا يسمح بالرؤية الواضحة؛ إذ إن الضوء دائمًا خافِت، ولونه أحمر (وهو أكثر الألوان تعتيمًا للبصر)، والجو العام يجعل الإيحاء بأي شيء ممكنًا.

أما إذا وُوجه أنصار هذه الخرافات ذات المظهَر «العلمي» بحُجَج قوية تثبت ابتعاد الأساليب التي يَلجئون إليها عن أصول المنهج العلمي الصحيح؛ فإنهم يلجئون إلى سهم آخر في جَعبتهم، وهو أن منهج العلم الحالي محدود، وأن العلم أصبح الآن يَتقبَّل أشياء كثيرة كان يرفضها من قبل، وأنه — بالتالي — يمكن أن يعترف بهذه الظواهر الخارقة للطبيعة في المستقبل، ومثل هذه الطريقة في التفكير تفتح الباب — كما هو واضح — لكل الخُزَعبِلات المُخرِّفة؛ إذ يستطيع أي دجال أن يؤكِّد أن العلم إذا لم يكن يَقبلها الآن فسوف يقبلها في المستقبل. وواقع الأمر أننا لا نملك إلا هذا المنهج الذي أثبت أنه أفضل ما لدينا من أدوات المعرفة، وأنه مهما كان قاصرًا عن بلوغ كثير من الحقائق، فإنه هو أضمن الوسائل لبلوغ «الحقيقة» ذاتها. وإلى أن يتوصَّل العلم ذاته إلى مناهج وأساليب أخرى أدق، فليس من حق أحد أن يتذرَّع بالتغيُّرات التي يمكن أن تطرأ عليه في المستقبل؛ لكي يفرض علينا خرافاته ويَربطها زورًا بعجلة التقدم العلمي.

فإذا أخفقت محاولات ربط الخرافة بالعلم، فإن أنصارها يَلجئون إلى آخر أسلحتهم وأخطرها على التفكير الشعبي، وهو الربط بين الخرافة والدين. وهكذا تراهم يستغلون وجود بعض الحقائق الدينية الغَيبية — كالرُّوح مثلًا — ووجود بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن السِّحر والحسد … إلخ؛ لكي يُدافعوا بحرارة عن حقيقة الظواهر الخرافية، مؤكِّدين أن الدين نفسه يَدعمها. ولقد قلت إن هذا السلاح أخطر الأسلحة جميعًا؛ لأنه أولًا يستغلُّ عمق الإيمان الديني من أجل تأكيد الفكر الخرافي، ولأنه يضع الدين — بلا مُبرِّر — في مواجهة العلم، ويضع عقول الناس في مواجهة الاثنَين معًا، فتقف حائرةً بين عقيدة متأصلة فيها، وبين منهج علمي تَثبُت صحَّته على أرض الواقع العِلمي في كل لحظة.

وفي اعتقادي أنه ليس هناك ما هو أضرُّ بقضية الدِّين من هذا الربط بينه وبين الخرافة، ولقد حاولَت الكنيسة المسيحية في الغرب — منذ عصر النهضة — أن تَسلك هذا الطريق المحفوف بالخطر، فكانت النتيجة هي ما نراه اليوم من انصراف الجماهير في الغرب عن عقيدتها بأعداد كبيرة. والواقع أن الكنيسة كانت في ذلك الحين تُواجه تجربة جديدة كل الِجدة، فلم يكن من المُستغرَب أن تَرتكب خطأً مهاجمة العلم بحجة أنه يَتعارض مع نصوص دينية (كما في حالة قضية دوران الأرض و«ارتفاع» السماوات مثلًا)، ولم يكن من المستغرب أيضًا أن تَضطهد كثيرًا من العلماء اضطهادًا معنويًّا وجسديًّا، ولكن الحصيلة النهائية لهذا كله كانت انتصار الحقيقة العلمية، واضطرار الكنيسة إلى التراجُع عن مواقعها واحدًا تلو الآخر، حتى أصبحت تُدافع اليوم عن كثير من الأمور التي كان القول بها فيما مضى كافيًا لاضطهاد صاحبها على يد الكنيسة ذاتها، ومع كل هذا التراجُع فقد خسرت مواقع كثيرة، وأخَذ تأثيرُها على الأجيال الجديدة يتضاءل باستمرار.

أما نحن هنا في العالم العربي فلسنا مُضطرِّين — على الإطلاق — إلى أن نسلك هذا السبيل المحفوف بالخطر؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ فنحن أولًا لسنا أول من يمرُّ بهذه التجربة، بل إن أمامنا تجربة الغرب في موضوع العلاقة بين الدين والخرافة، أو العلاقة بين الدين والعداء للعلم؛ لكي نَستخلِص منها ما شئنا من العبر. ونحن ثانيًا أصحاب دين فسَّره مُفكِّروه وفلاسفته في صدر الإسلام تفسيرًا لا يَتعارض مطلقًا مع البحث العلمي، بل يَدفع الفكر والعلم إلى الانطلاق. ونحن ثالثًا نعيش في عصر أصبح فيه الأخذ بالأسلوب العلمي في الحياة مسألة حياة أو موت بالنسبة إلى المجتمع، فلماذا إذن يُحاول الكثيرون أن يعيدوا التجربة المريرة للكنيسة الغربية مع الخرافة وضد العلم؟ ولماذا لا تتكاتَف الجهود من أجل دعم وتأكيد التفسير الديني الذي يُحارب الخرافة ويؤيد العلم؟ هذه مجرد أسئلة أطرحها وأنا لا أملك إلا الدهشة والاستنكار للتراجع المستمر إلى الخلف الذي تتَّسم به مناقشاتنا لهذا الموضوع في أيامنا هذه؛ فمن المُؤسِف أننا كنا نناقش هذه الموضوعات في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على مُستوًى أعلى بكثير من مناقشتِنا لها في هذه الأيام، بعد أن أصبحت صدورنا أضيق واتهاماتنا للمُفكرين تُلْقَى جزافًا واحترامنا بعضنا لآراء بعض مفقودًا. ويبدو أن البعض يُصرُّون على أن يعيدوا محنة الفكر العلمي في عصر النهضة الأوروبية مرة أخرى في بلادنا، ولكن الأمل معقود على أن تسود الحكمة ويَغلب التعقُّل، فنُدرك أن طريق العلم لا رجوع فيه إلى الوراء، وأنَّ الدفاع عن الخرافة تمسُّحًا بالدين لن يضرَّ قضية العلم كثيرًا، ولكنه يُسيء إلى قضية الدين إساءة بالغة.

(٢) الخضوع للسلطة

السُّلطة هي المصدر الذي لا يُناقَش، والذي نخضع له بناءً على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية، وبأن معرفته تَسمو على معرفتنا.

والخضوع للسُّلطة أسلوب مريح في حلِّ المشكلات، ولكنه أسلوب ينمُّ عن العجز والافتقار إلى الرُّوح الخلاقة. ومن هنا فإن العصور التي كانت السُّلطة فيها هي المرجع الأخير في شئون العلم والفكر كانت عصورًا متخلِّفة خَلَتْ من كل إبداع، ومن هنا أيضًا فإن عصور النهضة والتقدُّم كانت تجد لزامًا عليها أن تحارب السلطة العقلية السائدة بقوة، ممهِّدة الأرض بذلك للابتكار والتجديد.

وأشهر أمثلة السلطة الفكرية والعلمية في التاريخ الثقافي هي شخصية أرسطو؛ فقد ظلَّ هذا الفيلسوف اليوناني الكبير يُمثِّل المصدر الأساسي للمعرفة — في شتى نواحيها — طوال العصور الوسطى الأوروبية؛ أي طوال أكثر من ألف وخمسمائة عام، كذلك كانت كثير من قضاياه تؤخذ بلا مُناقشة في العالم الإسلامي؛ حيث كان يُعدُّ «المعلم الأول»، وإن كان بعض العلماء الإسلاميِّين قد تحرَّروا من سلطته في نواحٍ معيَّنة، ولا سيما في ميدان العلم التجريبي.

والأمر الذي يَلفت النظر في ظاهرة الخضوع لسلطة مُفكِّر مثل أرسطو، أن هذا الخضوع كان يتَّخذ شكل التمجيد — بل التقديس — لشخصية هذا الفيلسوف، ومع ذلك فقد جنى هذا التقديس على أرسطو جناية لا تُغْتَفر؛ إذ إنه جمَّده وجعله صنمًا معبودًا، وهو أمر لو كان الفيلسوف نفسه قد شاهَده لاستنكره أشد الاستنكار؛ إذ إنَّ الفيلسوف الحق — وأرسطو كان بالقطع فيلسوفًا حقًّا — لا يقبل أن يُتَّخذ تفكيره — مهما بلَغ عمقه — وسيلة لتعطيل تفكير الآخرين وشلِّ قدراتهم الإبداعية. بل إن أقصى تكريم للفيلسوف إنما يكون في عدم تقديسه وفي تجاوزه؛ لأن هذا التجاوز يدلُّ على أنه أدى رسالته في إثارة عقولنا إلى التفكير المستقل على الوجه الأكمل. ومن ناحية أخرى فإن العصور الوسطى لم تأخذ من أرسطو «روح» منهجه التجريبي — الذي حاول الفيلسوف أن يُطوِّره في المرحلة الأخيرة من حياته — بل أخذت منه «نتائج» أبحاثه، واعتبرتها الكلمة الأخيرة في ميدانها، فضاعفت بذلك من جنايتها على تفكيره.

وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل — في بداية العصر الحديث — قاسيًا، وهكذا وجدنا فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت يبدآن فلسفتهما بنقد الطريقة الأرسطية التي تقيَّدت بها العصور الوسطى تقيُّدًا تامًّا، ويؤكدان أن التحرر من قبضة هذا الفيلسوف هو الخطوة الأولى في طريق بلوغ الحقيقة. وفي ميدان العلم خاض جاليليو معركةً عنيفة ضد سلطة أرسطو؛ إذ إنَّ هذه السلطة كانت تُساند النظرة القديمة إلى العالم بوصفه مُتمركزًا حول الأرض، كما كانت تقول بنظرية في الحركة مبنية على أُسُس ميتافيزيقية، وكان لا بد من هدمها لكي يَرتكِز علم الميكانيكا الحديث على أُسُس علمية سليمة. وهكذا أخذ جاليليو يتعقَّب آراء أرسطو في الطبيعة واحدًا بعد الآخر، ويُثبِت — بمنهجه العلمي الدقيق — بطلانها، وبذلك كان تفكيره العلمي في واقع الأمر من أقوى العوامل التي أدَّت إلى هدم سلطة أرسطو في مطلع العصر الحديث.

وفي استطاعتنا أن نَستخلِص من هذا المثل — أعني تقديس العصور الوسطى لآراء أرسطو وتفنيد الفلاسفة والعلماء في بداية العصر الحديث لها — أهمَّ عناصر السلطة من حيث هي عقبة تقف في وجه التفكير العلمي، وأهم الدعامات التي ترتكز عليها.٣

(٢-١) القِدَم

أول عناصر السلطة هو أن يكون الرأي قديمًا؛ فالآراء الموروثة عن الأجداد يُعتقد أن لها قيمة خاصة، وأنها تفوق الآراء التي يقول بها المُعاصرون. ويَرتكز هذا العنصر على الاعتقاد بأن الحكمة كلها والمعرفة كلها تكمن في القدماء، ومن هنا فهو مبني — بطريقة ضِمنية — على نظرة إلى التاريخ تفترض أن هذا التاريخ يسير في طريق التدهور، وأن مراحله الماضية أعلى مستوًى من مراحله الحاضرة.

