الفصل الخامس

لمحة عن العلم المعاصر

(١) الأساس النظري

كان العلم الأوروبي عند مطلع العمر الحديث علمًا ميكانيكيًّا في المحلِّ الأول؛ فالميكانيكا نفسها كانت أهم العلوم وأدقها، وبفضلها تحقَّقت مجموعة كبيرة من كشوف القرنين السابع عشر والثامن عشر، والأهم من ذلك أن نموذج المعرفة ذاته كان هو النموذج الآلي؛ أعني أنك تستطيع أن تفهم الظواهر على أفضل نحوٍ إذا استطعتَ أن تُنظِّمها في نسق تكون فيه كلٌّ منها مؤدية إلى الأخرى بطريقة آلية خالصة، بل إنَّ الكون كله كان في نظر فلاسفة العصر الحديث آلة ضخمة تسير في عملها بانتظام الساعة الدقيقة، وعلاقة الله بالعالم أشبه بعلاقة الصانع بصنعته؛ بمعنى أن العالم قد صُنِعَ مُتقَنًا منذ البداية، ويظلُّ يسير في طريقه بعد ذلك بنفس الدقة والانتظام اللذَين صُنِعَ بهما.

وكانت أهم العوامل المؤدية إلى دعم هذه النظرة الآلية إلى العلم: إمكاناتها التطبيقية الهائلة التي بلَغت قمة نجاحها بظهور الآلة البخارية وبداية عصر جديد من عصور الإنتاج البشري، وكان من الطبيعي أن يُواكِب هذا النجاح إيمان بأن فكرة الآلية تنطبق على كل شيء حتى على الأجسام الحية، بل وعلى الإنسان نفسه. وفي القرن الثامن عشر كان فلاسفة عصر التنوير الفرنسيين من أقوى دعاة هذا الفهم الجديد للعلم، ومن هنا كانت حَملتهم على كل أشكال التفكير الغيبي والميتافيزيقي، ودعوتهم إلى فهم كل الظواهر بنَفسِ المنهج الذي ثبت نجاحه في العلم. وظلَّ هذا الاتجاه مستمرًّا طوال الجزء الأكبر من القرن التاسع عشر، وكان الناطق باسمه هو الفيلسوف الفرنسي «أوجست كونت» Auguste Conte الذي نادى بفلسفة تَرتكِز على التجربة الدقيقة، ولا تَعترف إلا بالمعرفة المستمدة من الملاحظات والتجارب العِلمية، وأكَّد أن المرحلة العلمية التجريبية هي أعلى المراحل التي يصل إليها العقل البشري عند نضوجه، وأنها هي التي ينبغي أن تحل محلَّ كل ألوان التفكير الأسطوري واللاهوتي والميتافيزيقي التي سادت في العصور الغابرة.
وقد أدَّى ظهور نظرية التطور على يد دارون — في أواسط القرن التاسع عشر — إلى إعطاء هذا الاتجاه الآلي دفعة قوية؛ إذ إنَّ هذه النظرية فسَّرت تطور الأنواع الحية وتنوع صفاتها بمضي الزمن تفسيرًا آليًّا بحتًا، لا دخل فيه إلا للعوامل الطبيعية الخاصة بالتكيُّف مع البيئة، وكان معنى ذلك أن مبدأ الآلية لا يسري على الظواهر الطبيعية فحسب، بل ينطبق على الأحياء بدورهم، وقد عبَّر الطبيب الفرنسي المشهور «كلود برنار» Claude Bernard أدق تعبير عن تلك المرحلة التي أعلن فيها انتصار النظرة الآلية إلى العالم انتصارًا مطلقًا بتطبيقها على ظاهرة الحياة، لا على الظواهر الطبيعية غير الحية فحسب؛ وذلك في نصٍّ مشهور يقول فيه: «هناك بديهية تجريبية يَنبغي التسليم بها؛ هي أن شروط وجود أية ظاهرة يُمكن تحديدها بطريقة قاطعة، وأن هذا يَسري على مجال الكائنات الحية مثلما يسري على الأجسام الجامدة. على أن هناك أناسًا يُنادون بمذهب يُطلِقون عليه اسم النزعة الحيوية، وباسم هذا المذهب يقولون بأفكار شديدة البطلان في هذا الموضوع؛ إذ يعتقدون أن دراسة ظواهر المادة الحية لا يمكن أن تكون لها أدنى صلة بدراسة ظواهر المادة غير الحية. وهم يتصوَّرون أن للحياة تأثيرًا غامضًا خارقًا للطبيعة، يمارس فاعليته بطريقة عشوائية، مُتحرِّرًا من كل حتمية. أما أولئك الذين يبذلون جهودهم من أجل تفسير الظواهر الحيوية عن طريق عوامل كيميائية وفيزيائية محدَّدة، فإنهم يَصفِونهم بأنهم ماديون … وتلك كلها أفكار باطلة …»١

وظل هذا الاتجاه العلمي الآلي في صعود خلال النِّصف الثاني من القرن التاسع عشر، بل لقد بلغ في تلك الفترة قمة نجاحه عندما تلاحقَت النظرية والتطبيقات العملية التي غيرت وجه الحياة في العالم؛ كاختراع التليفون والتلغراف والتصوير الفوتوغرافي والسينما والسيارة والطائرة، وكانت نتيجة ذلك هي سيادة نوع من الإيمان المتطرِّف بالعلم، وصل إلى حدِّ الاعتقاد بأن العلم الدقيق هو الشكل الوحيد الذي يَنبغي للإنسان أن يَعترف به من بين سائر أشكال المعرفة، وبأنَّ الحقيقة في جميع مجالاتها — يستوي في ذلك أعماق الإنسان الباطنة وأطراف الكون الخارجية — لا تَتكشَّف إلا عن طريق منهج تجريبي، وأن المعرفة العلمية الدقيقة بأسباب الظواهر هي وحدها القادرة على أن تأخذ بيد البشرية في الطريق المُوصل إلى السعادة والكمال، وإذا لم تكن هذه النزعة العلمية المُتطرِّفة قد تجاهَلَت أنواع المعرفة التي يُقدمها إلينا الفن أو الشعر أو الأدب أو الاستِبصار الأخلاقي، فإنها كانت تدعو إلى قيام هذه الأنواع كلها على أُسُس تجريبية، وبنائها على وقائع تَخضَع للملاحظة والتحقيق التجريبي.

