الفصل الثالث

المعالم الكبرى في طريق العلم

لستُ أودُّ أن أقدِّم في هذا الفصل تاريخًا للعلم؛ إذ إن هذا التاريخ من الاتساع ومن الشمول بحيث يتعيَّن على من يتصدَّى له أن يعرض لتاريخ الحضارة البشرية كلها، ولتاريخ العقل الإنساني بأكمله، وتلك مُهمَّة يَستحيل إنجازها — بأدنى حدٍّ من الكفاءة — في مجلد واحد، فما بالك بفصل واحد في كتاب؟!

بل إن ما أودُّ أن أقوم به ها هنا هو تقديم عرض موجز للمراحل الرئيسية في طريق العلم؛ أعني لنقاط التحول الكبرى خلال تاريخ العلم دون أي خوض في تفاصيل هذه المراحل، ومن شأن هذا العرض أن يُقدِّم إلينا في الوقت ذاته لمحة عامة عن التطور الذي طرأ على معنى «العلم»؛ ذلك لأن العلم ظاهرة قديمة وظاهرة حديثة في آنٍ واحد: إنه قديم إذا نظرت إليه بأوسع وأشمل معانيه؛ أي على أنه كل محاولة يبذلها العقل البشري لفهم نفسه والعالم المحيط به، ولكن هذا المعنى الواسع الشامل أخذ يزداد دقةً على مر العصور، وأخذ نطاق العلم وأسلوب ممارسته يتحدَّد على نحوٍ أدق من مرحلة إلى أخرى، حتى وصل في النهاية إلى وضعه الراهن. وهكذا سوف تكون مهمَّتنا في هذا الفصل مزدوجة؛ فهي من وجهةٍ عرضٌ موجَز لأهم المعالم في تاريخ العلم، وفي الوقت ذاته فإن هذا العرض سيُتيح لنا أن نرى كيف تشكَّل معنى العلم بالتدريج وعلى مر العصور، وكيف تَخلَّص العلم بعناء وبطء شديد من المفاهيم غير الدقيقة التي كانت عائقًا في وجه تقدُّمه، وكيف تبلورت مناهج وأساليب ممارسته حتى أصبحت — في عصرنا الحديث — أفضل نموذج للدقة والانضباط في استخدام العقل البشري.

(١) العالم القديم

من الصعب أن يُحدِّد المرء نقطة بداية لذلك النوع من النشاط الذي نُطلق عليه اسم العلم؛ إذ إن كل سلوك كان يقوم به الإنسان — منذ عهوده البدائية السحيقة — قد أسهَمَ — بغير شك — في تهذيب تفكيره وصقله على نحوٍ يُساعد على ظهور العلم في مرحلة لاحقة، ومثل هذه الظواهر البشرية لا تَنطوي على مفاجآت أو على انبثاق مباغت بلا تمهيد، بل إن كل شيء فيها يتدرج ببطء شديد في البداية، ثم تَتسارع خُطاه حين يتم الاهتداء إلى الطريق الصحيح.

وهكذا فإن مما لا شك فيه أن التجارب الشديدة البطء — التي مرَّت بها الإنسانية في عصورها البدائية — قد أكسبتها خبراتٍ أدى تراكُمها في المدى الطويل إلى ظهور البوادر الأولى للتفكير العلمي، ولكن لما كانت هذه العصور البدائية تُمثِّل مرحلة «ما قبل التاريخ»، فلن نستطيع — في مثل هذا العرض الموجز — أن نتخذ نقطة بدايتنا منها، وإنما سنبدأ من «المراحل التاريخية»؛ أعني من تلك الحضارات القديمة التي ترَكت لنا وثائق تُعيننا على معرفة تاريخها، سواء اتَّخذت هذه الوثائق شكل كتابات مدوَّنة أو آثار مادية تُتيح للمرء أن يَستنتِج منها نوع الحياة ونوع الفِكر السائدَين لديها.

وكما نَعلم فإن أقدم الحضارات الإنسانية قد ظهرت في الشرق؛ ففي هذه المنطقة من العالم التي نَعيش فيها الآن، ظهرت منذ عدة آلاف من السنين حضارات مُزدهِرة في أودية الأنهار الكبرى كالنِّيل والفرات، وإلى الشرق منها في أنهار الهند والصين، وتدلُّ الآثار التي خلَّفتها هذه الحضارات المجيدة على أنها كانت حضارات ناضِجة كل النُّضج بالقياس إلى عصرها؛ ومن ثم فقد كان من الضروري أن تَرتكِز في نهضتها على أساس من العلم.

وإذا كانت هذه الحضارات الشرقية القديمة تَبعُد عنا في الزمان بما يَتراوح بين سبعة وخمسة آلاف سنة؛ فقد ظهرت في العصر القديم أيضًا — ولكن في وقت أقرب إلينا بكثير من ذلك العصر — حضارة أخرى عظيمة هي الحضارة اليونانية القديمة، التي يَرجع تاريخها إلى ما يقرب من ألفَين وخمسمائة عام، وهي بدورها حضارة كان من مظاهر ازدهارها وجود علم ناضج.

وهنا نجد أنفسنا إزاء السؤال الذي تُثيره هذه المرحلة القديمة في تاريخ العلم، وأعني به: إذا كان من المحتَّم علينا أن نبدأ هذا التاريخ بمرحلة الحضارات القديمة، التي بقيت لدينا منها وثائق تُعيننا على فهمها، فهل نتخذ نقطة بدايتنا من الحضارات الشرقية أم من الحضارة اليونانية الأحدث منها عهدًا؟ وهل ظهرت الأصول الأولى للعلم في الشرق أم أن ما ظهر هناك كان بوادر أولى لا تَستحِق أن تُعَدَّ بداية حقيقية للعلم الذي لم تظهر معالِمُه الحقيقية إلا فيما بعد عند قدماء الإغريق؟

هذا السؤال هو — في واقع الأمر — المِحوَر الذي ينبغي أن تدور حوله مناقشتنا لتلك المرحلة الأولى في طريق العلم، وسوف نبدأ كلامنا بالإجابة التقليدية عن هذا السؤال، أعني تلك التي نجدها في معظم مراجع تاريخ العلم، وخاصةً ما كان منها أقدم عهدًا.

ففي الحضارات الشرقية القديمة تراكمت حصيلة ضخمة من المعارف ساعدت الإنسان في هذه الحضارات على تحقيق إنجازات كبرى، ما زالت آثارها تَشهَد بعظمتها حتى اليوم، ولكن هذه المعارف لم تكن سوى خبرات موروثة، ربما كانت راجعة في أصلها إلى أقدم العصور البدائية للإنسان، وقد ظلَّت تُورَث جيلًا بعد جيل، وساعدت على إثراء حياته العقلية.

ذلك لأن هذه الشعوب التي عاشت في الشرق القديم كانت بارعة في الاستخدام «العلمي» للمعارف الموروثة، ولكنها لم تكن تَملِك نفس القدر من البراعة في التحليل العقلي «النظري» لهذه المعارف، كانت لدَيها خبرات تُتيح لها أن تُحقِّق إنجازات عملية هائلة ولكنها لم تتوصَّل إلى النظريات الكامنة وراء هذه الخبرات، ولم تُخضِعها للتحليل العلمي الدقيق. أما الحضارة التي توصَّلت إلى هذه المعرفة «النظرية»، والتي توافرت للإنسان فيها القدرة التحليلية التي تُتيح له كشف «المبدأ العام» من وراء كل تطبيق عمَلي، فهي الحضارة اليونانية.

وهكذا يمكن تشبيه العلاقة بين حضارات الشرق القديم والحضارة اليونانية — فيما يتعلَّق بنشأة العلم — بالعلاقة بين المقاول والمهندس؛ فالمقاول هو — في معظم الأحيان — شخص اكتسب قدرًا هائلًا من الخِبرات العمَلية، سواء عن طريق التلقين أو الممارسة، ولولا القوانين التي تسنُّها الدول في عصرنا الحديث لكان في استطاعة معظم المُقاوِلين أن يُشيِّدوا أبنية سليمة تؤدِّي كل الأغراض التي نَتوقَّعُها من البناء، أما المهندس فهو — إلى جانب إلمامه ببعض الخِبرات العملية — يمتلك «العلم النظري» الذي يُتيح له معرفة «أسس» عملية البناء، ويُمكِّنه من التصرُّف بحرية والخروج عن القواعد المألوفة في حالة وقوع أي طارئ. ولو قارنَّا بين المقاول والمهندس من حيث النتائج العمَلية للجهد الذي يقومان به، لما كان الفارق بينهما كبيرًا؛ لأن كلًّا منهما يستطيع — في الغالب — أن يُشيِّد بناءً متماسكًا متينًا. أما الاختلاف بينهما فهو في نوع المعرفة التي يعمل وفقها كلٌّ منهما، وهل هي معرفة تطبيقية مستمدة من خبرات متراكمة، أم معرفة نظرية تَعتمد على التحليل والبراهين المُقنِعة للعقل؟

وهناك مثل مشهور يُضْرَب في معظم المراجع التي تتناول هذا الموضوع لتوضيح الفارق بين هاتين الحضارتين في هذا الصدد؛ فقد اهتدى المصريُّون القدماء بالخِبرة إلى أن مجموع المربَّعَين المُقامَين على ضلعَي المثلث القائم الزاوية يُساوي المربع المقام على وتر هذا المثلث، وكانوا يستخدمون هذه الحقيقة بطريقة عمَلية في أعمال البناء؛ فعندما كانوا يُريدون التأكد من أن الجدار الذي يَبنونه عمودي على سطح الأرض، كانوا يَصنعون مثلثًا أبعاده ٣ و٤ و٥ أو مضاعفاتها؛ حتى يضمنوا أن هذا المثلث سيكون قائم الزاوية، ومن ثم يكون الجدار عموديًّا بحق (لأن مربع ٣ هو ٩، ومربع ٤ هو ١٦، ومجموعهما هو مربع ٥، أي ٢٥)، وقد ظلت هذه الحقيقة تُستخدَم عندهم بطريقة عملية تطبيقية، دون أن يُحاولوا إثباتها بالدليل العقلي المُقنع. بل إن الرغبة في إيجاد مثل هذا الدليل لم تتملَّكهم على الإطلاق؛ لأن كل ما يهدفون إليه هو الوصول إلى نتيجة عملية ناجحة، وهذه النتيجة الناجحة تتحقَّق بتطبيق القاعدة فحسب، ولن يزيدها الاهتداء إلى الدليل العقلي نجاحًا.

وفي مثل هذا الجو يَستحيل أن يظهر العلم؛ لأن العلم هو في أساسه بحث عن المبادئ العامة، لا عن التطبيقات الجزئية، وهو سعي إلى القاعدة النظرية، وليس اكتفاءً بتحقيق أهداف عمَلية؛ ولذلك فإن العلم لم يظهر — للمرة الأولى — إلا عند اليونانيين القدماء الذين كان يتملَّكهم حافز آخر — يُضاف إلى حافز الإنجاز العملي — هو الرغبة في الاقتناع، ولم تكن عقولهم تهدأ إلا حين تَهتدي إلى الدليل القاطع والبرهان المُقنِع.

هذه باختصار هي الصور التقليدية التي كان مؤرِّخو العلم يُصوِّرون بها العلاقة بين الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية في موضوع نشأة العلم، ونودُّ أن نبدي على هذه الصورة بضع ملاحظات نَعتقد أنها على جانب كبير من الأهمية:
  • (١)

    فهذه الصورة لا تَخلو من التحيز الحضاري؛ إذ إن الأوروبيِّين المحدثين هم أحفاد الحضارة اليونانية، وهم يَنتسبون إليها انتسابًا مباشرًا، على حين أن الحضارات الشرقية القديمة لا تمتُّ إليهم بصلة، ومِن هنا فقد دأب المؤرِّخون الأوروبيون — وخاصةً في عصر اشتداد الرُّوح القومية خلال القرن التاسع عشر — على تمجيد الحضارة اليونانية — حضارة الأجداد — وتحدَّثوا طويلًا عن «المعجزة اليونانية»؛ أي عن ذلك الإنجاز الهائل الذي حقَّقه اليونانيون فجأة دون أية مُقدِّمات تذكر، ودون أن يكونوا مَدِينين لأي شعب سابق، وعن ذلك الوليد الذي ظهر إلى الوجود يافعًا هائل القوة … وكلها تعبيرات لا يُمكن أن تخلو من عنصر التحيُّز، لا سيما وأن أحفاد الحضارات الشرقية القديمة كانوا هم الشعوب الواقعة تحت قبضة الاستعمار الأوروبي في ذلك الحين، وكانوا يُعامَلون على أنهم شعوب «من الدرجة الثانية»؛ ومن ثم كان من الطبيعي أن تكون الحضارات التي انحدَرُوا منها حضارات «من الدرجة الثانية» أيضًا.

  • (٢)

    وتَفترض هذه الصورة التقليدية الشائعة انفصالًا تامًّا بين ميدان الخبرة العملية وميدان البحث العِلمي النظري، فهي ترتكز على الاعتقاد بأن شعبًا مُعيَّنًا يستطيع أن يكدس خبرات موروثة لمدة آلاف السنين ويُحقِّق بواسطتها إنجازات هائلة — كالهرم الأكبر مثلًا — دون أن يكون قد توصَّل خلال ذلك إلى النظريات العِلمية التي تُكوِّن أساسًا لهذه الخبرات، ومثل هذا الاعتقاد يَنطوي على مبالغة في الفصل بين الجوانب العمَلية والجوانب النظرية للمعرفة، وهو فصلٌ لا تُبرره تجربة البشرية ذاتها في مختلف العصور؛ فعندما تتراكم لدى مجتمع معين خبرات عمَلية طويلة، يكون من الطبيعي أن تقودَه هذه الخبرات ذاتها إلى بعض النظريات العِلمية على الأقل، وليست النظرية ذاتها إلا حصيلة لتطبيقات عديدة؛ فالعلاقة بين النظرية والتطبيق علاقة مُتبادَلة، بحيث إنَّ الممارسة العملية تمهِّد الطريق إلى كشف النظرية العلمية، كما أن الوصول إلى النظرية يفتح الباب أمام كشفِ تطبيقات جديدة مُثمِرة. أما القول بأن هناك شعبًا لم يَعرف طوال تاريخه إلا تطبيقات وخبرات عَملية وشعبًا آخر توصَّلَ لأول وهلة — ومن تلقاء ذاته — إلى الأسس النظرية للعلم، فإنه زعم يَتنافى مع التجارب الفعلية للبشرية، فضلًا عن تناقُضِه مع المنطق السليم.

