كن سيدًا ولا تكن عبدًا

أما العربي الأول فقال:

العبد يُقرع بالعصا
والحر تكفيه الإشارة

يريد أن العبد جامد الحس، غليظ الطبع، لا يمعل ما يعمل أو يترك ما يترك إلا خوفًا من العصا، أما الحر أو السيد فرقيق الحس، لطيف الطبع، يكفيه وحي الضمير، أو اللمحة الخاطفة، أو الإشارة العابرة.

ولو ترجمنا هذا إلى التعبير الحديث لقلنا: إن العبد يعبد القوة ولا يعبد إلا القوة، وإن السيد يخضع للواجب ولا يخضع إلا للواجب.

قد يكون كل يقدس القوة ويخضع لها، ولكن العبد لا يفهم إلا القوة المادية المرموز لها بالعصا، والسيد يخضع لقوة المعاني وقوة الضمير المرموز إليها بالإشارة.

•••

يروون أن أبا محجن الثقفي كان يهدد بالجلد إذا شرب الخمر فشربها، فلما عفي عنه تركها؛ لأنه أبى أن يطيع العصا كما يطيع العبد، فلما أمن العصا أنصت لصوت الضمير؛ لأنه سيد.

احتفظ بهذا المعنى، وتعالَ معي نَجُلْ في الأمم؛ لنعلم أيها يتخلق بأخلاق السادة، وأيها بأخلاق العبيد … فإن رأيت الموظف تكدس أمامه الأوراق تشتمل على مصالح الناس، فإن علم أن ورقة منها تتصل بغني من الأغنياء، أو باشا من الباشوات، أو رئيس من الرؤساء، أو زميل له يبادله الرجاء نفذها في سرعة البرق، وإن كانت لفقير من الفقراء، أو ضعيف من الضعفاء، أو لمن لا حسب له ولا نسب، أهملها وتركها تتراكم عليها الأتربة … وتنسى في الأدراج حتى يمل صاحبها فييأس، ويفوض أمره إلى المنتقم الجبار … فهذه أخلاق عبيد لا أخلاق سادة.

وإن رأيت النبيل يسمو فوق القانون فلا تعد مخالفته مخالفة ولا إجرامه إجرامًا، وإذا جرؤ أحد على سؤاله عما ارتكب، عد قليل الأدب فاقد الذوق، وقد يهان أو يعاقب؛ لأنه تجاوز حده؛ فتجرأ أن سأل النبيل كيف خالف القانون؟!

أو رأيت الغني أو الوجيه يسكن بيتًا في شارع؛ فسرعان ما يرصف له الشارع، ويضاء بالكهرباء، ويمد بيته بالتليفون، وتقوم له الدنيا وتقعد، وتسكن أسر وأسر من الفقراء في حي من الأحياء فلا يُعْنَى بحاراتهم، ولا تكنس، ولا ترش، ولا تضاء، وتفتك بهم الأمراض فلا يلتفت أحد إليهم.

وإذا رأيت الغني يتبرع بالألف أو الألوف من ماله للمدير أو الأمير، ولا يتبرع بالدرهم الواحد للفقير إذا لم يتدخل بينهما عظيم، فهو لا يؤمن بخير مستشفى أو ملجأ أو مدرسة أو جمعية خيرية أو مسجد لله، ولكنه يؤمن فقط بسلطة المدير أو الوزير أو الوجيه.

أو رأيت الموظف الصغير يذل ذلًّا لا حد له أمام الموظف الكبير، ثم هو يطغى أشد طغيان على ذوي المصالح من الجماهير، كالشرطي أذل ما يكون أمام ضابطه، وأقسى ما يكون على الباعة في دائرته، أو كالموظف تدخل عليه تسأله في شأن من شئونك الموكولة إليه، فإن لم يعرفك تجهم لك ونأى بجانبه عنك، ورد — إن رد — في غلظة وجفاء، فإن عرف أنك ذو جاه بلقب أو وظيفة أو ثروة تحول من النقيض، فبش في وجهك، وتظرف في حديثه، وقدم لك سيجارة وقهوة، واعتذر لك؛ لأنه لم يكن يعرفك، كأنه ليس واجبًا عليه أن يؤدي عمله إلا لمن يعرفه.

أو رأيت البيت تحت سيطرة مستبد، وسائر من في البيت لا إرادة لهم؛ فإما أن يقوى الرجل فيطغى؛ ولا أمر إلا أمره، ولا نهي إلا نهيه، وإما أن تقوى المرأة فمعاذ الله من سلطانها.

أو رأيت أهلها تخيفهم وتهينهم فيخضعون، وتكرمهم فيتمردون، والناس فيها أحد رجلين: رجل لم يتمكن فيتمسكن؛ فهو ذليل مراء منافق متملق، ورجل تمكن فتجبر؛ فلا قول إلا قوله ولا رأي إلا رأيه.

أو رأيت مجالسها وهيآتها تتخذ شكل الشورى ولا شورى، فأغلبية وأقلية وأخذ أصوات وسماع بيانات؛ وذلك في الظاهر لا الباطن، وإنما تعمل ما تعمل بالوحي الخارجي لا بالوحي الذاتي.