على أنه في نفس الوقت الذي بلَغ فيه هذا الاتجاه الآلي في العلم أوج النجاح في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت الصورة تتغيَّر بسرعة، وظهرت عوامل مُتعدِّدة أدَّت إلى تزعزع هذا الاعتقاد بأن المعرفة التجريبية — المرتكزة على وقائع يُمكن ملاحظتها وحسابها بدقة كاملة — هي النمط النموذجي لكل أنواع المعرفة الأخرى، أو هي وحدها التي تَصلُح منهجًا للبحث العلمي؛ فقد ظهرت في علم الفيزياء كشوفٌ شكَّكت العلماء في أن يكون عالِم الجزئيات المادية الدقيقة — أعني عالم ما دون الذرة — خاضعًا لمسارٍ حتمي دقيق يُمكن التنبؤ به مقدمًا، وتبيَّن أن المادة تتبدَّد على شكل طاقة، وكان معنى ذلك التشكيكَ في مبدأ أساسي من مبادئ النظرية الآلية في العلم؛ وأعني به الاعتقاد بأنه لا شيء يتحول إلى العدم أو يظهر من العدم. ويُمكن القول إنَّ الصورة الجديدة للعالم — كما تتَّضح من خلال الكشوف العلمية الحاسِمة في فترة الانتقال من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين — أصبحَت بعيدة كل البُعد عن ذلك العالم الذي هو أشبه بآلة ضخمة تتحرَّك كل أجزائها وفقًا لقوانين ميكانيكية بحيث يُمكِن التنبؤ بمسارها وتغيُّراتها بدقة كاملة، ومخالفة للاعتقاد القديم بأن أساس العالم مادة ملموسة تتَّخذ أشكالًا مُتباينة من خلال حركتها. فالعالم — كما كشفت عنه الفيزياء الحديثة — هو عالم من القُوى والطاقات التي تتبادَل التأثير، وهو في أدقِّ جزيئاته مجموعة من الشُّحنات التي يستحيل التنبُّؤ بمسارها مقدَّمًا.

هذه التطورات الحاسمة لم يكن معناها فقدان الثقة في العلم أو فتح الباب على مصراعَيه أمام الاتجاهات المُعادية له؛ فمثل هذه النتيجة — التي استخلصها البعض بالفعل في أول عهد النظريات الفيزيائية الجديدة — ليست صحيحة على الإطلاق، بل إنَّ الصحيح هو أن العلم قد اكتسب من تطوراته هذه قوةً دافعة أدَّت به إلى المزيد من التقدم، وكان اكتشاف التعقيد المتزايد لتركيب المادة ولقوانين الطبيعة — بوجه عام — حافزًا للعلماء كيما يتوصَّلوا إلى كشوف تطبيقية أعقد من كل ما عرَفَته البشرية حتى ذلك الحين، وإذا كنا نَفخر في عصرنا الحاضر باكتشاف الطاقة الذرية والحقول الإلكترونية وارتياد الفضاء، فمن المؤكَّد أن هذه الكشوف كان من المستحيل إنجازها في الوقت الذي كانت تسود فيه النظرة الآلية المباشرة إلى العالم، وهي لم تُصبِح مُمكنة إلا منذ اللحظة التي اكتشَفنا فيها التعقُّد المتزايد للطبيعة والتأثيرات المُتبادِلة لمُكوِّناتها، فكان هذا الاكتشاف هو الأساس النظري الذي مهَّد لظهور مخترعات ونواتج علمية تماثل في تعقدها قوانين الطبيعة التي بُنِيَت عليها.

(٢) الوضع الحالي للعلم

في القرن العشرين حدثَت ثورة كمية وكيفية هائلة في المجال العلمي، بمعنى أن نطاق العلم قد اتَّسع إلى حدٍّ هائل، كما أن إنجازاته قد اكتسبت صفات جديدة وأصبحت أهميتها تفوق بكثير كلَّ ما كان الحلم يُحقِّقه في أي عصر سابق، بل إنَّ هذا التغيُّر جعل العلم هو الحقيقة الأساسية في عالم اليوم، وهو المِحوَر الذي تدور حوله كل المظاهر الأخرى لحياة البشر.

ولو نظرنا إلى الأمر من الزاوية الكمية الخالصة؛ لتبيَّن لنا أن معدَّل نمو العلم قد تسارع بصورة مذهلة خلال القرن العشرين؛ إذ تقول الإحصاءات: إن كمية المعرفة البشرية تتضاعف — في وقتنا الحالي — خلال فترة تَتراوح بين عشر سنوات وخمس عشرة سنة، وهو ما كان يستغرق في العصور الماضية مئات السنين، وسيظلُّ هذا المعدَّل في ازدياد مستمر، بحيث إنَّ الإنسان سيحتاج من أجل مُضاعَفة معرفته بالعلم عند نهاية هذا القرن إلى فترة لا تزيد عن خمس سنوات. وبطبيعة الحال فإن تعبير «مُضاعفة كمية المعرفة البشرية» قد يبدو تعبيرًا مُضلِّلًا؛ لأن في المعرفة البشرية أمورًا لا تقاس بالكم، فضلًا عن أن بحثًا واحدًا قد يكون أعظم أهمية في تقرير مصير العلم من عشرات الأبحاث، ولكن من الممكن — مع ذلك — تحديدُ مستوى المعرفة في ميدان العلوم الطبيعية — بصورة مجملة — عن طريق عدد الأبحاث التي تجرَى فيه.

كذلك فإنَّ عدد العلماء يتزايد بمعدَّل مُذهِل؛ فأشدُّ الإحصاءات تحفُّظًا تقول: إنَّ عدد العلماء الذين يعيشون الآن يساوي ثلاثة أرباع مجموع العلماء الذين عاشوا على هذه الأرض منذ بدء التاريخ البشري. وهناك إحصاءات تقول إنَّ العددَين متساويان. ولو افترضنا — تخيُّلًا — أن الزيادة في عدد العلماء قد استمرَّت بنفس معدلها الحالي فسيكون معنى ذلك أن كل رجل وامرأة وطفل لا بد أن يُصبح عالِمًا في أواسط القرن المقبل. وكذلك يُقدِّر هواة الإحصاءات أنه لو استمرت زيادة الإنتاج في البحوث العلمية بنفس معدَّلها الحالي، فإن وزن المجلات العلمية الموجودة في العالم سيُصبِح — بعد مائة سنة — أثقل من الكرة الأرضية ذاتها. ولو استمرَّ الإنفاق على الأبحاث العلمية في الدول المتقدمة يَتزايد بمعدله الحالي، فإن هذه الدول ستُنفِق — بعد فترة لا تزيد عن خمسين سنة — كل دخلها القومي على البحث العِلمي والتكنولوجيا، دون أن يتبقَّى منه شيء للتعليم أو الصحة أو الغذاء أو الجيش.