ومن المؤكَّد أن في هذه النظرة إلى التاريخ نوعًا من التمجيد الرومانسي أو الخيالي للماضي، وللأجيال التي كانت تعيش فيه، وهي — بلا شك — تقوم على فكرة لا تستند إلى أساس من الواقع؛ لأن القدماء كانوا بشرًا مثلنا، معرَّضين للصواب والخطأ. وكل ما في الأمر أن الإنسان — إذا كان يَضيق بحاضره أو يجد نفسه عاجزًا عن إثبات وجوده في الحاضر — يَصبِغ الماضي بصبغة ذهبية، ويتَّخذ منه مهربًا وملجأً يلوذ به. بل إننا نستطيع أن نقول — مع بيكون — إنَّ الأجيال القديمة — التي نتصوَّر أنها تمثل شيخوخة البشرية وحكمتها — هي في الواقع أجيال جديدة؛ ومن ثم فهي تُمثِّل طفولة البشرية. أما الأجيال الحديثة — التي نصفها بالطفولة ونقص الحكمة والتَّجربة، وندعوها دائمًا إلى أن تأخذ الحكمة من أفواه القدماء المجرِّبين — فإنها تمثل في الواقع أقدم أجيال البشرية، وتفسير هذه المفارقة أمر هيِّن؛ إذ إن الجيل القديم عاش في وقت لم تكن البشرية قد اكتسبت فيه تجارب كافية، ومن هنا فإن خبرته وحكمته محدودة، على حين أن الجيل الحديث قد اكتسب خبرةَ مَنْ هم أقدم منه، وأضاف إليها خبرته الخاصة، ومن ثَمَّ فهو الأجدر بأن يُعدَّ — بمقياس الخبرة والتجربة — قديمًا. وليس هذا حكمًا ينبغي إطلاقه — دون تمييز — على كل فرد، بل هو حكمٌ يُقال على سبيل التعميم، ولا يَمنع بطبيعة الحال من وجود استثناءات.

والذي يُهمنا من هذا هو أن قدم الرأي لا يَنبغي أن يُعَدَّ دليلًا على صوابه، وأن البشرية قد عاشت ألوف السنين على أخطاء لم تكن تجرؤ على مناقشتها؛ لأنها ترجع إلى عهود الأجداد الأوائل، ومع ذلك تبيَّن لها خطؤها عندما ظهر مفكر قادر على تحدِّي سلطة «القديم»؛ فمنذ أقدم العصور والناس تَعتقِد أن الأرض ثابتة والكواكب والنجوم تدور حولها؛ أي إن الأرض مركز الكون، وكانت شهادة الحواس — التي ترى الأجرام السماوية تُغيِّر مواقعها من الأرض باستمرار — دليلًا حاسمًا على أنَّ هذا الرأي «القديم» يُعبِّر عن حقيقة ثابتة، ومع ذلك فقد أتى كبرنيكوس — في القرن الخامس عشر — ليتحدى هذه السلطة الراسخة منذ القدم، وليقول بالفرض العكسي، ولم يمض جيل أو اثنان إلا وكان هذا الفرض مؤيَّدًا بشواهد علمية قاطعة تُثبت صحته، وتثبت أيضًا أن قدم الرأي ليس دليلًا على صوابه، وقُل مثل هذا عن نظرية العناصر الأربعة — الماء والهواء والنار والتراب — التي قال بها القدماء وأيَّدتها العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية، وظلت تُعَد من حقائق العلم الثابتة حتى أتى «لافوازييه» في القرن الثامن عشر فأثبت بطلانها، وتبيَّن للجميع — بالدليل العلمي القاطع — أن «الهواء» ليس عُنصرًا، بل مجموعة من العناصر، وكذلك الحال في الماء الذي تبين أنه مؤلَّف من عنصرين … إلخ.

والواقع أن الميل إلى الأخذ بسُلطة القدماء يَزداد في عصور الركود والانصراف عن التجديد، ولا يُمكن القول أنه ميل طبيعي في العقل البشري. ومن هنا يمكن القول: إنَّ هذا الخضوع لسُلطة القدماء ليس — في ذاته — هو المؤدِّي إلى تخلُّف الفكر العلمي، بل إن هذا التخلُّف هو الذي يؤدِّي إليه إذا شئنا الدقة في التعبير؛ والدليل على ذلك أن التقيد بسلطة القديم كان هو القاعدة السائدة في العصور الوسطى؛ لأنَّ العصر ذاته كان عصر تحجُّر وجمود، ومن هنا كان من الضروري التعويض عن هزال الحاضر بسلطة القديم. وعلى العكس من ذلك فإن العصور الحديثة قد حاربَت هذا النوع من السلطة بكل ما أوتيت من قوة؛ لأنها كانت عصورًا ديناميكية متحرِّكة، يسودها الإحساس بالتفاؤل والثقة بقدرة الإنسان على التحكم في قوى الطبيعة. بل إن الإنسان المعاصر — في بلاد العالَم المتقدمة — يكاد ينتقل إلى الطرف المضاد، فلدى الأجيال الجديدة إحساس واضح بأنها هي الأحكم والأوسع معرفة، وبأن الأجيال القديمة لم تكن تَعرف من أمور الحياة شيئًا، وهي تقابل آراء القدماء بالسخرية، ومن الصعب إقناعها إلا بآراء مستمَدَّة من منطق العصر. وهكذا أصبح القديم — في نظر هذه الأجيال — مرفوضًا لمجرَّد أنه قديم، وأصبح الجديد يستمد من جِدته وحدَها قدرته على إقناعها. ومِن المؤكد أن السعي الدائم وراء «الموضات» — بالمعنى الفكري والأخلاقي أيضًا لا بالمعنى المظهري وحده — إنما هو تعبير ملموس عن هذا السعي إلى التجديد الدائم، وعن عدم الثقة في كل ما يَكتسب صفة «القِدَم». كذلك فإن المشكلة الحادة التي أصبحت تُعْرَف في المجتمعات الصناعية باسم مشكلة «الفجوة بين الأجيال»، هي تعبير آخر عن عصر يُشعر بأنه مختلف عن كل العصور السابقة إلى حد أن الأبناء فيه يَعدُّون آباءهم أشخاصًا ينتمون إلى جيل قديم يصعب التفاهُم معه، ويستحيل السلوك في الحياة وفقًا لمبادئه وقيمه.

هذا الموقف يُعدُّ — بطبيعة الحال — موقفًا متطرفًا؛ إذ إن من الخطأ أن تَعتدَّ الأجيال الجديدة برأيها إلى الحد الذي ترفض فيه مجرَّد الحوار مع الأجيال القديمة، مثلما أن من الخطأ أن تتصوَّر الأجيال القديمة أنها تستطيع أن تفرض رأيها على الجيل الأحدث الذي يعيش ظروفًا مختلفة، ويمرُّ بتجارب ويكتسب خبرات لم تألفها الأجيال السابقة. ولكن وجود هذا الموقف يدلُّ على أن من المُمكن تصور حالة مضادة يكون فيها قِدَم الرأي سببًا كافيًا لرفضه. وهذا هو الموقف الذي يسود المجتمعات ذات الإيقاع سريع التغيُّر، التي يُعَدُّ فيها البحث عن الجديد مبدأً أساسيًّا من مبادئ الحياة، وعلى أية حال فحسبنا أن نضع أمامنا هذين النمطين اللذين يقدس أحدهما القديم لمجرد كونه قديم، ويبحث الآخر عن الجديد دون أي اكتراث بما سبقه، ولنبحث لأنفسنا عن الموقع الذي نختاره بين هذين الطرفين القصيين.

(٢-٢) الانتشار

إذا كانت صفة القدم تعبر عن الامتداد الطولي في الزمان، فإن صفة الانتشار تعبر عن الامتداد العرضي بين الناس، فالرأي يكتسب سلطة أكبر إذا كان شائعًا بين الناس، وكلما ازداد عدد القائلين به كان من الصعب مقاومته، والحجة التي توجَّه دائمًا إلى مَنْ يعترض على رأي شائع بين الناس هي: هل ستكون أنت أحكم وأعلم من كل هؤلاء؟

على أن العلماء المصلحين والمفكرين كانوا — عندما يواجَهون بهذه الحجة — يقولون دائمًا: نعم، ولولا أن بعض العظماء من أفراد البشر تجاسروا على أن يقولوا «نعم» هذه — في وجه معارضة ألوف مؤلفة من الناس — لما تقدمت البشرية في مسيرتها، ولما اهتدت إلى حقائق أصدق أو شرائع أفضل أو قيم أسمى مما كان يسودها من قبل، وصحيح أن هؤلاء الأفراد يكونون قلة في البداية، ولكن الحقيقة التي يحملونها في صدورهم، والحماسة التي يدافعون بها عنها، تظل تتسع وتتسع حتى تفرض نفسها في النهاية على الجموع الكثيرة، ثم يأتي الوقت الذي تتجمد فيه الحقيقة الجديدة وتتحجر، أو يضيق بها تطور الزمن، فيصبح من المتعين ظهور مصلح جديد وهكذا …

والأمر الذي يُحتِّم عدم التقيد بشيوع الرأي بوصفه مصدرًا للسلطة، هو أن جموع الناس تبحث عادةً عن الأسهل والمُريح، وهي تتجمَّع سويًّا حول الرأي الواحد مثلما تتلاصَق أسراب الطيور لتحمي نفسها من الصقيع، وكلما كان الرأي مُنتشرًا ومألوفًا كان في قبوله نوع من الحماية لصاحبه؛ إذ يعلم أنه ليس «الوحيد» الذي يقول به، بل يشعر بدفء الجموع الكبيرة وهي تشاركه إياه، ويطمئن إلى أنه يستظلُّ تحت سقف «الكثرة الغالبة». أما إحساس المرء بأنه منفرد برأي جديد، وبأنه يقتحم أرضًا لم تطأها قدم أخرى من قبل، ويتعين عليه أن يخوض معركة مع الكثرة الغالبة لكي يَحمي فكرته الوليدة، أما هذا الإحساس فلا يقدر عليه إلا القليلون، وعلى يد هؤلاء حققت البشرية أعظم إنجازاتها.

ولو تأملنا الواقع المحيط بنا لوجَدنا ما يؤيد هذا الرأي في كل مكان؛ فالقصة البوليسية الرخيصة تَنتشر بين أعداد تزيد أضعافًا مضاعفة عن أولئك الذين يقرءون الأدب الرفيع، والصُّحُف «الصفراء» (أعني صحف الإثارة والفضائح والصور العارية) تُوزِّع أضعاف ما تُوزِّعه الصحف الجادة، والمُغنِّي الذي يُردِّد أسخف الألحان وأتفه الكلمات يكسب في الأغنية الواحدة أضعاف ما كسبه «بيتهوفن» طوال حياته، والفيلم السينمائي الهابط — الذي يُعري أكبر مساحة تسمح بها الرقابة من جسد بطلاته — قد يدوم عرضه سنوات، بينما لا يستطيع الفيلم الذي ينطوي على فكرة عميقة أن يُكمِل أسبوعه الأول والأخير. وهكذا تتوالى الشواهد التي تدلُّ على أن الانتشار بعيد كل البُعد عن أن يكون مقياسًا للجودة، ومن ثم معيارًا صالحًا للسُّلطة.

على أنَّ الأمر الذي ينبغي أن ننتبه إليه هو أن تحدِّي سلطة الانتشار لا يؤتي ثماره المرجوة إلا إذا كان من يقوم به على مستوى المهمة التي يأخذها على عاتقه؛ ذلك لأن هناك أناسًا يُمارسون عملية التحدي هذه من موقع السطحية، ومن منطلق التفاهة، ولا يقودهم في سلوكهم إلا مبدأ «خالف تُعْرَف»؛ فهم يتصوَّرون أن وقوفهم في وجه الرأي أو الذوق أو الاعتقاد الشائع كفيل بأن يجلب لهم الشُّهرة، دون أن يكون في وسعهم أن يُقدِّموا بديلًا عما يعترضون عليه، وهؤلاء أبعد الناس عما نعني؛ فتحدي السلطة الشائعة ينبغي ألا يتمَّ إلا على أيدي أولئك الذين يَملكون الدليل على بطلانها ويَملكون البديل عنها، بل إننا نستطيع أن نصفَ أولئك السطحيِّين — الذين يَلجئون إلى رفض ما هو شائع التماسًا للشهرة — بأنهم خاضعون لسُلطة أخرى، هي سلطة الرفض أو التجديد، على الرغم مما في هذا التعبير الأخير من مفارقة.

