الْعُلْبَةُ الْمَسْحُوْرَة
(١) الْفتى الْجَبانُ
فِي أَحَدِ الْبُلْدانِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى شَطِّ النِّيلِ، كانَ رُفْقَةٌ مِنَ الشَّبابِ يَتَلاقَوْنَ فِي أَوْقاتِ الْفَراغِ، فَيَتَحَدَّثُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَتَبادَلُونَ شَتَّى الْمَعْلُوماتِ، أَوْ يَسْتَمِعُونَ إِلَى الْقصَصِ الْمُسَلِّياتِ.
كانَ مِنْ بَيْنِ الْفِتْيَةِ الْأَنْدادِ، فَتًى اسْمُهُ: «صادِقٌ».
عَرَفَ الْفِتْيَةُ الْأَصْدِقاءُ مِنْ أَخْلاقِ أَخِيهِمْ بِأَنَّهُ خَوَّافٌ.
كانَ «صادِقٌ» يَفْزَعُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَراهُ، أَوْ يَخْطُرُ بِبالِهِ.
اَلْعَجِيبُ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ كانَ يَخْشَى الْأَذَى، وَيَتَوَقَّعُ الشَّرَّ، فِي كُلِّ حَرَكَةٍ يَتَحَرَّكُها، وَفِي كُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوها: صَباحَ مَساءَ!
اشْتَهَرَ فِي أَرْجَاءِ الْحَيِّ ما عَرَفَهُ الْأَصْدِقَاءُ مِنْ أَخْلاقِهِ.
تَسامَعَ النَّاسُ بِما كانَ يُحْكَى عَنْهُ مِنْ نَوادِرِ جُبْنِهِ، كانُوا يَتَناقَلُونَ هذِهِ النَّوادِرَ الَّتِي تُحْكَى عَنْهُ فِي دَهْشَةٍ وَعَجَبٍ.
أَطْلَقُوا عَلَيْهِ — آخِرَ الْأَمْرِ — لَقَبَ: «الْفَتَى الْجَبانُ»، فَأَصْبَحُوا لا يَعْرِفُونَهُ إِلَّا بِهذا الَّلقَبِ، وَلا يُنادُونَهُ إِلَّا بِهِ.
لَمْ يَجْرُؤِ الْفَتَى «صادِقٌ» عَلَى أَنْ يُظْهِرَ الْغَضَبَ، حِيْنَ يَسْمَعُ النَّاسَ يُلَقِّبُونَهُ بِهذا الَّلقَبِ الْبَغِيضِ، فَيُنادُونَهُ بِهِ.
مَرَّتِ الْأَيَّامُ. وَأَصْبَحَ «صادِقٌ» مُوَظَّفًا كُفْئًا فِي أَحَدِ الْمَصارِفِ.
(٢) أَصْحابُ «صادِقٍ»
لَمْ يَلْبَثْ «صادِقٌ» فِي الْمَصْرِفِ أَنْ عُرِفَتْ عَنْهُ صِفَةُ الْجُبْنِ.
وَكانَ مِنْ بَيْنِ مَنْ يَعْمَلُوْنَ مَعَهُ فِي الْمَصْرِفِ مَنْ يَطِيبُ لَهُمْ أَنْ يَسْتَغِلُّوا تِلْكَ الصِّفَةَ الَّتِيْ عُرِفَ بِها «صادِقٌ»، فَيَنْتَهِزُوا الْفُرْصةَ لِمُشاكَسَتِهِ وَمُعاكَسَتِهِ كُلَّما اسْتَطاعُوا إِلَى ذلِكَ سَبِيلًا.
كانَ هؤُلاءِ المُشاغِبُونَ يَجْعَلُونَ هذِهِ الْمُعامَلَةَ نَوْعًا مِنَ التَّسْلِيَةِ.
كانَ يَدْعُو بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَى الْعَبَثِ بِهِ، عَلَى أَنَّهُ مُداعَبَةٌ. حِينًا؛ يَتَرَصَّدُونَ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ، فَيَضَعُونَ فِيهِ دَبابِيسَ تَشُكُّهُ. وَحِينًا يَأْتُونَ بِفَأْرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِالْقُطْنِ يَضَعُونَهَا فَوْقَ كُرْسِيِّهِ، لِيَتَوَهَّمَ أَنَّهَا فَأْرَةٌ حَيَّةٌ، فَيَهْرُبَ مِنْها مُنْزَعِجًا أَشَدَّ الانْزِعاجِ.
كانَ «صادِقٌ» يَتَحَمَّلُ السُّخْرِيَةَ مِنْ زُمَلائِهِ صابِرًا، لا يَثُورُ. كانَ يَخْشَى أَنْ تَزِيدَ شَكْواهُ مِنْ مُعاكَسَتِهمْ لَهُ، الانْتِقَامَ مِنْهُ. اخْتارَ أَنْ يُقابِلَ الْأَذَى الَّذِي يَنالُهُ بِالصَّمْتِ، لَعَلَّ زُمَلاءَهُ يَنْتَهُونَ.
حَسِبَ النَّاسُ أَنَّ «صادِقًا» أَلِفَ الْجُبْنَ، فَأَصْبَحَ لَهُ طَبْعًا.
كانَ الظَّاهِرُ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ هَذِهِ الْخَصْلَةِ.
كَيْفَ يُتاحُ لَهُ وَهُوَ الْجَبانُ، أَنْ يَكُونَ غَدًا مِنَ الشُّجْعانِ؟!
أَيْقَنُوا أَنَّهُ سَيَقْضِي حَياتَهُ كُلَّها ضَعِيفًا خائِرَ الْعَزْمِ.
(٣) عَلى شاطِئِ النَّهْرِ
ذاتَ يَوْمٍ خَرَجَ «صادِق» مِنَ الْمَصْرِفِ بَعْدَ انْتِهاءِ عَمَلِهِ فِيهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ مِنَ الْهَمِّ وَالْحُزْنِ ما لا يُطاقُ.