هذه كلها بطبيعة الحال إحصاءات فرضية؛ لأن حياة البشرية ستُصبِح مستحيلة لو أصبح كل رجل وامرأة وطفل فيها عالِمًا، ولم يَعُد هناك صُناع أو زراع أو موظفون؛ ومن المستحيل أن تُترك المطبوعات العلمية لتتراكم حتى تسدَّ علينا منافذ الحياة، أو أن نُنفِق على البحث العلمي وحده ونترك سائر القطاعات الحيوية بغير إنفاق. فكلُّ ما تدلُّ عليه هذه الإحصاءات هو أن معدَّل النمو في العلم يَتزايد في القرن العشرين بسرعة مُخيفة، وأنه سيكون من المحتَّم وضع حدٍّ لهذه الزيادة، وتخفيف حدَّتها في المستقبل، حتى تُصبِح حياة الإنسان مُمكنة، وإن كان هذا لا يَعني بأي حال إيقاف تقدم العلم؛ لأنَّ العدد الحالي من العلماء — حتى لو استمرَّ دون زيادة — كافٍ لإحداث تغيُّرات هائلة في العلم، لا سيما وأن الظروف التي يعمل فيها العلماء والأدوات التي يستخدمونها سوف يَرتفِع مستواها وتتضاعَف قدراتها على الدوام.

ومن جهة أخرى فهذه الإحصاءات تنطبق على البلاد المتقدمة وحدها، وهي وحدها كافية لكي يدرك القارئ إلى أي حدٍّ ستظلُّ الهُوَّة بيننا وبين العالم المتقدم تتَّسع باستمرار، إذا لم يتغيَّر موقفنا من العلم ومن البحث العلمي تغييرًا جذريًّا؛ ففي الوقت الذي أصبحت فيه البلاد المتقدمة تشعر بخوف حقيقي من جراء النمو السريع للبحث العلمي، وتُفكِّر في وسائل إيقاف هذا التسارع المذهل، نعاني نحن من نوع عكسي من الخوف على مستقبلنا في عالم يُقرِّر مصيره العلم الذي لا نُبْدِي به اهتمامًا كبيرًا، وأبسط ما يمكننا أن نلاحظه — في هذا الصدد — هو أن النجاح في العلم (كما هو في ميدان المال) يُولِّد مزيدًا من النجاح، وأن الاتساع المتزايد في قاعدة البحث العلمي وازدياد جذورها تعمقًا يعطي الجيل القادم فرصًا أعظم لمضاعَفة الإنجازات العلمية، مما يؤدِّي في النهاية إلى تقدم يَستحيل أن يتنبأ العقل بأبعاده. أما في حالة البلاد المتخلِّفة علميًّا فإن الفشل يؤدي إلى مزيد من الفشل؛ لأن العلماء الذين يشعرون بخيبة الأمل والإحباط، والذين يَفتقِرون إلى وسائل البحث الجاد وإمكاناته، ويَمشون في جوٍّ لا يُشجع عليه، سيتركون من ورائهم جيلًا أكثر إحباطًا وأقلَّ مقدرة، وسيُصبِح هذا الجيل الأضعف هو المسئول يومًا ما، وهلم جرًّا.

فإذا حاولنا أن نُقدِّم عرضًا لأهم إنجازات هذا العلم المعاصر؛ لكي نتبيَّن منها الملامح المميَّزة له من العلم في العصور الماضية، فإن مهمتنا تبدو في هذا الصدد شديدة الصعوبة؛ ذلك لأن هذه الإنجازات تبلغ من الكثرة والتشعُّب حدًّا يَجعل من العسير تقديم عرض يتسم بأي قدر من الشمول لها، كما يجعل من الصعب الاختيار بينها إذا كان الهدف هو عرض نماذج منها. وعلى أية حال فسوف نكتفي بالكلام عن مجموعة من الإنجازات التي يكاد يكون هناك إجماع في الرأي على أهميتها العظمى في حياة الإنسان المعاصر، مع تأكيد حقيقةٍ أساسية هي أن هناك إنجازات أخرى لا تقلُّ عنها أهمية في نظر الكثيرين.

أول هذه الإنجازات هو كشفُ إمكانات الطاقة الذرية، ولقد كان اكتشاف الطاقة الكامنة في الذرَّة حصيلة مجموعة كبيرة من التطورات الأساسية في علم الفيزياء، من أهمها اهتداء «أينشتين» إلى معادلته المشهورة بين المادة والطاقة، ولسنا نودُّ أن نتحدَّث الآن عن الأهمية النظرية لهذا الكشف الكبير الذي أزال الحدَّ الفاصل بين ما كان يعتقد أنه «مادة صلبة» وبين الطاقة التي هي مجرد قوة غير ملموسة، ولكن ما يُهمُّنا هو أن معادلة أينشتين ظلَّت حقيقة «نظرية» في حاجة إلى التحقيق العلمي والتجريبي، وكانت الظروف العالَمية — الخارجة عن نطاق العلم — هي وحدها التي هيَّأت الفرصة لهذا التحقيق العملي، وهي التي جعَلت أول وأهم تطبيقات هذه المعادلة يَحدُث في الميدان العسكري.

فقد كان من المعروف — قبل الحرب العالَمية الثانية — أن العلماء الألمان قد قطعوا شوطًا بعيدًا في محاولة استغلال المعرفة النظرية المتعلِّقة بالتركيب الداخلي للذرة، وكان من الحقائق المسلَّم بها أن هذه المحاولات سوف تَسير أولًا — وقبل كل شيء — في الاتجاه العسكري، وكان هناك خوف حقيقي من أن يكتسب هؤلاء العلماء — في عهد هتلر — القدرة على الاستغلال الحربي لتلك الطاقة الهائلة التي تتولَّد عن انشطار الذرة، وتَضاعف هذا الخوف باقتراب نُذُر حرب عالَمية جديدة، وبالمسلك العدواني المغرور الذي كان هتلر يسلكه مع الدول المحيطة به في الفترة السابقة على تلك الحرب. وكان أول مَنْ تنبَّه إلى هذا الخطر مجموعة من العلماء مُعظمهم ممن هاجروا إلى الولايات المتحدة فرارًا من الاضطهاد في العهد النازي. وهكذا اجتمعت كلمة هؤلاء العلماء — وعلى رأسهم أينشتين نفسه — على أن يكتبوا إلى الرئيس روزفلت — رئيس الولايات المتحدة في ذلك الحين — داعين إياه إلى أن يُخصِّص لهم الأموال والاستعدادات اللازمة؛ حتى يتسنَّى لهم الوصول إلى هذا السلاح الجديد قبل أن يتوصَّل إليه حاكم طاغٍ يُمكن أن يسيطر به على العالم ويَفرض عليه قِيَمه وأفكاره المُعادية للإنسان.

