إلغاء البغاء

البغاء نتيجة لا سبب، فإذا أردنا القضاء عليه وجب أن نعمل للقضاء على أسبابه

أصدرت مصر في هذا الشهر أمرًا عسكريًّا بإلغاء البغاء.

والبغاء داء قديم يكاد يكون تاريخه تاريخ الجمعية البشرية، وقد حارت الدول في شأن معالجته في كل العصور؛ فكانت أحيانًا تعالجه بإقراره والاعتراف به ثم حصره؛ ووجهة نظرها في هذا الإقرار أنها إنما تفعل ذلك؛ حرصًا على الأسر، فإنها رأت أن العهر لا بد منه ولا يمكن اتقاؤه، فإذا حاربته جهرًا تسرب سرًّا، وبذلك ينتشر العهر أو الفجور في أوساط ما كانت لتزل لو وجدت أمكنة للبغاء معينة؛ فالبغيُّ ماهرة ماكرة لها من الوسائل ما تستطيع به أن تنصب شراكها وتنفذ رغبتها سرًّا إذا عجزت عن تنفيذها جهرًا، كما تستطيع أن تندس بين الأوساط الشريفة فتفسد أخلاقها وتضعف من عفافها، وإزاء هذه الحجة مالت بعض الدول في عصور مختلفة إلى الاعتراف بهن، وتخصيص بيوت لهن، وإرغامهن على تسجيل أسمائهن في سجل، وإلزامهن بثياب خاصة بهن حتى يُعْرَفْنَ، ووضع مراقبة شديدة عليهن، ومما احتج به أصحاب هذا النظر أن البغي عرضة للأمراض السرية، فمن الخير أن يعرفن ويحصرن وتقيد أسماؤهن؛ حتى يخضعن للكشف الطبي، وتبعد من ثبت مرضها وتعالج، فلا تنتشر بسببها العدوى.

هذه وجهة نظر الدول التي أقرت البغاء، ولكن نظرت بعض الدول الأخرى إلى المسألة من زاوية أخرى، فرأت أن إقرار الدولة للبغاء اعتراف بالمهانة الإنسانية، وإهدار للكرامة النفسية، وتشجيع على زيادة البغاء وموت الضمير؛ فمن علمت أنها بغيٌّ معترف بها قد سجل اسمها في سجل الحكومة تبلد ضميرها وماتت نفسها وزاولت مهنتها — في نظرها — كما تزاول الحرة مهنتها، وقل بعد ذلك أن يحيا ضميرها فتعدل عن عملها الخسيس ورد هؤلاء — على فكرة حصر المرض ومعالجته بالكشف الطبي — بأن هذا الكشف إنما يجري على النساء البغايا، ولا يجري على من يغشون دورهن من الرجال، وقد دلت الإحصاءات الدقيقة في أمريكا — مثلًا — على أن عدد المصابات بالأمراض السرية ٤٫٨٦ في الألف من النساء و١٠ في الألف من الرجال، والرجال يعدون كما تعدي النساء، وليس عليهم من رقابة ولا كشف طبي، أضف إلى ذلك أن إقرار البغاء يستتبع حتمًا وجود عدد كبير من الرجال يحترفون حرفًا في منتهى الخسة والنذالة، يسقطون بها أكثر مما تسقط البغي؛ كالقوَّاد وحماة البغايا ومحترفي وسائل الإغراء ونحو ذلك، وهم طائفة كالنباتات الطفيلية تمتص دماء السذج البسطاء، وقد تعيش عيشة الترف والنعيم على حسابهم.

ثم قد جربت الدول التي أقرت البغاء وضع هذه البيوت تحت إشراف البوليس لمراقبتها، ولكن دلت الأمور في جميع الدول على أنها تجربة فاشلة، فلم يستطع البوليس إزاء الحيل الدقيقة والألاعيب الخفية، وإزاء المغريات بالمال وغير المال أن يؤدي وظيفته كما ينبغي، فكان الأمر فسادًا على فساد.

ثم كان أن إقرار البغاء والاعتراف ببيوت البغايا سبب في اتساع تجارة الرقيق الأبيض حتى إلى عهد قريب؛ فالبيوت إذا أقرت رتب أصحابها الخطط لاستيراد سلع جديدة، فجدوا في الحصول عليها بمختلف الوسائل، أحيانًا عن طريق الإغراء، وأحيانًا عن طريق التهديد والإكراه؛ وقد لفتت خطورةُ هذا الأمر نظرَ عصبة الأمم فدعت إلى اجتماع عقد في جنيف سنة ١٩٢١ وبثت خبراءها لكتابة تقارير عن تجارة الرقيق الأبيض في البلدان المختلفة وما يتبع ذلك من فساد، فقرروا «أن وجود الدور المرخصة عامل يزيد في الاتجار بالنساء، وأن التحريات التي أجروها لا تثبت هذا فحسب، بل تدل على أن الدور المرخصة في بعض البلدان تصبح مركزًا لكل أنواع الفساد الخلقي».

ومن أجل هذا كان الاتجاه الحديث في الدول المختلفة نحو إلغاء البغاء وعدم الاعتراف به واتخاذ الوسائل لمنع أسبابه أو تقليلها على الأقل؛ حتى إنه في الإحصاء الأخير كان عدد الدول التي تحرمه ثلاثين دولة، والتي تقره ثماني عشرة، وكانت مصر معدودة من الدول التي تقره فنقصت واحدة.

