الفصل الثالث عشر

باريس

وعلى غير المتوقع اهتزَّ قلب الأثير بالنبأ الخطير: أن الألمان داخل أبواب باريس! وقد سلمت باريس نفسها إلى الغزاة، وانهارت الجمهورية الثالثة، ومضى القدر في سخريته فحل عيد الحرية بعد أيام من هذا الحادث فإذا الأحرار مُسْتَعْبَدُونَ وإذا مدينة النور ترسف في الظلام. وقد صور الشاعر إحساسه بذلك الحادث التاريخي ذاكرًا باريس في محنتها، مطوفًا بمعالمها الحبيبة إلى نفسه، وكيف لا يذكر الشعر الكونكورد ونافورتيه العظيمتين والمسلة المصرية السامقة؟ وكيف لا يهيب بنابليون في مرقده بالأنفليد؟ وكيف لا يهتف بالثوار في ساحة الباستيل؟ بل كيف لا يبكي أجمل الليالي وأمجد أعياد الحرية في حدائق فرساي! وأخيرًا كيف لا يذكر الشعر فرنسا بمبادئ ثورتها التي كفرت بها حتى سول الجنرال سراي لنفسه أن يقذف عاصمة الأمويين بقنابل مدافعه منذ ستة عشر عامًا!

سألوني عن بياني وقصيدي
أسَفًا. باريس! قد ماتَ نشيدي!
لكِ ذكراك ولي عهدٌ بها
كيف أنسى ذكرياتي وعهودي
أنا لا أنسَى لياليَّ على
روضكِ الرفَّاف بالزهر النضيد
ثَمرُ الفكر ومَجْنَى نَوْرِه
ومراح العينِ والقلبِ العميد
خطرةٌ عابرةٌ عدتُ بها
عودة الغوَّاص بالدر الفريد
فاعذري المزهر في كفي إذا
أخرسته ضجةُ الرزء الشديد
يوم قالوا جلَّل القيدُ يدًا
حطمَتْ بالأمس أصفادَ العبيد
حملتْ مشعل حرياتهم
في شُراةٍ من شباب المجد صيد
كيف يا باريس بالله هوى
ذلك النجم من الأفق البعيد؟
إن ينلْ منك المغيرون فما
فتحوا غير تخوم وحدود!
لستِ بنيانًا، ولا أرضًا، ولا
غاب آساد، ولا جنَّة غيد
أنت معنى عالمُ الفكر به
يتحدَّى قبضة الباغي المريد
كعبة الأحرار! هذي محنة
راعتِ الأحرار في أكرم عيد
صُرع النورُ به وانحسرت
جبهة الشمس عن النور الشهيد
وأتى الليل، ومن أهواله
أن تُرَى بين ظلام وقيود
أين من ڤرساي أفقٌ ضاحك
مشرقٌ عن أمل الشعب البعيد
وعلى كل طريق موكبٌ
صادح الأبواق خفَّاق البنود
لكأني اليوم ألقى مأتمًا
وأرى الكنكرد كالقبر الحريد
حال شدو الماءِ في أحواضه
نفشة الغرقى ببحر من صديد
وقفتْ مصرُ به ساخرةً
من نحوس تتوالى وسعود
غلب الصمتُ عليها وهي في
صمتها الخالد طِلَّسْمُ الوجود
ساحةَ الباستيل! حان الملتقى
وتعالت صرخة الفجر الوليد
أين أبطالك؟ ماذا! أتُرى
ضربَ الليل عليهم بالوصيد؟
أغمدوا أسيافهم؟ ويْحَ، وما
عوَّدوا أسيافهم حبس الغمود
وَيْحهم قد شيعوا أعيادهم
بين عصف النار أو قصف الحديد
فوق أرض صُبِغتْ من دمهم
وتحدَّت كل جبار عنيد
فوق أحجارك صرعى أمسهم
فلذاتٌ كَتَبَتْ سِفْرَ الخلود
فاذكريهم بالذي مرَّ بهم
واقرأي تاريخهم، ثم أعيدي!
أيها العائدُ من غاراته
راقدًا تحت قباب «الأنڤليد»
تلك راياتك، فانظر! أترَى
من سيوف تحتها أو من جنود؟
أين من برلين أو آفاقها
جيشك الظافر بالجيش البديد
تطأ الأرض إلى مشرقها
مُوغلًا في أثر الدُّبِّ الشريد
لفرنسا هِمةٌ لا تنثني
أمشت في النار أم تحت الجليد
بالقليل الجمع من أبنائها
تنزع النصر من الجمع العديد
أممٌ ترسف في أحقادها
دِنْتَها بالصفح والصنع الحميد
لم تسيِّرْ فوقها دبَّابة
أو تباغتها بطير من حديد
شَرَفُ الحرب كما لُقِّنَته
ملتقى سيفين في ظل البنود
فاعذر اليوم فرنسا إنها
وثقت بالعهد في دنيا الجحود
قرعت النصر كأسًا! ويحها!
صرعتها خمرة النصر التليد!
رقدت عن غدها وانتبهتْ
حيث لا ينفع صحوٌ من رقود
أسفرت سيدانُ عن مأساتها
وتهاوى حجر الحصن المشيد
ثغرةٌ أُنفِدَ منها خنجرٌ
قد تلقَّته على حزِّ الوريد
شهد المجد لها باسلة
خُضِّبت بالدم من نحر وجيد
فابعث العزة من تاريخها
وتألَّقْ بسناه من جديد
واطلع اليوم عليها سيرةً
ركن الشاعر واهتف بالقصيد:
أيها الفاتح لا يغررك ما
أنت فيه من حصون وسدود
لك فيَّ العبرةُ المثلى فلا
تأمن الزلة في أوج الصعود!
رَبَّةَ النور سلامًا كلما
هتف الشعر بماضيك المجيد
لك في كل خيال صورة
برئتْ من وصمة العصر الجديد
غير ذكرى يرجع الفكر بها
لليالٍ من عصور الظلم سود
لهف نفسي لدمَشْقٍ ولمن
خرَّ فيها من جريح وشهيد
من شواظ يقذف الموت على
رُكَّعِ في ساحة الله سجود
فأنا الشرقيُّ لا أنسى الذي
حاق من حكمك بالشرق العتيد
المساواة التي أعلنْتِها
أعلنَتْه بنذير ووعيد
والإخاءُ الحرُّ ما كان سوى
مدفع يرمي بِمُرْدٍ ومبيد
وطني الروحيُّ، إن أغضبْ له
فلآباء كرام وجدود
وتراثٍ خالد من أدب
أنا فاديه بروحي ووجودي
كفرت ثورتك الكبرى به
وهو المحسن يُجزَى بالكنود
سار بالإسلام نورًا وهَدَى
بسنى عيسى خُطى الحق الطريد
النبيُّون همو ثواره
حاملو الشعلة، أعداءُ القيود
فخذي بالحق والروح الذي
هز بالثورة أركان الوجود
وابعثيها ثورة أخرى فما
يعرف الأحرار معنى للجمود!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