وبالفعل قدَّمت الدولة إلى مجموعة العلماء المُشتغِلين في هذا المشروع — الذي عُرِفَ باسم «مشروع مانهاتان» Manhattan Project — كلَّ ما يحتاجون إليه من مساعدات ووسائل للبحث، واستطاع العلماء الأمريكيون أن يُجروا في عام ١٩٤٥ في صحراء نيفادا أول تجربة ذرية في التاريخ. ولم تمضِ إلا مدة قصيرة حتى وُضِعَ السلاح الرهيب الجديد موضع التطبيق الفعلي، فأُلْقِيَت أول قنبلة ذرية على هيروشيما في اليابان في ٨ أغسطس ١٩٤٥، وأعقبتها بعد أيام قلائل القنبلة الثانية على نجازاكي؛ مما عجَّل بالاستسلام النهائي لليابان، آخر دولة ظلَّت في الحرب.

وسوف نتحدَّث فيما بعد عن الدلالة الإنسانية للسلاح الذري بوجه عام — ولقنبلتي هيروشيما ونجازاكي — وهما القنبلتان الذريتان الوحيدتان اللتان استُخْدِمَتا في حرب حقيقية حتى اليوم — بوجه خاص، ولكن ما يُهمُّنا في هذا الصدد هو الإشارة إلى أن نجاح «مشروع مانهاتان» كان معناه دخول الإنسانية عصرًا جديدًا هو ما أصبح يُعْرَف بعد ذلك باسم العصر الذري. وصحيحٌ أن الإنسانية قد أعلنَت عن دخولها هذا العصر بطريقة تَدعو إلى الأسى من خلال دويٍّ يصمُّ الآذان، وكرة هائلة من النار تصهَر حرارتها الحديد، وصراخ عشرات الألوف من الأطفال والنساء والضَّحايا الذين لا يعرفون لماذا يحدث ذلك كله، ولكن المُهم في الأمر أن العلم الإنساني وصَل بهذا الانفجار إلى نقطة تحول حاسمة في تاريخه، وأن إحدى قِمَم المعرفة البشرية قد بُلِغَت من خلال الحضيض الذي تردَّت إليه الإنسانية في أبشع وأسرع حادثة قتل جماعي في التاريخ.

ومنذ ذلك الحين أصبحت الذرة من أبرز المعالم المُميِّزة لعصرنا، فتطورت الأسلحة في الميدان العسكري، من القنابل الذرية إلى القنابل الهيدروجينية التي هي أشد فتكًا بكثير، ووصلَت هذه القنابل الآن إلى درجة من القدرة التدميرية أصبح العلماء معها يُصنِّفون قنبلة هيروشيما بأنها «لعبة أطفال». ولم تَعُد هذه القنابل الآن سلاحًا عسكريًّا فحسب، بل أصبحت سلاحًا استراتيجيًّا في المحل الأول؛ وذلك حين لم تَعُد تحتكرها دولة واحدة، وحين تطوَّرت وسائل نقلها وأصبحت قادرة على الوصول إلى أي مكان في العالم. وهكذا نشأ ميزان الرعب النووي بين الدولتين الكبيرتين؛ الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وترتَّبَت على ذلك المناورات السياسية والعسكرية التي شهدتها فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكلُّ محاولات الردع والاحتواء والأحلاف العسكرية، ثم التعايش السلمي والوفاق …

وفي الجانب الآخر كان العلماء يَشتغلون بجدٍّ من أجل كشف الوسائل التي يُمكن بها تسخير هذه الطاقة الهائلة الجديدة للأغراض السلمية، وبالرغم من كل ما تمَّ إحرازه في هذا الميدان من تقدم، فإن الحقيقة المُؤسِفة التي ينبغي الاعتراف بها، والتي تنطوي على إدانة خطيرة للإنسان المعاصر، هي أن القدرة على استخدام الذرة في المجالات السِّلمية ما زالت في مستوًى أقل بكثير من القدرة على استخدامها في الأغراض العسكرية؛ أي إنَّ الإنسان ما زال يُثبت أنه أقدر على استخدام عقله وعبقريته من أجل الموت، منه على استخدامه من أجل الحياة. ومع ذلك فلا بدَّ أن نُسجِّل أن أعدادًا من الإنجازات الهامة قد تحقَّقت في هذا الميدان؛ إذ إن الذرَّة استُخْدِمَت في العلاج الطبي بنجاح غير قليل، وخاصة في حالة بعض الأمراض المستعصية، كما أمكن بفضلها إنجاز مشروعات هندسية كبرى؛ كشقِّ التُّرَع أو حفر الأنفاق أو هدم عوائق صخرية ضخمة، والأهم من ذلك أن شوطًا كبيرًا قد قُطِعَ في طريق استخدام الطاقة الذرية كمصدر للوقود، وما زالت الأبحاث جارية لكي تَستطلِع كل إمكانات هذه الطاقة الهائلة.

وفي نفس الوقت الذي دوَّى فيه صوتُ الانفجار الذري في هيروشيما لكي يُعلن على الملأ بداية عصر الذرة، كان هناك عالِم هادِئ يعلن بأبحاثه — في تواضُع شديد — قيامَ علم جديد أطلق عليه اسم «السيبرنطيقا» Cynernetics، وكان ظهور هذا العلم الجديد هو بدَوره واحدًا من المعالم البارزة لعصرنا الحاضر، بل قد يَثبُت على المدى الطويل أن تأثيره في مستقبل الإنسانية أهم بمراحل من تأثير الانشطار النووي؛ هذا العالم هو «نوربرت فينر» Norbert Wiener الذي كانت أبحاثه هي الأساس الأول لاختراع العقول الإلكترونية.٢

كانت فكرة هذا العالم هي تطبيق ما يحدث في الإنسان — بوصفه جهازًا حيًّا متكاملًا — على الآلات من أجل بلوغ مرحلة جديدة في تطورها مختلفة عن كل ما استُخْدِمَت فيه الآلات من قبل. وعلى هذا الأساس فقد درس الوظائف التي يقوم بها الجهاز العصبي للإنسان، والتي يتمكن الإنسان بواسطتها من أن يُصحِّح مسار أفعاله ويُعيد توجيهها وفقًا لما يواجهه من مواقف، وأن يأمر نفسه ويطيعها ويختبر نتائج سلوكه ويُعدِّلها. وحين أمكن تطبيق نتائج هذه الدراسات في صنع جيل جديد من الآلات، كانت تلك آلات مِن نوعٍ لم يألفه الإنسان من قبل؛ فهي ليست تلك الآلات التي تحتاج إلى إشراف دائم للإنسان، ولا تعمل إلا وفقًا لأوامره، ولا تسير إلا في خطٍّ واحد يَرسمه لها مقدمًا، بل إنها كانت آلات تُصحِّح مسارها بنفسها، وتتبادَل مع نفسها الأوامر وتنفيذ الأوامر، وتقوم بأعمال إنتاجية أعقد وأكمل بكثير مما كانت تقوم به الأجيال السابقة من الآلات، سواء منها البخارية والكهربائية، وهكذا كانت فكرة تلك الآلات تتضمَّن في داخلها «عقلًا» حاسبًا يُراقب عملها ويُعدِّله ويُصحِّحه، ويعيد توجيه سيرها وفقًا لما يُجريه من حسابات.