  • (٣)

    على أن هذه الصورة التقليدية قد أخذت تتغيَّر ملامحها بالتدريج، وساعدت على ذلك عدة أمور:

    • (أ)

      أولها تقدم البحث العلمي والتاريخي ذاته؛ فقد أحرز العلم التاريخي — في ميدان الحضارات القديمة — تقدمًا هائلًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وما زال هذا التقدُّم مستمرًّا حتى يومنا هذا، وفي كل كشف جديد كان العلماء يُلقون مزيدًا من الضوء على حياة القدماء وفكرهم، حتى أصبحنا نعرف اليوم عن هؤلاء القدماء أكثر مما كانت الإنسانية تعرف عنهم في عهود قريبة منهم — من الناحية الزمنية — كل القرب، وكانت كل هذه الكشوف الجديدة في الميدان التاريخي تُشير إلى حقيقة واحدة؛ هي أنَّ التضادَّ بين الحضارة اليونانية والحضارات الشرقية القديمة ليس بالحدة التي كان يُصوَّر بها، وأن عوامل الاتصال بين اليونانيين والشرقيين القدماء كانت أقوى مما كنا نتصوَّر، وكان كلُّ كشفٍ تاريخي جديد يؤكِّد — بشكل مُتزايد — أن اليونانيِّين كانوا مَدِينين بالكثير للسابقين عليهم من الشرقيِّين، لا سيما وأن الاتصالات بين هاتين المنطقتَين لم تنقطع لحظة واحدة، سواء أكانت اتصالات سلمية عن طريق التجارة وتبادُل الخبرات والسِّلَع، أو اتصالات حربية في المعارك التي لم تتوقَّف بين اليونانيين وبين الشعوب الشرقية.

    • (ب)

      أدرك الباحثون أنَّ الكلام عن «معجزة» يونانية ليس من العلم في شيء؛ فالقول إن اليونانيِّين قد أبدعوا فجأة — ودون سوابق أو مؤثِّرات خارجية — حضارة عبقرية في مختلف الميادين — ومنها العلم — هو قول يَتنافى مع المبادئ العلمية التي تُؤكِّد اتصال الحضارات وتأثير بعضها في بعض. وعلى حين أن لفظ «المعجزة» يبدو في ظاهره تفسيرًا لظاهرة الانبثاق المفاجئ للحضارة اليونانية، فإنه في واقع الأمر ليس تفسيرًا لأي شيء، بل إنه تعبير غير مُباشِر عن العجز عن التفسير؛ فحين نقول: إنَّ ظُهور العلم اليوناني كان جزءًا من «المعجزة اليونانية» يكون المعنى الحقيقي لقولنا هذا هو أننا لا نَعرف كيف نُفسِّر ظهور العلم اليوناني.

      ولا جدال في أن المكان الذي ظهرت فيه أولى المدارس الفلسفية والعلمية اليونانية، هو في ذاته دليل على الاتصال الوثيق بين الحضارة اليونانية والحَضارات الشرقية السابقة؛ فلم تظهر المدرسة الفكرية الأولى في أرض اليونان ذاتها، وإنما ظهَرت في مُستوطَنة «أيونية» التي أقامها اليونانيون على ساحل آسيا الصغرى (تُركيا الحالية)؛ أي في أقرب أرض ناطقة باليونانية إلى بلاد الشرق ذوات الحضارات الأقدم عهدًا، وهذا أمر طبيعي لأنَّ من المحال أن تكون هذه المجموعة من الشعوب الشرقية قريبة من اليونانيِّين إلى هذا الحد، وأن تتبادل معها التجارة على نطاقٍ واسع، وتدخل معها أحيانًا أخرى في حروب طويلة، دون أن يَحدُث تفاعل بين الطرفين.

    • (جـ)

      اقتنع العلماء بأن من المُستحيل تجاهُل شهادة اليونانيين القدماء أنفسهم، فقد شهد فيلسوفهم الأكبر «أفلاطون» — الذي كان في الوقت ذاته عالِمًا رياضيًّا — بفضل الحضارة الفرعَونية على العلم والفكر اليوناني، وأكَّد أن اليونانيين إنما هم «أطفال» بالقياس إلى تلك الحضارة القديمة العظيمة. وهناك روايات تاريخية كثيرة تحكي عن اتصال كبار فلاسفة اليونانيين وعلمائهم — ومنهم أفلاطون ذاته — بالمصريِّين القدماء وسفرهم إلى مصر وإقامتهم فيها طويلًا لتلقِّي العلم.

      والمشكلة الكبرى في هذا الصدد هي أن الأدلة المباشرة على هذا الاتصال العلمي قد فُقِدَت؛ فعلى حين أن كثيرًا من الإنجازات العلمية اليونانية قد ظلت باقية، فإن ما أنجزته الحضارات الشرقية — في باب العلم النظري أو الأساسي — لا يكاد يُعرف عنه شيء بطريق مباشر، ومعظم ما نَعرفه عنه غير مباشر؛ أي من خلال التطبيقات العمَلية لهذا العلم كما تتمثَّل في الآثار الباقية من هذه الحضارات، ومن الأسباب التي يُعلِّل بها البعض ضياع العلم الشرقي القديم أن الفئة التي كانت تُمارسه كانت فئة الكهنة التي حرصت على أن تحتفظ بمعلوماتها العِلمية سرًّا دفينًا، تَتناقله هذه الفئة جيلًا بعد جيل، دون أن تبوح به إلى غيرها، حتى تظلَّ محتفظة لنفسها بالقوة والنفوذ والمهابة التي تُولِّدها المعرفة العلمية، وحتى تُضفي على نفسها — وعلى الآلهة التي تخدمها — هالةً من القداسة أمام عامة الناس الذين لا يعرفون عن العلم شيئًا، وفضلًا عن ذلك فهناك كوارث طبيعية وحروب كثيرة وحرائق مُتعمَّدة أو غير مُتعمَّدة؛ أدَّت بدورها إلى ضياع ما يمكن أن يكون قد دُوِّن من هذا العلم في كتب. ونتيجةُ هذا كله هي أن معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلم القديم تكاد تكون مُنعدمة، على حين أن معظم ما أنجزه اليونانيون ظلَّ باقيًا، مما ساعد على نسبة الفضل الأكبر في بدء ظهور العلم إلى اليونانيين، وجعَل من المستحيل إجراء مقارنة بين العلم اليوناني والعلم الشرقي القديم، أو تبيان مقدار ما يدين به اليونانيون في علومهم للحضارات الكبرى التي سبقتهم.

تلك هي الملاحظات التي نود أن نُعلق بها على التصوُّر التقليدي الشائع للعلاقة بين العلم اليوناني وعلوم الحضارات الشرقية، وهي تُؤدِّي بنا إلى القول بأن هذا التصوُّر يَفتقر إلى الدقة، وربما كان مُرتكِزًا على أسس غير علمية، ولكنَّ الصعوبة الكبرى التي تجعل من العسير رفضه كلية هي — كما قلنا — النقص الشديد في معلوماتنا عن الأصول النظرية للعلوم التي تَوصَّل إليها الشرقيون القدماء؛ ولذا لا يجد الباحثون في هذا الموضوع مفرًّا من الاحتفاظ بقدر من هذه الصورة، مع اقتناعهم — في قرارة أنفسهم — بافتقارها إلى الدقة.

وعلى أية حال، فإن نفس هذه الدوافع العمَلية التي تُنْسَب إلى الشرقيين القدماء، هي التي يُمكن أن تكون قد أدَّت إلى ظهور بدايات العلم النظري لديهم؛ فهناك ارتباط وثيق بين عملية البناء — بناء المساكن أو القصور أو المعابد — وبين ظهور علم الهندسة؛ إذ إنَّ مِن الضروريِّ حساب مساحة البناء من أجل مَعرفة كمية المواد اللازمة لبنائه وعدد العُمال اللازمين لإنجازه، كما أن قوالب الحجارة لن تتلاصَق إلا إذا كانت مستقيمة، ولا بد أن تكون جدران البناء كلها قائمة الزوايا لضمان سلامته. وهكذا ترتبط عملية البناء بمعانٍ أساسية في علم الهندسة كالخطِّ المستقيم والزاوية القائمة وحساب المساحات.

ومن ناحية أخرى، فقد كانت شعوب معظم الحضارات الشرقية القديمة شعوبًا زراعية؛ لأن هذه الحضارات ظهَرت — كما قلنا — على ضفاف أنهار كبرى، وكانت عملية الزراعة تتطلَّب — من أجل نجاحها — معلومات فلَكية كثيرة؛ إذ إنَّ من الضروري حساب المواسم الزراعية حتى يُمكن زرع المحصول في الوقت المناسب، ولا بدَّ من توقيتٍ دقيق لعمليات وضع البذور وري الأرض وجني المحصول … إلخ، فضلًا عن ضرورة حساب مواعيد فيضان النهر والتغيُّر في حالة الطقس. وهكذا كان من الضروري أن تعرف هذه الحضارات حساب الفصول والسنين، وكانت أدق التقويمات الفلَكية هي التي عرفتها حضارات زراعية عريقة كالحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد ما بين النهرين.

وكان من العوامل الأخرى التي أدَّت إلى تقدم علم الفلك في هذه الحضارات أن كثيرًا من شعوبها كانت تمارس التجارة، وتحتاج إلى الملاحة البحرية على نطاق واسع؛ ومن ثم كان الرصد الفلكي الدقيق ضروريًّا في عمليات توجيه السفن في أعالي البحار.

وأخيرًا، فقد كان للمعتقدات والأديان الشعبية تأثير هام في نمو معارف علمية كثيرة، وحسبنا أن نذكر في هذا الصدد أهمية العقيدة الدِّينية عند الفراعنة في عمليات البناء الهائلة — التي تحقَّقت تلبية لمطالب دينية — كالأهرامات والمعابد الضخمة، وكذلك الحاجة إلى تخليد الإنسان، والرغبة في قهر الإحساس بفنائه التي حفَّزتهم إلى اكتساب المقدرة الخارقة على التحنيط، والإيمان بالتنجيم ومعرفة الطالع من التطلُّع إلى النجوم، الذي أعطى بعض الناس — في تلك المرحلة القديمة — طاقة هائلة من الصبر أتاحت لهم أن يقوموا بملاحظات وعمليات رصد مرهقة، أضافَت إلى رصيد البشرية في ميدان الفلك معلوماتٍ لها قيمة لا تُقَدَّر. ولنذكر في هذا الصدد أن الارتباط بين التنجيم وعلم الفلك قد ظلَّ قائمًا في أوروبا ذاتها حتى مطلع العصر الحديث، وأن كبار علماء الفلك حتى القرن السابع عشر كانوا مُنجِّمِين في الوقت ذاته، ولم يكونوا يجدون أي تعارض بين الملاحظة الفلَكية المتأنية الدقيقة وبين البحث عن طالعِ حاكم، أو التنبؤ بنتيجة معركة حربية وشيكة الحدوث من خلال النجوم.

في كل هذه الحالات كانت هناك مُقتضيات عملية حتَّمت على الحضارات الشرقية القديمة البحث في علوم معيَّنة، وما دامت هذه الحضارات قد نجَحت في تحقيق تلك المقتضيات العملية نجاحًا رائعًا، فلا بد أن نَستنتِج أن حصيلتها العِلمية في هذه الميادين لم تكن ضئيلة. وإنه لمن الصَّعب أن يتصور المرء أن أولئك العباقرة الذين بنَوا الأهرامات بتلك الدقة المُذهلة في الحساب، بحيث لم يخطئوا إلا بمقدار بوصة واحدة في محيط قاعدة الهرم الأكبر البالغ قدمًا،١ والذين ابتَدعوا فنَّ الضرب والقسمة، لا يستحقُّون اسم «العلماء»، وأنهم لم يكونوا إلا أصحاب تجارب موروثة، شكَّلت مجموعة من القواعد والخبرات العملية التي استعانوا بها في تحقيق هذه الإنجازات. ومِن الظلم أن نأبى اسم «العلم» على تلك المعلومات الفلَكية الرائعة التي توصل إليها هؤلاء القدماء، وعلى الكشوف الرياضية الهامة التي كانت ضرورية من أجل إجراء الحسابات الفلَكية وغيرها من الأغراض. ومن قِصَر النظر أن نتصوَّر أن تلك المعلومات الكيميائية العظيمة — التي أتاحَت للمصريين القدماء أن يَصبِغوا أنسجة ملابسهم وحوائط مبانيهم بألوان ما يَزال بعضها زاهيًا حتى اليوم، أو التي مكَّنتهم من تحنيط جُثَث ظلَّت سليمة لمدة تقرب من الأربعة آلاف عام — لا تَستحِق اسم «العلم التجريبي»، وقل مثل هذا عن مجالات كثيرة لا بد أن هذه الحضارات قد جمعت فيها بين الخبرة العمَلية والمعلومات النظرية، كالطب وصناعة العقاقير والهيدروليكا (الري والسدود والخزانات … إلخ).

وإذن، فلم تكن نشأة العلم يونانية خالصة، ولم يبدأ اليونانيون في استكشاف ميادين العلم من فراغٍ كامل، بل إن الأرض كانت ممهَّدة لهم في بلاد الشرق التي كانت تجمعهم بها صلات تجارية وحربية وثقافية، والتي كانت أقرب البلاد جغرافيًّا إليهم، وإذا كانت الحلقة المباشرة — فيما يتعلق بانتقال العلوم الأساسية من البلاد الشرقية إلى اليونانيِّين — هي حلقة مفقودة، فإن المنطق والتاريخ والكشوف المُتتابعة تؤكِّد لنا أنها لا بد كانت موجودة.

على أن هذا لا يعني على الإطلاق أننا نُنكر فضل اليونانيين في ظهور العلم. والحق أن الاعتقاد بضرورة وجود أصل واحد للمعرفة العلمية وتصوُّر واحد يرجع إليه الفضل في ظهورها ربما كان عادة أوروبية سيئة يَنبغي التخلُّص منها؛ فإصرارنا على تأكيد أهمية الدور الذي أسهمت به حضارات الشرق القديم لا يعني أبدًا أن اليونانيِّين كانوا مجرد ناقلين، أو أنهم لم يأتوا في ميدان العلم بجديد، وليس هناك على الإطلاق ما يَمنع من وجود أصول متعدِّدة أسهم كلٌّ منها في ظهور مفهوم معين من مفاهيم العلم، أو جانب معين من جوانبه، مع اعترافنا بأن لكلٍّ من هذه الأصول — في ميدانه الخاص — فضلًا يستحيل إنكاره.