•••

ولكن ما الذي يحمل على البغاء؟ لقد قال قوم من علماء البيولوجيا: إن بعض الأفراد يصابون بالشذوذ الجنسي بحسب تكوينهم فيدعوهم ذلك إلى الإفراط في هذا الباب، وإن صح ذلك وصح العجز عن معالجته فهو قليل الحدوث، إنما الأسباب الهامة لذلك ترجع إلى عوامل اقتصادية واجتماعية.

فمن الناحية الاقتصادية كثيرًا ما يكون الفقر سببًا لهذا السقوط الخلقي؛ امرأة لا تجد من يعولها، ولا تجد حاجتها الضرورية من العيش والملبس، ولا تجد عملًا تعمله فتتكسب منه، وليست متعلمة تعلمًا يمكنها من عمل شريف، وتجد أن الأبواب كلها سدت في وجهها، ثم تجد من يغريها بالفجور فتسقط. وقد دلت الإحصاءات على أن الفقر من أهم أسباب السقوط الخلقي، وأنه يكثر حيث يكثر الفقر، ويقل حيث يقل غالبًا، وقد لا يكون السبب عدم حصول الفتاة أو المرأة على القوت الضروري؛ ولكنها ترى مثيلاتها يأكلن أكلًا أنعم من أكلها، ويلبسن ثيابًا أفخم من لبسها، وينعمن بالحياة أكثر مما تنعم، ولم يكن لها من المبادئ الأخلاقية ما يحصنها ويحميها، فتنزلق عند أول إغراء، ومن أجل هذا كان السقوط في المدن أكثر منه في الأرياف؛ لأن حاجات الإنسان ومطالب الحياة في المدن أكثر منها في الريف؛ ولأن سعة المدينة وكثرة سكانها يمكِّن المرأة من أن يُجْهَلَ أمرُها ولا تُعرف حقيقتها ولا بيتها؛ فتجرؤ على ما لم تجرؤ عليه الفتاة المعروف بيتها المعلوم أمرها.

والأسباب الاجتماعية لهذا المرض كثيرة؛ فسوء التربية، والخطأ في فهم الحرية؛ واعتقاد أنها عمل الإنسان حسبما يشتهي ويهوى من غير قيد ولا رقيب، وانهيار المبادئ الأخلاقية التي تقدس العفة وتجعلها من أقوم الفضائل، وضعف الوازع الديني، وتصدع الأسرة، وكثرة الشقاق بين أفرادها، وانحلال روابط الزوجية فيها، وضعف سلطة الآباء والأمهات على البنات، وفراغ المرأة وعدم استطاعتها أن تجد ما يملأ وقتها بعمل مفيد أو بتسلية بريئة، وعدم تقدير العرف والرأي العام لخطر الزلل تقديرًا صحيحًا، وعدم استنكاره، واحتقاره للمرأة غير العفيفة، كل هذه أسباب اجتماعية للسقوط الخلقي في هذه الناحية؛ وإن كثيرًا من المتعففين والمتعففات لم يحملهم على العفة حبٌّ في الفضيلة، ولا ترفعٌ عن الرذيلة؛ إنما يحملهم على ذلك خوف الأمراض السرية الشائعة؛ فقد ظهر هذا الوباء في جنوبي أوربا في القرن الخامس عشر، واجتاح أوربا كلها في القرن السادس عشر حتى كان الموتى به ثلث السكان، وكاد يعم العالم، فعمل الخوف منه في نفوس الناس أكثر مما عملت الحكومات والوعاظ والرغبة في الفضيلة.

•••

وبعد؛ فإلغاء البغاء عمل مشكور، يرفع عن مصر وصمة إقرار الرذيلة إقرارًا رسميًّا وتحصيل الضرائب عليها، ويتضمن حسن التقدير للكرامة الإنسانية، ولكن لا بد أن نعترف بأن البغاء نتيجة لا سبب؛ فإذا أردنا القضاء عليه وجب أن نعمل للقضاء على أسبابه، لقد أشرنا من قبل إلى بعض أسباب البغاء، فيجب أن نعمل لإلغائها كما ألغينا النتيجة، وإلا فإن بقيت الأسباب حاولت أن تنتج نتائجها في الخفاء، وفي ذلك الخطر الكبير، فإذا كان هناك مجرى من الماء وسددنا فوهته تجمع حتى يقوى فيزيل السد أو يتسلل في الخفاء حتى يجد له مسربًا، يجب أن نعمل على رفع مستوى الحياة الاقتصادية حتى يقل الفقر فيقل العهر، وأن نعني بالتربية كما عنينا بالتعليم، فالتربية غير التعليم؛ فقد يكون الشخص متعلمًا وليس مربى، كما قد يكون الشخص متربيًا غير متعلم، والذي يقف دون العهر هو التربية لا التعليم، وإن إلغاء البغاء ليس يكفي فيه إغلاق دوره وطرد محترفيه وتشتيت أهله، بل يجب مع ذلك توفير أسباب العيش لأهل هذه الحرفة الملغاة ومراقبة أهلها مراقبة دقيقة، والقضاء أيضًا على دور الملاهي الخليعة التي هي سبب من أسباب الإغراء على البغاء، ثم إنشاء المستشفيات الصحية لمعالجة الأمراض السرية التي نتجت عن البغاء حتى نخفف نتائجه.

إن البغاء ثمرة شجرة خبيثة، فما لم تقطع جذورها تجددت ثمارها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