ولنَضرِب لذلك مثلًا واحدًا أظنُّ أنه أصبح في عصرنا هذا مألوفًا: ظهرت فكرة التمرُّد على الملابس وشكل الشعر — بين بعض الشبان في الغرب — بوصفها احتجاجًا على سلطة المجتمع «المظهري» «المتأنق» الذي يخلو — داخليًّا — من العمق ومن الإحساس بنبض الحياة ومن التعاطف الإنساني، ولا يَكترِث إلا بتلبية مطالبه الاستهلاكية. وإلى هذا الحد نستطيع أن نفهم الدوافع التي أدَّت بهؤلاء الشبان إلى أن يَرتدوا ثيابًا مُهلهَلة رثة ويرسلوا شعورهم، وغير ذلك المظاهر التي نعرفها جيدًا. ولكن العدوى تنتقل إلى شبان آخرين ينتمون إلى مجتمعات أخرى، ولا يعرفون شيئًا عن الخَلفية الفكرية والاجتماعية التي ظهرت في ظلها هذه الموجة، فإذا بالمظهر «الشبابي» الجديد يُصبِح ضرورة أساسية لهم، وتضيع الفكرة تمامًا حين تَنتشر بينهم ملابس غالية الثمن إلى أبعد حد، ولكنَّ مُصمِّميها يتفننون لكي يعطوها «مظهر» القِدَم والهلهلة! وينفق الواحد منهم جزءًا كبيرًا من ميزانيته لكي «يُصفِّف» شعره على النحو الذي «يبدو» معه مُسترسلًا، خارجًا عن المظهر القديم. وهكذا فبينما كان الخروج عن سلطة المألوف — في البداية — أمرًا مفهومًا؛ لأنه على الأقل يَنطوي على فلسفة معينة — هي رفض القيم السائدة في المجتمع الاستهلاكي — نجده يتحول على يد هؤلاء المُقلِّدين إلى شيء غير معقول على الإطلاق؛ لأنه يتم في إطار القيم الاستهلاكية ذاتها، بل يُشجِّع على المغالاة في هذه القيم. وبينما كان الرفض في البداية تعبيرًا صادقًا عن موقفٍ أصيل، أصبح الرفض بعد ذلك تعبيرًا عن «محاكاة»؛ أي إنه ناقض نفسه، وحوَّل الرفض الأصلي إلى نمط عام يُقلِّده الألوف بلا شخصية وبلا تفكير مُستقل.

وهكذا يَتعيَّن علينا أن نُفرِّق بوضوح بين من يُخالف الرأي الشائع؛ لأن لديه شيئًا جديدًا، وبين من يُخالفه لكي يشتهر بهذا المظهر فقط، دون أن يكون في واقع الأمر قادرًا على الإتيان بأي جديد.

(٢-٣) الشهرة

يَكتسب الرأي سلطة كبرى في أذهان الناس إذا صدر عن شخص اشتهر بينهم بالخبرة والدراسة في ميدانه، والواقع أنَّ الشُّهرة تجلب المزيد من الشهرة، تمامًا كما أن المال يجلب المزيد من المال، فيكفي أن يشتهر إنسان — لسبب قد لا يكون له علاقة مباشرة بكفاءته — حتى يَحدُث تأثير «تراكمي» لنفوذه وسلطته على الناس، بحيث تتبع الجماهير أخباره وتتلقَّف كلماته، وتزيد عليها تفسيرات وتأويلات تُعطيها قيمة لا تكون جديرة بها أصلًا.

ووجه الخطورة في هذا العنصر من عناصر السلطة يتمثل في النقاط التالية:
  • (أ)

    إذا كان الشخص المشهور ينتمي إلى عصر غير عصرنا، فمن الواجب أن نُدرك أن شهرته — التي ربما كان لها ما يُبرِّرها في وقتها — لا ينبغي أن تنطبق على كل زمان، ولقد كان هذا هو الخطأ الذي ارتكبَتْه العصور الوسطى في نظرتها إلى أرسطو؛ إذ إن شهرته في عصره ظلت ممتدة إلى عصور تالية، مع أن العالم أو الفيلسوف — مهما كان عملاقًا في عصره — لا يستطيع أن يفيَ بمطالب كل عصر لاحق. ومِن حُسنِ الحظ أن هذا الخطر قد تضاءل في العصر الحديث، بعد أن اكتسب الإنسان حاسة تاريخية مُرهَفة، وأصبح يربط بين المشاهير وبين المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها، فيعترف لهم بفضلهم في دفع الإنسانية إلى الأمام، ولكنه لا يمتدُّ بشهرتهم وسُلطتهم إلى أبعد مما يسمح به دورهم التاريخي، وهكذا فإن من غير المتصور أن يظهر في عصرنا الحديث «أرسطو» جديد، بعد أن أصبح «النقد» جزءًا لا يتجزأ من تقديرنا للمشاهير.

  • (ب)

    أما إذا كان الشخص المشهور معاصرًا لنا، فإن هناك خطرًا من نوع جديد، يتمثَّل في أجهزة الإعلام الحديثة، التي تَملك الوسائل الكفيلة «بتضخيم» الشُّهرة وإعطائها أبعادًا تفوق ما تستحقُّه بكثير؛ ففي استطاعة أجهزة الإعلام أن تجعل شخصًا معيَّنًا يدخل كل بيت، من خلال صفحات الجريدة أو البرنامج الإذاعي أو التليفزيون، وفي استطاعتها أن تُكرِّر هذه التجربة وتلحَّ عليها إلى الحد الذي تفرض معه شهرة هذا الشخص على الجميع، وهكذا يظهر نظامٌ أشبه بنظام «نجوم السينما» في العلم ذاته؛ إذ تتكرَّر أسماء معينة، فلا تكاد تَعترضنا مشكلة في ميدان معيَّن حتى يقفز إلى أذهاننا على الفور اسم ذلك «النجم» الذي اشتهر بفضل وسائل الإعلام، وقد لا يكون أكثر الناس خبرةً بهذا الميدان، وقد لا تكون شهرته إلا مُصطَنعة.

    والأخطر من ذلك أن أجهزة الإعلام هذه قادرة على «نقل السلطة» من ميدان إلى آخر، وهذا هو المبدأ الذي تقوم عليه كثير من الإعلانات؛ إذ تظهر المُمثلة السينمائية الجميلة مثلًا في إعلان عن معجون أسنان، مع أن شُهرتها في ميدانها الأصلي لا تُبرِّر على الإطلاق أن تكون خبيرة في ميدان طبِّ الأسنان، أو يظهر لاعب الكرة المشهور إلى جانب نوع من السيارات ربما لم يكن يعرف عنه شيئًا طوال حياته، ومع ذلك فإن الشُّهرة «مُعدية». ومن المؤكد أن أمثال هذه الإعلانات المزيَّفة تُحقِّق عائدًا، وإلا لما تحمَّل المنتجون تلك النفقات الباهظة التي يتكلَّفها ظهور هؤلاء «المشهورين» في الإعلان.

(٢-٤) الرغبة أو التمني

يميل الناس إلى تصديق ما يرغبون فيه أو ما يتمنَّون أن يحدث، وعلى العكس من ذلك فإنهم يحاربون بشدة ما يصدم رغباتهم أو يُحبط أمانيهم، وهكذا كانت النظرية الفلَكية الجديدة التي تجعل من الأرض مجرد كوكب في المجموعة الشمسية يدور حول مركز هذه المجموعة وهو الشمس، كانت هذه النظرية تلقى مقاومة شديدة في أيام عصر النهضة الأوروبية؛ لأنها تقضي على المكانة المُميَّزة للإنسان، باعتباره أهمَّ الكائنات التي تعيش في أهم كوكب في الكون، بل في المركز الذي تدور حوله كل الأجرام السماوية. وكان من أهم أسباب سلطة النظرية القديمة — التي ظلَّت كثير من الحقول ترفض التخلي عنها زمنًا طويلًا — أنها تُرضي غرور الإنسان، وتستجيب لأمنية عزيزة من أمانيه. ومن المعروف أن رجال الكنيسة في أيام جاليليو كانوا يَرفضون النظر في منظاره المقرَّب الجديد لكي يروا السماء — لأول مرة — بعين أقوى من العين البشرية العادية عشرات المرات؛ إذ كانوا يخشون أن تؤدي هذه النظرة إلى هدم عالم عزيز مألوف ارتاحوا إليه واكتسبوا مكانتهم فيه، وكانوا يجزعون من تلك المسئولية الفادحة التي سيتحملونها في ذلك العالَم الجديد الموحش الذي تقول به نظرية كبرنيكوس، ذلك العالَم الذي لا «يرث» فيه الإنسان مكانته لمجرَّد كونه إنسانًا؛ أي أهم المخلوقات ومحورها وغايتها، بل يتعين عليه أن «يكتسبها» بعمله وجهده، وإلا ظلَّ مُهمَلًا في عالم غير مُكترِث.

(٣) إنكار قدرة العقل

في مجال الفن والشِّعر والأدب يهيب الإنسان بقوى أخرى غير العقل قد يُسمِّيها الخيال أو الحدس، ويؤمن — عن حق — بأن هذه القوى هي التي تُوجِّهه في هذا المجال؛ لأن المنطق العقلي الدقيق يعجز عن الأخذ بيدنا حينما نكون بصدد إبداع عمل فني أو أدبي، ولكن المشكلة هي أن بعض المفكِّرين يعتقدون أن أمثال هذه القوى تَصلُح مرشدًا لنا في ميدان المعرفة ذاته، ويُنكِرون قدرة العقل في هذا الميدان، أو يجعلون له مكانة ثانوية، ومثل هذا التفكير كان — ولا يزال — عقبة في طريق تقدم العلم.

ولقد كانت أشهر هذه القوى التي حورب بها العقل — في عصور مختلفة وعلى أنحاء متباينة — هي قوة الحدس، وكلمة الحدس قد تُفْهَم — في استخدامها العربي العادي — بمعنًى مشابه لمعنى التخمين أو التكهُّن، ولكنها يمكن أن تتضح في أذهاننا إذا ما حددنا المجالات المختلفة التي يُسْتَخْدَم فيها هذا اللفظ استخدامًا فنيًّا دقيقًا، وسوف نلاحظ أن معاني اللفظ — في كل هذه المجالات — تَشترك جميعها في سمة أساسية، يكون فيها الحدس معرفة «مباشرة»، تتمُّ بلا وسائط ولا خطوات متدرجة:
  • (١)

    فهناك حدس حسي، نقصد به إدراكنا العادي بحواسِّنا، فحين أُدرك الآن أن الحائط الذي أراه أمامي أبيض اللون، يكون ذلك حدسًا حسب المصطلح الفني؛ لأنني أدرك هذا الحائط إدراكًا مباشرًا، فأنا لم «أَستَنتِج» أنه أبيض، ولم يقل لي أحد أنه كذلك، وإنما أراه بحواسِّي مباشرةً.

  • (٢)

    وهناك حدس في المجال العقلي، نقصد به وصول العقل مباشرة إلى النتيجة المطلوبة، وكل مَنْ درس مُقرَّرًا بسيطًا في الهندسة يعلم أن هناك طريقتَين لحل تمرين هندسي؛ الأولى هي أن يفكر المرء في «معطيات» التمرين ويُحلِّلها واحدًا واحدًا، ويسير بخطوات متدرجة حتى يهتدي أخيرًا إلى الحل. والثانية هي أن تأتي فكرة الحل أو تهبط على العقل من أول لمحة بلا تحليل وبغير تدرُّج، ولا تُستخدَم الخطوات المتدرجة إلا في طريقة «تدوينه» لهذا الحل المباشر فحسب؛ فهنا يكون الحدس نوعًا من المعرفة التي لا نحتاج فيها إلى استدلال أو استنباط، بل تأتي مرةً واحدةً وبصورة مكتملة تغنينا عن أيَّة خطوات وسطى.

  • (٣)

    وهناك حدس في المجال العاطفي؛ وذلك حين يشعر المرء بالتعاطف أو التنافر مع أشخاص مُعيَّنين من النظرة الأولى، دون أن يكون قد عرفهم أو سمع عنهم شيئًا، ومثل هذا الحدس — الذي يشبه ما يُسمونه «بالحاسة السادسة» عند المرأة — قد يكون صوابًا أو خطأً، وقد تؤيده الخبرة والتجربة فيما بعد أو تُكذِّبه، ولكن الذي يُهمنا أنه — بدوره — شعور أو عاطفة مباشرة، يصدر الحكم فيها على الفور ودون خطوات متدرجة.