ذلك لأن الاعتقاد بأن للعلم أصلًا واحدًا، يفترض أنه كان هناك شيء محدَّد المَعالم اسمه «العلم» ظهر منذ أقدم الحضارات الإنسانية، وهذا افتراض لا يقوم على أساس؛ إذ إن معنى العلم نفسه قد استغرق وقتًا طويلًا جدًّا كيما يتبلور. وربما كان عمر «العلم» — بمفهومنا الحالي لهذا اللفظ — لا يزيد على أربعمائة سنة، ولكن هذا لا يعني أن كل ما سبق ذلك لم يكن «عِلمًا»، بل لقد كان العلم في طريقه إلى التشكُّل والتحدُّد، وكان كل عصر يضيف إليه عناصر، ويحذف منه عناصر أخرى؛ فلقد كان من الطبيعي أن يختلط العلم — في مراحله الأولى — بعناصر غريبة عنه كالأساطير والشِّعر والعقائد القديمة والرغبات والأماني البشرية، وعلى رأسها رغبة الإنسان في أن يَعيش في عالم يتَّسم بالنظام والجمال ويكون مُتعاطفًا معه. ولم يكن من المُمكِن في تلك العهود القديمة أن يضع العقل البشري حدًّا فاصلًا بين ما هو عِلم وما ليس بعلم. بل إن كل هذه العناصر كانت تَمتزج في وحدة واحدة يستحيل التمييز فيها بين ما هو أصلي وما هو دخيل، وفي كل مرحلة جديدة من مراحل تقدم العلم كانت البشرية تتوصَّل إلى بعض العناصر الغريبة التي تُشوِّه بناء العلم فتَستبعِدها، وتُضيف عناصر أخرى كانت مفقودةً في المراحل السابقة.

وليَتذكَّر القارئ ما قُلناه في مُستهلِّ هذا الفصل من أن العرض الذي سنُقدِّمه لمراحل تطور العلم هو ذاته عرض لتطوُّر «معنى» العلم، فإذا لم يكن العلم قد تحدَّدت معالمُه، وإذا لم يكن شكلًا من أشكال النشاط العقلي الإنساني — خلال تاريخه الطويل — فلن يكون من حقنا عندئذ أن نقول: إنَّ حضارة معينة هي التي يرجع إليها الفضل في ظهور العلم، بل إن كل ما يمكننا أن نقوله هو أن هذه الحضارة يرجع إليها الفضل في إضافة عنصر هام إلى مفهوم العلم، واستبعاد عناصر ضارة من هذا المفهوم. فإذا كان هذا هو الوضع الصحيح للمسألة فلن يكون هناك ما يحول دون نسبة الفضل في ظهور العلم إلى عدة حضارات متلاحِقة، أدى كلٌّ منها دوره في تشكيل معنى العلم خلال مراحل التاريخ.

فما الذي أضافه اليونانيُّون إذن إلى العلم؟ وما هي العناصر التي كانت متداخلة فيه من قبل، والتي أدركوا أن من الواجب تحريرَ العلم وتخليصَه منها؟

لو نظرنا إلى الإنجازات العملية التي حققها اليونانيون وإلى الآثار المادية التي خلَّفوها، لما وجدناها تمتاز كثيرًا عن تلك التي تركتها لنا الحضارات الشرقية الأقدم منهم عهدًا؛ فهم من هذه الناحية لم يكونوا أكثر تفوقًا من غيرهم، ولكن أعظم إنجازاتهم كانت في الناحية النظرية؛ أي في المعارف العِلمية بمعناها «العقلي» البحت؛ فقد كانت لدى اليونانيِّين قدرة هائلة على التعميم، جعلتهم لا يهتمُّون بالأمثلة الجزئية لأيَّة ظاهرة، وإنما يُركِّزون على أعمِّ جوانبها، أو على قانونها العام؛ فهم — على سبيل المثال — لا يَبحثُون في خصائص ذلك المربع الذي يُكوِّنه سقف بيت معيَّن أو حقل مزروع، بل كان ما يُهمُّهم هو خصائص «المربع» بوجه عام؛ أي المربع في ذاته، بغضِّ النظر عن الجزئيات التي يتحقَّق فيها، بل حتى ولو لم يكن مُتحقِّقًا في الواقع على الإطلاق.

وهكذا توصَّل اليونانيون إلى سِمة عظيمة الأهمية من سمات العلم هي «العمومية والشمول»، وقد عبَّر أرسطو عن هذه السمة بوضوح في عبارته المشهورة: «لا علم إلا بما هو عام»، ولا شك في أن هذه السمة لا زالت ملازمة للعلم حتى يومنا هذا، وإن كنا نَقبلها اليوم بتحفُّظات معيَّنة لا يتسع المجال هنا للحديث عنها. فمنذ العصر اليوناني أصبحنا نُدرك أن العلم لا يتعلق بدراسة حالات فردية لذاتها، وإنما ينبغي أن نجعل هذه الحالات وسيلة للانتقال إلى كشف الخصائص العامة «للنوع» بأكمله، أو للاهتداء إلى «القانون» الشامل الذي يَسري على كل الأفراد. وعلى حين أن هذه السِّمة تبدو اليوم في نظرنا أمرًا مألوفًا، فإنها قد احتاجت إلى وقت طويل حتى استقرَّت دعائمها عند مفكري اليونان وعلمائهم، الذين أصرُّوا عليها في كل ما كتبوا، ونجحوا في فرضها على الأذهان منذ ذلك الحين.

وإذا كان العلم يتَّصف بالعمومية، ويبحث في قوانين الأشياء لا في حالاتها الفردية، فإنه بطبيعته يتسم ﺑ «التجريد» وهي سمة أخرى تفوَّق فيها اليونانيون إلى أقصى حد، وتمكَّنوا من جعلها جزءًا لا يتجزأ من خصائص العلم منذ ذلك الحين. والحقُّ أن اليونانيين كانوا من أقدر شعوب الأرض على التعمُّق في المجرَّدات والبحث فيها بلا كلل، ولن نستطيع أن نُدرك فضلهم في هذا الصدد إلا إذا تذكَّرنا أن الجانب الأكبر من البشر ما زالوا حتى اليوم يجدون عناءً كبيرًا في التفكير في الأمور المجرَّدة مدة طويلة؛ فمُعظم الناس يَشعرون بالعَناء إذا قضوا ساعة في قراءة كتاب فلسفي يَتَّسم بشيء من العُمق؛ لأنه يتعامل مع أفكار مجرَّدة، ولا يتعامل مع أشياء ملموسة أو أشخاص محسوسين كما هي الحال في الرِّوايات الأوروبية والمسرحيات الفنية. كذلك يجد الكثيرون حتى اليوم صعوبة في التعامل مع الأرقام، بل إن عددًا كبيرًا من الناس يأبَون قراءة الكتاب إذا تصفَّحُوه فوجدوا فيه أرقامًا كثيرة، وما زالت دروس الرياضة تُكوِّن عُقدة في نفوس الكثيرين ممن يعتقدون — عن خطأ في الغالب — أن عقولهم لم تُخْلَق لهذا النوع من العلوم؛ فالتفكير المجرد يحتاج إلى جهد وعناء يَصعُب على كثير من الناس بذله حتى في عصرنا الحاضر، ولكن اليونانيِّين كانت لديهم — منذ ألفين وخمسمائة عام — قدرة خارقة على التعامل مع المجرَّدات بلا كلل.

لذلك كانت أعظم الإنجازات العقلية التي توصَّل إليها اليونانيون هي تلك التي تمت في ميدان الفلسفة والرياضيات. والواقع أنَّ الحدَّ الفاصل بين الفكر الفلسفي والعلم الرياضي قد أزيل عند معظم الفلاسفة اليونانيِّين، بحيث كانوا ينظرون إلى الرياضة على أنها مرحلة من مراحل التفلسُف، أو على أنها تدريب أو «ترويض» للذهن يُهيِّئه للتعمُّق في الفلسفة.

بل إن مفهوم العلم ومفهوم الفلسفة كانا متداخلَين ومُتشابكَين عندهم إلى أبعد حد، فلم يكن هناك نشاطٌ واعٍ مُستقلٌّ اسمه «العلم»، وإنما كان هناك سعي عقلي واحد يتجه نحو ميادين متعدِّدة، ويُنتج ما نُسمِّيه نحن فلسفة أو علمًا، تبعًا لنوع الميدان الذي يتَّجه إليه، ولكنه كان عند اليونانيين «معرفة» أو «حبًّا للحكمة» فحسب.

ولما كان هدف هذه المعرفة أو الحكمة اليونانية هو معرفة ما هو عام، والوصول إلى القوانين المجرَّدة للأشياء، فقد كان من الطبيعي أن يكون العلم اليوناني علمًا «نظريًّا» قبل كل شيء، وتلك في الحق هي الميزة الكُبرى التي يَنسِبها مؤرِّخو الفكر الغربيون إلى الحضارة اليونانية، ويَرون فيها الحد الفاصل بين الفكر اليوناني وكل تفكير سابق له؛ فعلى حين يُفترض أن الاعتبارات العمَلية وحدها هي التي كانت تُحرِّك الحضارات السابقة إلى جمع المعلومات العِلمية، فإن اليونانيِّين بحثوا عن العلم من أجل العلم فحسب، ولإرضاء نزوع العقل إلى المعرفة، دون أن يكون لهم من وراء ذلك هدفٌ عملي، ولقد كان تفوُّقهم في المعارف العقلية الخالِصة — كالفلسفة والرياضيات — أكبر شاهد على ذلك، وكانت قدرتُهم الفائقة على التجريد هي التي أتاحَت لهم أن يَستكشِفوا أبعد الآفاق في هذَين الميدانين.

ولكي يقتنع العقل — على المستوى النظري — فلا بد له من الوصول إلى «الأدلة» و«البراهين» القاطعة. ولقد كان هذا البحث عن «البرهان» مطلبًا أساسيًّا في الفكر اليوناني، فلم يكن هذا الفكر يَقبل أية قضية ما لم يَقتنع بها عن طريق دليل يفرض نفسه على العقل فرضًا، ولم يكن يَكتفي بالنتائج النافعة أو السلوك العمَلي الناجح، بل كان يبحث دائمًا عن «الأسباب». ولكي نُدرك الفارق بين وجهتَي النظر هاتين، نُقارن بين الفلاح المدرب وعالم الزراعة؛ فالفلاح الخبير يَتبع أساليب معيَّنة، معظمها مجرَّب أو موروث، تؤدي به إلى أن يَجني محصولًا ناجحًا، ولكنه لا يُحاول أن يتساءل: «لماذا» يؤدِّي اتباع هذه الأساليب إلى زيادة المحصول؟ بل ربما رأى ذلك سؤالًا عقيمًا، ما دامت النتيجة المطلوبة — وهي المحصول الوفير — قد تحقَّقت، أما العالِم الزراعي فإنَّ هدفه الأول هو البحث عن «السبب»، والنتيجة الناجحة ليست في نظره كافية، بل ليسَتْ هي الهدف المطلوب، وإنما الهدف الحقيقي هو «معرفة الأسباب»، ومن أجلِ سَعيه إلى هذا الهدف كان عالِمًا.

ولو تأمَّلنا مراحل حياة الفرد لوجدنا أن مرحلة الوعي الفكري عنده مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذا البحث عن الأسباب؛ فالسؤال «لماذا» هو الخطوة الأساسية في طريق اكتساب المعرفة خلال حياة كل إنسان. وإنا لنَجدُ الطفل في السنوات الأولى لحياته يستجيب لدوافعه وحاجاته المباشرة دون محاولة للبحث عن سبب أي شيء، ولكنه في المرحلة التي يبدأ فيها وعيه في التفتح، والتي يودُّ فيها أن «يَعرف» نفسه والعالم المحيط به، يظلُّ يُردِّد السؤال «لماذا» بلا انقطاع، وقد يصل في ترديده إلى حدِّ الإملال، كما أنه قد يسأل عن أسباب أشياء لا تحتاج إلى تعليل، ولكن المهم أن مرحلة الوعي عند الطفل مرتبطة بالسؤال عن الأسباب. ومثل هذا يقال عن الإنسانية كلها؛ فعندما تتخطَّى مرحلة الفعل ورد الفعل المباشر، ومرحلة الاستجابة للحاجات الأولية، وتبدأ مرحلة الوعي بالعالم ومحاولة تفسيره عقليًّا؛ تكون علامة نُضجها هي أنها لا تأخذ الظواهر على ما هي عليه، ولا تكتفي باستخدامها لتحقيق أهدافها العملية، وإنما تبحث — قبل كل شيء — عن أسبابها؛ ولهذا السبب بعينِه كانت الحَضارة اليونانية تُعَد — في نظر كثير من المؤرِّخين — نقطة البداية الحقيقية للعلم.

ولنَعُد — في هذا الصدد — إلى ذلك المثل المشهور الذي ضربناه من قبل، والذي يَرِد ذكره في معظم الكتب التي تُعالج هذا الموضوع، وهو مثل المثلث القائم الزاوية؛ فقد تمكن القدماء — كما قلنا — من الاستفادة من خصائص هذا المثلَّث في أغراض عمَلية، ولكن اليونانيِّين لم يُقنعهم مثل هذا الاستخدام العملي، بل كان سعيُهم يتجه إلى «البرهنة» (أي تقديم الأسباب في صورة مُتسلسلة منطقيًّا ومُقنعة للذهن) على الخصائص المعروفة لهذا المثلَّث، وهي أن مربع الوتر يُساوي مجموع مربَّعي الضِّلعين الآخرين، وكان هذا السعي إلى إيجاد «البرهان» والتوصُّل إلى «الأسباب» العقلية هو الذي جعل الهندسة عند اليونانيين تُصبح علمًا، على حين أنها كانت قبل ذلك فنًّا يُكتسَب بالخبرة والممارسة فحسب.