فِي هذا الْيَوْمِ اشْتَدَّتْ مُناوَأَةُ زُمَلَائِهِ لَهُ فِي الْعَمَلِ، وَاسْتِهْزاؤُهُمْ بِما يَتَّصِفُ بِهِ مِنَ الْجُبْنِ فِي مُخْتَلِفِ تَصَرُّفاتِهِ.
لَمْ يَشَأْ «صادِقٌ» أَنْ يَعُودَ إِلَىَ مَنْزِلِهِ — كَما هِيَ عادَتُهُ — لِشِدَّةِ ما بِهِ مِنَ الضِّيقِ، واخْتارَ أَنْ يَمْضِيَ إِلَى شاطِئِ النَّهْرِ.
تَخَيَّرَ مَوْضِعًا مِنْ شاطِئِ النَّهْرِ، غَيْرَ قَرِيبٍ مِنْ أَنْظَارِ النَّاسِ، وَجَلَسَ فِيهِ عَلَى انْفِرادٍ، وَهُوَ يَرْجُو أَنْ تَنْفَرِجَ عَنْهُ كُرْبَتُهُ.
جَعَلَ يُطِيلُ الْفِكْرَ فِي حالِهِ، وَفِيما يَلْقاهُ مِنْ زُمَلائِهِ، فِي الْمَصْرِفِ، وَمِنَ النَّاسِ فِي الْحَيِّ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ.
لَبِثَ «صادِقٌ» كَذلِكَ بَعْضَ وَقْتٍ، ثُمَّ مَضَى يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: «لَوْ لَمْ أَكُنْ قَدْ طُبِعْتُ — مُنْذُ الْصِّغَرِ — عَلَى هذِهِ الصِّفَةِ لَكُنْتُ آنَسُ بِصُحْبَةِ الزُّمَلاءِ، ومُخالَطَةِ أَهْلِ الْحَيِّ مِنْ حَوْلِي، كَما أَنَّهُمْ كانُوا أَيْضًا يَهَشُّونَ لِلِقَائِي، وَيَأْنَسُونَ بِصُحْبَتِي.»
طالَ جُلُوسُ «صادِقٍ» عَلَى هذِهِ الْحالِ، وَهُوَ غارِقٌ فِي تَفْكِيرِهِ.
لَمْ يَكُنْ يَدْرِي حَقًّا: ماذا هُوَ صانِعٌ فِي عِلاجِ أَمْرِهِ؟
(٤) فِي صُحْبَةِ الشَّيْخِ
اِغْتَمَضَتْ عَيْنُ «صادِقٍ» فِي مَجْلِسِهِ بَعْضَ الْوَقْتِ،
أَحَسَّ بِأَنَّ يَدًا تَلْمُسُ كَتِفَهُ لَمْسًا يَنُمُّ عَنْ لُطْفٍ وَرِفْقٍ.
اِنْتَبَهَ «صادِقٌ» مِنْ إِغْفاءَتِهِ، وَدارَتْ أَنْظارُهُ؛ يَمْنَةً وَيَسْرَةً.
رَأَى أَمامَ عَيْنَيْهِ رَجُلًا عالِيَ السِّنِّ، مُتَوَسِّطَ الْقامَةِ، كَبِيرَ الرَّأْسِ، طَوِيلَ اللِّحْيَةِ، مَهِيبَ الْهَيْئَةِ، فَضْفاضَ الثَّوْبِ.
كانَ الشَّيْخُ يَبْتَسِمُ لِـ«صادِقٍ»، كَأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ قَبْلُ.
قَدَّمَ إِلَيْهِ تَحِيَّةً طَيِّبَةً، وَذلِكَ فِي رِقَّةٍ وَلُطْفٍ وَإِيناسٍ.
قالَ الشَّيْخُ الطَّيِّبُ لِلْفَتَى «صادِقٍ»، وَهُوَ يَشُدُّ عَلَى يَدِهِ: «ما لِي أَراكَ غارِقًا فِي التَّفْكِيرِ، مُسْتَسْلِمًا لِلْهَمِّ والْحُزْنِ؟ صارِحْنِي بِخَفِيَّةِ أَمْرِكَ، حَدِّثْنِي: ماذا تَشْكُو يا وَلَدِي؟»
اطْمَأَنَّ الْفَتَى «صادِقٌ» إِلَى مُحَدِّثِهِ الشَّيْخ، وَقالَ لَهُ: «ما أَشَدَّ ضِيقِي بِما أَلْقَى مِنْ خاصَّةِ الزُّمَلاءِ، وَمِنْ عَامَّةِ النَّاسِ. لَسْتُ أَدْرِي: كَيْفَ أَصْنَعُ لِكَيْ أَهْرُبَ مِنْهُمْ جَمِيْعًا؛ فَلا يَكادُونَ يَرَوْنَ لِي وَجْهًا، وَلا أَكادُ أَرَى مِنْهُمْ أَحَدًا؟!»
قالَ لَهُ الشَّيْخُ باسِمًا: «لا يَبْلُغَنَّ بِكَ الْيَأْسُ هذا الْمَبْلَغَ. حَدِّثْنِي بِحَدِيثِكَ، لَعَلِّي أَسْتَطِيعُ نَفْعَكَ، أَوْ أُفَرِّجُ كُرْبَتَكَ.»
(٥) الْهَدِيَّةُ الثَّمِينَةُ
وَقَعَ لِقَاءُ الشَّيْخِ لِـ«صادِقٍ» مِنْ نَفْسِهِ الْقَلِقَةِ أَحْسَنَ مَوْقِعٍ.
أَحَسَّ بِطُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ وَراحَةِ الْبالِ حِينَ سَمِعَ مِنْهُ كَلامَهُ.
شَرَحَ لِلشَّيْخِ مُجْمَلَ حالَتِهِ الَّتِي لَزِمَتْهُ، وَما جَرَّتْ عَلَيْهِ.