  • (٤)

    وهناك حدس في المجال الصوفي؛ وذلك حين يؤكد المتصوِّف أن لديه معرفة بالله تختلف عن تلك المعرفة الاستدلالية المتدرِّجة التي نصل إليها عن طريق «البراهين» العقلية؛ فهو يشعر «بحضور» الله مباشرة فيه، وهو يصل إلى الفناء في الذات الإلهية في تلك اللحظات القليلة التي يستحيل وصفها بلغة الكلام، والتي لا يحس بها إلا من مرَّ بالتجربة ذاتها. وهنا أيضًا نجد نوعًا من المعرفة المباشرة التي لا تستخدم براهين أو استدلالات، والتي توصلنا إلى الهدف مباشرة بطريق مخالف للطريق العقلي المتدرِّج.

  • (٥)

    وأخيرًا فهناك ذلك الحدس الفني الذي تحدَّثنا عنه في البداية، والذي يُطْلَق عليه عادةً اسم «الإلهام»، وأهم ما يُميِّزه هو الظهور المفاجئ والمباشر لفكرة العمل الفني أو لموضوعه في ذهن الفنان.

هذه المعاني كلها تشترك في ثلاثة عناصر رئيسية يتميز بها الحدس، من حيث هو طريقة في معرفة الأشياء، عن غيره من طرق المعرفة:
  • (أ)

    فهو معرفة «مباشرة»، لا تحتاج إلى وسائط ولا تسير بالتدريج من خطوة إلى أخرى.

  • (ب)

    وهو يَنقلنا مباشرةً إلى «لبِّ» الموضوع الذي نريد أن نعرفه أو إلى جوهره الباطن، بدلًا من أن يكتفي بتقديم أوصاف خارجية أو سطحية لهذا الموضوع، أو يَقتصِر على معرفته من خلال مقارنته بغيره.

  • (جـ)

    وهو في جوهره معرفة «فردية»؛ أي إنه يُتاح لشخص بعينه، لا لأي شخص آخر. وهو يتطلب «تجربة» من نوع خاصٍّ، يصعب نقلها عن طريق الوصف إلى الآخرين (حتى في حالة الإدراك الحسي يستحيل نقل ما تراه العين إلى غير المبصر نقلًا أمينًا وكافيًا)، ويصعب تلقينها أو تعليمها لهم، ويستحيل أن «نُعمِّمها» على الجميع.

على هذا الأساس كان هناك دائمًا مَنْ يتصور أن طريقة المعرفة المثلى لدى الإنسان ليست هي طريقة استخدام البراهين أو الأدلة العقلية، بل هي الحدس المباشر الذي يُوصِّلنا إلى اللب الباطن للموضوع الذي نريد معرفته.

ذلك لأنَّ العقل — في نظر هؤلاء — يَعيبه أنه يسير دائمًا بخطوات متدرِّجة، ولا يستطيع أن يتقدَّم خطوة إلا بعد التأكد — بالبرهان — من صحة الخطوة السابقة، وهو فضلًا عن ذلك «عام»؛ أي إنه لا يعطينا معرفة إلا بالصفات المشتركة بين الأشياء، وهي تلك الصفات التي يستطيع «الجميع» أن يُدركوها، وهو يلجأ دائمًا إلى المقارنة وكشف العلاقات بين الظواهر، ومعنى ذلك — في رأي أصحاب هذا الاتجاه — أنه لا يكشف لنا إلا عن علاقات سطحية، ولا ينفذ بنا إلى الجوهر الباطن للأشياء.

وحين يُصبح الحدس — عند أصحاب هذا الاتجاه — قوةً لا مضادة للعقل، فهنا ينبغي علينا أن ننبه إلى الخطأ الذي يقعون فيه، ولكن من حسن الحظ أنهم ليسوا جميعًا من خصوم العقل؛ فهناك مفكرون يُدافعون عن الحدس من حيث هو قوة «مُكمِّلة» للعقل لا تتعارض معه، بل تتوج جهوده وتوصلها إلى نتائجها القصوى، وهذه نظرة إلى الحدس لا تُشكِّل أية عقبة في طريق التفكير العلمي؛ ومن ثم فلن نُركِّز عليها حديثنا الآن.

أما العقبة الحقيقية فتتمثَّل في أولئك الذين يُنكِرون دور العقل، أو يُقلِّلون من أهميته ويُضيِّقون المجال الذي يَنطبق عليه، وذلك لحساب تلك القوة الأخرى التي قد يُسمُّونها بالحدس أو «الغريزة» أو «سورة الحياة» أو غير ذلك من الأسماء. ولقد وجدت أمثلة لهؤلاء المفكرين في مختلف عصور التاريخ، وكان رأيهم يختلف — في جزئياته — تبعًا للعصر الذي يعيشون فيه، وتبعًا للدور الذي يؤدِّيه العقل — خصمهم الأول — في ذلك العصر، وما زلنا نجد لهم أمثلة في حياتنا المُعاصِرة، في كتابات أولئك الذين لا همَّ لهم إلا أن يحطُّوا من شأن العقل ويُقلِّلوا من قيمة نتائجه، ولا هدف لهم إلا أن يُثبتوا قصور المعرفة البشرية وعجز العلم ذاته عن الوصول إلى حقيقة الأشياء.

ويتبع خصوم العقل هؤلاء أسلوبًا متشابهًا: فهم يبدءون من مقدِّمة صحيحة، ثم يستنتجون منها نتيجة باطلة. أما المقدمة الصحيحة فهي أن العقل ما زال عاجزًا عن كشف كثير من أسرار الكون، وأن هناك مشكلات كثيرة يعجز العقل عن حلها، ويتضح لنا فيها أن قدرته محدودة، وأما النتيجة الباطلة — التي يستنتجونها مما سبق — فهي أن العقل «بطبيعته» عاجز، وأنه سيظلُّ إلى الأبد قوة محدودة قاصرة، ومِن ثم فلا بد من الاعتماد على قوة أخرى غيره.

هذا الأسلوب الخادع في مهاجمة العقل يَنطلي — للأسف — على الكثيرين؛ لأنهم حين يَجدون المقدمة صحيحة — والشواهد تؤيدها بالفعل — يتصوَّرون أن النتيجة مترتبة عليها حقًّا، ولا بد أن تكون بدورها صحيحة؛ ومن ثم فإنهم يفقدون ثقتهم بالعقل من حيث هو أداة لاكتساب المعرفة وبلوغ الحقيقة، ولكن الواقع أن الاستنتاج باطل من أساسه، وأن ما نلمسه حولنا من عجز العقل عن حل مشكلات كثيرة لا يُثبت — على الإطلاق — أن العقل «في ذاته» قاصر.

ذلك لأن أصحاب هذه الحُجة الباطلة ينكرون تمامًا دور التاريخ، سواء في الماضي أم في المستقبل. فلو قارنَّا حالة المعرفة البشرية منذ خمسمائة عام مثلًا بما هي عليه الآن؛ لاتَّضح لنا أن العقل قد حقق إنجازات رائعة بحق، ولو قارنَّا نمط الحياة البشرية منذ مائة عام فقط بحالتها الراهنة؛ لتَبيَّن لنا أن العقل قد غيَّر وجه حياتنا تغييرًا تامًّا في هذه الفترة التي تُعدُّ — بالمقاييس التاريخية — فترة قصيرة. ومن المؤكد أن مراجعة سجل الإنجازات العقلية في الماضي تُثبت لنا أن العقل حقَّق أشياء ضخمة بحق، وأنه ليس على الإطلاق تلك القوة المحدودة القاصرة التي يُصوِّره بها الكثيرون. أما بالنسبة إلى المستقبل فإن الأمل في اتساع قدرة العقل هو أمل لا حدود له؛ فلو تخيَّلنا ما سيكون عليه العالم بعد خمسمائة سنة أخرى، مع عمل حساب التزايُد المطرد في معدَّل نمو الإنجازات العقلية العلمية، فإن الصورة التي سنُكوِّنها عندئذ أبعد ما تكون عن صورة ذلك العقل العاجز الذي يتحدثون عنه. صحيح أن العقل ما زال يجهل الكثير، وما زال يعجز عن الكثير، ولكنه أفضل أداة نملكها لكي نعرف عالَمنا ونسيطر على مشاكلنا، وبفضل هذه الأداة حققنا حتى الآن أشياء رائعة، وتغلبنا على مشكلات كنا نتصور في الماضي أنها لا تُحَل إلا بالسحر أو الخيال (بساط الريح أو الصندوق المتكلِّم من أقصى أطراف الأرض على سبيل المثال)، وهو يواصل سيره، فيُخطئ حينًا ويُصيب حينًا، ولكن الحصيلة العامة لمسيرته تُمثِّل انتصارًا رائعًا للإنسان. وحسبنا أن نُقارن بين القرون الأربعة التي استخدم فيها الإنسان عقله أداةً لبلوغ المعرفة (من القرن السابع عشر حتى القرن العشرين) وبين القرون السبعة عشرة التي سبقت ذلك، والتي كانت أداة المعرفة المستخدمة فيها واحدة من تلك التي يَدعو إليها خصوم العقل. حسبنا أن نُجْرِي هذه المقارنة لكي ندرك أن قضية إنكار قدرة العقل — لمجرَّد كونه لم يتوصل حتى الآن إلى كل شيء — هي في صميمها قضية خاسرة.

على أن خصوم العقل لا يتَّخذون جميعًا هذا الموقف الفج، بل إن منهم من يحاولون أن يَصبغوا الملَكة التي يدافعون عنها ضد العقل — أعني الحدس — بصبغة أكثر تعمقًا، ويُضْفُون على مهاجمتهم للعقل طابعًا أكثر منطقية. وبغضِّ النظر عن التناقض الواضح في مهاجمة العقل بطريقة تَعتمد على «منطق سليم» — أي على منهج «عقلي» — فإن رأي هؤلاء بدوره — وإن كان في مظهره أدعى إلى الاحترام من الرأي السابق — لا يقلُّ عن غيره تهافتًا.

والمثل الواضح على هذا هو موقف الفيلسوف الفرنسي «هنري برجسون» الذي مات في الأربعينيات من هذا القرن، والذي شهد انتصارات حاسمة للعقل منذ بداية القرن العشرين. فقد دافع برجسون بحماسة فائقة عن «الحدس»، الذي هو في نظره الملَكة القادرة على النفاذ بنا إلى العمق الباطن للأشياء، فنعرف بذلك «ما هو فريدٌ منها؛ ومن ثم ما يندُّ فيها عن كل تعبير». أما العقل فلا يكشف لنا إلا عن السطح الظاهر للأشياء؛ والدليل على ذلك أنه يستخدم في التعبير عن قوانينه لغة الرياضيات، والرياضيات لا تتضمَّن إلا تجريدات شديدة العمومية. فالعقل إذن يُقدِّم إلينا معرفة بأعم صفات الأشياء، وهو يُجرِّد موضوعاته من مضمونها الحي الملموس؛ لكي يُحوِّلها إلى صيغ وأرقام ومُعادَلات عجفاء باردة. والفرق بين معرفة الحدس ومعرفة العقل أشبه بالفرق بين الإنسان النابض بالحياة وهيكله العظمي. ولكي نكون مُنصِفين فإن برجسون لا ينكر العلم المُعتمِد على العقل، بل يراه غير كافٍ، ويضع إلى جواره ذلك النوع الآخر من المعرفة، الذي اعتقَد أنه أعمق من المعرفة العقلية بكثير.

