تقديس العظماء

هل حقًّا أن الإنسان إما أن يكون ملكًا كريمًا أو شيطانًا رجيمًا؟ أو أن فيه ملكًا وشيطانًا معًا يتصارعان دائمًا؛ فقد يغلب فيه الملك فيأتي بالخير، وقد يغلب الشيطان فيكون الشر، وفي كل إنسان مسرح لكفاحهما وصراعهما وتغالبهما؟!

ومع ظهور الحق في أن الإنسان يحوي العنصرين معًا ويأتي بالمتناقضين جميعًا، فسرعان ما ننسى هذا وننظر إلى الإنسان على أنه ملك كريم أو شيطان رجيم، وليس عجيبًا أن يقع في هذا الخطأ العامة وأشباههم، ولكن العجيب أن يقع فيه الخاصة من المؤرخين ومؤلفي التراجم والأخلاقيين وأمثالهم.

هل حقًّا كان عمر بن عبد العزيز — مثلًا — ملكًا كريمًا، وكان الحجاج شيطانًا رجيمًا؟ وهل حقًّا كان المأمون في كل أعماله حكيمًا، وكان الأمين في كل تصرفاته سخيفًا؟ وهل حقًّا ما نقرؤه في كتب التراجم، فنرى في بعضها صورًا جميلة زاهية لا قبح فيها، وصورًا قبيحة لا جمال فيها؟ إن العقل يأبى ذلك، ويحكم بالخطأ بداهة على هذه الأحكام الصارمة التي ترسم حدًّا فاصلًا بين الرجل والرجل؛ بل نرى الصالحين أنفسهم — وهم أدرى بأعمالهم — كانوا يخافون العاقبة، ويطلبون من الله المغفرة على ما جنوا.

وفي هذا الخطأ نفسه وقع الأدباء والفنانون، وظنوا أن الشاعر الكبير لا يأتي بشعر سخيف، والكاتب الكبير لا يصدر عنه تخريف، وكان الروائيون إلى عهد قريب يصورون بطل الرواية عظيمًا كل العظمة، لا يصدر عنه إلا كل عظيم، أو مجرمًا أثيمًا، لا يصدر عنه إلا كل فظيع.

وينشأ هذا الخطأ عند الناس من غلبة الوهم وسيطرة الخيال، كما تنظر إلى رجل وجيه في مظهره فتضفي عليه — من غير شعور — صفة العقل والحكمة وحسن التصرف، والعكس؛ وقد يكون الأمر كما قال القائل:

ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أثوابه أسد مزير

وعلى كل حال فما أعظم الفرق بين المظهر والمخبر!

•••

ثم ما أصعب الحكم على الإنسان! وما أشبه الإنسان بالإنسان، إن المرء قد يأتي بالعمل العظيم، فإذا دققت فيه النظر رأيته قد يصدر عن باعث حقير، فيساوي في ذلك المجرم الخطير، بل قد يصدر عن الإنسان الواحد العمل العظيم للغرض الرفيع، ويسمو في الباعث عليه والغرض منه سمو الملائكة، وفي اللحظة الأخرى يأتي هو نفسه بالعمل الحقير وينحط فيه انحطاط المجرم الأثيم، فترى الوطني الكبير المخلص لأمته المضحي في وطنيته، وهو هو المقامر الحقير أو الشهواني الدنيء، وترى شاعرًا كبيرًا كالمتنبي يترفع عن مدح أحد إلا الملوك وأشباههم، ويحتقر شعر الشعراء بجانب شعره، ويتطلب الملك أو على الأقل الولاية، ويقول: «ما أبتغي جل أن يسمى»، ثم يبدر سيف الدولة بدرة فيقوم المتنبي يحني رأسه ويذل نفسه؛ ليلتقط منها دينارًا أو دينارين، وترى موسى قاتلًا، وترى فرعون يحدب على موسى الرضيع، وترى المجرم السفاك قد ينقذ أسرة من الموت أو الفقر، وترى المصلح الكبير قد يعشق زوجة جاره، فما أعجب الإنسان وما أظلم الحكم عليه بأنه خيِّر أو شرير!

من السهل أن تحكم على قطعة من الزجاج، أو حجر من الأحجار، أو شجرة من الأشجار، أو حيوان من الحيوان حكمًا ثابتًا؛ وليس كذلك الحكم على الإنسان، والوهم يربط عادة بين الفضائل بعضها وبعض، ويربط بين الرذائل بعضها وبعض؛ ولكنه قلما يربط بين الفضائل والرذائل معًا؛ فإذا رأيت شجاعًا وهمت بأنه ذكي كريم، مع أنه قد يكون شجاعًا غبيًّا بخيلًا، وإذا رأيت لصًّا وهمت أنه دنيء خسيس، وقد يكون هو «اللص الشريف».

بل الخلق الواحد في الإنسان الواحد لا يستقر على حال واحد، فكريم يبخل وبخيل يكرم، وشجاع يجبن وجبان يشجع؛ وكثيرًا ما ترى لؤمًا وكرمًا، ونذالة ونبالة، وشحًّا وإسرافًا، وأثرة وإيثارًا، قد جمعت كلها في شخص واحد وانسجمت فيه على شكل عجيب، كما يؤلف المصور الماهر صورته العجيبة من ألوان متناقضة.