تَجَلَّتْ عَلَى فَمِ الشَّيْخِ ابْتِسامَةٌ، وَقالَ لِلْفَتَى مُتَوَدِّدًا: «أَهذا مَصْدَرُ أَلَمِكَ وَسِرُّ حُزْنِكَ؟ لا تَحْمِلْ لِلْأَمْرِ هَمًّا. ما أَنْتَ فِيهِ — يا بُنَيَّ — لا يَدْعُو إِلَى الْيَأْسِ، فَلْيَهْنَأْ بالُكَ، وَلْتَعْلَمْ أَنَّكَ — لا شَكَّ — سَتَسْلَمُ مِمَّا تُعَانِيهِ فِي حَياتِكَ. سَأُهْدِي إِلَيْكَ الْآنَ هَدِيَّةً ثَمِينَةً؛ فَلْتَحْرِصْ عَلَيْها كُلَّ الْحِرْصِ، وَلْتُؤْمِنْ بِأَنَّ هَذِهِ الْهَدِيَّةَ سَتُحَقِّقُ لَكَ كُلَّ ما تَرْجُوهُ.»
تَطَلَّعَ «صادِقٌ» إِلَى الشَّيْخِ فِي شَغَفٍ كَبِيرٍ، وَسَأَلَهُ: «أَيَّةُ هَدِيَّةٍ تِلْكَ الَّتِي سَتُقَدِّمُها لِي يا أَبَتاهُ؟»
أَجابَهُ الشَّيْخُ: «هَدِيَّتي إِلَيْكَ عُلْبَةٌ، هِيَ أَثْمَنُ كَنْزٍ عِنْدِي. أَنا ادَّخَرْتُها لِأَمْثَالِكَ مِمَّنْ يَشْكُونَ الضَّعْفَ وَخَوَرَ الْعَزِيمَةِ، لِكَيْ تَشْفِي نُفُوسَهُمْ، وَتَكُونَ خَيْرَ مِعْوانٍ لَهُمْ فِي الْحَيَاةِ.»
أَظْهَرَ «صادِقٌ» تَرْحِيبَهُ الشَّدِيدَ بِقَبُولِ هذِهِ الْهَدِيَّةِ الْثَّمِينَةِ، وَأَثْنَى كُلَّ الثَّناءِ عَلَى مُرُوءَةِ الشَّيْخِ، وَشُكَرَ لَهُ عَطْفَهُ وَحَنانَهُ.
(٦) الْعُلْبَةُ الْمَسْحُورَةُ
أَخْرَجَ الشَّيْخُ مِنْ جَيْبِهِ الْأَيْمَنِ عُلَبَةً صَغِيرَةً مُقْفَلَةً، وَقَدَّمَها إِلَى الْفَتَى «صادِقٍ»، وَهُوَ يَقُولُ لَهُ مُتَلَطِّفًا بِهِ: «تِلْكَ هِيَ الْعُلْبَةُ الَّتِي كُنْتُ وَعَدْتُكَ بِها يا وَلَدِي؛ عُلْبَةٌ صَغِيرَةٌ مَسْحُورَةٌ، لا يَعْرِفُ سِرَّها أَحَدٌ مِنْ عَامَّةِ النَّاسِ. تَقَبَّلْها مِنِّي — يا بُنَيَّ — هَدِيَّةً خَالِصَةً لَك، عَظِيمَةَ النَّفْعِ.»
قالَ الْفَتَى «صادِقٌ» لِلشَّيْخِ، وَهُوَ يَأْخُذُ هَدِيَّتَهُ مِنْهُ: «لَمْ تُخْبِرْنِي — يا شَيْخِي — ماذا تَحْوِي هذِهِ الْعُلْبَةُ الْمُغْلَقَةُ؟! وَماذا أَصْنَعُ — حِينَ أَفْتَحُها — بِما فِي جَوْفِها مِنْ أَشْياءَ؟»
أَجابَهُ الشَّيْخُ: «لا تَتَعَجَّلْ فِي الْأَمْرِ. اسْتَمِعْ لِما أَقُولُ: عَلَيْكَ — يا وَلَدِي — أَنْ تَحْتَفِظَ بِهذِهِ الْعُلْبَةِ كُلَّ الاِحْتِفاظِ، وَتَحْرِصَ عَلَيْها كُلَّ الْحِرْصِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُطْلِعَ أَحَدًا عَلَيْها أَبَدًا.»
وَسَكَتَ الشَّيْخُ لَحْظَةً، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ كَلَامَهُ بَعْدَ ذَلِكَ قَائِلًا: «هُناكَ أَمْرٌ آخَرُ — هُوَ الْأَهَمُّ — أَنْصَحُ لَكَ أَنْ تَلْتَزِمَهُ،:
إِنَّكَ إِنْ خالَفْتَ نُصْحِي أَضَعْتَ الْفائِدَةَ الَّتِي أَنْتَ تَتَمَنَّاها.
عَلَيْكَ أَنْ تَتْرُكَ الْعُلْبَةَ عَلَى حَالِها مُغْلَقَةً، لا تَفْتَحُها بِحالٍ.»
قالَ الْفَتَى «صادِقٌ»: «وَماذا يَحْدُثُ إِنْ فَتَحْتُ هذِهِ الْعُلْبَةَ؟»
قالَ الشَّيْخُ: «إِنَّ سِحْرَها يَبْطُلُ فَوْرًا إِذا فَتَحْتُها.»
قالَ «صادِقٌ»: «أَلا يُتاحُ لِي أَنْ أَعْرِفَ ما تَحْوِيهِ إِلَى الْأَبَدِ؟»
قالَ الشَّيْخُ: «بَلَى، إِنَّكَ سَوْفَ تَفْتَحُها وَتَعْرِفُ ما تَحْوِيهِ.
مَوْعِدُكَ فِي مِثْلِ هذا الْيَوْمِ مِنَ الْعامِ الْقابِلِ، إِنْ شاءَ الله.»
هَزَّ الْفَتَى «صادِقٌ» رَأْسَهُ، وَهُوَ حائِرٌ فِي أَمْرِ الشَّيْخِ وَهَدِيَّتِهِ.