والمشكلة في هذا النوع من المفكرين هي أنهم يَخلطون — على نحوٍ مؤسف — بين مقتضيات الحياة الشخصية والتجارب الفنية والشِّعرية من جانب ومقتضيات المعرفة العلمية من جانب آخر. فكل ما يقوله برجسون صحيح، ولكن في مجال معيَّن لا يتعداه؛ ذلك لأنني حين أكون بصدد تجربة شخصية — كتجربة صداقة أو حب — يكون الحدس عنصرًا أساسيًّا في معرفتي بالآخر؛ لأني لا أريد أن أعرف عنه «معلومات» فحسب، بل أريد أن أُحسَّ به كإنسان، وأن أنفذ إلى ما هو عميق وفريد فيه. وأمثال هذه التجارب هي التي يتخذها الشعراء والفنانون موضوعات لأعمالهم الفنية. بل إن هؤلاء الأخيرين يمرُّون بتجارب كهذه حتى مع «الأشياء»؛ فالشجرة التي يصفها الشاعر هي شجرة يُقيم معها علاقة حميمة خاصة، وليست على الإطلاق هي الشجرة التي يمر عليها عابر السبيل أو يصف العالم خصائصها العامة ويُحدِّد فصيلتها النباتية … إلخ. والمصوِّر يَنفذ بعينَيه إلى أعماق الطبيعة التي يُصوِّرها في لوحاته، فيَكتشِف في الجماد صفات فريدة تخفى على العين التي لا تتعامل مع هذا الجماد إلا من حيث هو «أداة» فحسب.

وإذن فقد كان برجسون وغيره من أنصار الحدس يَتحدَّثون بالفعل عن نوعٍ خاص من المعرفة، نوع يَنطبق على مجالات معينة، ويحتاج الإنسان إليه بالفعل في مواقف معيَّنة من حياته. وإلى هذا الحد لا يملك أحد أن يعترض عليهم بشيء، ولكن المشكلة هي أنهم يقارنون بين هذا النوع وبين المعرفة العقلية في العلم، ويتَّهمون هذه الأخيرة بالقصور، اعتمادًا على أن المعرفة الحدسية أعمق منها، ولو كانوا قد اقتصروا على تحديد المجال الذي يَسري عليه كلٌّ من نوعَي المعرفة هذَين، لما كان لنا عليهم أي مأخذ.

ذلك لأن الإنسان يحتاج بالفعل إلى نوعي المعرفة هذَين، كلٌّ في مجاله الخاص، ولكي نُدلِّل على ذلك: يَكفينا أن نتخيل ماذا كان يُمكن أن تكون عليه حياة الإنسان لو أنه كان يقتصر — منذ فجر تاريخه — على ذلك النوع المحبَّب إلى نفوس أنصار الحدس. فلو كان الشكل الوحيد لعلاقة الإنسان بالإنسان أو لعلاقته بالطبيعة هو الصِّلة المباشرة الوثيقة التي تتعمَّق فيما هو فردي وتترك جانبًا ما هو عام في الأشياء؛ لكان الإنسان قد مرَّ بتجارب شخصية عميقة بغير شك، ولكان حسُّه الفني قد أصبح أشد إرهافًا مما هو عليه الآن، ولكان أكثر رقة وشاعرية … هذا كله محتمل، ولكنَّ الإنسان كان سيقف عندئذ عاجزًا عن «فهم» الظواهر التي تَحدُث حوله، وعن «السيطرة» عليها، وكانت حياته الذهنية والروحية — فضلًا عن حياته المادية بالطبع — ستُصبِح عندئذ هزيلة خاوية، يملؤها فراغ الجهل وقصور العقل.

ولا شك أن لهذه الحجة وجهًا آخر ينبغي ألا نُغفله هو الوجه العكسي … فلو كانت حياة الإنسان قد خلَت تمامًا من عنصر التجارب الشخصية واقتصرت على عنصر المعرفة العقلية العِلمية؛ لفقَدَ الإنسان تلك المتعة التي تبعثها المعرفة الشخصية والعلاقة الباطنة الحميمة، ولافتقرت الحياة إلى بُعد من أبعادها الهامة التي تبعث فيها الدفء وتشيع فيها الحرارة.

ولكن الذي حدث فعلًا هو أن الإنسان قد سار في الطريقين معًا. واختيار الإنسان لهذا المسار المزدوج يعكس حكمة عميقة؛ إذ يدلُّ على أنه قد وجد الجانبين ضروريين، ولم يُحاول أن يستغني عن أحدهما لحساب الآخر. ومعنى ذلك أن اتهام العقل بالعجز عن أداء الوظيفة التي يؤديها الحدس — في مجال العلاقات الشخصية — هو اتهام لا مبرِّر له، وهو خلط بين ميدان وميدان؛ فالعلم المرتكز على العقل شكل ضروري من أشكال المعرفة، وكان لا بد أن يتخذ طابعه هذا حتى ينمو ويتطور، ومهاجمته باسم تلك التجربة «الفريدة التي لا يمكن التعبير عنها» هي خلق بين ما يصلح على مستوى العلاقات الشخصية، وما يصلح على مستوى المعرفة العامة. فالإنسان محتاج إلى أن يكون العاطفة والعقل، والخطأ لا يكون في تأكيد أي من هذين الجانبين، بل هو يبدأ منذ اللحظة التي نحاول فيها أن نطبق مبادئ أحد الجانبين على الآخر، أو ننقد أحد الجانبين باسم الآخر.

(٤) التعصب

التعصُّب هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة وبأن غيره يفتقرون إليها؛ ومن ثم فهم دائمًا مخطئون أو خاطئون. ومن هنا فإن التعصب — الذي يتخذ شكل تحمُّس زائد للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو للعقيدة التي يَعتنقها — يتضمن في واقع الأمر بُعدًا آخر؛ فهو يمثل في الوقت نفسه موقفًا معينًا من الآخرين، فحين أكون مُتعصِّبًا لا أكتفي بأن أنطوي على ذاتي وأنسب إليها كل الفضائل، بل ينبغي أيضًا أن أستبعد فضائل الآخرين وأُنكرها وأهاجمها، بل إنني في حالة التعصُّب لا أهتدي إلى ذاتي، ولا أَكتشِف مزاياي إلا من خلال إنكار مزايا الآخرين. وهذا هو الفرق بين التعصُّب وبين الاعتداد بالنفس الذي هو شعور مشروع؛ إذ إن المُعتدَّ بنفسه لا يَبني تمجيده لنفسه حتمًا على أنقاض الآخرين، بل قد يعترف لهم بالفضل مع تأكيده لفضله هو أيضًا، أما المتعصب فلا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم الغير، ولا فارق عنده بين هذه العملية وتلك؛ لأنه يهدم غيره وليس في ذهنه إلا تأكيد ذاته، كما أنه لا يُؤكِّد ذاته إلا مُستهدِفًا الحط من الآخرين.

ولكن إذا قلنا: إنَّ المتعصِّب يُؤكد «ذاته» من خلال هدم آراء الآخرين، فما الذي نعنيه بكلمة «ذاته» هذه؟ هل هي «ذاته» من حيث هو فرد؟ هل يريد المُتعصِّب أن يؤكد آراءه أو مواقفه الشخصية على حساب الآخرين؟ الواقع أن جوهر التعصُّب لا يَكمن في اتخاذ مثل هذه المواقف الشخصية، بل يكمن في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها، وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أية جماعة أخرى. فالمتعصب — في واقع الأمر — يمحو شخصيته وفرديته، ويُذيب عقله أو وجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها، بحيث لا يُحسُّ بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة، ولو كان يُؤكِّد نفسه بوصفه فردًا له شخصيته المميزة لما أصبح مُتعصِّبًا.٤

فلنتأمل مثلًا صارخًا من أمثلة التعصب — تابَعَه العرب جميعًا بكل جوارحهم خلال ما يقرب من عامين — هو ما حدث في لبنان من بداية عام ١٩٧٥ حتى نهاية عام ١٩٧٦، فهل كان واحد من أولئك الذين يَقتلون أفراد الطائفة الأخرى «على الهُوية» يفكر في نفسه بوصفه فردًا، أو يُفكِّر في ضحيته من حيث هو شخص له كيانه الخاص؟ الحقيقة أنه لم يكن ينظر إلى نفسه إلا من حيث هو ينتمي إلى «طائفة»، وكذلك كانت نظرته للضحية. وقد يكون كلٌّ منهما — على المستوى الشخصي — صديقًا للآخر أو زميلًا يتعامل معه منذ سنوات، ولكن هذا كله يُنْسَى عندما يُسَيطِر التعصُّب، وتُصبح أهم صفاتي وأهم صفات الآخر هي نوع الجماعة التي أنتمي وينتمي إليها. والحق أن تعبير «القتل على الهوية» كان تعبيرًا يُعبِّر ببلاغة عن حالة التعصب بأسرها؛ فهو لا يعني فقط القتل تبعًا لنوع «البطاقة» التي يَحملُها المرء والتي يتحدد فيها انتماؤه الطائفي، بل تعني أيضًا قتل الآخر لأنه وضع نفسه «في هُوية» مع الطائفة الأخرى، أي في انتماء إليها. فكلُّ مُتعصِّب يعلو بنفسه بسبب «هويته» مع جماعته، ويقتل الآخر — بالجسد أو بالفكر — بسبب «هويته» مع جماعة أخرى.

ويَترتب على ذلك أن المتعصب لا يفكر فيما يَتعصَّب له، بل يقبله على ما هو عليه فحسب، وهنا تَتمثَّل خطورة التعصُّب من حيث هو عقبة في وجه التفكير العِلمي؛ فالتعصب يُلغي التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد، ويُشجِّع قيم الخضوع والطاعة والاندماج، وهي قيم قد تَصلُح في أي مجال ما عدا مجال الفكر، وهذا يُؤدِّي بنا إلى صفة أخرى أساسية في التعصُّب، هي أنه ليس موقفًا تختاره بنفسك، بل موقف «تجد نفسك فيه»، ولو شاء المرء الدقة لقال: إنَّ التعصُّب هو الذي يَفرض نفسه على الإنسان، وهو أشبه بالجو الخانق الذي لا نَملك مع ذلك إلا أن نتنفَّسَه. فالتعصُّب يكره الآخرين من خلالي أو يقتلهم بواسطتي، وما أنا (أو أي فرد) بالنسبة إلى التعصب سوى أداة يتخذها لتحقيق هدفه المشئوم؛ ذلك لأنني حين أَقع تحت قبضته لا أُصبح شيئًا ولا أسعى من أجل شيء إلا لكي ألبِّي نداءه.

ولكن لماذا يَنتشِر التعصُّب إلى هذا الحد؟ ولماذا يُطلُّ برأسه البغيض ويُذكِّرنا بطبيعته البشعة بطريقة دامية حتى في صميم القرن العشرين؟ ذلك لأن التعصُّب يُمثِّل حاجة لدى الإنسان إلى رأي يَحتمي به، ويُعفي نفسه من التفكير في ظلِّه، والواقع أنَّ الحماية هنا متبادلة؛ فالرأي الذي نتعصَّب له يَحمينا؛ لأنه يؤدِّي إلى نوع من الهدوء أو الاستقرار النفسي، ويضع حدًّا لتلك المعركة القَلِقة التي تنشب في نفوسنا حين نستخدم عقولنا بطريقة نقدية، ولكننا من جهة أخرى نضمَن الحماية لهذا الرأي ذاته عن طريق رفض كل رأي مُخالِف ومهاجمته بعنف والسعي إلى «تصفيته» بالمعنى الحاسم لهذا اللفظ. وإذن فكلٌّ من المتعصب ورأيه أو عقيدته يحمي الآخر، ولكن الواقع أن هذه حماية خادعة مضلِّلة؛ فهي من نفس نوع الحماية التي يكفلها لنا الخمر أو المُخدِّر؛ لأنها ترتكز أساسًا على تخدير التفكير وإبطاله، ولأنها تضع أمامنا صورة باطلة للواقع لا ترتكز على دليل أو منطق، بل تستمد قوتها كلها من تحيُّزنا لها بلا تفكير.

وهذا ينطبق على كل شكل من أشكال التعصُّب؛ فالتعصب العنصري والتعصب القومي المتطرف والتعصب الديني؛ كل هؤلاء يشاركون في سمات واحدة: الانحياز إلى موقف الجماعة التي ننتمي إليها دون اختيار ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين والاعتقاد أنهم «أحط»، وإغلاق أبواب عقلك ونوافذه إغلاقًا محكمًا حتى لا تَنفُذ إليه نسمة من الحرية؛ لأنَّ هذه النسمة — مهما كانت خفيفة — يُمكن أن تُهدِّد موقفك الذي تتعصَّب له، وتُهدِّدك أنت نفسك بقدر ما وحَّدت نفسك مع ما تتعصب له.