وقد نجَحت هذه الآلات في إحداث تحول هائل في ميدان الإنتاج المادي؛ إذ إن كفاءتها كانت أعلى بكثير من كل أنواع الآلات السابقة، فضلًا عن أنها تُوفِّر نسبة كبيرة من الأيدي العاملة؛ أي كانت تحقيقًا فعليًّا لحلمٍ بشريٍّ قديم، هو حلم الآلة التي تقوم بكل أعمال الإنسان وتُعْفِيه من مشقة العمل، وهذا بالفعل ما حدَث إلى حدٍّ بعيد في عصر الآلية الذاتية Automation.

ولكنَّ الإنجاز الأكبر لهذا المبدأ الهام الذي قامَت عليه هذه الآلات الجديدة كان تطبيقها في ميدان العمل العَقلي باختراع نوع جديد من الآلات هو «العقول الإلكترونية»، وكان ذلك شيئًا جديدًا كل الجدة في التاريخ البشري؛ إذ إن كل ما كان يستعين به الإنسان قبل ذلك من وسائل وأدوات — ابتداءً من الفأس ودوابِّ الحمْل حتى الآلة البخارية والكهربائية — كانت توفر على الإنسان طاقته «الجسمية»، فتقوم بدلًا منه بالعمل المُرهِق، أو تنقله بطريقة أسرع، أو تُنتج له سلعة بوفرة. أما الميدان العقلي فقد كان الإنسان وحدَه هو الذي يتحمَّل أعباءه، ويؤمن بأن شيئًا لن يستطيع أن يمد إليه يد المساعدة في هذا الميدان بالذات. ومن هنا فإن ظهور العقول الإلكترونية يُعدُّ مرحلة جديدة في حياة الإنسان العقلية، وخطوة جبارة في طريق التقدُّم العلمي، فضلًا عن أنه فتح آفاقًا هائلة أمام المعرفة البشرية في مختلف ميادينها.

والواقع أن هذا الكشف الجديد قد أتى في وقته المناسب تمامًا؛ ذلك لأن العصر الحاضر هو — باعتراف الكثيرين — عصر «الانفجار المعرفي» أو «انفجار المعلومات»؛ فكمية المعلومات في أي ميدان من ميادين البحث — مهما كان مقدار تخصُّصه — تتَّسع إلى حدٍّ يستحيل على العقل البشري — مهما كان مدى قوة ذاكرته — أن يستوعبه، وفي البلاد المُتقدمة علميًّا يتعين على الباحث قبل أن يشرع في عمل علمي جديد أن يكون ملمًّا بأحدث ما تمَّ التوصل إليه في ميدانه حتى يفيد من جهود الآخرين، ويبدأ من حيث انتهوا، وحتى لا يُكرِّر عملًا سبق لغيره القيام به في مكان ما.

ولكن وسائل الاطِّلاع العادية — كالبحث عن أحدث الكتب والمجلات العلمية في المكتبات — لا تُجْدِي في هذا العصر الذي تتدفَّق فيه الأبحاث الجديدة ويتزايد عددها بلا انقطاع، وهنا تأتي العقول الإلكترونية لتقوم بدور «الذاكرة الصناعية»؛ فهي تحفظ المعلومات المتعلِّقة بالكتب والمقالات الهامة في كل موضوع فرعي، وتُزوِّد الباحث على الفور بقائمة كاملة من المراجع التي يتعيَّن عليه قراءتها في الميدان الذي اختاره، أو تُقدِّم إليه المعلومات المطلوبة مباشرةً وتعفيه من جهود شاقة تدوم «سنوات» دون أن تصل أبدًا إلى المستوى المطلوب.

وبطبيعة الحال فقد تناولنا دور العقول الإلكترونية في مساعدة العقل البشري بوصفه نموذجًا لما تؤدِّيه التكنولوجيا الجديدة من خدمات أساسية في ميدان العلم، ومِن المعروف أن الدور الذي تقوم به هذه العقول في الميدان العلمي أوسع من ذلك؛ فهي ليست «ذاكرة صناعية» فحسب، بل إنها تؤدِّي عمليات ذهنية يعجز عنها العقل البشري، أو لا يؤدِّيها إنَّ استطاع إلا في سنوات عديدة، فهي تقوم بأدقِّ العمليات الحسابية وأعقدها بسرعة هائلة، وهي عظيمة الكفاءة في المجالات التي تتحدَّد فيها العوامل وتتنوَّع إلى الحد الذي يقف أمامه العقل الإنساني عاجزًا؛ فحين تتعدَّد المتغيرات في موقف معين، كما هي الحال في الحسابات المتعلقة بتوجيه سفينة فضائية إلى كوكب بعيد، يكون في استطاعة العقل الإلكتروني أن يَحسب بسهولة اتجاه المسار الصحيح من خلال عمل حساب مجموعة من العوامل الشديدة التعقيد، مثل سرعة السفينة وسرعة دوران الأرض والجاذبية وحركة الكوكب وجاذبيته، إلى آخر ذلك من العوامل التي يستحيل على العقل البشري أن يَجمعها كلها في عملية واحدة.