قالَ الْفَتَى فِي نَفْسِهِ: «ما انْتِفاعِي بِهذِهِ الْعُلْبَةِ الْمَسْحُورَةِ، إِذا كُنْتُ لا أَفْتَحُها، وَلا أَعْرِفُ ماذا فِي داخِلِها مِنْ أَسْرارٍ؟! وَما أَثَرُها فِي عِلاجِ ما أَنا فِيهِ، ما دُمْتُ لا أَسْتَخْدِمُها؟!»
أَدْرَكَ الشَّيْخُ ما يَجُولُ بِخَاطِرِ الْفَتَى نَحْوَ الْعُلْبَةِ، فَقالَ لَهُ: «لا تَشْغَلْ بالَكَ، فالأَمْرُ سِرٌّ، سَتَعْرِفُ حَقِيقَتَهُ فِيما بَعْدُ، وَلكِنَّ الْفائِدَةَ سَتَتَحَقَّقُ — بِمَشِيئَةِ اللهِ — مُنْذُ الْآنَ، دُونَ تَوانٍ.»
واجِبُكَ وَضْعُ الْعُلْبَةِ فِي جَيْبِكَ؛ كُلَّما رَحَلْتَ، وَأَيْنَما حَلَلْتَ.
لَنْ تَخْشَى شَيْئًا تُقْدِمُ عَلَيْهِ، ما دامَتْ هذِهِ الْعُلْبَةُ مَعَكَ. سَتَذْهَبُ مَتاعِبُكَ وَآلامُكَ الَّتِي كُنْتَ تَشْكُو مِنْها حَتَّى الْآن. سَتَرَى ما يُدْهِشُكَ، وَما يَمْلَؤُ نَفْسَكَ سُرُورًا وَإِعْجابًا.
لَنْ تُصابَ بِسُوءٍ أَبَدًا، ما دامَتِ الْعُلْبَةُ الْمَسْحُورَةُ مَعَكَ.
لَنْ يَلْحَقَ بِكِ أَذًى، وَإِنِ اقْتَحَمْتَ النَّارَ، أَوْ غُصْتَ فِي الْبِحارِ!»
(٧) أَثَرُ السِّحْرِ
فَرِحَ «صادِقٌ» حِينَ تَناوَلَ هَدِيَّةَ الشَّيْخِ وَسَمِعَ حَدِيثَهُ. بادَرَ إِلَىَ وَضْعِ الْعُلْبَةِ فِي جَيْبِهِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى اسْتِقْرارِها فِيهِ.
لَمْ يُخامِرْهُ أَدْنَى شَكٍّ فِي أَنَّ الشَّيْخَ وَاثِقٌ مِمَّا يَقُولُ، سَيَظْهَرُ — حَتْمًا — أَثَرُ ما تَحْوِيهِ الْعُلْبَةُ مِنْ سِحْرٍ عَلَى الْفَوْرِ.
اَلْفَتَى دَبَّ الْأَمَلُ فِي نَفْسِهِ، بَعْدَ أَنْ وَضَعَ الْعُلْبَةَ فِي جَيْبِهِ. ما أَسْرَعَ أَنْ شَعَرَ بِقُوَّةٍ عَجِيبَةٍ تَسْرِي فِي عُرُوقِهِ وَتَمْتَزِجُ بِدَمِهِ!
ما لَبِثَ «صادِقٌ» أَنْ أَصْبَحَ شَخْصًا جَدِيدًا آخَرَ.
وَجَدَ أَنَّ جِسْمَهُ قَدِ اسْتَقامَ، بَعْدَ أَنْ كانَ مُقَوَّسًا.
وَجَدَ أَنَّ رَأْسَهُ قَدِ ارْتَفَعَ، بَعْدَ أَنْ كانَ مُطَأْطِئًا.
أَدْرَكَ الشَّيْخُ حِينَ نَظَرَ إِلَى «صادِقٍ»، وَرَأَى حَالَهُ قَدْ تَبَدَّلَ، أَنَّ الْفَتَى قَدْ آمَنَ بِقَوْلِهِ واطْمَأَنَّ إِلَيْهِ.
وَجَّهَ الشَّيْخُ إِلَيْهِ نَظْرَةً فَاحِصَةً، وَقالَ لَهُ وَهُوَ يَبْتَسِمُ: «لَعَلَّكَ شَعَرْتَ بِأَثَرِ السِّحْرِ يَدِبُّ فِي جِسْمِكَ الْآنَ.»
هَزَّ «صادِقٌ» رَأْسَهُ مُؤَكَّدًا، وَأَجَابَ الشَّيْخَ قائِلًا: «نَعَمْ، يا أَبَتاهُ. شُكْرًا لَكِ، عَلَى إِحْسَانِكَ بِي.»
الشَّيْخُ وَدَّعَ الْفَتَى مَسْرُورًا، فَمضَى فِي طَرِيقِهِ قَوِيَّ الْعَزْمِ نَشِيْطًا.
(٨) «صادِقٌ» الْجَدِيدُ
مَرَّتِ الْأَيَّامُ والْأَسابِيعُ، والْفَتَى «صادِقٌ» يَزْدادُ ثِقَةً بِنَفْسِهِ، اعْتَدَّ بِشَجاعَتِهِ، وَآمَنَ بِقُوَّتِهِ، فَلَمْ يَعُدْ لِلْخَوْفِ سُلْطانٌ عَلَيْهِ.
دَهِشَ أَصْحابُ «صادِقٍ» لِما رَأَوْهُ مِنْ تَغَيُّرِهِ وَتَبَدُّلِ حالِهِ. قَدَّرُوا اسْتِطاعَتَهُ أَنْ يَكْتَسِبَ خِصالَ الشَّجاعَةِ وَالْجُرْأَةِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ. نَسُوا خِصالَ «صادِقٍ» الْقَدِيْمِ، واحْتَرَمُوا خِصالَ «صادِقٍ» الْجَدِيدِ.