وأعظم الأخطار التي يجلبها التعصُّب على العلم هو أنه يجعل الحقيقة ذاتية ومُتعدِّدة ومُتناقِضة، وهو ما يتعارض كليةً وطبيعة الحقيقة العلمية، فكل مُتعصِّب يؤمن بحقيقته هو، ويؤكد — بلا مناقشة — خطأ الآخرين، ومنك حين تَنتقل إلى هؤلاء الآخرين تجدهم يؤكدون هذا الشيء نفسه عن «حقيقتهم» الخاصة، ويؤكدون خطأ الأول. وهكذا تضيع الحقيقة — بالمعنى العقلي والعلمي — في هذا التشتُّت والتناقض، ولو كان العقل هو الحكم بين الناس لما تعدَّدت «حقائقهم» أو تناقضت.

وعلى الرغم من وضوح هذه الفكرة فإن الإنسانية عاشت على ما تعتقد أنه «حقائق» ذاتية — تتعصَّب لها بلا تفكير — فترة أطول بكثير مما عاشت على حقائق موضوعية تتناقش فيها بالحجة والبرهان. بل إن عدد أولئك الذين يَقتنعون بآراء ومواقف يَتعصَّبون لها دون نقد أو اختيار — في عالَمنا المعاصر — يفوق بكثير عدد أولئك الذين لا يَقبلون الرأي إلا بعد اختياره بالعقل. ومن هنا فإن المعركة الطويلة من أجل مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة مُستمرَّة. وصحيح أنه يبدو — ظاهريًّا — أن التسامُح قد تغلَّب على التعصب منذ أن أحرز العلم انتصاراته الكبرى في العصر الحديث، ولكن الحقيقة — للأسف — غير ذلك، فما زال التعصُّب كامنًا في النفوس، حتى في تلك البيئات التي يبدو فيها أنه قد اقتلَع من جذوره، وتكفي أية هزة قومية أو اجتماعية عنيفة لإيقاظه من سباته وتجديد قوته الطاغية، كما حدث أيام ألمانيا النازية في النصف الأول من هذا القرن، وكما يَحدث بيننا في لبنان. وهذا وحدَه دليلٌ على أن معركة العقل ضد التعصُّب لم تنته بعد، وعلى أن الإنسانية ما زالت في حاجة إلى «قرابين» كثيرة قبل استئصال آفة التعصب من النفوس.

على أن هذه معركة لا بد من خوضها؛ ذلك لأن التعصُّب هو — في واقع الأمر — عقبة متعدِّدة الأطراف، تقضي قضاءً تامًّا على كل إمكان للتفكير العلمي إذا تُرِكَ لها المجال لكي تَنتشِر وتُسيطِر. فبقدر ما يعدُّ التعصب في ذاته شيئًا بغيضًا ذا ضرر فادح للعلم؛ نجد ضرره هذا لا يقتصر على ما تؤدي إليه رُوح التعصب وحدها، بل إنه يجمع في داخله كل العقبات التي تحدَّثنا عنها من قبل، والتي حالت — وما زالت تحول — دون انطلاق التفكير العلمي بلا قيود. فالتعصب ينطوي على خضوعٍ تامٍّ لسلطة المبدأ الذي نتعصَّب له. وكل مُتعصِّب ينظر إلى طريقة تفكيره الخاص — أو على الأصح طريقة تفكير الجماعة التي ينتمي إليها — على أنها سلطة لا تقبل المناقشة، كما ينطوي التعصب على تفكير أسطوري؛ إذ إنَّ الموضوع الذي نتحيز له — في حالة التعصب — يتحول إلى أسطورة، فيختفي طابعه الحقيقي ويحل محله طابع وهمي مختلق، فضلًا عن أن المُتعصِّب يتمسك برأسه بطريقة خلت من كل منطق. وهو بطبيعته يُشجِّع التفكير اللاعقلي؛ لأنه هو الدعامة الوحيدة لمَوقفِه. ومن هنا كان أساس النازية هو «أسطورة» الجنس الآري المتفوِّق، وكان أساس التفرقة العنصرية هو «أسطورة» الجنس الزنجي المُنحَط، إلى غير ذلك من الأساطير التي يستند إليها كلُّ شكل من أشكال التعصُّب.

ومجمل القول: إن التعصب «عقبة مركَّبة» تعترض طريق التفكير العلمي، ومن هنا كانت المعركة التي ينبغي أن يشنَّها عليه هذا التفكير حاسمة؛ إذ إن العقل البشري لا يستطيع أن يجد حلًّا وسطًا بين الاثنين، فإما العلم وإما التعصُّب، ولا بد من القضاء على أحدهما لكي يبقى الآخر.

(٥) الإعلام المضلل

الإعلام هو نقل المعلومات أو توصيلها، وهو يختلف عن التعليم في أن هذا الأخير يتخذ طابعًا مُنتظمًا، ويتعلق بفئة هي في الغالب في مقتبل العمر، يُعدُّها المجتمع لمواجهة الحياة ويُلقِّنها قيَمه المعنوية ومعارفه العلمية. أما الإعلام فليس له مثل هذا الطابع المُنتظِم، ولا يقتصر على فئة معينة من الناس، ولا يحتاج — في كثير من جوانبه — إلى استعداد للإفادة منه؛ فعلى حين أن الإعلام عن طريق الصحافة — وهو الشكل الوحيد للإعلام حتى القرن الماضي — كان يَفترض معرفة بالقراءة، ومن ثم كان الجمهور الذي ينتفع به محدودًا، فإن الإعلام عن طريق الوسائل المسموعة والمرئية (كالراديو والتليفزيون والسينما) لا يحتاج من ناحية جمهوره إلى إعداد سابق؛ ومن ثم فمن الممكن أن يَتأثَّر به أكبر عدد من الناس.

على أن هذا التمييز بين الإعلام والتعليم ظاهرة حديثة، بدأت عندما ظهرت وسائل للإعلام مستقلة عن نُظُم التعليم وأجهزتها، أما قبل ذلك فكان الحد الفاصل بين الإعلام والتعليم لا يكاد يكون ملحوظًا؛ فلم تكن هناك وسائل للإعلام — غير التعليم المُنظَّم — سوى التلقين الشفوي المباشر من شخص إلى آخر، كالحوار في الأسواق أو الخطابة في دور العبادة أو الساحات العامة، أو إلقاء الشِّعر على الجمهور بقصد التوجيه.

هذا النوع من الإعلام المباشر كان يؤدي — في العصور الغابرة — وظيفةً مُزدَوجة؛ فمِن المُمكن — إذا ساده مبدأ الحوار — أن تنجم عنه نهضة عقلية عظيمة، وهو ما حدث بالفعل عند اليونانيين؛ حيث اقترن الإعلام عن طريق الحوار، وعن طريق الخطابة السياسية المقترنة هي الأخرى بالمناقشة والحوار بنظام ديمقراطي فريد من نوعه ساد حياة اليونانيِّين طوال فترة غير قصيرة من تاريخهم القديم. أما إذا ساده مبدأ التلقين من طرف واحد، والخضوع التام من الطرف الآخر، فإنه يؤدِّي إلى تقوية السلطة الفكرية عند القلة ذات الشأن من أهل العلم، ومن ثم يكون عائقًا في وجه أية نهضة علمية حقيقية، وهذا ما حدث في العصور الوسطى، حين كانت وسيلة نقل المعرفة والمعلومات هي التلقين المباشر من رجال الدين لأتباعهم الذين لا يَملكون إلا أن يسمعوا ويُطيعوا، أو حين كان القادرون على إعلام الآخرين فئة ضئيلة يحج إليها طلاب المعرفة من كل أرجاء الأرض؛ لكي يَتتلمذوا على أيديها، ويتشكَّلوا بطابعها وقالبها.

على أن ظهور الطباعة قد افتتح عهدًا جديدًا في نشر المعلومات، يمكن أن يوصف بأنه كان في اتجاهه العام أكثر «ديمقراطية» من أي عهد سابق؛ فعن طريق الطباعة أمكن المعرفة إلى أعداد أكبر بكثير وبنفقات أقل، وأُتِيحَت للراغبين في العلم فرصة الاطِّلاع على كميات من الكتب تزيد بمراحل عما كان يُتاح لطالب المعرفة في عصر المخطوطات. والأهمُّ من ذلك كله أن المعلومات لم تَعُد مرتبطة بمركز معين يَحتكِر تقديمها ويفرض طابعه الخاص على من ينضمُّون إليه، بل إنها أصبحَت مُتاحة للناس في بيوتهم وعلى نطاق واسع، وأصبح في الإمكان لأول مرة أن ينظر المرء إلى الكتاب على أنه حافز للتفكير المُستقل، لا على أنه قيد على استقلال قارئه؛ إذ لم يَعُد الكتاب مرتبطًا حتمًا بشخصية كاتبه، ولم يعد الناس مُضطرِّين إلى تلقِّي التفسيرات من المؤلِّف نفسه، بل إن المعلومات المتضمنة أصبحت متوافرة بصورة موضوعية مستقلة عن الكاتب، بحيث يستطيع كل إنسان أن يتخذها مُنطلَقًا لتفكُّره الخاص. وهكذا كان عصر الطباعة يعني — من الناحية العمَلية — هدم مبدأ السلطة بوصفِه أساسًا للمعرفة، وبداية عهد جديد من الإعلام الواسع النطاق، المُتحرِّر من قيود السلطة.

ولسنا في حاجة إلى سرد بقية القصة التي بدأت منذ عهد انتحار الطباعة حتى اليوم؛ فقد كان استخدام المطبعة في إخراج صُحُف تُقدم إلى الناس — على أوسع نطاق — إعلامًا أسهل فهمًا وأقرب إلى حياة الناس اليومية مما تُقدمه الكتب، كانت تلك خطوة كبرى في طريق التقدم الإعلامي، وعندما ظهرت أولى وسائل الاتصال عن بُعْد — كالتلغراف ثم التليفون — ازداد الترابط الإعلامي بين الناس، واكتسب الإعلام مزيدًا من الجماهيرية حين ارتبط بفن السينما، وبدأت تلوح في الأفق إمكانية جديدة، هي ربط العالم كله بشبكة من المعلومات التي تَصلُ إلى أبعد أطرافه في أسرع وقت.

وقد تحقَّقت هذه الإمكانية — إلى حدٍّ بعيد — بعد اختراع الإذاعة اللاسلكية والإذاعة المرئية، أي الراديو والتلفزيون، وسرعان ما أصبحت هذه الوسائل الجديدة أقوى وسائل الإعلام كلها، واكتسبت بالفعل طابعًا عالَميًّا متزايدًا، يَتمثَّل في وصول الإذاعات إلى أبعد أطراف الأرض، وإمكانيات البث التليفزيوني في مختلف أرجاء العالم عن طريق الأقمار الصناعية، وأصبح للتلفزيون — على وجه التحديد — دور إعلامي يفوق دور جميع الوسائط الأخرى؛ وذلك أولًا لأن «الصورة» لغة عالَمية تتخطَّى حواجز اللغات المحلية المُستخدَمة في الصحافة أو الإذاعة. وثانيًا لأنه يدخل كل بيت، ولأن المُتفرِّج يُشاهده وهو في حالة استرخاء لا يبذل فيها مجهودًا ذهنيًّا؛ ومن ثم يكون التأثير الإيحائي أيسر وأعمق.

على أنَّ تَحقُّق هذا الحلم كان يبدو مستحيلًا منذ قرن واحد فقط كان لا بد أن يكون له تأثيره — إيجابًا أو سلبًا — على التفكير العلمي؛ فوسيلة الإعلام التي تَقتحِم كل بيت، والتي تُخاطب أفراد الأسرة جميعًا، والتي تُقدِّم موادَّها في إطار من الترفيه أو التسلية، تستطيع أن تقوم بدور عظيم الأهمية في نشر قيَم التفكير العلمي أو في هدمها، سواء أكان ذلك عن طريق ما تُقدمه من مواد علمية مباشرة، أم عن طريق البرامج التي تبث فيها هذه القيم بصورة غير مباشرة وهو الأغلب.