هذه النظرية الهندسية الخاصة بالمثلث القائم الزاوية تُنْسَب إلى الرياضي والفيلسوف اليوناني المشهور فيثاغورس، على أن قيمة فيثاغورس هذا — الذي يُمكن اتخاذه نموذجًا لما وصَلت إليه الرُّوح العِلمية عند اليونانيِّين — لا تقتصر على هذه النظرية المعروفة، بل لقد انتقل في مجال آخر من حقيقة مُشاهَدة بسيطة إلى تقديم نظرية كاملة عن العالم، كان لها تأثيرُها الأكبر في العصور اللاحقة، وإن كان هذا الجانب من تفكيره أقلَّ شُهرة من نظريته الهندسية المعروفة؛ فقد أدرك فيثاغورس وجود علاقة بين النَّغمة الصوتية وطول الوتر الذي تَصدُر عنه النغمة عندما يتذبذب، وهذا هو المبدأ الذي يسير عليه الموسيقيُّون عندما تسير أصابع يَدِهم اليسرى جيئةً وذهابًا على الأوتار في الآلات الوترية لكي تجعل للوتر — تبعًا لموضع الإصبع — طولًا معينًا، هو الذي يُحدِّد النغمة التي تَصدُر عنه.

هذه الحقيقة البسيطة لم تكن كافية لاستخلاص نتائج ذات أهمية كبيرة، بل إنَّ الأهم منها هو أن هذه العلاقة بين النغمة الصوتية وطول الوتر يُمكن التعبير عنها بنِسَب رياضية معيَّنة؛ فإذا قصَّرتَ الوتر إلى نصفِه تَصدُر نغمة «الجواب» (أي الصوت الثامن في السلَّم الموسيقي)، وإذا قسَّمت الوتر بنسبة ٢ / ٣ كانت النغمة هي الصوت الرابع. ومعنى ذلك أن الأصوات الرئيسية في السلَّم الموسيقي يُعبَّر عنها بنِسَب رياضية ثابتة، أو بعبارة أخرى: إنَّ التآلف والتناغم هو حقيقة رياضية؛ ومن ثم فإن ما نجده في الكون بأكمله من انسجام إيقاعي أشبه باللحن الموسيقي، ومن انضباط ودقَّة تُعبِّر عنها القوانين الطبيعية الثابتة، يرتدُّ آخر الأمر إلى الصيغ الرياضية المجردة، وكانت حصيلة هذا كله هي عبارة فيثاغورس المشهورة: «العالم عدد وتوافق أو نغم.»

في هذا الاتجاه الذي سار فيه فيثاغورس نهتدي إلى بذرة النظرة العلمية إلى العالم؛ إذ إنه أرجع الاختلاف في الكيفيات (أي في الأصوات) إلى مجرد اختلاف في الكم (أي في طول الأوتار)، وعمَّم هذه الحقيقة على الكون بأكمله حين جعل العالم كله «عددًا وتوافقًا»، أي مقادير كمية ونسبًا أو علاقات بينها، كذلك فإنه في هذه العبارة يُعبِّر عن سمة هامة من سمات التفكير العلمي، هي محاولة الكشف عما يوجد وراء المظهر السطحي للأشياء؛ فالأصوات — كما تدركها آذاننا — تُثير فينا أحاسيس متباينة، ولكن من وراء هذا العالم «الظاهر» كله توجد حقيقة أساسية واحدة، هي النِّسَب العددية التي يُمكن بواسطتها التعبير عن أي اختلاف صوتي، وهنا نَجد تلك التَّفرقة الحاسمة بين «مظهر الأشياء وحقيقتها»، وهي تَفرقة كان لها دور كبير في الفكر اليوناني، ولولاها لأصبح التفكير العِلمي مستحيلًا؛ إذ إن جوهر هذا التفكير هو ألا نَنبهِر بالشكل الظاهر للأشياء ولا ننساق وراءه، وإنما نُحاول البحث عما يَكمن وراءه من حقائق أساسية.

ويترتَّب على هذه التفرقة بين المظهر والحقيقة إرجاعُ الأشياء المحسوسة إلى معانٍ مجرَّدة؛ لأن من طبيعة العلم أن يُجرِّد الظواهر من مظهرها العادي الملموس، ويُعبِّر عنها في صِيَغ مُجرَّدة من معادلات أو نِسَب أو علاقات رياضية. ذلك هو المثل الأعلى الذي يُحاول العلم تحقيقه في جميع المجالات، فأقصى ما يَحلم به العالم هو أن يَتمكَّن من التعبير عن كل ما يَحدث في الطبيعة بقوانين ذات صبغة رياضية.

وربما كنا قد أطَلْنا قليلًا في التعقيب على هذه العبارة التي قالها «فيثاغورس»، ولكننا قد اتَّخذنا منها أنموذجًا يكشف لنا عن طبيعة الإنجاز الذي تحقَّق على أيدي اليونانيِّين، ويضع أمامنا المثل الأعلى الذي كان الفكر اليوناني يتطلع إليه. ولا شكَّ أن القارئ قد أدرك — من خلال ما قلناه عن هذا الإنجاز — أن اليونانيين القدماء قد تركوا في التراث العلمي البشري آثارًا لا تُمْحَى، وأنهم خطوا أولى الخطوات في ذلك الطريق الذي لم تَستكشف البشرية بقية معالِمه إلا بعد وقت طويل من انتهاء عهد الحضارة اليونانية القديمة بأسرها.

على أنه إذا كان اليونانيون قد خلَّفوا للبشرية عناصر أساسية ظلَّت ملازمة لمفهوم العلم في عصور تَقدُّمه اللاحقة، وإذا كان التفكير العلمي مدينًا لهم بأول تحديد دقيق لطبيعة ووظيفة هذا النوع من المعرفة الذي نُسمِّيه علمًا، فإن تصوُّرهم للعلم كان في الوقت ذاته مشوبًا بعيوب أساسية ظلَّت هي الأخرى تكوِّن عائقًا هامًّا في وجه نمو العلم، وربما كانت بعض آثارها الضارة لا تزال ملازِمة للعلم — في بعض جوانبه — حتى يومنا هذا.

وبطبيعة الحال، لم يكن اليونانيون أنفسهم على وعي بوجود عناصر صحيحة وعناصر باطلة في تصوُّرهم للعلم، فقد كان هذا التصور في نظرهم متكاملًا، يؤلِّف وحدة واحدة اقتنع بها أصحابها اقتناعًا تامًّا، ولكن التطور اللاحق للعلم قد عمل على تثبيت بعض جوانب هذا التصور، فأصبحت في نظرنا هي الجوانب الإيجابية، على حين أنه سعى إلى التخلُّص من جوانب أخرى هي التي نَعدُّها سلبية، والحكم ما هو إيجابي أو سلبي يتم في هذه الحالة من خلال وجهة نظر العصور اللاحقة، بعد أن أتيح للإنسان أن يتبيَّن ماذا فعل مضيُّ الزمن في فكرة اليونانين عن العلم، وأي عناصرها استطاع أن يَصمُد خلال التاريخ، وأيها أثبت أنه عائق ينبغي التغلب عليه.

والواقع أن نفس العناصر التي اكتسب بفضلها العلم اليوناني سماته المميزة، هي التي انقلبَت إلى عيوب بسبب تطرُّف اليونانيين في تأكيدها. فاليونانيون قد أسدوا إلى البشرية خِدمةً كبرى حين أكَّدوا أن المعرفة لكي تكون صحيحة يجب أن تنصبَّ على الحقائق النظرية والعامة، ويجب أن ترتكز على براهين مقنعة، ولكنهم بالغوا في تأكيد هذه الصِّفات إلى حدٍّ ألحق الضرر بتصوُّرهم للعلم، ولم تتمكَّن الإنسانية من إزالة هذا الضَّرر إلا بعد مضي وقت طويل جدًّا كان فيه العلم شبه متوقِّف، وكان من الممكن استثماره على نحو أفضل بكثير لو لم يكن الجانب السيِّئ من التصور اليوناني للعلم هو الذي ساد طوال هذه الفترة.

فعندما أكَّد المُفكِّرون اليونانيون أن هدف العلم هو «النظرية» التي تسير الظواهر وفقًا لها، وليس القدرة على استغلال هذه الظواهر والانتفاع بها في المجال التطبيقي، كانوا في الواقع يُؤكِّدون سمة أساسية من سمات العلم، ولكنهم لم يكتفوا بذلك، بل تمسكوا بالتأكيد المضاد؛ وهو أن العلم لا علاقة له بمجال التطبيق، ولا صلة له بالعالم المادي بأكمله، وإنما الواجب أن يكون العلم «عقليًّا» فحسب. فالمثل الأعلى للعالِم — في نظرهم — هو المُفكِّر النظري الذي يَستخلِص الحقائق كلها بالتأمُّل النظري، أما محاولة تدعيم هذه الحقائق بمُشاهَدات أو ملاحظات أو تجارب نُجريها على العالم المحيط بنا، فكانت في نظرهم خارجة عن العلم، بل إنها تحطُّ من قدر العلم وتجعله مجرَّد «ظن» أو تخمين، بل إنَّ أفلاطون — فيلسوف اليونان الأكبر الذي كان في الوقت نفسه ذا إلمام واسع بالرياضيات — قد عاب على أحد علماء الهندسة التجاءه إلى «رسم» أشكال هندسية لإيضاح حقائق هذا العلم، ورأى أن إعطاء علم رفيع كالهندسة صورة محسوسة يُمكن رؤيتها بحاسة كالعين، هو إنزال لهذا العلم من مكانته العالية، فيُصبِح جزءًا من عالم الأشياء المرئية والمحسوسة، بينما ينبغي — لكي يظلَّ محتفظًا بمكانته — ألا نستخدم فيه التفكير العقلي وحده، فتظلَّ حقائق الهندسة «عقلية» على الدوام.

ويطول بنا الحديث لو حاولنا أن نتتبَّع مظاهر هذه النظرة العقلية الخالصة إلى العلم، ومدى تطرُّف اليونانيين في تأكيدها، كما أنَّ المجال لا يتَّسع للتحدث طويلًا عن الأسباب المُحتمَلة لإصرار اليونانيين عليها، وحسبنا أن نقول: إنَّ هذا التأكيد المُتطرِّف للعلم النظري على حساب التطبيق العلمي ربما كان راجعًا إلى أحد عاملين:

فمِن المُمكن أن يكون مرتبطًا بنظرة إلى العالَم المادي على أنه عالم ناقص، وإلى العالم الرُّوحي والعقلي على أنه عالم الكَمال، وهي نظرة ربما كانت قد تسرَّبت إلى الفكر اليوناني عن طريق مُعتقَدات شرقية قديمة كان لها تأثيرها في كثير من اليونانيين. ومن المعروف أن فيثاغورس نفسه كانت له «طريقة» — أشبه بالطريقة الصوفية — تأثَّرت طقوسها وشعائرها وتعاليمها بالعَقائد الشرقية تأثُّرًا بالغًا، كما أن أفلاطون سار في اتجاه مماثل. هذا الازدواج بين عالَم رفيع غير مادي وعالم وضيع هو العالم المادي يمكن أن يكون قد انعكس على نظرة اليونانيين إلى العلم، وأدَّى إلى الاعتقاد بأن العلم الجدير بهذا الاسم هو العلم العقلي، وأن مجرد اقتراب العلم من العالَم الطبيعي، ومحاولته حل مشاكله، يقضي على كل ما هو رفيع في هذا العلم.

ومن المُمكن أن يكون هذا التطرف في تأكيد العلم العقلي راجعًا إلى التقسيم الذي كان سائدًا في المجتمع اليوناني — الذي كان مُجتمعًا يسودُه نظام الرق — بين المواطنين الأحرار وبين العبيد؛ ذلك لأن العبيد كانوا هم الذين يقومون بالأعمال الجسمية واليدوية الشاقة؛ أي إنهم هم الذين كانوا يتَّصلون — في عملهم اليومي — بالعلم المادي، وبذلك كانوا يُوفِّرون لأسيادهم الأحرار الوقت والجهد الذي يَسمح لهم بمُمارسة التفكير والجدل والحوار في المسائل النظرية الخالصة. وكان من الطبيعي في هذه الحالة أن تَنعكِس مكانة الإنسان على نَوع العمل الذي يُمارسه، بحيث يرتبط العالم المادي في أذهانهم بالوضع الاجتماعي المُنحط، ويَرتبط العالم العقلي بالوضع الاجتماعي الرفيع، وبحيث يُؤكِّدون في النهاية أن الجهد اللائق بالإنسان الكريم والمثل الأعلى الذي يَنبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقه هو التأمُّل النظري الذي لا تشوبُه من المادة شائبة، وأن الاقتراب من العالَم المادي فيه حطٌّ من كرامة الإنسان.

وعلى أية حال فقد أدَّى ذلك إلى تجاهُل اليونانيِّين لمبدأ تطبيق العلم في حلِّ المشكلات الفِعلية للعالم، وبالرغم من أن تَفوُّقَهم الهائل في التفكير النظري — في ميادين الفلسفة والرياضيات وما يتَّصل بها — يشهد بأن قدراتهم العقلية كانت ممتازة، فإنهم لم يكونوا ميَّالين أصلًا إلى استخدام هذه القدرات لأغراض تطبيقية، فكانت نتيجة ذلك أنهم تركوا للعالم فكرًا نظريًّا رائعًا، ولكنهم لم يتقدَّموا خطوة تستحق الذكر في الميدان التطبيقي. ولقد عبَّر عن هذه الحقيقة العالِم الإنجليزي الكبير «برنال» حين قال:
إنَّ الروعة العقلية والفنية لليونانيين يُمكن أن تُبهرنا إلى حدٍّ يَصعب علينا معه أن نتبيَّن أن تأثير معرفتهم وذكائهم كان مرتبطًا بالمظاهر أكثر مما كان مرتبطًا بالحقائق العمَلية والمادية للحياة، فجمال المدن والمعابد والتماثيل والأواني اليوناني، ودقة منطق اليونانيين ورياضتهم وفلسفتهم، تُخفي عنا حقيقةَ أن أسلوب الحياة في معظم شعوب البلاد المتحضِّرة كان — عند سقوط الإمبراطورية الرومانية — مُماثلًا إلى حدٍّ بعيد لما كان عليه قبل ذلك بألفَي عام، عندما انهارت الحضارة البرونزية القديمة (عند المصريِّين القدماء والبابليين … إلخ). ولو استثنيا بعض التحسينات الطفيفة في الري وشقِّ الطرق وبعض الأساليب الجديدة في العمارة الضَّخمة وتخطيط المدن؛ فإنَّ العلم اليوناني لم يُطبَّق إلا على نطاق ضيق، وليس في هذا ما يدعو إلى الدهشة؛ إذ إن العلم — أولًا — لم يكن يلقى اهتمامًا من المواطنين ميسوري الحال لأي هدف من هذا النوع، بل كان هؤلاء يَحتقرون مثل هذه الأهداف — وثانيًا — لأنَّ العلم الذي توصَّلوا إليه كان محدودًا ذا طابع كيفي إلى حدٍّ يستحيل معه استخدامه على نطاق عملي واسع، حتى لو استقر عزم العلماء على ذلك.٢

وهكذا ترَكت الحضارة اليونانية والرومانية العالم دون أن يَتغيَّر كثيرًا عما كان عليه في الحضارات السابقة، من حيث الإنجازات العملية والتطبيقية، وإن كان اليونانيون قد هزُّوا عقل الإنسان هزًّا عنيفًا، وأيقظوا فيه التطلُّع إلى معرفة القوانين المجردة والأسس النظرية التي بُنِيَت عليها الخبرات المتراكمة منذ القِدَم، ولم يَنجح اليونانيون — برغم امتياز عقولهم — في الجمع بين النظرية والتطبيق، فكان لهم بذلك عِلم قادر على تغيير عقل الإنسان، دون أن يكون قادرًا على تغيير العالم.