عامَلَهُ رُفَقاؤُهُ وَرُؤَساؤُهُ فِي الْمَصْرِفِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ، مُعامَلَةً حَسَنَةً تَتَّفِقُ مَعَ تِلْكَ الْخِصالِ الَّتِي تَحَلَّى بِهَا.
كانَ «صادِقٌ» شَدِيدَ الشَّوْقِ إِلَى كَشْفِ سِرِّ «الْعُلْبَةِ الْمَسْحُورَةِ».
كانَ شَديدَ الرَّغْبَةِ لِفَتْحِها، لِيَعْرِفَ: ماذا تَحْوِي مِنْ أَسْرارٍ؟
كانَ كُلَّما فَكَّرَ فِي فَتْحِ الْعُلْبَةِ تَذَكَّرَ عَهْدَهُ مَعَ الشَّيْخِ الْكَرِيمِ، الَّذِي أَحْسَنَ إِلَيْهِ كُلَّ الْإِحْسانِ، وَبَدَّلَ حَياتَهُ قُوَّةً واطْمِئْنَانًا.
لَمْ يَشَأ الْفَتَى «صادِقٌ» أَنْ يَسْتَسْلِمَ لِلْفُضُولِ الذَّمِيمِ، الَّذِي كانَ يُراوِدُهُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ؛ ذلِكَ الْفُضُولُ الَّذِي يَنْطَوِي — فِي حَقِيقَتِهِ — عَلَى نَقْضٍ لِلْعَهْدِ، وَمُخَالَفَةٍ لِلنُّصْحِ.
قاوَمَ «صادِقٌ» فُضُولَهُ، واسْتَعْصمَ بِالصَّبْرِ، وَانْتَظَرَ أَنْ يَحِينَ الْمَوْعِدُ الَّذِي حَدَّدَهُ الشَّيخُ لِفَتْحِ تِلْكَ «اَلعُلْبَةِ الْمَسْحُورَةِ».
(٩) السَّاعَةُ الْغائِبَةُ
كانَ «صادِقٌ» فِي بَيْتِهِ سَهْرانَ، وَقَدْ مَضَى شَطْرٌ مِنَ اللَّيْلِ.
خَطَر بِبالِهِ أَنْ يَعْرِفَ الْوَقْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْآنَ.
قامَ يَبْحَثُ عَنْ ساعَتِهِ، فَلَمْ يَجِدْ لَهَا فِي الْبَيْتِ مِنْ أَثَرٍ.
حاوَلَ «صادِقٌ» أَنْ يَصْبِرَ عَلَى غِيابِ ساعَتِهِ، فَلَمْ يُفْلِحْ.
قالَ فِي نَفْسِهِ: «إِنَّ ساعَتِي هِيَ الَّتِي تُعَيِّنُ لِي وَقْتِي، مُحْتاجٌ أَنا إِلَيْها فِي الْيَقَظَةِ أَوْ فِي النَّوْمِ، فَماذا أَنا صانِعٌ؟
أَنا لا أَسْتَطِيعُ الْآنَ تَحْدِيدَ الْوَقْتِ الَّذِي أَنا فِيهِ!»
أَعْمَلَ فِكْرَهُ، فَأَدْرَكَ أَنَّهُ نَسِيَ السَّاعَةَ فِي الْمَصْرِفِ.
خَطَرَ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْمَصْرِفِ، لِيَسْتَرِدَّ ساعَتَهُ.
تَرَدَّدَ «صادِقٌ» — أَوَّلَ الْأَمْرِ — وَالَّليْلُ يُقارِبُ مُنْتَصَفَهُ.
ما لَبِثَ التَّرَدُّدُ أَنْ زالَ، فَقَرَّرَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى الْمَصْرِفِ.
قالَ فِي نَفْسِهِ: «ماذا يُخِيفُني مِنَ الذَّهابِ إِلَى الْمَصْرِفِ لَيْلًا؟»
أَسْرَعَ إِلى ثِيابِهِ فارْتَداها، وَحَثَّ خُطاهُ فِي الطَّرِيقِ.
لَمْ يَكَدْ يَراهُ بَوَّابُ الْمَصْرِفِ حَتَّى عَرَفَهُ، فَبادَرَهُ بِقَوْلِهِ: «ما الَّذِي جاءَ بِكَ فِي هذِهِ السَّاعَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ مِنَ الَّليْلِ؟»
حَدَّثَهُ «صادِقٌ» بِقِصَّتِهِ، فَفَتَحَ الْبَوَّابُ لَهُ الْبابَ لِيَدْخُلَ.
(١٠) شَجاعَةُ «صادِقٍ»
مَضَى «صادِقٌ» تَحْتَ الضَّوْءِ الْخَافِتِ إِلَى مَكْتَبِهِ فِي الْمَصْرِفِ.
وَجَدَ السَّاعَةَ حَيْثُ نَسِيَها، وَبَيْنَما هُوَ خارِجٌ سَمِعَ هَمْسًا.
أَنْصَتَ «صادِقٌ» إِلَى الْهَمْسِ الْمُنْبَعِثِ مِنْ أَقْصَى الْمَصْرِفِ.
أَرْهَفَ أُذُنَيْهِ، وَقالَ فِي نَفْسِهِ: «ما سِرُّ هذا الْهَمْسِ؟!»
قَوِيَ ظَنُّهُ فِي أَنَّ عِصَابَةً مِنَ اللُّصُوصِ داخِلَ الْمَصْرِفِ.
لا شَكَّ أَنَّهَا تَسَلَّلَتْ مِن خَلْفِ الْمَصْرِفِ، لِسَرِقَةِ خَزائِنِهِ.
اشْتَدَّ عَزْمُ «صادِقٍ» عَلَى أَنْ يُواجِهَ هذا الْمَوْقِفَ.
تَحَسَّسَ «الْعُلْبَةَ الْمَسْحُورَةَ» فِي جَيْبِهِ، لِتَمْنَحَهُ الْجُرْأَةَ.
فَكَّرَ فِيما يَصْنَعُ، فاسْتَبْعَدَ أَنْ يُواجِهَ الُّلصُوصَ وَحْدَهُ.