والأمر الذي يدعو إلى الأسف هو أن الاتجاه الغالب — على ما تُقدِّمه هذه الوسائل الإعلامية الواسعة الانتشار — لا يخدم قضية التفكير العلمي ولا يُساعد على نشر قيَمِه بين الجماهير العريضة التي تتأثَّر بهذه الوسائل. وقد بدأَت تجربة تشكيل عقول الناس وصبها في قوالب واحدة تخدم أغراض نظام معين في الحكم أيام العهد النازي في ألمانيا، ونجَحَت إلى حد كبير في شل القدرة على التفكير المستقل عند شعب عريق كالشعب الألماني، واستطاعت أن تَجرَّ الملايين منه طائعين مُختارين — أو على الأصح مخدَّرين بالدعاية المنظمة — إلى مذبحة الحرب العالمية الثانية؛ لكي يَرتكبوا أفعالًا أصبحوا هم أنفسهم يَعجبون — بمجرد أنْ زال عنهم سِحر الدعاية وتخديرها — كيف رضوا لأنفسهم أن يَرتكبوها. وكانت تلك أول تجربة «علمية» من أجل تشكيل عقول البشر ونزع قدرتها على التساؤل والمقاوَمة بالتدريج، حتى تَستسلِم آخر الأمر لكل ما يُلقِّنها إياه نظام الحكم القائم.

ومنذ ذلك الحين ازدادت الدراسات العلمية المُنظَّمة التي تستهدف البحث عن أقوى وسائل التأثُّر الإعلامي في الجماهير، واستُخدم في إجرائها عدد غير قليل من العلوم الإنسانية، وخاصةً بعض فروع علم النفس. وصحيح أن هذه الدراسات تتخذ مظهرًا عِلميًّا وقورًا، ولكنها تهدف في أغلب الأحيان إلى بحث أفضل الطرق لتزييف عقل الإنسان أو الانحراف بإرادته في اتجاهات مرسومة مُقدَّمًا، ويندر أن نجد بينها بحثًا يستهدف إيجاد أفضل الوسائل لزيادة الوعي وتقويم الأفكار المعوجَّة بين الناس عن طريق وسائط الإعلام.

وتسير عملية التزييف هذه — في الوقت الراهن — في طريقين؛ الأول منهما تجاري، هدفه الأول والأخير ترويج السلع بين الناس، حتى لو لم يكونوا في حاجة ماسَّة إليها، وحتى لو كانت احتياجاتهم الحقيقية تتعلَّق بأشياء مختلفة عنها كل الاختلاف. وفي سبيل ذلك تقوم شركات الإعلان — التي تَعتمِد على العديد من العلماء والباحثين — بابتكار أكثر الطرق فعالية لخَلقِ حاجات أو رغبات مُصطَنعة بين الناس، وللقضاء على قدرتهم على التمييز بين ما هو ضروري وما هو غير ضروري. وعادةً تنتشر هذه الإعلانات — في البلاد التي تعتمد على الاقتصاد الحر — وسط برامج إذاعية أو تليفزيونية تتَّفق عليها الشركة المنتجة خصوصًا لكي تُروِّج سلعها في فترات معينة خلال العرض، ولا بد أن تكون هذه البرامج من نوع يشد المتفرج حتى تظلَّ عيونه وآذانه وعقله مثبتة على الجهاز، وهكذا يؤدِّي هذا الأسلوب إلى ضرر مُزدوَج؛ لأنَّ البرنامج المقدَّم نفسه حافل بالإثارة والعنف والجريمة والجنس الرخيص، وكلها أمور تُؤثِّر في ملكات التفكير السليم لدى البشر، فضلًا عن أن المادة الإعلانية نفسها تحرص — بطرق مدروسة — على تعهُّد عناصر الرغبة الرخيصة أو التافهة وتجاهُل أي عنصر جاد في طبيعة البشر.

أما الطريق الثاني الذي تسير فيه عملية التزييف هذه فهو طريق سياسي؛ إذ إن نظم الحكم المختلفة تستعين بأجهزة الإعلام من أجل دعم مركزها بين شعبها أو بين الشعوب الأخرى، وتلجأ إلى أساليب تتنافى مع مقومات التفكير السليم؛ فتُلحَّ مثلًا على نشر صورة زعيم معيَّن وتضخيم أخباره وتكرارها بلا انقطاع، وتستخدم كل أنواع المغالطات من أجل تبرير تصرفاته، وهو أمر لم يكن يحدث في فترات التاريخ السابقة على الإطلاق، حين لم يكن الناس يرون زعماءهم أو يَسمعونهم إلا نادرًا، ومعظم العقول تستسلم بسهولة لهذه الدعاية الملحَّة المُتكرِّرة، ولكن العقول الواعية نفسها قد تظلُّ تقاوم تأثير الدعاية، وتحتفظ بقدرتها على التفكير المستقل إلى حين، ثم لا تجد أمامها مفرًّا من الاستسلام آخر الأمر؛ لأن الدعاية «العلمية» الحديثة تعمل بحرص ودأب على إشاعة العقلية التي تُصدِّق وتَستسلِم، وعلى هدم رُوح النقد ونشر رُوح الانقياد. وهكذا قد يجد المجتمع نفسه يؤيد نُظمًا جائرة، ويُصفِّق لزعماء يظلمونه؛ لأن الدعاية الحديثة أفقدته كل قدرة على التفكير السليم والرؤية الواضحة.

ولقد أُتيحت لي ذات يوم فرصة لتجربة طريقة تكشف عن طبيعة الأساليب التي تَستخدِمها النُّظُم السياسية مع شعوبها عن طريق الدعاية؛ إذ كان هناك مؤتمر حضره رؤساء مجموعة من الدول، وشاءت المصادفات أن أسافر بعد انتهاء المؤتمر مباشرةً وأمرَّ في طريقي بسرعة على أربع دول اشترك رؤساؤها في هذا المؤتمر، وقد حرصتُ على قراءة الصحف في هذه الدول الأربع، فإذا بي أجد الصحافة في كل دولة تُصوِّر المؤتمر وكأنه كان — من بدايته إلى نهايته — يدور حول مِحوَر رئيس دولتها نفسه؛ فهو الذي جذب انتباه الجميع، وهو الذي أقنع الجميع باقتراحاته، وهو الذي بذَل أعظم جهد لإنجاح المؤتمر … إلخ. وتكرَّر هذا الموقف بحذافيره في كل دولة من الدول الأربع؛ بحيث يظنُّ شعب كلٍّ من هذه الدول أن رئيسه كان أبرز الجميع وأذكاهم وأقدرهم على الإقناع، على حين أن الباقين كانوا يقتدون به ويأخذون منه المشورة … إلخ.

وهكذا فإن وسائل الإعلام الحديثة، التي كانت تُبشِّر بعهد تنتشر فيه المعلومات على أوسع نطاق، وتزول فيه حواجز الزمان والمكان لكي تُصبح فرص المعرفة والاستفادة متاحة للجميع؛ هذه الوسائل قد استُغلَّت — في الأغلب — من أجل خلق عقول نمَطية قابلة للإيحاء والاستغلال من أجل تحقيق أهداف فئة قليلة تتحكَّم في الإعلام، وليس معنى ذلك أن نتيجة انتشار هذه الوسائل كانت شرًّا كلها؛ إذ إن البشر — بغير شك — أصبحوا الآن أقدر بكثير على اكتساب المعلومات مما كانوا في العصور الماضية، ولكن الأمر المُؤسِف هو أن الإمكانات الهائلة لهذه الوسائل ذات الانتشار عظيم الاتساع قد استُغِلَّت في أغلب الأحيان للإضرار بقدرة الناس على التفكير السليم.

ولا يستطيع المرء أن يستثني من هذا الحكم أي نظام من النُّظُم الرئيسية السائدة في عالم اليوم؛ فالمعسكر الاشتراكي يلجأ في أحيان كثيرة إلى حَجبِ حقائق أساسية (كما يحدث في حالات الأزمات أو الكوارث) أو ذكرها بإيجاز شديد لم تكن في مصلحته، وكثيرًا ما يكون الرأي الآخر فيه مرفوضًا، بل تكون إمكانية ظهوره مُنعدمةً أصلًا؛ بحيث تضيع على الناس فرصة الحوار المُثمِر بين أطراف متعارضة. والحجة التي تقال في هذا الصدد هي أن هناك غاية أساسية أو هدفًا أساسيًّا ينبغي أن يُسخَّر كلُّ شيء لخدمته، ولكن المشكلة هي أن بعض الناس ما زالوا يؤمنون بأن قيمة الحقيقة لا يعلو عليها شيء، وبأنها — في صميمها — لا تتعارَض مع أية قضية شريفة.

أما المعسكر الرأسمالي فيتفنَّن في إخفاء ممارساته في هذا الميدان؛ إذ إن الأمور تبدو ظاهريًّا وكأن الإعلام الحر مُتاح للجميع، بل إنه يتخذ من هذا المظهر «الليبرالي» دعامة أساسية لدعايته، على أساس أنه يتفوق به على النظام المضاد تفوُّقًا ساحقًا، ولكن هذا ليس إلا المظهر الخارجي فحسب؛ إذ إن الإعلام عنده لا يعبر إلا عن مصالح فئة واحدة من الناس، هي الفئة القادرة على أن تُموِّل الإعلام بإعلاناتها. ومن المعلوم أن الصُّحف الكبرى ومحطات الإذاعة والتليفزيون تعتمد في تمويلها — كليًّا أو بنسبة كبيرة — على أموال المُعلِنين، هذا فضلًا عن أن هذه المؤسسات الإعلامية الرئيسية هي — في أغلب الأحيان — «شركات» تسير في أعمالها وفقًا للمنطق الرأسمالي البحت، ولا يُمكن أن تسمح بإعلام يؤدِّي إلى هدمها. وهكذا يفتقر هذا النظام بدوره إلى الإعلام الصادق، وإن كان في سيطرته على الإعلام يتبع أساليب أذكى وأبعد عن الطابع الصَّريح المباشر من تلك التي تتبعها النُّظم الاشتراكية.

ولقد تعمَّدنا أن نتحدَّث عن وضع الإعلام في النظامَين العالميَّين الكبيرَين، بعد الحديث عن خضوع الإعلام — بوجهٍ عام — للأغراض التجارية أو السياسية؛ وذلك لكي نَستخلِص من هذا العرض السريع نتيجة ربما كانت مُؤلِمة، ولكنها للأسف ضرورية، وأعني بها أن الإعلام الذي اتخذ في عصرنا الحاضر أبعادًا هائلة، وأصبَح تأثيره فعالًا على كل عقل، يتجه أكثر فأكثر إلى الابتعاد عن الموضوعية والنزاهة اللازمة لكلِّ تفكير علمي؛ ومن ثم فإن هذه القوة الضخمة التي كان الناس يأملون منها أن تنشر الوعي وترعى القيم الفكرية الصحيحة؛ قد أصبحت تُستخدَم في معظم الأحيان بطريقة لا تُساعد على تأكيد رُوح التفكير العلمي بين البشر.

ولو أمعن المرء النظر في الفلسفات المتحكِّمة في الإعلام المعاصر؛ لتبين له أنه لا يكاد يكون هناك اعتراف بالقيمة المُطلقة «للحقيقة»، تلك الحقيقة التي تعلو على أيِّ اعتبار آخر، سواء أكان ذلك مصلحة طبقة أو حزب أو حتى مصلحة مجتمع كامل؛ فالحقيقة أصبحت «موظفة»، بمعنى أنها وسيلة لغاية أخرى، ويكاد يختفي من الإعلام الحالي ذلك المبدأ الذي يتمسَّك بالحقيقة أولًا، مهما كانت النتائج، ويحلُّ محله مبدأ آخر يُطبقه الجميع في النظام الاشتراكي وفي النظام الرأسمالي وفي العالم الثالث، هو أن الحادث الواحد ينبغي أن يُعْرَض ويُفَسَّر وفقًا لمصلحة الوضع القائم، وأن حقيقة الإنسان الرأسمالي بطلان في نظر الاشتراكي والعكس بالعكس.