وفي وسع القارئ أن يَلمح — خلال الحديث السابق عن مبالغة اليونانيين في تأكيد الجانب النظري للعلم — نتيجتَين سلبيتَين كان من الضروري أن يؤدي إليها هذا الفصل القاطع بين عالم النظرية، الذي هو وحدَه الجدير باهتمام المُفكِّر اليوناني، وعالم الواقع أو العالم المادِّي الذي وضعه الفكر اليوناني في مرتبةٍ دُنيا من حيث جدارته بأن يكون موضوعًا للبحث العلمي. النتيجة الأولى هي التفرقة بين مراتب العلوم، والثانية هي العجز عن تطبيق النظريات الرياضية على البحث في عالَم الطبيعة. فلنتحدَّث عن كلٍّ من هاتَين النتيجتَين على حدة.

ففي كتابات الفلاسفة اليونانيين نجد تَفرقة واضحة بين علوم عليا وعلوم دنيا أو علوم شريفة وعلوم وضيعة، ويكون العلم شريفًا كلَّما كان الموضوع الذي يبحثه أرفع، وكلما كان منهج بحثه أقرب إلى المنهج العقلي الصِّرْف؛ فالفلك مثلًا علم رفيع؛ لأنه يبحث في كائنات علوية هي الأفلاك، التي كانت في نَظرِ الحضارات القديمة كلها كائنات سماوية رفيعة لها طبيعة تَسمو على الطبيعة الأرضية. والرياضيات علم رفيع؛ لأننا لا نحتاج في ممارستها وتعلمها إلا إلى العقل وحده. ومثل هذه التَّفرقة بين مراتب العلوم كان من الضروري أن تأتي بنتائج سيئة على تطور التفكير العلمي؛ إذ إنها أدَّت إلى استبعاد موضوعات عظيمة الأهمية من مجال العلوم الجديرة بالاهتمام؛ فالكيمياء — مثلًا — بوصفها علمًا يبحث في المواد وتفاعُلاتها لم يكن من المُمكن أن تظهر بين اليونانيِّين؛ لأنَّ موضوعها غير جدير — في نظرهم — باهتمام العالم، ولأن طريقة بحثها ليست عقلية بحتة، بل تحتاج إلى تعامل مع المادة. ولو تصوَّرنا أن أحدًا قد اقترح على اليونانيين البحث في عِلم كالجيولوجيا؛ لقوبل منهم بسخرية مريرة، إذ إنه يبحث فيما يوجد في باطن الأرض وفي العالَم الأدنى، على حين أن العالِم لا يليق به إلا البحث في الأمور العليا، ولو تخيَّلنا أن عالِمًا بالحشرات قد زار اليونان القديمة لما وجَد منهم إلا الازدراء؛ لأن الحشرات التي يَبحثها كائنات منحطَّة. وهكذا ألحق الفكر اليوناني ضررًا بالغًا بمفهوم العلم حين أصرَّ على أن يضع العلوم في مراتب متسلسلة، منها الرفيع ومنها الوضيع، وكان لا بد من جهد كبير لكي يُحقِّق الفكر البشري المساواة بين جميع علومه، ولا يرى أيًّا منها جديرًا بالازدراء. بل إنَّ العلمَين «المُحتقرَين» السابقين يحتلان في عالم اليوم مكانة رفيعة؛ الأول حين يتوصَّل مثلًا إلى كشف بترولي هام. والثاني حين يهتدي إلى وسيلة تُخلِّص البشرية من آفة مثل دودة القطن أو ديدان البلهارسيا. وإذا كان هناك تسلسل في المراتب بين علوم اليوم، فإن المرء يكاد يشعر بأن الترتيب قد انعكس؛ لأنَّ العلوم التي تبحث في الأشياء المادية — كالطبيعة والكيمياء وعلم الأحياء — هي التي أصبَحَ لها مكان الصدارة، على حين أنَّ العلوم العقلية تُجاهد لكي تجد لنفسها مكانًا إلى جانب العلوم الطبيعية.

أما النتيجة الثانية فهي أنَّ الحرص على أن تظلَّ العلوم العقلية محتفظة بنقائها، بعيدًا عن أدران العالَم المادي، قد أدى إلى انفصال العلوم الرياضية عن العلم الرياضي، فنَمَت الرياضيات على أيدي اليونانيين نموًّا ملحوظًا، ولكنَّهم لم يُحاولوا تطبيقها على مشكلات الطبيعة، واستخدامها أداةً للتعبير عن قوانين العالم المادي. وهكذا كان العلم الطبيعي يُعاني من الإهمال أولًا، ومن الانصراف عن تطبيق الرياضيات في صياغة قوانينه ثانيًا. وكانت نتيجة ذلك أن اتَّسمت نظرة اليونانيِّين إلى العالم الطبيعي بالتخلُّف الشديد، وأدى عدم تطبيق الرياضيات (الكمية) عليه إلى سيادة النظرة «الكيفية» إلى الأشياء؛ فحين يتحدثون عن خصائص العناصر الطبيعية يَصِفونها من خلال «كيفيات» فيقولون: إنها حارة أو باردة، خفيفة أو ثقيلة. أما التعبير «بالأرقام» عن درجة الحرارة أو الوزن فلم يَخطُر ببالهم؛ لأن الرياضة في نَظرهم لها عالَمها الرفيع الذي لا يَنبغي أن يقترب من عالم الأشياء الأرضية. ولا شكَّ أن هذه النظرة «الكيفية» إلى العلم الطبيعي كانت تعني تخلُّفًا تامًّا في هذا العلم، فلا غرابة في ألا يبدأ بحثُ الطبيعة بحثًا علميًّا دقيقًا إلا بعد انقضاء عصر الحضارة اليونانية بقرون مُتعدِّدة.

ولقد سبق أن ذكرنا ضمن المزايا التي اتَّسم بها العلم اليوناني بحثَه عما هو «عام» في الظواهر، وقلنا: إنَّ هذه سمة أساسية في كل علم؛ لأنَّ العلم لا يهتم بالأفراد إلا بقدر ما يُمثِّلون القاعدة أو القانون «العام»، ولكن اليونانيين كانوا مُغالين في هذه الصِّفة بدورها؛ فقد بالغوا في التعميم إلى حدِّ أنهم كانوا يُطلقون كثيرًا من الأحكام المتسرعة، وتجاهلوا السمات الفردية المميِّزة للظواهر إلى حد الاكتفاء بأوسع وأعم صفاتها، أعني تلك الصفات التي لا تُفيد كثيرًا في تقدُّم العلم.

وكان من نتيجة ذلك أن الحد الفاصل بين العلم والفلسفة لم يكن موجودًا عند اليونانيِّين، وإنما كان هناك نوع واحد من «المعرفة» قد تختلف وسائله أحيانًا، ولكنه يمثل في كل الحالات نشاطًا عقليًّا واحدًا. وإذا كانت الفلسفة تجد في هذا التوحيد بينها وبين العلوم أيام اليونانيِّين مصدرًا للفخر والاعتزاز، فتتباهى بأنها «أم العلوم» التي خرَج كل علم من حضنِها عندما شبَّ عن الطوق، فإن العلم يجد في هذا التوحيد ذاتِه سببًا من أهم أسباب تخلُّفه؛ إذ إنَّ البحث العلمي شيء والتفكير الفلسفي شيء آخر. وصحيح أن بين الاثنَين عناصر مشتركة كالتفكير المنظَّم والاحتكام إلى المنطق السليم، ولكن الطريقَين يفترقان في المنهج وفي الهدف. وكلُّ محاولة للبحث في الموضوعات العِلمية بالطريقة الفلسفية لا بد أن تؤدِّي إلى تأخُّر العلم، وهكذا فإن العلم يردُّ على تباهي الفلسفة فيقول: إنه يعترف بأمومتها، ولكنه لا ينسى أن هذه الأم كانت متسلطة على بنيها أكثر مما يَنبغي، ولم تَعترف باستقلالهم إلا رغمًا عنها، وفي وقتٍ تأخَّر حلولُه أكثر مما يجب.

وأخيرًا فإني أودُّ — قبل أن أختم هذا العرض لسمات التفكير العلمي في العصور القديمة — أن أُشيرَ إلى أمرين لهما أهمية خاصة:

أول هذَين الأمرين هو أن الصورة التي قدمتُها للتفكير القديم — وخاصةً عند اليونانيين — لا تَتناول سوى الإطار العام وحده، ولو كان المجال يتَّسع للمعالجة التفصيلية لأمكننا أن نُشير إلى وجود حالات للتفكير العلمي اليوناني تخرج عن هذا الإطار الذي أشرنا إليه كما هي الحال في البحوث الطبيعية والبيولوجية ذات الطابع التجريبي عند أبقراط وجالينوس، أو في كشوف أرشميدس في ميدان الفيزياء، أو في ذلك المنهج العِلمي الدقيق الذي يقترب كثيرًا من المنهج الحديث، الذي كان يُتَّبع في مدرسة الإسكندرية، وهي مدرسة يونانية متأخِّرة كانت أساليب البحث فيها مُغايرةً لمعظم ما قلناه عن اليونانيين، ولكننا حرصنا على أن نقدم الصورة المُجمَلة دون خوض في التفاصيل، وعلى أن نعرض للقارئ القاعدة العامة دون تقديم للاستثناءات، رغم اعترافنا بأن بعضَها كان عظيم الأهمية.

والأمر الثاني هو أن القارئ قد يجد في هذا العرض الذي قدَّمناه للفكر العلمي اليوناني — برغم اكتفائه بالإطار العام دون التفاصيل — شيئًا من الإطالة، ولكن هذا أمر مُتعمَّد؛ إذ إن من مزايا المرحلة اليونانية أنها تركت طابعها — إيجابًا أو سلبًا — على كثير من المراحل التالية؛ ومِن ثم فإن الاهتمام بتجربة الفكر العلمي عند اليونانيين يُفيد في إلقاء الضوء على ما ورثَتْه العصور اللاحقة عنهم من عناصر إيجابية، وما اضطرَّت إلى مكافحته من عناصر سلبية، فضلًا عن أنه يُعفينا من إعادة عرض تلك العناصر كلما عادَت إلى الظهور في مرحلة تالية؛ فاليونانيُّون كانوا نقطة انطلاق عظيمة الأهمية، وهم الذين وضعوا جزءًا كبيرًا من الأساس، ولم يكن في وُسْع أي عصرٍ تالٍ أن يَتجاهلهم، بل كان لا بد أن يذكرهم إما بالمدح وإما بالنقد، ومن هنا كان من الضروري أن تأتي معالجتنا لهذه المرحلة الأساسية مُسهبة نسبيًّا إذا قسناها بغيرها من المراحل.

(٢) العصور الوسطى

لا بدَّ لنا — عند معالجة معنى العلم في العصور الوسطى — من أن نُفرِّق بين العصور الوسطى في أوروبا والعصور الوسطى في العالم الإسلامي؛ ففي تلك الفترة الزمنية الواحدة كان هناك تفاوت هائل في مستوى العلم بين هاتين المنطقتين من العالم، وعلى حين أن العلم الأوروبي هبط إلى الحضيض في هذه الفترة، فإن العلم الإسلامي وصَل إلى قمته خلالها، وكان هو مركز الإشعاع في العالم كله. وكما نعلم جميعًا فإن لفظ «العصور الوسطى» يرتبط في ذهن الأوروبيِّين بالتخلف والرجعية والتعصب والركود الفكري، على حين أنه يرتبط في أذهاننا بالمَجد الغابر الذي نتغنَّى به ونحاول — دون جدوى في معظم الأحيان — أن نستعيد قدرًا منه. ومن هنا فسوف نتحدَّث عن كلٍّ من هاتين الحضارتين الأوروبية والإسلامية على حدة.

كانت مرحلة العصور الوسطى في أوروبا طويلة الإشعاع حدٍّ غير عادي، وإذا كان المؤرِّخون يختلفون في تحديد نقطة نهايتها، فإن الرأي المرجَّح بينهم هو أنها تمتد من القرن الثالث الميلادي حتى القرن الرابع عشر، وطوال الألف ومائتي سنة التي دامتها هذه المرحلة لم يُحرز العلم تقدُّمًا حاسمًا في أي مجال، ولم يَظهر تغيير جديد في مفهوم العلم، بل لقد احتفظت هذه العصور بأسوأ عناصر المفهوم اليوناني للعلم، وعملَت على تجميدها وتحويلها الإشعاع ما يُشبِه العقيدة التي لا تُناقَش.

ففي مجال المنهج العلمي كان أسلوب «الخضوع للسلطة»٣ هو الشائع في طريقة التفكير في هذه العصور؛ فقد ساد الاعتقاد بأن العلم بلغ قمَّته العليا عند أرسطو، وبأن ما قاله هو الكلمة الأخيرة في أي ميدان من ميادين العلم، وحدث تحالُف وثيق بين معتقدات الكنيسة المسيحية وتعاليم أرسطو الفلسفية، بالرغم من أن هذه التعاليم الأخيرة قد ظهَرت في إطار وثني، فكان من نتيجة هذا التحالف أن اكتسبت آراء أرسطو ما يشبه القداسة الدينية، وأصبح الاعتراض عليها نوعًا من التجديف والضلال، ولم يكن العلم في صميمه إلا ترديدًا لهذه الآراء، أما النقد والتجديد فكان يُعرِّض صاحبه لأشد الأخطار.