أَيْقَنَ أَنَّهُ إِنْ فَعَلَ سَيُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِلتَّهْلُكَةِ دُونَ جَدْوَى.
رَأَى أَنْ يُسْرِعَ إِلَىَ الْبَوَّابِ، فَأَخْبَرَهُ بِالْأَمْرِ فِي غَيْرِ ضَجَّةٍ.
أَسْرَعَ بَوَّابُ الْمَصْرِفِ إِلَى الشُّرْطِيِّ الْحارِسِ، يُبَلِّغُهُ الْأَمْرَ.
لَمْ يَتَوانَ الشُّرْطِيُّ لَحْظَةً فِي الاِتِّصالِ بِشُرْطَةِ النَّجْدَةِ.
ما هِيَ إِلَّا دَقائِقُ مَعْدُودَةٌ، حَتَّى أَحاطَ رِجالُ الشُّرْطَةِ بِالْمَصْرِفِ.
فاجَئُوا الُّلصُوصَ قَبْلَ أَنْ يُفْلِتُوا، وَقَيَّدُوا أَيْدِيَهُمْ بِالْحَدِيدِ.
ساقُوهُمْ إِلَىَ مَرْكَزِ الشُّرْطَةِ، لِيَلْقَوْا جَزاءَ ما ارْتَكَبُوا مِنْ جُرْمٍ.
(١١) جَزاءُ الشَّجاعَةِ
رَجَعَ «صادِقٌ» إِلَىَ بَيْتِهِ، بَعْدَ أَنْ فَرَغَ مِنْ مُهِمَّتِهِ.
لَقَدْ كَشَفَ مُحاوَلَةَ سَرِقَةِ الْمَصْرِفِ، وَاطْمَأَنَّ إِلَى سَلامَتِهِ.
كانَ مَمْلُوءَ النَّفْسِ سُرُورًا بِما وُفِّقَ إِلَيْهِ فِي عَمَلِهِ.
لَقَدْ رَسَمَ الْخُطَّةَ لِضَبْطِ اللِّصَّيْنِ، قَبْلَ تَنْفِيذِ الْجَرِيمَةِ.
لَمْ يَتَمَكَّنِ اللِّصَّانِ مِنْ فَتْحِ خِزانَةِ الْبَنْكِ، وَالْهَرَبِ بِمُحْتَواها.
قَصَدَ «صادِقٌ» حُجْرَةَ نَوْمِهِ، وَتَمَدَّدَّ عَلَى فِراشِهِ لِيَسْتَرِيحَ.
لَمْ يَلْبَثْ أَنْ نامَ نَوْمًا هادِئًا، تَتَخَلَّلُهُ أَحْلامٌ بَهِيجَةٌ.
اسْتَيْقَظَ «صادِقٌ» مِنْ نَوْمِهِ، وَنُورُ الْفَجْرِ طَالِعٌ.
بادَرَ إِلَى أَنْ يَتَوَضَّأَ، وَأَنْ يُؤَدِّيَ صَلاةَ الصُّبْحِ حاضِرَةً.
قَبْلَها صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، شُكْرًا لِلَّهِ عَلَى ما وَفَّقَهُ إِلَيْهِ فِي لَيْلَتِهِ.
لَمَسَ «صادِقٌ» الْعُلْبَةَ الْمَسْحُوْرَةَ بِيَدِهِ، وَكَأَنَّهُ يُعَبِّرُ بِلَمْسِهِ لَهَا عَنْ تَقْدِيرِهِ الْكَبِيرِ لِما أَسْدَتْ إِلَيْهِ مِنْ جَمِيل، بَدَّلَ عُسْرَهُ وَيَأْسَهُ شَجاعَةً وَتَفاؤُلًا، وَجَعَلَ حَياتَهُ هَناءَةً وَمَسَرَّةً!
بَعْدَ أَنْ تَناوَلَ «صادِقٌ» فَطُورَهُ فِي لَذَّةٍ وَارْتِياحٍ ارْتَدَى ثِيابَهُ، وَخَرَجَ إِلَى عَمَلِهِ مُنْشَرِحَ الصَّدْرِ، نَشِيطَ الْخُطَى.
إِنَّهُ يَتَصَوَّرُ ما سَيَلْقَاهُ بِهِ الرُّؤَسَاءُ وَالزُّمَلاءُ مِنْ تَكْرِيمٍ.
ما كَاد «صادِقٌ» يَجْلِسُ إِلَى مَكْتَبِهِ، حَتَّى تَوافَدَ عَلَيْهِ زُمَلاؤُهُ، يُعَبِّرُونَ لَهُ عَنْ إِعْجابِهِمْ بِشَجاعَتِهِ النَّادِرَةِ، وَصَنِيعِهِ النَّبِيلِ، وَما قَدَّمَهُ إِلَى الْمَصْرِفِ مِن خِدْمَةٍ لا يَنْساها لَهُ طُولَ الْحَياةِ.
أَخَذَ «صادِقٌ» يَشْرَحُ لَهُمُ الْمُصادَفَةَ السَّعِيدَةَ الَّتِي جَعَلَتْهُ يَقْصِدُ إِلَى الْمَصْرِفِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ، وَقالَ لَهُمْ مُبْتَسِمًا: «أُقَرِّرُ لَكُمْ أَنَّهُ لَيْسَ الْفَضْلُ لِي فِي كُلِّ ما حَدَثَ،
وَإِنَّمَا الْفَضْلُ كُلُّ الْفَضْلِ لِساعَتِي الَّتِي نَسِيتُها عَلَى مَكْتَبِي،
لَوْلاها لمَا أُتِيحَ لِي أَنْ أَقِفَ عَلَى مُحاوَلَةِ سَرِقَةِ الْمَصْرِفِ.»