أو رأيت ميزانيتها تؤسس إيراداتها ومصروفاتها على رعاية ذوي الجاه دون عديمي الجاه، وعلى الإسراف في الكماليات قبل استيفاء الحاجيات.

إن رأيت هذا في أمة؛ فاعلم أن أخلاقها أخلاق عبيد لا أخلاق سادة.

•••

أما إن رأيت الأمة يسود فيها اعتقاد كل فرد بأنه مثل كل فرد آخر له حقوقه وعليه واجباته، إن اختلفوا في الفقر والغنى، أو اختلفوا بين مرءوس ورئيس، أو اختلفوا في الحرف والمهن، أو اختلفوا في الألقاب، فلم يختلفوا في أنهم ناس؛ لكلٍّ حريتُه، ولكلٍّ حقه في الحياة، ولكل حقه في ضروريات العيش، ولكل حقه في أن يُحترم، وكلهم أمام القانون سواء، وأمام الموظفين سواء، وكلهم في نظر العدالة سواء، مصالحهم المعقولة مقضية، وأوراقهم أمام الموظف مرتبة حسب دورها لا حسب وجاهة أصحابها؛ فهم في الحياة كفرقة التمثيل، قد يمثل أحدها فقيرًا، وقد يمثل أحدها أميرًا، ولكن كل يقدر في التمثيل حسبما أجاد؛ لا حسب الموقف الذي مثله، وكلهم أمام رئيس الفرقة إنسان له حقوقه وعليه واجباته.

ورأيت الناس فيها يُقدَّرون بأعمالهم لا بمظاهرهم، وبكفاياتهم لا بأقاربهم ولا بأنسابهم، وبحقيقتهم لا بتهويشهم، والرأي فيها يوزن بحقيقته لا بمن قاله، والقوي الذي أجرم ضعيف أمام القانون حتى ينتصف منه، والضعيف الذي اعتدى عليه قوي حتى يعطى حقه.

ورأيت الناس فيها يؤدون واجبهم لضميرهم لا لخوفهم أو طمعهم، يتبرع الأغنياء للمستشفيات أو الملاجئ أو الجمعيات الخيرية؛ إرضاءً لشعورهم لا لمديرهم، ورفقًا بالناس لا خوفًا من أولي البأس.

ورأيت حب الشورى ونظام الشورى يجري في دمائهم؛ فالبيت برلمان صغير لا يستأثر بالسلطة فيه رجل ولا امرأة، والمجالس والهيئات كذلك لا يستبد بها الرئيس، ولا توحى فيها الآراء والقرارات من وراء ستار، والبرلمان برلمان حق تصدر فيه الآراء عن بحث ودرس واقتناع، أسخط السلطة التنفيذية أو أرضاها، نقم عليه الرأي العام أو صفق له.

إن رأيت هذا في الأمة فأخلاقها أخلاق سادة لا أخلاق عبيد.

•••

العبد لا يعمل إلا بالخوف، والسيد لا يعمل إلا بالرغبة، العبد لا يتحمل المسئولية؛ لأنها تتطلب الشجاعة، والسيد يتحمل المسئولية ويسعى لتحملها؛ لأنها توافق رجولته، الحكومة في نظر العبد جبروت، وفي نظر السيد مشرفة، السلطات في نظر العبد مفزعة مرهبة، وفي نظر السيد موجهة مرشدة، فإن عدت طورها استحقت عزلها.

•••

ولكن هل في الإمكان تحويل العبيد إلى سادة، وأخلاق العبيد إلى أخلاق سادة؟

هذا السؤال هو بعينه سؤال هل تتغير الأخلاق؟ ونحن إذا غضضنا النظر عن النظريات الفسلفية في ذلك، ونظرنا إلى الواقع المحسوس وجدنا الإجابة عن هذا السؤال واضحة جلية؛ فالأخلاق في تغير مستمر سواء في ذلك أخلاق الأفراد أو الأسر أو الأمم، فكم رأينا من أفراد كانوا سادة؛ ثم صاروا عبيدًا، وبالعكس! وكم من أسر كانت نبيلة ثم صارت خسيسة وضيعة، والعكس! وكانت الرومان — مثلًا — سيدة عزيزة يوم كانت تعمل للمجد وتخلق الزعماء وقادة الجيوش والقانون ونحو ذلك، ثم أخلدوا إلى الراحة وأسرفوا في الترف وتركوا الأعمال للأرقاء، فذلوا وغلبت عليهم أخلاق العبيد، وهكذا نرى كل يوم أمثالًا من سادة ذلوا، أو أذلة عزوا.

وشواهد التاريخ تدلنا على أن أكبر ما تُمْنَى به السيادةُ الفقرُ والجهل؛ فهما إذا سلطا على فرد أو أسرة أو أمة — من ظلم حكامها — هدما سيادتها وحولاها إلى كلب ذليل؛ حتى إذا أيسرت بعد الفقر، وعلمت بعد الجهل، أخذت الحياة تدب فيها، والعزة تتمشى في مفاصلها، ومخايل السيادة تبدو عليها، فمن أراد السيادة فليسلكْ طريقَها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