والأمر الذي ينبغي أن نُشير إليه أخيرًا فيما يتعلق بالدور الذي تقوم به العقول الإلكترونية في العصر الحاضر، هو أن هذه العقول إذا كانت هي ذاتها نتاجًا لتفكير وتطبيق علمي رفيع، فإنها من جانبها تعمل على زيادة ارتفاع مستويات التفكير العلمي في البلاد التي تستخدمها على نطاق واسع؛ ذلك لأنها إذا كانت تعفي العالم كما قلنا من عمليات شاقَّة تتعلَّق بجمع المواد العلمية لأبحاثه وتعريفه بجهود الآخرين، وإذا كانت تقوم بدلًا منه بالربط بين العوامل التي تَزداد تعدُّدًا وتعقيدًا كلما ارتقى البحث العلمي، فإنها تُتيح للعالِم بذلك أن يتوغل في أبحاثه إلى مستويات أعمق، وتُمكنه من أن يَستكشِف أبعادًا للطبيعة كان من المستحيل أن يصل إليها في المرحلة التي كان يكتفي فيها باستخدام تفكيره العقلي الخاص. ومن هنا فإن التفكير العلمي ذاته يَزداد دقةً وتعمقًا، وتظلُّ الحركة المتبادلة مستمرة بين العقل البشري والعقل الإلكتروني؛ فالعقل البشري اخترع العقل الإلكتروني نتيجة لبلوغه مستوًى عاليًا من التقدم، والعقل الإلكتروني يعود فيساعد العقل البشري على إحراز المزيد من التقدم. وهذا التقدم الجديد يؤدِّي إلى تطوير العقول الإلكترونية بحيث تُؤدِّي وظائف أوسع وأعقَد. وهذه العقول الإلكترونية المطورة ترتفع بعقول العلماء إلى مستويات جديدة. وهكذا تستمر الحركة الحلزونية في صعودها، فاتحةً بذلك آفاقًا لم تكن البشرية تحلم بها في وقتٍ من الأوقات. ومن هنا فقد أصبح عدد العقول الإلكترونية المستخدمة في بلد ما مؤشرًا هامًّا، لا لتقدُّمه الصناعي والتكنولوجي فحسب، بل لتقدُّمه النظري أيضًا ولارتفاع مستوى التفكير العلمي بين باحثيه.

ونستطيع أن نستطرد قليلًا في وظيفة «الذاكرة الصناعية» التي تقوم بها العقول الإلكترونية؛ لأنَّ لهذا الموضوع أهمية خاصة في عالَمنا العربي على وجه التحديد؛ فالعقل البشري لا يستخدم قدراته على الوجه الأكمل إذا ما نظرنا إليه في ضوء أساليب البحث التقليدية التي لا تزال سائدة في بلادنا. وحسبُنا أن نتأمَّل طريقة عمل أي باحث لندرك أن الجزء الأكبر من وقته وجهده يضيع في أعمال روتينية مملَّة ليس فيها خَلْق أو إبداع؛ كالبحث عن المادة العلمية اللازمة وسط ركام المؤلفات الهائل، وجمع قوائم المراجع، وترتيب المادة المُعطاة، وكتابة الملخَّصات وعمل الحسابات، واستذكار قدر كبير من المعلومات واستيعابها، وهذه كلها أعمال لا تحتاج إلى إبداع أو ابتكار. ويمكن القول: إنَّ تبديد طاقة العقل فيها هو أشبه بما كان يفعله الإنسان في العصور السابقة، حين كان يُبدِّد الجزء الأكبر من طاقته الجسمية في العمل اليدوي قبل اختراع الآلات، كما أنه أشبه بالطاقة التي يبدِّدها العدد الأكبر من النساء — حتى في وقتنا الراهن — في القيام بالأعمال المنزلية المملَّة المتكرِّرة … وكما أن الإنسان الذي كان يستخدم طاقة جسمه في العمل اليدوي لم يكن يتبقى له فضل من الطاقة يستخدمه في أي غرضٍ أهم، وكما أن المرأة التي تقضي معظم ساعات يومها في أداء الأعمال المنزلية والروتينية لا تستطيع أن تُبْدِيَ اهتمامًا بأية قضية فكرية جادة، أو أن تتذوَّق الفن الرفيع أو أن تمارس عملًا عقليًّا يحتاج إلى تعمُّق، كذلك يؤدي انشغال عقل العالم بالأعمال الآلية إلى تبديد قدر كبير من طاقته الذهنية التي يحتاج إليها من أجل كشف فكرة جديدة أو ابتكار تطبيق غير معروف.

وهذا بعَينِه هو ما تفعله العقول الإلكترونية؛ إذ تنقل العقل البشري من مرحلة استخدامه «البدائي» في الأعمال الروتينية إلى مرحلة الانتفاع بقُدراته إلى أقصى حدٍّ في الخَلق والإبداع، وحين تفعل العقول الإلكترونية هذا فهي إنما تؤكِّد مرة أخرى ذلك التضاد — الذي لم نَعترِف به في بلادنا للأسف الشديد — بين مَلَكَة الذاكرة ومَلَكة الإبداع الذهني.

فما زال عددٌ غير قليل من علمائنا يتصوَّر أن العلم هو الاستيعاب، وما زال منهم مَنْ يَتفاخر في مجالسه باتِّساع معلوماته وتشعُّب معارفه، ويستعرض على الملأ قوة ذاكرته فيبهر الحاضرين بتلك الكمية الهائلة من المعلومات التي يضمُّها ذهنه، ويثبت لهم أنه «موسوعة متحركة» قادرة على استعادة واستظهار قدر غير عادي من الحوادث والوقائع، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون عملية استعراضية جوفاء، بل إنَّ ملء الذهن بالمعلومات المكدَّسة كثيرًا ما يكون على حساب قدرة هذا الذهن على الإبداع، وكأن التكدُّس والحشو الذي امتلأ به الذهن يمنعه من الحركة الطليقة، ويخلق لديه نزوعًا إلى ترديد ما سبق له أن قرأه أو سمعه، وهو نزوعٌ مضادٌّ لكلِّ إبداع. فالذِّهن المُزدحِم بالمعلومات — المنشغل دائمًا بما يأتيه من المصادر الأخرى — لا تعود لديه قدرة أو طاقة على كشف الجديد، بل يجد متعته الكبرى في «إفراغ» مُحتوياته أمام الناس في كل مناسبة، وهو عمل قد يُبهر البعض، ولكنه لا يدلُّ على أصالة أو ابتكار، وهكذا يبدو أن هناك تناسبًا عكسيًّا بين استخدام المرء لذاكرته واستخدامه لملَكاته الخلاقة، وهذا التناسب العكسي يسير — في عصر العقول الإلكترونية التي تتولى عن الإنسان أعمال الذاكرة الآلية — في صالح ملكات الإبداع بغير حدود.