تَضاحَكَ الزُّمَلاءُ لِهذِهِ الْمُلاحَظَةِ الظَّرِيفَةِ، وَقالُوا لِـ«صادِقٍ»: «عَلَيْنا أَنْ نَحْصُلَ مِنْكَ عَلَى هذِهِ السَّاعَةِ الْمُبارَكَةِ، لِكَيْ نَضَعَها فِي مُتْحَفِ الْمَصْرِفِ، اعْتِرافًا بِما لَهَا مِنْ جَمِيلٍ.»
بَيْنَما الزُّمَلاءُ تَدُورُ أَحادِيثُهُمْ حَوْلَ هذا الْحادِثِ الَّذِي كَشَفَ عَنْ شَجاعَةِ زَمِيلِهِمْ «صادِقٍ»، وَدَلَّ عَلَى حُسْنِ تَصَرُّفِهِ وَمَبْلَغِ اهْتِمامِهِ وَحِفاظِهِ عَلَى الْمَصْرِفِ الَّذِي يَنْتَمِي إِلَيْهِ، إِذْ تَلَقَّى «صادِقٌ» دَعْوَةً عَاجِلَةً مِنْ مُدِيرِ الْمَصْرِفِ.
فَلَمَّا وَصَلَ إِلَى مَكْتَبِهِ وَجَدَ فِيهِ رُؤَساءَ الْعَمَلِ فِي الْمَصْرِفِ، وَقَدْ جَمَعَهُمُ الْمُدِيرُ لِيَشْهَدُوا ما سَيَقُولُهُ لِلْفَتَى «صادِقٍ».
ما إِنْ دَخَلَ «صادِقٌ» الْمَكْتَبَ حَتَّى وَقَفَ لَهُ مُدِيرُ الْمَصْرِفِ، يُصَافِحُهُ وَيُحَيِّيهِ، وَيَقُول لَهُ: «دَعَوْتُكَ أَمامَ الرُّؤَساءِ، لِأَشْكُرَ لَكَ ما أَسْدَيْتَهُ إِلَى الْمَصْرِفِ مِنْ خِدْمَةٍ جَلِيلَةٍ؛ ثُمَّ لِأَسْأَلَكَ أَنْ تَقُصَّ عَلَيْنا ما حَدَثَ لَكَ بِالتَّفْصِيلِ؟ وَماذا اتَّخَذَتْ مِنْ إِجْراءَاتٍ — فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ — حَتَّى سَلِمَ الْمَصْرِفُ مِنَ الْعُدْوَانِ عَلَيْهِ، وَاسْتِلابِ خَزائِنِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ؟»
فَأَخَذَ «صادِقٌ» يَصِفُ أَحْداثَ ما وَقَعَ لَحْظَةً بِلَحْظَةٍ..
وَبَعْدَ انْتِهاءِ الْحَدِيثِ قالَ مُدِيرُ الْمَصْرِفِ لِـ«صادِقٍ»: «تَقْدِيرًا لِما أَبْدَيْتَهُ مِنْ يَقَظَةٍ وَشَجَاعَةٍ أُعْلِنُ تَرْقِيَتَكَ.»
وَمَدَّ مُدِيرُ الْمَصْرِفِ يَدَهُ إِلَىَ ظَرْفٍ مُقْفَلٍ عَلَى الْمَكْتَبِ، ثُمَّ قَدَّمَهُ إِلَى «صادِقٍ» وَهُوَ يَقُولُ لَهُ مُبْتَسِمًا: «تَقَبَّلْ هذِهِ الْهَدِيَّةَ الرَّمْزِيَّةَ، مُكَافَأَةً لَكَ عَلَى ما صَنَعْتَ.»
شَكَرَ «صادِقٌ» لِمُدِيْرِ الْمَصْرِفِ صَنِيعَهُ، وَفَرِحَ بِما نالَهُ مِنْ تَرْقِيَةٍ فِي الْعَمَلِ، وَهُوَ يَجْهَلُ ما يَحْوِي الْظَّرْفُ الْمُغْلَقُ.
بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْ حُجْرَةِ الْمُدِيرِ فَتَحَ الظَّرفَ مِنْ فَوْرِهِ، فَرَأَى فِيهِ أَوْرَاقًا نَقْدِيَّةً، عِدَّتُها عَشْرُ وَرَقاتٍ وَقِيمَتُها مِائَةُ جُنَيْهٍ. وَمَعَها شَهادَةُ تَقْدِيرٍ مِنَ الْمَصْرِفِ، لِما أَبْدَى مِنْ هِمَّةٍ وَشَجاعَةٍ.
(١٢) سِرُّ الْعُلْبَةِ
لَمْ يَنْسَ «صادِقٌ» وَهُوَ فَرْحانُ بِما تَيَسَّرَ لَهُ مِنَ الظَّفَرِ بِالتَّرْقِيَةِ، وَالْجائِزَةِ الْمالِيَّةِ، وبِالتَّقْدِيرِ الْكَرِيمِ: أَنَّ الْفَضْلَ — فِي ذلِكَ كُلِّهِ — يَرْجِعُ إِلَى ما تَحَلَّى بِهِ مِنْ شَجاعَةٍ وَجُرْأَةٍ.
فَكَّرَ فِي نَفْسِهِ: «كَيْفَ كَانَتِ الْحَالُ يا تُرَى، لَوِ الْحادِثُ جَرَى، وَأَنا كَما كُنْتُ فِي أَيَّامِي الْماضِيَةِ: أَخافُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَتَهَيَّبُ كُلَّ شَيْءٍ، حَتَّى أَطْلَقُوا عَلَيَّ لَقَبَ: الْفَتَى الْجَبان؟»
مَكَثَ «صادِقُ» قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ: «ما أَعْظَمَ مَكْرُمَةَ الشَّيْخِ الَّذِي لَقِيتُهُ عَلَى شَطِّ النَّهْرِ؛ فَبَعَثَ فِي نَفْسِي الطُّمَأْنِينَةَ، وَأَحْيا فِيها الْأَمَلَ، وَأَهْدَى إِلَيَّ تِلْكَ «الْعُلْبَةَ الْمَسْحُورَةَ»، الَّتِي كانَ سِحْرُها نِعْمَةً وَبَرَكَةً، لا يُوَفِّيها ثَناءٌ وَلا شُكْرٌ!»