أما أسلوب التفكير فكان هو الجدل اللفظي المُقيم، وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا في عصر تستمدُّ فيه عناصر المعرفة من الكتب القديمة لا من الطبيعة ذاتها، فقد برَع مفكرو ذلك العصر في إقامة الحُجَج والبراهين اللفظية الخالصة، وتلاعَبوا بالاستدلالات الشكلية والمُغالَطات التي تتَّخذ في ظاهرها صِبغة منطقية، ولكنهم لم يتوصَّلوا إلى أي منهج في البحث يُعين على معرفة مباشرة؛ فالألفاظ كانت عندهم حاجزًا يَحجُب الواقع، والاستدلال الوحيد المعروف عندهم وهو قياس الجديد على القديم، أي على ما هو معروف من قبل، ومن هنا فإن كُتبهم كانت كلها دعمًا لمعارف قديمة. أما الكشف الجديد فلم يكن من المتوقَّع أن يسعى إليه عصر يؤمن بأن المعرفة كلها قد اكتملت في عصر من العصور الماضية.

ولعلَّ هذا الاهتمام المُفرِط بالحُجج اللفظية الخالصة، والاعتقاد بأنك إذا استطعت أن تُثبِت «بالكلام البحت» شيئًا، فلا بد أن يَكون هذا الشيء متحقِّقًا. أقول: لعلَّ هذا أن يكون سمة من السمات المُميِّزة لمنهج الفكر في كل عصر متدهور، وكلنا نعلم أن الإغراق في الجدل اللفظي الأجوف، والاستعاضة عن الإنجاز الفعلي بالبلاغة اللفظية الرنانة، والاعتقاد بأن التعبير الكلامي عن أمنياتنا، وتصويرها كما لو كانت قد تحقَّقت بالفعل، يغني عن بذل الجهد والكفاح من أجل تحقيق هذه الأمنيات في عالم الواقع. كلُّنا نعلم أن هذه صفات ملازمة لفكرنا العربي في مرحلة انحطاطه، وما زالت آثارها في طريقة تفكيرنا حتى اليوم، ومن المؤكَّد أن استمرار هذه الصفة فينا معناه أننا لم نتمكَّن بعدُ من أن نتجاوَز — إلى غير رجعة — مرحلة العصور الوسطى — بالمعنى السيِّئ لهذا التعبير — في تفكيرنا.

أما من حيث مضمون الفِكر العلمي في العصور الوسطى الأوروبية، فيُلاحظ عليه — بوجه عام — أنه لم يكن مَعنيًّا بتلك العلوم التي تركز اهتمامها على فهم العالم من أجل تغييره والسيطرة عليه. ولقد كان هذا أمرًا طبيعيًّا في عصر كان يُنظَر فيه إلى الحياة الدنيا بأسرها على أنها مرحلة عارضة زائلة، ولم تكن هذه النظرة تخلو من النفاق، إذ كان من المعروف أن أقطاب الكنيسة الأوروبية كانوا يَستمتِعون بحياتهم إلى أقصى حد، في الوقت الذي كانوا فيه يَدعُون عامة الناس إلى الزهد والعزوف عن متع الحياة. وعلى أية حال فإن سيادة هذه العقلية الزاهدة من شأنه أن يُقلِّل من أهمية العلوم الباحثة في الطبيعة، وربما ترَك قدرًا من الاهتمام بالدراسات الأدبية واللُّغوية الخالصة، ولكن أعظم جهوده كانت موجَّهة إلى عِلم اللاهوت.

وهكذا كانت كتابات أرسطو كافية — في نظرهم — لتقديم تفسير كامل للطبيعة والعالم المحسوس بأسره، وكان العالم كله يُفهم من خلال معانٍ كيفيةٍ ذات أصل فلسفي بحت؛ كأن يُقال مثلًا: إنَّ هذا الشيء موجود بالفعل أو بالقوة، أو أنه مادة أو صورة، وهذه المادة حارة أو باردة، ثقيلة أو خفيفة، دون أية مُحاوَلة لتطبيق الرياضيات — التي كانت قد أحرزت في العصر اليوناني تقدمًا كبيرًا — على طريقة فهمنا للظواهر الطبيعية من أجل فهمِ قوانينها الكامنة.

ولقد كان التحالُف بين العلم القديم وبين تعاليم الكنيسة مؤديًا إلى تكوين صورة للعالم كله تَمتزِج فيها تصوُّرات القدماء مع تفسيرات رجال اللاهوت، وكان أول ما يَحرص عليه هؤلاء الأخيرون هو إدخال العناصر الدينية (كما كانوا يَفهمونها) في فكرة الناس عن العالم. ومن هنا لم يكن من غير المألوف أن تجد في كتابٍ علمي صِرْف حديثًا عن عناصر الطبيعة وعن عالم الملائكة والجن في آنٍ واحد، وكان من الطبيعي أن يُصوَّر الكون بصورة ترضي رغبة الإنسان في أن يجد حوله عالَمًا متاطفًا معه، متجاوبًا مع رغباته، محقِّقًا للقيم التي يتوق إليها. ولم يكن من غير المألوف أن يَختلف بحث الإنسان عن حقائق الأشياء برغبته في أن يراها جميلة متناسقة متجاوبة مع ذوقه ومزاجه، فكان يُغيِّر من نظرته إلى العالم بالطريقة التي تُحقِّق له هذه الرغبة، ويَخلق بين السعي إلى الحقيقة والبحث عن التناسُق والانسجام، ولا يجد غضاضة في أن يؤكِّد أن النجوم تسير في مسارات دائرية، لا لأنه رصد حركاتها وتأكد من ذلك، بل لأنه يؤمن بأن النجوم كائنات ذات طبيعة أثرية شبه إلهية، ومثل هذه الكائنات التي تتَّصف بكل هذا الكمال لا بد أن تسير وفقًا لأكمل الأشكال وهو الدائرة. كما كان يتمسَّك في تفسيره للظواهر الأرضية والسماوية بأعداد معيَّنة أحاطتها عقول الناس بقداسة خاصة منذ أقدم العصور، كالعدد عشرة أو سبعة، بغضِّ النظر تمامًا عما تشهد به التجارب الفعلية بشأن هذه الظواهر.

ومجمل القول: إنَّ العلم في العصور الوسطى الأوروبية قد تمسَّك بأضعف العناصر في التراث القديم؛ اليوناني والروماني، وأضاف إليها ذلك الجمود والتعصب الذي كانت تتطلَّبه كنيسة متسلطة لا تريد معارضةً أو تجديدًا. ومن الجائز أنه كانت هناك — تحت هذا السطح الخارجي — تيارات أخرى خفيَّة ظلَّت تتراكم حتى خرج تأثيرها إلى النور في عصر النهضة الأوروبية، وهذا بالفعل ما يقول به بعض مؤرخي العلم، الذين يَرفضون الاعتراف بأن الإنسان الأوروبي ظل متجمِّدًا طوال ما يزيد عن الألف عام، ويؤكدون أن عوامل التغيُّر كانت موجودة، وكل ما في الأمر أنها كانت بطيئة، تعمل في الخفاء، وأن أديرة الرهبان ذاتها قد شهدت تراكمًا في المعرفة العلمية ظهر تأثيره بوضوح في تلك النهضة السريعة التي حقَّقتها أوروبا في مطلع العصر الحديث، وربما كان هذا الرأي على قدر من الصواب؛ إذ إن من الصعب أن نفسر سرعة التقدم الذي طرأ على العلم الأوروبي في القرن السابع عشر، والذي نقل أوروبا من التفكير في عالم أرسطو الذي لا يَتحرَّك إلا لأنه يَعشق «المحرك الأول»، إلى عالم نيوتن الذي يسوده قانون طبيعي واحد هو قانون الجاذبية الكونية. من الصعب أن نُفسِّر ذلك إلا إذا قلنا بأن عوامل أخرى قد مهَّدت له، بالرغم من أن تأثيرها لم يكن في البداية ظاهرًا.

على أن هذه العوامل المُتراكمة لم تكن مجرَّد تطور ذاتي داخلي للمعرفة العِلمية في أوروبا خلال العصر الوسيط، فهذه المعرفة — مهما تطوَّرت — لم تكن تُبشِّر بنتائج ذات قيمة كبيرة، وإنما كان هؤلاء العلماء في حاجة إلى دفعة قوية تأتيهم من مصدر خارجي؛ لكي تُنير الطريق، وتكشف لهم عن أفضل السبل المتاحة للبحث العلمي في ذلك الحين، وقد تحقَّق ذلك بفضل تأثر الحلم الأوروبي بالعِلم الإسلامي الذي كان يحتلُّ المرتبة العليا في ذلك العصر.

كانت صورة العلم في العصور الوسطى الإسلامية مختلفة عن صورة الركود والجمود الأوروبي كل الاختلاف؛ ففي العالم الإسلامي كانت هناك حضارة فتية نَشِطة، تتَّسم بالإيجابية والتوسع والانفتاح على العالم، وتوائم نفسها مع هذا العالم المُتغيِّر الذي وجدت نفسها تتعامل معه، وكان ميدان العلم من أهم الميادين التي حقَّقت فيه هذه الحضارة الوليدة أعظم أمجادها.

ولقد كان التقدُّم العلمي الذي عرفَتْه الحضارة الإسلامية في عصر ازدهارها مثلًا رائعًا من أمثلة التفاعل الخصب بين الحضارات؛ فنقطة البداية في هذا العلم كانت ذلك التفتح الفكري الذي ألهمَ خلفاء المسلمين — في العصر العباسي بوجه خاص — وأن يَنقُلوا كل ما أتيح لهم مِن علوم القدماء وفلسفاتهم في ترجمات أمينة تُعد من أروع الأعمال التي تحقَّقت حتى ذلك العصر بالمقاييس الأكاديمية الخالصة؛ وذلك إذا أخذنا في اعتبارنا أنَّ اللغة العربية لم تكن حتى ذلك الحين قد كوَّنت لنفسها مصطلحات عِلمية تكفي للتعبير عن كل ما خلَّفه القدماء من معارف. وهكذا عرف المسلمون علوم اليونان والفرس والهنود، ولم يتردَّدوا في استخدام كل الذخيرة الضخمة من المعلومات العِلمية التي كدَّستها البشرية حتى ذلك الحين؛ من أجل تلبية حاجات المُجتمع الإسلامي الذي كان ينمو ويَزداد تعقُّدًا يومًا بعد يوم.

ولقد أسهم في هذه الحركة العلمية النشيطة علماء من أصل عربي وآخرون ينتمون إلى مختلف البلاد التي أصبحَت تدين بالإسلام، ولكن الجميع كانوا يَكتبون ويُفكِّرون بالعربية، وكان الجو الذي يَشيع في كتاباتهم إسلاميًّا بحتًا، وكانوا ينظرون إلى أنفسهم — مهما بعدت بلادهم في أقصى أطراف آسيا الوسطى أو الأندلس — على أنهم ينتمون قلبًا ورُوحًا إلى تلك الحضارة التي انبعثت إشعاعاتها الأولى من قلب الجزيرة العربية.

ولقد رأى كثير من الكُتَّاب الغربيين في العلم الإسلامي مجرد امتداد للعلم اليوناني، وأكدوا أن كل ما قام به المسلمون في مجال العلم كان يدور في ذلك الإطار الذي حدَّده اليونانيون قبيل ذلك بفترة لا تقلُّ عن ألف عام، وأراد غير هؤلاء أن يكونوا أكثر إنصافًا، فأكدوا أن التفكير العلمي الإسلامي — وإن ظلَّ في إطاره العام يونانيًّا — قد أعاد النظر في التراث العلمي اليوناني من جديد، وبحث فيه بروح تقدمية فيها قدر من الاستقلال، ولكن المهم في كلتا الحالتين هو أن العلماء المسلمين — وفقًا لرأي هؤلاء الكُتَّاب — لم يخرجوا عن فلك التفكير العلمي اليوناني.

وقد يبدو ظاهريًّا أن لهؤلاء الكُتَّاب بعض العذر في التقريب بين العلم الإسلامي وتراث اليونانيين؛ إذ إن الأسماء اليونانية — مثل أرسطو وأبقراط وجالينوس — كانت تتردَّد كثيرًا في المؤلَّفات العلمية الإسلامية، كما أن الإطار الفكري لهذه المؤلَّفات كان يحتفظ بقدر غير قليل من مفهوم العلم عند اليونانيين؛ إذ نجد عند فلاسفة الإسلام نظرة متدرجة إلى العلوم، تُعلي من قدر العلم النظري البحت وتُقلِّل من شأن العلم التطبيقي، وتجعل مكانة أي علم مرتبطة بمكانة الموضوع الذي يبحث فيه. ولكن كتابات الفلاسفة كانت تسير في طريق وممارسة العلماء كانت تسير في طريق آخر مُختلِف كلَّ الاختلاف؛ إذ إن الاهتمام بالعلم التجريبي وباستخدام البحث العلمي من أجل فهم قوانين الطبيعة المحيطة بنا، كان هو الهدف الرئيسي من أعمال علماء مشهورين مثل جابر بن حيان في الكيمياء، والحسن بن الهيثم في البصريات (علم الضوء)، والبيروني في الفلك والرياضيات، والرازي وابن سيناء وابن النفيس في الطب، ومن الصعب — إذا كان المرء منصفًا — أن يُصدِّق الحكم القائل بأن الإطار الذي كان يدور فيه هؤلاء العلماء الكبار كان إطارًا يونانيًّا صرفًا، وأنهم لم يُضيفوا إلى الحضارة الإنسانية إضافات أصيلة تَنبُع من طبيعة البيئة الثقافية التي عاشوا فيها.

وعلى أيَّة حال، فإن الاعتراف يَزداد الآن — بين مؤرِّخي العلم الغربيين أنفسهم — بأن العلم الإسلامي لم يكن مجرد جسر عبر عليه العلم اليوناني لكي ينتقل إلى أوروبا الحديثة، أعني مجرد أداة توصيل بين الحضارة الأوروبية القديمة والحضارة الأوروبية الحديثة. وكما حدث في حالة العلاقة بين اليونانيين — في مبدأ ظهور علمهم وفكرهم الفلسفي — وبين الحضارات الشرقية السابقة عليهم، حين أخَذ الغربيُّون يَتنبَّهون في الآونة الأخيرة على نحو مُتزايِد إلى أن اليونانيين مدينون للشَّرق القديم بأكثر مما كانوا يظنون من قبل، فكذلك حدث في حالة العلاقة بين العلم الإسلامي والعلم اليوناني أن بدأ مؤرِّخو العلم الغربيون يُدركون على نحوٍ متزايد أهمية الإضافة التي أضافها المسلمون إلى العلوم التي وَرِثوها عن الحضارات السابقة عليهم؛ أي إنهم في الحالتين أصبحوا أكثر واقعية وأقلَّ مبالغةً في تقدير دور «المعجزة اليونانية»، وأمْيَل إلى الاعتراف للشعوب الشرقية بحقِّها في أن تفخر بالدور الذي أسهمت به من أجل دفع عجلة العلم إلى الأمام.