ومن المستحيل أن نُصحِّح هذا الوضع في بلادنا إلا إذا بدأنا منذ البداية، أعني أن نعيد بناء نُظِمنا التعليمية التي تعتمد الآن اعتمادًا يكاد يكون تامًّا على تنمية الحفظ واستيعاب المعلومات؛ فنحن لا نحتاج إلى هذه المَلَكَة — في عصر العقول الإلكترونية — إلا احتياجًا ضئيلًا، وأهداف نُظُمنا التربوية يجب أن تتحوَّل تحوُّلًا جذريًّا؛ من تعهُّد ملَكَة الذاكرة وتنميتها وحَشْوها بالمعارف، إلى رعاية الملَكات الابتكارية والإبداعية والقدرة على مواجهة المواقف الجديدة غير المتوقَّعة بذكاء وحسن تصرُّف، وهذا تحوُّل سيكون علينا أن نُواجِهه — عاجلًا أو آجلًا — ما دمنا نعيش في عصر العقول الإلكترونية.

أما الإنجاز الثالث الذي نودُّ أن نقول كلمة موجزة عنه — في هذا الحديث عن إنجازات العلم المعاصر — فهو غزو الفضاء، ومن المؤكد أن هذا الإنجاز كان ولا يزال وثيق الارتباط بالإنجازين السابقين؛ إذ إن العقول الإلكترونية قد لعبت دورًا عظيم الأهمية في صناعة الصواريخ الفضائية وحساب مساراتها وتوجيهها، أما الطاقة الذرية واستخدامها في ميدان التسلُّح، فكانت بدَورها من العوامل الفعالة المؤدِّية إلى إعطاء قوة دافعة لبرامج غزو الفضاء؛ إذ إنَّ من الأهداف الرئيسية لظهور هذه البرامج وتطويرها — في فترة الحرب الباردة — أن تكون المركبات أدواتٍ لحمل الأسلحة الذرية إلى قلب البلاد المُعادية.

ولكن لنَعُد في قصة غزو الفضاء إلى الوراء قليلًا؛ فمن المعروف أن الألمان — منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية — كانوا يَسيرون بخُطًى واسعة في الأبحاث المتعلِّقة بتكنولوجيا الدفع الصاروخي، وأنهم وجَّهوا هذه الأبحاث في اتجاهات عسكرية أساسًا، وتمكَّنوا خلال الحرب ذاتها من استخدام صاروخ V2٢)، وكان المشرف على هذه الأبحاث هو عالِم الصواريخ المشهور فون براون Von Braun الذي أصبحَ له بعد ذلك شأنٌ هامٌّ في برنامج الفضاء الأمريكي.

ومن المؤسف أن البداية الحقيقة لهذا الإنجاز التكنولوجي الهام كانت بداية حربية، كما أن أهم تطوراته اللاحقة كانت متعلِّقة بالأغراض العسكرية؛ فقد أدرك الاتحاد السوفيتي أهمية هذا الكشف الجديد، وسار في أبحاثه بطريقة مستقلة، وكانت لديه دوافع قوية للإسراع في هذه الأبحاث؛ إذ كانت الاستراتيجية الأمريكية في فترة الحرب الباردة تعتمد على تطويق الاتحاد السوفيتي بسلسلة من القواعد العسكرية القريبة من حدوده، والتي تجعل الأراضي السوفيتية كلها في مُتناوَل الطائرات الأمريكية، بينما الأرض الأمريكية بعيدة تمامًا عن كل أسلحته المعروفة حتى ذلك الحين، ومن هنا فقد كان من أهمِّ أهداف برنامج الصواريخ السوفيتية التخلُّصُ من عملية التطويق هذه، والاهتداء إلى وسيلة تُوصِّل التهديد أو الردَّ على التهديد إلى قلب الأراضي الأمريكية من وراء ظهر القواعد التي تُطوِّقه.

وهكذا كان الاتحاد السوفيِتي هو الذي افتتح عصر السفن الفضائية التي تُطلِقها صواريخ قوية من قواعد أرضية؛ لتدور حول الأرض بسرعة لم تألَفها البشرية من قبل، أو لتستكشف الفضاء البعيد عن الأرض بفضل السرعة التي تُتيح لها الإفلات من الجاذبية الأرضية. ولقد كان إطلاق القمر الصناعي السوفيتي الأول، «سبوتنيك ١» في ٤ أكتوبر ١٩٥٧ جزءًا من برنامج عِلمي دولي كانت بلاد كثيرة تُعِد أنفسها للإسهام فيه منذ وقتٍ طويل، هو برنامج «السنة الجيوفيزيقية الدولية» التي اختير لها عام ١٩٥٧، وكان إطلاق القمر الصناعي هذا بالفعل أبرز أحداث هذا البرنامج العلمي، ولكن المغزى العسكري لهذا الحدث الهام لم يَغِب عن أحد؛ إذ كان معناه أن قوةَ دفع هائلة جديدة قد اكتُشِفَت، وأن في استطاعة الصاروخ — الذي يدفع القمر الصناعي في مدارٍ حول الأرض — أن يحمل سلاحًا نوويًّا ويَعبُر به القارات؛ ليُصيب أي مكان على سطح الأرض، مما كان يَعني ضرورة إدخال تغيير حاسم على استراتيجية الدول الكبرى.

ولقد كانت الولايات المتحدة هي ثالثة الدول في ترتيب الدخول في عصر الصواريخ، وكان للعلماء النازيين — الذين آثروا أن يَستأنفوا نشاطهم في الولايات المتحدة ومنهم فون براون نفسه — دَورٌ عظيم الأهمية في تعويض التخلُّف الذي كان يبدو — في أول سنوات عصر الفضاء — أن الولايات المتحدة تعاني منه، وسرعان ما وُضِعَ — منذ عهد الرئيس كيندي — برنامجٌ طَموح هدفه إنزال أول إنسان على القمر في عام ١٩٦٩، وبالفعل نُفِّذَ هذا البرنامج بدقة، وأسفر عن هذا الإنجاز الرائع الذي يراه البعض أعظم الإنجازات العِلمية في القرن العشرين، وهو سير رائد الفضاء الأمريكي «نيل أرمسترونج» على القمر في نفس الموعد المحدَّد في ذلك البرنامج.

وخلال ذلك كله كانت أهداف برامج الفضاء تتفاوَت بين الأغراض العِلمية كاستكشاف الموارد الأرضية أو التنبُّؤ بالأحوال الجوية، والأغراض الإعلامية كأقمار الاتصالات التليفزيونية، والأغراض العسكرية كأقمار التجسُّس، ولكن الأمر المؤكَّد هو أن نقطة البداية في برامج الدولتين الكبيرتَين كانت عسكرية، وإن كانت الأهداف العلمية قد أخذَت تَكتسِب أهمية مُتزايدة، بل لقد بدا في وقتٍ من الأوقات أن هناك اندماجًا بين هذه الأهداف كلها؛ إذ إن العودة بعيِّنات من صخور القمر أو إجراء تجارب على سطح المريخ، هي حقًّا أغراض علمية في المحلِّ الأول، ولكنها تُعطي الدولة التي تُحقِّقها مكانة وهيبة، وتُنبئ بارتفاع مستواها التكنولوجي إلى الحد الذي يخدم أغراضها الاستراتيجية خدمة كبرى.