من هنا كان الإعلام المُضلِّل عقبة كبرى في وجه التفكير العلمي في عالَمنا المعاصر؛ إذ إن التفكير العلمي لا يعترف إلا بحقيقة واحدة، لا تتلوَّن أو يتغيَّر تفسيرها وفقًا للمصالح، وصحيح أن وسائط الإعلام تُضلِّل عندما يكون الأمر متعلقًا بمصالح سياسية أو اقتصادية، ولا تلجأ كثيرًا إلى التضليل في بقية الميادين، ولكن هذا الميدان حيوي، والتزييف فيه يُؤثِّر تأثيرًا كبيرًا على طريقة تفكير الإنسان؛ لأنه أولًا يحول بين الناس وبين فهم أنفسهم ومجتمعهم بطريقة عِلمية، والأهم من ذلك أنه يُعوِّدهم الاستسلام للمُغالطات ويَسلبهم القدرة على مقاومتها؛ ومن ثم فإنه يَنتزع من عقل الإنسان أهمَّ ملكة يحتاج إليها لكي يُفكِّر تفكيرًا علميًّا، وأعني بها ملكة النقد والتساؤل.

ولستُ أودُّ أن أختتم هذا الفصل من الكتاب من غير أن أُشير — بإيجاز شديد — إلى الوضع الخاص لهذه العقبات التي تَعترض طريق التفكير العلمي في عالَمنا العربي بالذات؛ ذلك لأنه على الرغم من أن أمثلة كثيرة من تلك التي ورَدت عند الحديث عن هذه العقبات كانت متعلقة بالعالم العربي، فإنَّ من المفيد أن نختم عرضنا لهذا الموضوع بإشارة خاصة إلى دور هذه العقَبات في بلادنا، وحسبنا أن نعود بذاكرتنا إلى هذه العقبات واحدةً بعد الأخرى؛ لكي نجد أن لها في عالَمنا العربي دورًا لا يستهان به، وأن مُعوِّقات التفكير العلمي في بلادنا كانت ولا تزال ذات سطوة هائلة على العقول.

فالأسطورة والخرافة تحتل في تفكير الناس — في بلادنا العربية — مكانة لا يزال من الصعب زعزعتها، وإني لأَذكُر — من تجربتي الخاصة — أنني في كل مرة كنتُ أتحدَّث فيها عن الحسد أو «العمل» (السِّحري) بوصفه خرافة، كنتُ أَلقى مقاومة شديدة من عدد كبير من طلاب الجامعة، وهم في مجتمعنا فئة مميزة أتيح لها من فرص التعليم ما لم يُتَحْ للغالبية الساحقة من أبناء الشعب، وكانت القصص التي يُوردها هؤلاء الطلاب — للتدليل بها على «صحة» الحسد وفعالية «العمل» — نماذج صارِخة للتفكير المضاد للعلم، أو للتفكير الذي لم يَسمع عن شيء اسمه العلم، بل إنني صادفتُ أكثر من حالة كان فيها أساتذة جامعيُّون يُدافعون بحرارة عن «كرامات» إنسان طيب من أصدقائهم، يستطيع أن يُحقِّق أمنياته بمُجرَّد التفكير فيها، أو يعرف الحالة الصحية لقريب يَسكُن بلدًا بعيدًا دون أن يَتصل به، أو يجعل السيارة تَسير مسافة كبيرة وهي خالية من الوقود! فإذا كان هذا هو حال «الصَّفوة» (وأنا لا أُعمم بطبيعة الحال) فماذا يكون حال البسطاء من الناس؟ وكيف نأمل في بناء مجتمع يُساير العصر بعقول تُعشِّش فيها أمثال هذه الخرافات؟

أما عقبة «السُّلطة» فلها في مجتمعنا العربي دَور لا يُستهان به، وربما كان من أسباب رسوخ فكرة السُّلطة أن مجتمعاتنا العربية — في أصلها — إما زراعية وإما قبَلية، وفي الحالتَين يكون المجتمع «تقليديًّا» ميالًا إلى التقيُّد الحَرفي بسلطة القديم والموروث والشائع والمشهور، وينظر إلى التجديد على أنه «بدعة»، وإلى تحدِّي التقاليد على أنه هرطقة وتجديد، وليس في وسع أحد أن يُنكِر أن الانهيار التام للسلطة — في المجتمعات الغربية الحديثة — قد ولَّد تفكُّكًا وانحلالًا يشكو منه المُفكِّرون في تلك البلاد ذاتها مُرَّ الشكوى؛ ومن ثم فإن وجود قدر مُعيَّن من السلطة — في الأسرة مثلًا — هو أمر مرغوب فيه، ولكني أخشى أن أقول: إنَّ الخضوع للسلطة — في بعض المجالات — يفوق في مجتمعنا الحد اللازم من أجل تحقيق التماسُك وتجنب الانحلال. فالسلطة في المجال الاجتماعي والسياسي والفكري ما زال لها في بلادنا دور يَزيد عما هو مطلوب في عصر يتَّسم — سواء رضينا أم كرهنا — بالتجديد والتغير السريع الإيقاع. وهناك خوف حقيقي من أن تتحوَّل فضيلة الترابط والتماسك — التي يَبعَثُها وجود سلطة تفرض على الآخرين الخضوع لها — إلى رذيلة، أو على أحسن الفروض إلى سدٍّ منيع يقف حائلًا دون اكتساب العقول لذلك القدر من المرونة والتحرُّر الذي لا بد منه لقيام نهضة علمية في أي شعب.

فإذا انتقلنا إلى عقَبة «إنكار قدرة العقل» وجَدنا هذه العقبة تصول وتجول في عالَمنا العربي. ومن المُؤسِف أن تأثير هذه العقبة لا يرجع إلى أننا نتمسَّك بقوة أخرى — كالحدس مثلًا — نعدُّها مُنافِسةً للعقل، أو نؤكد أهمية التجربة الشخصية المباشرة على حساب المعرفة العِلمية الموضوعية اللاشخصية. بل إننا نتأثَّر بهذه العقبة بمعناها الفج؛ أعني بمعنى عدم الإيمان بأن العقل قادر على تحصيل العلم أو عدم الإيمان بقيمة العلم ذاته. وهناك فئة من الكُتَّاب يَجدون متعة كبرى في الحطِّ من قدر هذا العقل الذي هو أعظم ملكاتنا، وهو الذي يُميِّزنا عن سائر الكائنات، وهو الذي صنع للإنسان حضارة وتاريخًا، وجعل له هذا المركز المُميَّز للكون؛ هؤلاء الكُتَّاب — في اتجاههم هذا — هم أشبه بضحايا مرض «تعذيب الذات masochism» الذين يستمتعون كلَّما ألحقوا الأذى بأنفسهم، بل إننا لنجد منهم من يُجهد «عقله» ويتفنَّن في إيراد «الأدلة» و«الشواهد» و«البراهين» — وكلها من صنع «العقل» نفسه — لكي يحطَّ من شأن العقل! وكل ما يَجنيه هؤلاء هو أن يسود بين الناس اعتقاد بأن الغموض والسر يُحيط بكل شيء، وبأن الاستسلام والعجز عن الفهم والتفسير هو الحالة المثلى للإنسان، وهكذا تشيع الجهالة، ويُصبح الإنسان أعزل أمام شتى أنواع الدجل والشعوذة الفكرية التي يتطوَّع الكثيرون بتقديمها بديلًا عن التفكير العقلي المنظَّم. ولو شئنا أن نكون منصفين لأنفسنا أمناء على مستقبل أبنائنا؛ لطبَّقنا على أصحاب هذه الدعوات نفس الأحكام التي نُطبِّقها على تجار المخدرات؛ لأنهم بالفعل لا يزيدون عن أن يكونوا مروِّجين للمخدِّرات والمسكرات الفكرية!

أما عقبة «التعصُّب» فقد كان من حسن حظ العرب أن دينَهم وحضارتهم ظلَّت بمنأى عن هذا الداء الوبيل، بحيث أصبحَت الأمة العربية تزهو على سائر الأمم بتسامُحها وسعة صدرها. ولا يعني ذلك أن تاريخنا قد خَلا خلوًّا تامًّا من التعصُّب؛ فقد ظهرت بالفعل حالات هنا أو هناك، ولكنها كانت خروجًا عن التيار العام للتاريخ العربي، لم تكن تُطلُّ برأسها إلا في عهود الضعف وانفلات الزمام، ومع ذلك فإننا نعاني — في وقتنا الراهن — من لون آخر من ألوان التعصب، هو الاعتقاد الباطل بأن الموضوع الواحد لا يمكن أن يكون فيه إلا رأي واحد، وبأن كل ما عداه باطل، وإذا كان هذا الاعتقاد مفهومًا في ميدان الحقائق العلمية فإنه غير مفهوم في ميدان الحياة السياسية والاجتماعية؛ حيث يعد الاختلاف في الرأي «رحمة» بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنًى، وحيث ينبغي أن تسود روح الحوار بين الأطراف المتعدِّدة، حتى تتكشَّف الجوانب المختلفة لتلك الحقيقة المعقَّدة التي يُشكِّلها الواقع السياسي والاجتماعي، ولكن ما أسرع ما تضيق صدورنا — في العالم العربي — بالمعارضة! وما أسهل اتهام أصحاب الرأي الآخر بالعمالة والخيانة وربما الكفر؛ لمجرَّد أنهم لا يسيرون في الركاب السلطاني للرأي الواحد، هذا هو نوع التعصُّب الذي تَستفحِل شروره في عالَمنا العربي المعاصر، والذي يُعدُّ عقبة كبرى في طريق التفكير العلمي في ميدان من أهم ميادين الحياة، ألا وهو تنظيم المجتمع.

وأخيرًا، فإن عقبة الإعلام المُضلِّل تُشكِّل — في مجتمعنا العربي — خطرًا داهمًا على عقولنا وقدرتنا على التفكير الموضوعي؛ فأجهزة الإعلام عندنا لا تُعبِّر — في معظم الأحيان — إلا عن ذلك «الرأي الواحد» الذي كنا نتحدث عنه في صدد العقبة السابقة، وهي لا تَكتفي بالتضليل، بل تُشجِّع التفاهة وترعاها بكل عناية، وهكذا نتصوَّر أن وسائل الإعلام الجماهيرية — كالإذاعة والتلفزيون — أدوات للترفيه فحسب، وننسى دورها الجبار في نشر الثقافة الجادة وتشجيع القِيَم الفكرية الأصيلة، وخاصة بين أبناء شعب يحتاج إلى هذه القيَم احتياجًا شديدًا لكي يُعوِّض تخلُّفه الطويل.

وخلاصة القول: إنَّ قدرتنا على أن نفكر في الأمور — سواء منها ما يَتعلَّق بالعلم أو بحياة الإنسان ومجتمعه — تفكيرًا علميًّا سليمًا مهدَّدة تهديدًا خطرًا بتلك العقبات التي لا تزال تُمارس تأثيرها الضار في عقل الإنسان العربي دون كابح أو ضابط. ولقد سبق لكاتب هذه السطور أنْ دعا مرارًا إلى أن نحمي الأجيال الجديدة من أبنائنا — إن كنا يائسين من الأجيال القديمة — من هذه العقبات عن طريق إدخال المبادئ الأولية للتفكير العلمي — بطريقة شديدة التبسيط — في برامجنا التعليمية، بحيث يَنتبه النشء منذ صغره إلى خطورة المظاهر التي يراها في المجتمع المحيط به للخرافة والسُّلطة المتطرِّفة وكراهية العقل … إلخ. وهأنذا أنتهز الفرصة لأُعيد ترديد هذه الدعوة، آملًا أن يتأثَّر بكلماتي هذه مسئول ذو نفوذ، ومتمنيًا أن يكون هذا المسئول من الاستنارة بحيث يُدرك مدى أهمية الموضوع الذي أدعو إليه، وهي أمنية أرجو ألا تكون عزيزة المنال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