ظَلَّتْ هذِهِ الْخَواطِرُ تَتَرَدَّدُ فِي نَفْسِهِ، فَاشْتَدَّ شَوْقُهُ إِلَى مَعْرِفَةِ ما تُخْفِيهِ الْعُلْبَةُ مِنْ أَسْرارٍ، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُ الْيَوْمَ الْمَوْعُودَ، الَّذِي يُتاحُ لَهُ فِيهِ أَنْ يَفْتَحَ الْعُلْبَةَ، وَيَعْرِفَ ماذا تَحْتَوِي عَلَيْهِ.
لاذَ بِالصَّبْرِ عَلَى مَضَضٍ أَسابِيعَ، حَتَّىَ حَلَّ الْيَوْمُ الْمَوْعُودُ.
أَخْرَجَ «صادِقُ» الْعُلْبَةَ مِنْ جَيْبِهِ وَفَتَحَهَا وَنَظَرَ فِيها؛ وَيا لِدَهْشَتِةِ حِينَ أَبْصَرَتْ عَيْناهُ ما احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْعُلْبَةُ!
أَتَعْرِفُ ماذا رَأَى فِي الْعُلْبَةِ، الَّتِي حَيَّرَتْ فِكْرَهُ طَوالَ عامٍ.
رَأَى بِطاقَةً، عَلَى وَجْهِها صُورَةُ نَسْرٍ، رَمْزًا لِلْجُرْأَةِ وَالشَّجاعَةِ.
فِي أَسْفَلِ الْصُّورَةِ قَرَأَ بَيْتَ الشِّعْرِ التَّالِي:
وَحِينَ قَلَبَ ظَهْرَ الْبِطاقَةِ قَرَأَ ما هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ: «ارْفَعْ رَأْسَكَ يا أَخِي، وَلا تَكُنْ خاضِعًا ذَلِيلًا.
اعْرِفْ لِنَفْسِكَ حَقَّها مِنَ الْعِزَّةِ، لِتَكُونَ مُواطِنًا كَرِيمًا.
حِينَ ظَنَنْتَ أَنَّ الْعُلْبَةَ مَسْحُورَةٌ تَحْوِي قُوَّةً خَفِيَّةً تَحْمِيكَ، أَكْسَبَكَ ذلِكَ الظَّنُّ ما شَعَرْتَ بِهِ مِنْ شَجاعَةٍ وَإِقْدامٍ.
أَدْرَكْتَ يا بُنِيَّ الْعَزِيز — بِفَضْلِ هذِهِ الْخِصالِ الْكَرِيمَةِ — ما كانَ مِنْكَ بَعِيدَ الْمَنالِ، وَما كُنْتَ تَحْسَبُ تَحْقِيقَهُ مِنَ الْمُحَالِ.
(١٣) بَيْنَ يَدَي الشُّرْطَةِ
بَعْدَ أَيَّامٍ قَلائِلَ فُوجِئَ «صادِقٌ» بِدَعْوَةٍ مِنْ إِدارَةِ الشُّرْطَةِ تَدْعُوهُ إِلَى الْحُضورِ إِلَىَ مَكْتَبِ الْمَباحِثِ لِاسْتِيضَاحِ بَعْضِ الْأُمُورِ.
قُبَيْلَ الْمَوْعِدِ الْمُحَدَّدِ لِمُثُولِهِ بَيْنَ يَدَيِ الْمَباحِثِ، حَثَّ «صادِقٌ» خُطاهُ إِلَىَ الْمَكْتَبِ، وَهُناكَ اسْتَقْبَلَهُ الضَّابِطُ بِحَفَاوَةٍ بالِغَةٍ، وَلكِنَّ هذِهِ الْحَفاوَةَ لَمْ تَمْنَعْ ضَابِطَ الشُّرْطَةِ مِنْ أَنْ يُمْسِكَ بِالْقَلَمِ، لِيَكْتُبَ مَا يُجِيبُ بِهِ «صادِقٌ» عَنْ أَسْئِلَةٍ دَقِيقَةٍ تَتَعَلَّقُ بِسَبَبِ ذَهَابِهِ إِلَى الْمَصْرِفِ لَيْلًا، وَبِما أَحَسَّ بِهِ وَقْتَ الْحَادِثِ، وَبِما اتَّخَذَ مِنْ إِجْراءَاتٍ.
وَبَعْدَ أَنِ اسْتَوْفَى ضابِطُ الشُّرْطَةِ تَدْوِينَ أَجْوِبَةِ «صادِقٍ» عَنِ الْأَسْئِلَةِ الَّتِي وَجَّهَها إِلَيْهِ، وَقَفَ الضَّابِطُ الْمَسْئُولُ لِيُصافِحَ «صادِقًا»، وَلِيُقَدِّمَ لَهُ الشُّكْرَ عَلَى هِمَّتِهِ وَشَجاعَتِهِ، وَلِيُثْنِي أَيْضًا عَلَى دِقَّتِهِ فيما أَدْلَى بِهِ مِنْ مَعْلُوماتٍ مُحَدَّدَةٍ.
وَخَرَجَ «صادِقٌ» مِنْ دارِ الشُّرْطَةِ، وَمِلْءُ نَفْسِهِ تَقْدِيرٌ لِمُهِمَّةِ رِجالِ الشُّرْطَةِ، وَرِسالَتِها فِي اسْتِتْبابِ الْأَمْنِ، وَالضَّرْبِ عَلَى أَيْدِي الْعابِثِينَ عَلَى حُقُوقِ الْآمِنِينَ.
يُجابُ مِمَّا فِي هذه الحِكايةِ عن الأسئلة الْآتيةِ
وكيف فعَل لِمُواجهة المَوْقِف؟
وماذا كان سِرُّ العُلبةِ المَسْحورةِ؟
وماذا كان شعورُ «صادِقٍ» بعد ذلك؟