ومع ذلك فالأمر المؤكَّد هو أن هذا الإنجاز التكنولوجي العظيم — الذي بدأ مُستهدِفًا أغراضًا عسكرية في المحل الأول — ستكون له في المستقبل نتائج عِلمية بالغة الأهمية، بل إن البعض يربط بين مستقبل البشرية وبين غزو الفضاء؛ إذ إن أرضنا هذه بدأت تضيق بمن عليها، وقد لا يكون من محض المصادَفات أن يبدأ عصر الفضاء في نفس الوقت الذي أخذت البشرية تُحسُّ فيه بالخطر من نفاد موارد الأرض. وباقتراب الوقت الذي يتعين فيه على الإنسان أن يتخذ قرارات حاسمة بشأن التزايُد السكاني المخيف، فمن الجائز أن يكون غزو الفضاء هو الحل الأمثل لهذه المشكلات، ومن الجائز أن يكون اتفاق التوقيت هذا مثلًا آخَر من أمثلة تلك القُدرة العجيبة التي يستطيع بها العقل الإنساني أن يَهتدي إلى حلٍّ لمشكلاته في اللحظة المناسبة.

وعلى أية حال فإن مَنْ يعتقد أن في هذا إسرافًا في الخيال، عليه أن يتذكر أننا ما زلنا في المراحل الأولى لعصر استكشاف الفضاء؛ فعمر هذا العصر بكل إنجازاته لم يصل — حتى كتابة هذه السطور — إلى عشرين عامًا بعدُ، والفترة التي انقضَت منذ «سبوتنيك» السوفيتي الذي لم يكن وزنه يزيد عن ثلاثين رطلًا حتى إرسال رجلَين إلى القمر، ومعهما ثالث في السفينة الأم التي تزن عدة أطنان؛ لم تَزِد عن اثني عشر عامًا، فإذا كان هذا التطور الهائل قد تحقق في تلك الفترة الوجيزة، فهل يستطيع أحد أن يتخيَّل ما يُمكن أن يتم إنجازه بعد مائة عام أو بعد خمسمائة عام، مع ملاحظة الزيادة المطَّردة في معدَّل التقدُّم؟ وهل يكون من الخيال المسرف أن نتخيَّل مُستعمَرات بشرية في كواكب بعيدة وسفن فضاء تستكشف أبعد أطراف المجموعة الشمسية، ومُحاولات للخروج من هذه المجموعة إلى النجوم البعيدة، بل مُحاولات للخروج من «المجرَّة» التي ننتمي إليها إلى مجرات أخرى؟

وبطبيعة الحال فإن المسافات الهائلة التي يَنبغي عبورها في هذه المحاولات تكاد تجعل من المستحيل علينا — في ضوء معرفتنا الحالية — أن نتصور كيف يستطيع الإنسان أن يقضي مئات السنين في سفينة فضائية تسير به نحو نجم يبعد عنا مسافة تُقدَّر بالسنين الضوئية، ولكن من المؤكد أن سرعات السُّفُن الفضائية ستزداد دوامًا، بل إن البعض لا يَستبعِد مجيء يوم تقترب فيه هذه السفن من سرعة الضوء، وحتى لو تحقَّق هذا فستظل هناك مشكلات لا حصر لها متعلِّقة بكميات الغذاء والهواء اللازمة لهذه الرحلات التي تدوم قرونًا، ومتعلِّقة بعمر الإنسان الذي لا يتجاوز حتى الآن القرن الواحد على أحسن الفروض.

ولكن لنذكر مرة أخرى ما حقَّقه عصر الفضاء خلال عشرين عامًا فقط، ولنتصوَّر أن البشرية لن تحاول الانتحار عن طريق حربٍ عالَمية ثالثة، وأنها ستظلُّ تتقدَّم بمعدَّل يزداد سرعة باطراد طوال قرن آخر أو عدة قرون أخرى، فهل ستكون هذه الأحلام عندئذ بعيدةً عن التحقيق؟ إن الكلام عن الصعود إلى القمر كان يُعدُّ — منذ ربع قرن فقط — ضربًا من الجنون، أو من الخيال الشِّعري (والأمران كما نعلم متقاربان) فهل نستكثر على إنسان القمر الحادي والعشرين أو الثاني والعشرين أن يَصِل إلى آفاق الكون البعيدة؟

في هذا العرض العاجل اخترنا ثلاثة أمثلة لإنجازات العلم المعاصر؛ هي الطاقة النووية والعقول الإلكترونية وغزو الفضاء، ومن المستحيل أن يقتصر المرء على أمثلة كهذه إذا شاء أن يُقدِّم صورة شاملة لما حقَّقه العلم في العصر الحاضر؛ بحيث إن أي اختيار لا بد أن يغفل إنجازات عظيمة الأهمية، ولكن الواقع أننا لم نختر هذه الأمثلة إلا لأنها هي الأشهر على مستوى المعلومات العامة، وكم من كشوف أخرى صامتة أو لا تُحيط بها ضجَّة كبيرة، كان لها في حياة الإنسان تأثير لا يقل عن تأثير النماذج السابقة.

وعلى أيَّة حال، فإن هذه الأمثلة تكفي للكشف عن الطبيعة الثورية للعلم المعاصر الذي أحدث تحوُّلًا حقيقيًّا في حياة البشر، وأصبح هو الحقيقة الأساسية في العالم الذي نعيش فيه، وحسبنا أن نقارن بين أسلوب الحياة في مثل هذه الأيام منذ مائة عام، وبين أسلوب حياتنا الحالي؛ لكي نَقتِنَع بأننا لن نفهم عالَمنا هذا إلا في ضوء التقدم العلمي الذي نعيش فيه ونتمتع بإنجازاته دون أن نشعر؛ ذلك لأن العلم — الذي لم يَعُد ظاهرةً هامشية على الإطلاق — يكتسب أبعادًا اجتماعية تزداد أهميتها يومًا بعد يوم، وفي كل لحظة يزداد الإنسان اقتناعًا بأن مصيره — سواء أكان يَسير نحو الأفضل أو نحو الأسوأ — مُرتبط بالعلم، فما هي هذه الأبعاد الاجتماعية؟ وما تأثيرها الفعلي والمُمكِن على الإنسان؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