ولو اخترع شريط سينمائي يبلغ من الحساسية مبلغ القدرة على تسجيل الأفكار والخواطر والبواعث والأغراض، وسجلنا عليه ما عند العظماء والكبراء ومشهوري الناس، وعرض علينا لأخذنا العجب كل العجب مما نرى، ولرأينا أعمالًا نظن أنها جليلة، فإذا هي ببواعثها التافهة وأغراضها الدنيئة تنعكس قيمتها ويذهب جمالها وجلالها، وتنكشف عن قبح كريه بغيض، ورأينا «شرائط» الناس وليس يخلو أحدها من بقع سوداء قلت أو كثرت؛ وإلى هذا المعنى يشير القول المأثور «لو تكاشفتم ما تدافنتم» أي لو عرف كل منكم بواعث الآخرين ونياتهم وخواطرهم، ما دفن بعضكم بعضًا عند موته؛ بغضًا له واستخفافًا بشأنه.

ولكن لمَ لا يتدافنون والكل سواء في وجود البقع السوداء؟!

إن الإنسان الواسع النظر العميق الفكر لتغمره الرحمة حتى على المسيء في إساءته والمخطئ في خطئه؛ إذ يرى أن مجال الحرية والاختيار في الإنسان مجال ضيق محدود، وأكثر أعماله ليست إلا نتيجة لوراثته وبيئته، وهذه البيئة تشمل البيت الذي نشأ فيه، والمدرسة التي تعلم فيها، والكتب التي قرأها، ونظام الحكومة التي عاش في كنفها، والدين الذي تدين به؛ وهكذا، ولو وضع زيد الصالح مكان عمرو الطالح في كل هذه الظروف لأتى — تقريبًا — بمثل عمله، وإذا أردت الإصلاح فأصلح الشجرة تصلح الثمرة، وأزل ما أمام الماء من سدود يتدفقْ.

إن غمر هذا النظر إنسانًا استشعر قلبه الرحمة والعطف والإشفاق على الجميع، ولم يحقد على عدو أو أثيم، وأنشد مع عمر الخيام قوله:

أحسن إلى الأعداء والأصدقاء
فإنما أنس القلوب الصفاء
واغفر لأصحابك زلاتهم
وسامح الأعداء تمحُ العداء

•••

قال صاحبي: لعل للأخلاقيين ومترجمي العظماء عذرًا، فهم يقصدون إلى الناحية التعليمية، فيقتصرون على ذكر النواحي الطيبة في الإنسان وأعمال البطولة في العظماء؛ حتى يُقتدى بهم ويأتي من بعدهم بمثل أعمالهم، فإذا ذكرت رذائلهم بجانب فضائلهم، وزلاتهم بجانب مفاخرهم، قللت من قيمتهم وأضعفت حماسة التقليد في نفوس الناشئين؛ وكل ما يطلب من المترجم أن يقول الصدق فيما يروى عن البطل من أعمال جليلة، ولكن لا يطلب منه أن يأتي بكل ما يعلم عنه من أعمال دنيئة، قد يُطلب هذا من المؤرخ، ولكن لا يُطلب من الأخلاقي ومترجم العظماء.

قلت: هذا رأي له وجاهته، ولكن ألا ترى معي أنا لو أضفينا على العظماء والأبطال صفة التقديس، وأوهمنا الناشئين أن هؤلاء العظماء لم يأتوا بشر، فتَّ ذلك في عضدهم وأيأسهم من نفوسهم؛ إذ يعتقدون أن العظماء من طينة أخرى غير طينتهم، وأنهم هم — وفيهم عيوب — لا يصلحون بعدُ أن يكونوا عظامًا؟! أما إن أُفهموا أن العظيم لم يخل من عيوب كعيوبهم أحيا ذلك أملهم وأبعد عنهم اليأس والذلة وشجعهم على الطموح أن يكونوا عظماء، رغم ما جنوا وما ارتكبوا؟

وشيء آخر وهو أن العظيم إذا قدس في حياته ونسبت إليه العصمة في كل تصرفاته، ووكلت إليه مقاليد الأمة حسبما يرى من غير اعتراض ولا نقد، تعرضت الأمة لخطر زلته الكبرى أو طغيانه الجامح، أما إن كان الرأي العام يقظًا يحصي عليه مساوئه كما يحصي محاسنه وينقده ويقرظه، وقف عند حده ففكر طويلًا قبل أن يقدم، وحال ذلك بينه وبين الطغيان.

نعم إن للعظماء عيوبًا شخصية خاصة بهم، قد أكون معك في إغفالها وعدم التشهير بها، أما عيوبهم التي تتصل بأعمالهم العامة ومسلكهم في الأمة، فيجب أن تقال وأن تنقد وأن تؤرخ؛ لأن العظيم — وقد نصب نفسه للأمة — يجب أن يشرّح من الأمة ويحكم له أو عليه، ويقال له فيما أساء: أسأت، وفيما أحسن: أحسنت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