والواقع أن أعظم ما يُمكن أن يفخر به العلم الإسلامي — في عصر ازدهاره — هو أنه أضاف بالتدريج إلى مفهوم العلم معنًى جديدًا لم يكن يلقى اهتمامًا بين اليونانيين، وهو استخدام العلم من أجل كشف أسرار العالم الطبيعي وتمكين الإنسان من السيطرة عليه؛ فقد عرف اليونانيون الرياضيات وتفوَّقوا فيها، ولكنهم لم يعرفوا كيف يستخدمونها لحلِّ المشكلات الواقعية التي تواجه الإنسان. وفي مقابل ذلك كان المسلمون بارعين في استخدام الأرقام ووضع أسس علم الحساب الذي يمكن تطبيقه في حياة الناس اليومية، وكان اختراعهم للجبر، وتفوقهم في الهندسة التحليلية وابتكارهم لحساب المثلثات، إيذانًا بعصر جديد تُستخدَم فيه الرياضة للتعبير عن قوانين العالم الطبيعي، وتُطَبَّق فيه مبادئها من أجل حلِّ مشكلات المساحة الأرضية، وحساب المواقيت وصناعة الأجهزة الآلية. وكذلك كانت كشوفهم الفلكية مرشدًا هامًّا للملاحين والجغرافيين، وساعدت على فهم أفضل للعالم الذي نعيش فيه، أما بحوثهم الطبية والصيدلانية فكانت ذات دلالة تطبيقية لا تخطئها العين.

ولقد كان هذا الاتجاه الذي يجمع بين النظرية والتطبيق أمرًا طبيعيًّا في حضارة قامت على أساس الجمع بين الدنيا والدين، وارتكزت على شعار: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.» وبالفعل كان العلم الإسلامي ينطوي على جانبي الدنيوية والأزلية في آنٍ واحد، ويستهدف خدمة الحياة الإنسانية في هذا العالم الأرضي في إطارٍ تَرتكز أصوله على النظر في عالم السماء والأرض واستخلاص العبرة من نظامه المحكم وقوانينه الأزلية. وهكذا كان العلماء يقومون ببحوثهم مؤمنين بأن العلم ركن أساسي من أركان العقيدة، ولم تَكُن فكرة التعارُض بين العلم والإيمان الديني تَخطُر ببال أحد منهم، بل إن كل مَن أثاروا هذه الفكرة لم يكونوا من العلماء، ولم تكن لدَيهم أدنى فكرة عن الطبيعة الحقيقية للبحث العلمي وعن أهدافه الإنسانية الرفيعة.

ومِن المُعترف به أن العلم الإسلامي قد احتفظ ببعض العناصر السلبية التي ترجع إلى اليونانيين؛ ففكرة «الأَمزِجة» التي أكدتها كتابات الأطباء اليونانيين ظلَّت قائمة في الطب الإسلامي، وسلَّم بها ابن سينا في كتابه المشهور «القانون». كذلك كانت فكرة «العناصر الأربعة» (الماء والهواء والنار والتراب) — الموروثة عن الفلاسفة اليونانيين الأوائل — تتردَّد كثيرًا في كتابات العلماء الإسلاميين، وترتَّب على ذلك ضياع وقت وجهد غير قليلَين في أبحاث علمية تُعَدُّ عقيمة بمقاييسنا الحديثة؛ كالتنجيم وقراءة الطالع، وكالبحث عن «حجر الفلاسفة» وتحويل المعادن الخسيسة إلى ذهب. ولكن ينبغي أن نعلم أن الحكم بإدانة هذا النوع من الأبحاث هو حكم صادر من وجهة نظر حديثة؛ فنحن نَصِف هذه الأبحاث الآن بأنها غير عِلمية لأن التطور التالي للعلم — في عصرنا الحديث — قد تجاوَزَها، أما من وجهة نظر العصر نفسه فلم يكن هناك حدٌّ فاصل بين هذه الأبحاث العقيمة والأبحاث العِلمية الأخرى ذات النتائج الإيجابية؛ ولذلك فمن الصعب أن نَعُدَّ هذا خطأً ندين من أجله العلم الإسلامي، وحسبُنا أن نَذكر أن العلم الأوروبي ظلَّ حتى القرن السابع عشر — وربما حتى القرن الثامن عشر في بعض الحالات — يحتفظ بآثار من هذه الأخطاء القديمة، وأنَّ كبار علماء العصر الحديث — وعلى رأسهم كبلر — كانوا يُمارسون التنجيم، ولم يكونوا يَجِدون أي تعارض بين أبحاثهم الفلَكية الأصلية وقراءتهم طالع الملوك والأمراء من رصد النجوم. أما فكرة العناصر الأربعة فقد ظلَّت مُعترَفًا بها في أوروبا حتى القرن الثامن عشر، ولم تُهْدَم إلا على يد الكيميائي الفرنسي المشهور «لافوازييه».

تلك إذن أخطاء ينبغي ألا تُحْسَبَ على العلم الإسلامي، وفي مقابل ذلك فقد كانت لهذا العلم إنجازات تعلَّمت أوروبا منها الشيء الكثير؛ فقد وضحت على يد العلماء الإسلاميين أصول المنهج التجريبي بما يَقتضيه من ملاحظات دقيقة دائبة، ومن تسجيلٍ مُنظَّم لهذه الملاحظات، ثم وضع الفروض لتفسيرها وإجراء التجارب للتحقُّق من صحة هذه الفروض، وكان الطب الإسلامي نموذجًا اقتدى به الأطباء الأوروبيون في دقة الملاحظة ووَصفِ الأعراض وتشخيصها وعلاجها بالعقاقير أو بالجراحة أو بمُمارسة العلاج الطبيعي، كما كان أول أمثلة المستشفيات — بمعناها الحديث — هو «البيمارستان» الإسلامي، بل بدَأ لديهم الاهتمام بالطبِّ النفسي والعلاقة المتبادَلة بين الجسم والنفس في بعض الأمراض. وما الطب إلا مثل واحد من أمثلة هذه العقلية المتقدِّمة التي أزالت الحد الفاصل بين النظرية والتطبيق، وجمَعت في مركب واحد بين التأمُّل العقلي والفعل العملي، وأعطَت بذلك للإنسانية عامة وللحضارة الأوروبية الحديثة بوجهٍ خاص درسًا رائعًا في منهج البحث العلمي الأصيل.

هذا العلم الإسلامي — الذي ارتكز على دعائم قوية من المنهج التجريبي ومن الحقائق الرياضية الدقيقة — كان واحدًا من أهمِّ العوامل التي أدَّت إلى ظهور النهضة الأوروبية الحديثة؛ فمنذ القرن الثاني عشر الميلادي أخذت المؤلَّفات العربية الكبرى تُتَرْجِم على نطاق واسع إلى اللغة اللاتينية، لغة العلم في أوروبا خلال العصر الوسيط، ولم يكن من المصادَفات أن يَنظُر عدد غير قليل من الباحثين الأوروبيين إلى هذا القرن بالذات على أنه نقطة البداية الحقيقية في النَّهضة الأوروبية، أو نقطة التحوُّل من العصور الوسطى المُظلِمة إلى المرحلة الممهِّدة لظهور العصر الحديث. ولم يكن من المصادَفات أيضًا أن تكون الجامعات ومعاهد العلم الأوروبية القريبة جغرافيًّا من مراكز الثقافة العربية — في جنوب إيطاليا وصقلية وفرنسا — هي مراكز الإشعاع الأُولى لهذه النهضة، وكما ذكرنا من قبل فقد شاع في وقتٍ ما بين الكُتَّاب الغربيين حكمٌ جائر مؤدَّاه أن المرحلة الإسلامية في العلم إنما كانت همزة وصل بين الحضارة اليونانية والحضارة الأوروبية الحديثة، وأن فضل العلماء المسلمين يَنحصِر في المحافظة على التراث العلمي القديم ونقله بأمانة إلى أوروبا لتبدأ به نهضتَها الحديثة، على أن هذا الحكم لا يلقى في أيامنا هذه تأييدًا حتى من الكُتَّاب الأوروبيين أنفسهم، ولعلَّه كان أثرًا من آثار نعرة العنصرية الأوروبية المتعالية في القرن التاسع عشر؛ ذلك لأن إسهام العلم الإسلامي كان جديدًا من نواحٍ كثيرة، وكان أهم ما فيه هو ذلك التجديد الرائع في مناهج البحث العلمي وأساليبه. وذلك الفهم واسع الأفق للعلم على أنه معرفة نظرية تستهدف أغراضًا عمَلية تطبيقية، وهي أمور لم تكن واضحة في العلم اليوناني القديم إلا خلال فترة قصيرة من عمره هي تلك الفترة التي انتقل فيها ذلك العلم إلى الإسكندرية، ولكن تأثيرُ هذه الفترة كان ضئيلًا؛ لأن التقدم العلمي فيها كان مصحوبًا بتدهور عام في الحضارة اليونانية بأسرها. وهكذا كان للعصر الإسلامي دوره الذي لا يُنْكَر في إضافة معانٍ جديدة إلى مفهوم العلم ذاته.

ولا شك أن القارئ العربي والإسلامي المعاصر حين يذكر هذه الحقائق، يَشعُر بالأسى إذ يجد تلك النهضة العِلمية التي قام بها أجداده قد توقَّفَت منذ قرون عديدة، مع أنها لو كانت قد استُكْمِلَت لكانت هذه المنطقة من العالَم رائدة في ميدان العلم الحديث، وقد يُعلل المرء ذلك بالانحلال الداخلي الاجتماعي والسياسي، الذي طرأ على العالم الإسلامي بعد عَصرِه الذهبي في العلم والحضارة، وقد يُعلِّله بأسباب خارجية، كالغزو التركي ثم الأطماع الأوروبية في هذه المنطقة الحيوية. وأيًّا كان السبب في التدهور اللاحق، فإنَّ مِن أبرز مظاهر هذا التدهور أنَّ العالم العربي قد أغلق على نفسه الأبواب في عصورِ انحلاله وتصوَّر أنه يستطيع الاكتفاء بذكرى أمجاده الماضية، ونسيَ ذلك الدرس العظيم الذي قدمته له الحضارة الإسلامية وهي في أَوجِ عظمتها، وأعني به أن التفاعل بين الثقافات هو الدافع الأول إلى تقدم العقل البشري، فلم يَخجل المسلمون في عصرهم الذهبي من استيعاب علوم الثقافات الأخرى الأقدم منهم عهدًا، بل كان في ذلك نقطة انطلاق لهم إلى فهم العالم، ولم يَخجل الأوروبيون من ترجمة أمهات الكتب الإسلامية وتدريسها — بوصفِها كتبًا مقررة — في أعظم جامعاتهم خلال مطلع العصر الحديث. والأهمُّ من ذلك أن نفس العقول المُتزمِّتة التي تدعونا إلى الابتعاد عن الثقافات «الدخيلة» في عصرنا الحاضر لا تجد في مسلك الأوروبي إزاء العلم الإسلامي ما يَعيبُهم، ولا تُعيِّر الغرب بأنه قد تنكَّر لتراثه أو لأصوله، وانسلخ عن هويته الأصلية عندما اغترف بكلتا يدَيه من علوم المسلمين، فهي إذن تَعترف بقيمة تفاعل الثقافات عندما نكون نحن الذين نُعطي، وتُنكرها حين نكون نحن الآخذين، مع أنَّ هذا التفاعل واحد في كلتا الحالتين، وهو مصدر نفع للبشرية أينما حدث.

(٣) العصر الحديث

تضافرت عوامل متعدِّدة أدَّت إلى الانتقال بأوروبا من أسلوب التفكير السائد في العصور الوسطى إلى أسلوب التفكير العلمي الحديث، وكان بعض هذه العوامل داخليًّا، يتعلَّق ببناء المجتمع الأوروبي ذاته، وبعضه الآخر خارجيًّا، كالتأثير الإيجابي الذي مارسَتْه الحضارة الإسلامية على العقل الأوروبي، وليس مِن مهمَّتنا في هذا الكتاب أن نتحدث عن هذه العوامل إجمالًا أو تفصيلًا، بل إن ما يُهمنا هو حصيلتها النهائية؛ وأعني بها التغيير الذي طرأ على مفهوم العلم ذاته، أعني العناصر التي أسقَطها العصر الحديث من مفهوم العلم في العصور السابقة، وتلك التي أضافَها إلى هذا المفهوم.

ومِن الأمور التي تسترعي انتباه الباحث في هذه الفترة أن المفهوم الحديث للعلم لم يتشكَّل على أيدي العلماء وحدهم، بل لقد أسهم فيه الفلاسفة بدور عظيم الأهمية، ولعلَّ القول بأن الفلسفة مرآة للعصر لا يصدق على أية فترةٍ بقدر ما يصدق على هذا العصر الأول من عصور العلم الأوروبي الحديث؛ إذ كانت لفلاسفة ذلك العصر رؤية واضحة تمام الوضوح لمُتطلبات العلم، وكانت بصيرتهم النفَّاذة تُدرك ما يحتاج إليه العقل البشري من مناهج للبحث وطرق للتفكير حتى ينتقل إلى عصر جديد.

ومن الغريب حقًّا أنه في نفس الوقت الذي كان فيه فلاسفة ذلك العصر يَدعون إلى قيام نوع جديد من العلم، كان العلم ذاته يَخطو خطواته الحاسمة بعيدًا عن الفلسفة، وقد تبدو في هذا مفارقة صارخة، إذ يُخيَّل إلينا لأول وهلة أنَّ تحمُّس الفلاسفة للعلم كان لا بدَّ أن يؤدي إلى مزيد من التحالُف والتداخل بين الفلسفة والعلم، ولكن حقيقة الأمر هي أن عملية انفصال العلم عن الفلسفة لم تكن في بدايتها عملية واعية؛ فقد ظهر نوع جديد من المعرفة، يستخدم أساليب فكرية مختلفة عن تلك التي دأبَتَ الفلسفة على استخدامها حتى ذلك الحين، ولكنَّ هذا النوع — برغم تميُّزه الواضح هذا — كان لا يزال يُسمى «فلسفة»؛ إذ إنَّ الكثير من علماء ذلك العصر — ومنهم نيوتن ذاته — أطلقوا اسم «الفلسفة التجريبية» أو «الفلسفة الطبيعية» على عناوين أبحاثهم الرئيسية، ولكنَّ المهم في الأثر أن التميُّز بين طريقتَي البحث الفلسفية والعلمية أصبح ظاهرًا للعيان، وأنَّ فئة «العلماء» — المستقلين عن الفلاسفة في تفكيرهم استقلالًا تامًّا — أصبحَت فئة معروفة، يزداد نفوذها يومًا بعد يوم، ولم يكن الفلاسفة أنفسهم يقفون حائلًا في وجه هذا الاستقلال، بل كانوا يُشجِّعون عليه، وينظرون إلى أنفسهم على أنهم دعاة مُخلِصون للعلم، وكان ذلك وضعًا جديدًا للعلاقة بين الفيلسوف والعالم لم تعرفه العصور السابقة؛ إذ أصبح الفيلسوف ينظر إلى نفسه، لا على أنه هو ذاته الذي يأخذ على عاتقه مهمة توسيع نطاق المعرفة البشرية في كافة المجالات ودفعها إلى الأمام، بل على أنه هو الذي يضع «الأساس» الفكري للعمل الذي يقوم به أشخاص آخرون مستقلون عنه؛ أي إنه ليس هو «خالق» المعرفة بل هو «منظِّرها» فحسب.

ولقد كان الفيلسوف الإنجليزي الكبير «فرانسيس بيكون» Francis Bacon أعظم دعاة هذه النظرة الجديدة التي يستقلُّ فيها العلم عن الفلسفة استقلالًا تامًّا؛ فهو يسخر من ادعاءات فلاسفة العصور القديمة والوسطى الذين كانوا يتصوَّرون أن باستطاعتهم حلَّ مشكلات العالم الكبرى بالتأمُّل النظري وحده، ويُهاجم مفكري الأبراج العاجية الذين يعتقدون أنهم قادرون على فهم الطبيعة وما وراء الطبيعة باستخدام مجموعة من الاستدلالات اللفظية التي يتلاعبون بها ببراعة، ويظنون أن ما تُوصِّلُهم إليه هذه الألاعيب اللفظية لا بد أن يكون حقيقة واقعة. وفي مقابل ذلك يدعونا بيكون إلى إجراء حوار مباشر مع الطبيعة، واستخدام حواسِّنا وعقولنا في ملاحظة وقائعها وتسجيلها بأمانة، ويُنادي بضرورة إزالة هذا الحاجز اللفظي الخدَّاع الذي وضَعه القدماء بيننا وبين حقائق العالم، ويُؤكِّد أن المعرفة الصحيحة إنما تكون في طرح الأسئلة المباشرة على الطبيعة، بدلًا من التقوقع داخل عالم الألفاظ. وهكذا حدَّد بيكون سِمَة من أهمِّ سمات التفكير العلمي الحديث؛ وهي الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيًّا، بدلًا من الاكتفاء «بالكلام» عنها.

ومِن السمات الأخرى التي أكَّد بيكون أهميتها في كل تفكير علمي، أنَّ هذا التفكير لا يُسارع إلى التعميم، كما كانت تفعل الفلسفات القديمة، ولا يَنساق وراء الطموح الزائد الذي يُصوِّر لكلِّ فيلسوف أنه قادر على تقديم إجابات عن الأسئلة الكبرى ذات الطابع العام؛ مثل أصل العالم ومصيره وغاياته … إلخ. بل إنَّ التفكير العلمي — في رأيه — أشد تواضعًا من ذلك بكثير؛ فهو يضع لنفسه أهدافًا محدودة، وينتقل بثقة من حقيقة جزئية إلى حقيقة جزئية أخرى، ولا يُعمِّم نتائج أبحاثه إلا بحذر شديد، وبقدر ما تَسمح الحقائق الموجودة فحسب، ومن مجموع هذه الحقائق الجزئية يعلو بناء المعرفة بالتدريج على أيدي الأعداد الكبيرة من العلماء، الذين يتقاسَمون فيما بينهم — خلال الجيل الواحد — المشكلات المطلوب حلها، والذين يبدأ كل جيل جديد منهم من حيث انتهى الجيل السابق، وتلك كلها قد تبدو اليوم — في عصرنا الذي أصبح فيه التخصُّص أساسًا للعمل العلمي — بديهيات مسلَّمًا بها، ولكنها في عصر بيكون كانت شيئًا جديدًا بالقياس إلى أساليب الفلاسفة السابقين، الذين كان كلُّ واحد منهم يتصور أنه يحتكر لنفسه الحقيقة كاملة، ويعتقد أن المعرفة البشرية كلها يُمكن أن تتكشَّف لعقل واحد.

ولقد كان من الصفات الهامة التي أضافها بيكون إلى مفهوم العلم قابليةُ كل علم للتطبيق، وتلك صفة رأيناها ماثلة من قبل في العلم الإسلامي بوضوح، غير أن بيكون هو الذي يرجع إليه الفضل في نشرها في العالم الغربي على أوسع نطاق؛ فعلى حين أن العلم القديم كان معرفة لأجل المعرفة، نجد بيكون يؤكِّد أن العلم الذي لا يقبل التطبيق العلمي بصورة من الصور لا يستحق أن يُسمَّى علمًا، وربما كان هذا موقفًا متطرفًا، ولكنه كان ضروريًّا لمواجهة التطرف المضاد في العلم النظري البحت، كما عرَّفه الفلاسفة اليونانيون الذين كانوا يَزدرون أية معرفة تقترب من مجال الواقع المادي وتدخل نطاق التطبيق. وهكذا هيَّأ بيكون أذهان الناس لقَبول عدد كبير من العلوم التي تتَّصل بموضوعات «أرضية» «مادية»، ووصل به الأمر إلى الدعوة إلى بحث «التغذية» وكيفية صنع الطعام وحفظه على أسس علمية، وهو أمر كان خليقًا بأن يَلقى من اليونانيين سخرية مريرة. فهدفُ العلم عند بيكون هو أن يجعل الإنسان سيدًا للطبيعة ومُسيطِرًا عليها. وإذا كان كارل ماركس هو الذي قال لأول مرة بعبارات صريحة في القرن التاسع عشر: «لقد اقتصر الفكر حتى الآن على تفسير العالم على أنحاء شتى، ولكن المهم هو تغييره.» فمن المؤكد أن هذه العبارة تصلح شعارًا لفلسفة بيكون كلها؛ وذلك لسببَين؛ أولهما أنه كان بدوره ناقدًا شديدًا للاتجاه النظري الخالص عند الفلاسفة السابقين. وثانيهما أنه كان يدعو بكل حماسة إلى أن تكون المعرفة — فلسفية كانت أم علمية — وسيلةً لتغيير العالم وتحقيق سيطرة الإنسان عليه، وكانت دعوة بيكون هذه هي — في واقع الأمر — الأساس الفكري الذي ارتكزت عليه حركة التقارُب بين العلم والتكنولوجيا في القرون التالية.

على أن بيكون — بالرغم من كل ما أضافه إلى مفهوم العلم من معان هامة كان لها أبلغ الأثر في التطور التالي للمَعرفة العلمية — لم يُركِّز اهتمامه إلا على جانب واحد من جوانب العلم، وهو الجانب التجريبي المبني على مُشاهَدة الظواهر وتسجيلها واستخلاص أسبابها عن طريق الملاحظة الدقيقة والتجربة، وهذا — بغير شك — جانب عظيم الأهمية، وخاصة إذا نظرنا إليه في ضوء الفترة التاريخية التي عاشها بيكون، والتي لم تكن تَعرف قبل ذلك إلا العلم المدوَّن في الكتب، ولم تكن تستخلص المعرفة إلا من أفواه الحكماء الأقدمين. وهكذا كان بيكون — شأنه شأن كلِّ رائد يَستكشف ميدانًا جديدًا — مُتحمِّسًا أشد التحمس لذلك التصور الذي كوَّنه لنفسه عن العلم، والذي يرتكز على الملاحظة والتجربة المباشرة، ولكن هذا لم يكن — كما قلنا — سوى جانب واحد من جوانب العلم؛ إذ إن العلم يحتاج إلى الصياغة الرياضية الدقيقة، إلى جانب احتياجه إلى الملاحظة والتجربة، والرياضة علم عقلي لا شأن له بملاحظات الحواس وتجاربها.

ولقد كان الفيلسوف الفرنسي «ديكارت» Descartes هو الذي أكد أهمية هذا الجانب الآخر — أعني الجانب الرياضي العقلي — للعمل العلمي، وتطرَّف بدوره في هذا الاتجاه حتى تصوَّر أن مهمة العالم — في مختلف المجالات — لا تختلف عن مهمة الباحث في الهندسة؛ إذ يَستنبط بدقة النتائج التي تترتب على مقدمات واضحة كل الوضوح، يضعها العقل وهو موقن بأنها تَصلُح أساسًا متينًا لكل معرفة تالية، وكان المُبرِّر الذي ارتكز عليه ديكارت في تأكيده هذا، هو أن العلم الرياضي أدقُّ العلوم، بل هو نموذج الدقة في كل تفكير، فإذا شئنا أن تَصلَ معارفنا — في أي ميدان من الميادين — إلى مستوى الدقة الجديرة باسم العلم، كان لا بد لنا أن نَتبع هذا النموذج الذي اعتاد الباحثون في الرياضيات أن يتبعوه منذ أقدم العصور، والذي تَمكَّنوا بفضله من أن يجعلوا علمهم مثلًا أعلى لليقين العقلي.
وهكذا فإن هذين الفيلسوفين اللذَين ظهَرا في مطلع العصر الحديث، قد نبَّها الأذهان إلى الجانبين اللذين أصبح العلم الحديث يرتكز عليهما خلال تطوراته التالية؛ وأعني بهما الملاحظة الأمينة للواقع من جهة، والقدرة على صياغة قوانين هذا الواقع بطريقة رياضية من جهة أخرى. ومِن الجدير بالذكر أن العلماء الكبار في ذلك العصر — وعلى رأسهم العالم الإيطالي العظيم «جاليليو Galileo» — قد توصَّلوا — دون أن يكونوا قد اتصلوا بهؤلاء الفلاسفة اتصالًا مباشرًا — إلى الطبيعة الحقيقية لطريقة البحث العلمي؛ إذ كان جاليليو — في إثباته لقانون مثل سقوط الأجسام — يُجْرِي التجارب ويتحقق منها أولًا، ثم يُعبِّر عن النتيجة التي يتوصل إليها بقانون يتَّخذ شكل معادلة رياضية أو نسبة حسابية … إلخ. وهكذا جمع هؤلاء العلماء بين نتائج تفكير الفيلسوفَين الكبيرين في ذلك العصر بطريقة تلقائية، وتمكَّنوا من تحقيق الاتزان بين الجناحَين اللذَين لا يستطيع العلم التحليق إلا بهما معًا، وأعني بهما الملاحظة والتجربة من جهة، والصيغة الرياضية من جهة أخرى.

وأخيرًا فإن من العناصر الهامة التي أُضيفت إلى مفهوم العلم منذ أوائل العصر الحديث: ذلك الطابع الجماعي للعلم، الذي أشَرنا من قبل إلى أن بيكون كان من أول مَنْ نبهوا إليه، فعلماء العصر الحديث لم يكونوا مؤمنين بأن العلم جهد فردي، بل كانت تسودُ عملَهم منذ بدايته «روح الفريق»، ومنذ أن أصبح العلم نشاطًا مستقلًّا عن الفلسفة، أخذ عدد المُشتغلين به يتزايد بالتدريج؛ لأنَّ الباحثين عن الحقيقة أدركوا أنهم توصَّلوا إلى نوعٍ آخر من المعرفة قابل للنمو والتوسُّع من جيلٍ إلى جيل، وليس مجرَّد محاولات فردية تلمع خلال حياة صاحبها ثم تَنطفِئ لكي تبدأ محاولة أخرى من جديد. وكان العلماء في البداية يُحقِّقون أهدافهم في تبادل المعرفة عن طريق الرسائل، ولكن سرعان ما اتَّضح أن الرسائل المتبادَلة أسلوب بطيء لا يسمح بنشر المعرفة وإخضاعها لنقد العقول الأخرى وتحليلها؛ إذ لم تكن ظروف ذلك العصر تسمح للعلماء إلا بتبادل رسالة أو رسالتين في العام كله. ومن جهة أخرى فقد كان عدد الأبحاث العلمية يتزايد باستمرار، ومن هنا بدأ التفكير — لأول مرة في تاريخ البشرية — في إنشاء جمعيات علمية يتبادل فيها العلماء أبحاثهم وآراءهم، ويُقسِّمون العمل العلمي فيما بينهم وفقًا لخطط مرسومة.

ومن الوجهة التاريخية الخالصة، يُمكن القول: إنَّ أول جمعية عِلمية هي التي أُنْشِئَت في فلورنسة بإيطاليا عام ١٦٥٧ باسم Academia de Cimento (وتعني: أكاديمية التجربة العلمية)، ولكن البداية الحقيقية للجمعيات العلمية بكل مُقوِّماتها الحديثة كانت هي الجمعية الملَكية في لندن (Royal Society) عام ١٦٦٢، ومنذ ذلك الحين تعاقبت الجمعيات بسرعة، فأُنْشِئَت الأكاديمية الفرنسية في باريس عام ١٦٦٦، ثم أكاديمية سان بطرسبورج الروسية عام ١٧٢٩ وأكاديمية برلين عام ١٧٤٤.

وبفضل هذه الجمعيات العلمية الرائدة لم يتحقَّق مبدأ العمل الجماعي والتخطيط المنظَّم في العلم فحسب، بل إن إنشاءها قد دعم مبدأ رعاية الدولة للعلماء وإنفاقها على أبحاثهم. ومن المؤكد أن العلم أفاد كثيرًا من هذا المبدأ، لا سيما وأن نفقات البحث العلمي كانت في تزايُد مُستمِر، كما أن الدول بدورها اكتسبت فوائد هامة من رعايتها للعلماء، إذ كانت تجد في نجاح علمائها مبعثًا للفخر المعنوي، كما كانت تُكلفهم بإجراء البحوث التي تفيدها في تحقيق أهدافها الاقتصادية والعسكرية، وسوف نرى فيما بعد أن هذا المبدأ ذاته قد أصبح في عصرنا الحاضر سلاحًا خطيرًا ذا حدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