نظرية طريفة

قرأت هذه الأيام كتابًا طريفًا لكاتب صيني،١ يرى في أحد فصوله أن لكل أمة مزاجًا، وهذا المزاج يتكون من عناصر أربعة: عنصر الواقع، أو بعبارة أخرى: النظر إلى الوجود كما هو موجود، وعنصر الحلم أو الخيال أو المثالية، وعنصر المرح أو روح الفكاهة، وعنصر الحساسية أو قوة الشعور بالأحداث، وأن الواقعية والمثالية هما العاملان الأساسيان في حياة الأمم وتقدمها، وأن طينة الإنسانية تندى وتلين وتقبل التشكل بفضل عنصر المثالية، ولكن مادتها تبقى متماسكة مصونة بفضل عنصر الواقعية، ولا بد منهما معًا في حالة تعادل، وبنسب صحيحة؛ حتى تبقى الطينة متماسكة وتبقى ندية لينة، فإن غلبت الواقعية كانت الطين جافة أو قريبة من الجفاف، لا تقبل التشكل، وإن غلبت المثالية كانت مائعة أو قريبة من الميوعة، لا تقبل التشكل أيضًا.

وهذان العنصران في حالة مشادة دائمة في الأفراد والجماعات والأمم، وكلما اعتدلت نسبة التمازج كان التقدم أوضح وأسرع، وهو يرى أن الأمة الإنجليزية — من بين الأمم — أعدل مزاجًا، وأصح نسبة بين الواقعية والمثالية، وكأن طينتها لا قست ولا ماعت، على حين أن بعض الأمم كثيرة الاضطرابات أو الثورات؛ لأنها حقنت بمادة مثالية غريبة عنها لم تهضمها، جعلت طينتها أقرب إلى الميوعة، غير مستطيعة أن تحتفظ بشكلها.

وكثيرًا ما يطير الإنسان على خياله الجامح ويتعلق بأحلامه الواهية؛ فمن حسن حظ الإنسان أنه مُنِحَ روح الفكاهة، ووظيفتها أن تنقد الجامح في الخيال، المتعلق بأوهام الأحلام؛ لترده إلى الحقيقة وتنزله إلى أرض الواقع، نعم؛ إن من حق الإنسان أن يحلم، ولكن من واجبه أن يسمع الضحك على أحلامه، وهذا ما تفعله الفكاهة، فالفكه أو المازح يحذِّر الحالم الهائم أن يصطدم بصخرة الواقع.

ثم قال: إنه يود أن يضع لهذه العناصر قوانين أشبه بما يضعه علماء الكيمياء، ولكن حذارِ أن تنتظرها قوانين دقيقة كقوانين الكيمياء، أو أن تأخذها قضايا لا تقبل الزيادة والنقص، ولا التعديل والتغيير كقوانين الطبيعة، فقوانينه قوانين مرنة، قابلة أن يشكلها الباحث حسب بحثه واقتناعه، فمن قوانينه التي ذكرها:
  • (١)

    واقعية من غير مثالية = حياة حيوان.

  • (٢)

    واقعية + أحلام = مثالية.

  • (٣)

    أحلام + فكاهة = أوهام.

  • (٤)

    واقعية + أحلام + فكاهة = حكمة … إلخ.

واصطلح على أن يجعل كل عنصر من هذه العناصر الأربعة (الواقعية والمثالية والفكاهة والحساسية) إذا بلغ درجة (٤) فشاذ، أعلى مما يلزم، وإذا بلغ (٣) فمرتفع، وإذا بلغ (٢) فمعتدل، وإذا بلغ (١) فمنخفض، وكل أمة لديها هذه العناصر الأربعة ولكن بأقدار مختلفة، وهي تسير في الحياة وتتصرف في الأحداث وفق امتزاج هذه العناصر ومقاديرها، وضرب أمثلة لذلك حسب رأيه ودرسه كما يأتي:
  • واقعية (٣) مثالية (٢) فكاهة (٢) حساسية (١) = الإنجليز.

  • واقعية (٢) مثالية (٣) فكاهة (٣) حساسية (٣) = فرنسيون.

  • واقعية (٣) مثالية (٣) فكاهة (٢) حساسية (٢) = أمريكيون.

  • واقعية (٣) مثالية (٤) فكاهة (١) حساسية (٢) = ألمان.

  • واقعية (٢) مثالية (٤) فكاهة (١) حساسية (١) = روس.

  • واقعية (٤) مثالية (١) فكاهة (٣) حساسية (٣) = صين.

وعلل بعض ما يبدو في الأمم من مظاهر بهذا المزاج؛ فالفرنسيون — مثلًا — يميلون إلى النظريات المجردة وسعة الخيال، كما تتجلى في أدبهم وفنهم وكثرة حركاتهم السياسية، وذلك ناشئ من علو درجتهم في المثالية، والصينيون أعرق الناس في الواقعية، والألمان أحوج الناس إلى روح الفكاهة، قال: «ولقد كدت أعطيهم في ذلك صفرًا». وهذا ما أتعبهم في السياسة في الماضي والحاضر، ولو مُنِحُوا قدرًا كافيًا منها لتغير تاريخهم وتغير وجه الحرب.

ثم ذكر أن المثل الأعلى لأمة أن يكون قانونها: واقعية ٣ مثالية ٢ فكاهة ٣ حساسية ٢

وأقرب الأمم إلى هذا المثل الإنجليز.

ولقد وضعت الكتاب من يدي بعد قراءة هذا الفصل وتساءلت: كم نضع من الدرجات للمصريين في هذه العناصر الأربعة؟ ووجدت السؤال صعبًا، ولكن لم أيأس من محاولة الإجابة عنه.

في نظري أن المصريين يغالون في الواقعية ويقصرون في المثالية، فلو نالوا أربع درجات في الواقعية نالوا درجة واحدة في المثالية، ومن أجل هذا يغلب عليهم احتذاء التقاليد، والأوضاع القديمة؛ حتى التي كانت في عهد قدماء المصريين التزامًا للواقع، وهم بطيئو التغير والتحسن في نظم حكومتهم، وفي مرافقهم السياسية والإدارية والاجتماعية؛ لأن هذا التحسن ينشأ أولًا من الأحلام، أو بعبارة أخرى من المثالية: ثم ينقلب الحلم إلى واقع، فلما نقصهم الحلم نقصهم التغير، وطبعوا بطابع «إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون»، ودع عنك حفنة من الناس في المدن يحلمون ويتغيرون، فالحكم على الأمة يجب أن يكون على الأعم الأغلب؛ من فلاحين وصناع وهم جمهور الشعب، وهؤلاء لو قارنتهم بأمثالهم من قدماء المصريين لم تجد بينهم كبير فرق.

وحتى الآداب والفنون عندهم تنقصها الأحلام والخيالات، ولذلك ضعفت القصة في أدبهم، وكثرت الحكم؛ لأن الحكم واقعية والقصة خيالية، والأدب المصري يسير سيرًا تقليديًّا، إما تقليدًا للأدب العربي القديم، أو للغربي الحديث؛ وقل فيه الابتكار؛ لأن الابتكار خلق، والخلق يحتاج إلى تصميم، والتصميم يحتاج إلى خيال أو مثالية.

ولعل هذا هو شأن الشرق بأجمعه، لا المصريين وحدهم، فإن صح هذا وجب على المصلحين أن يؤسسوا إصلاحهم وبرامجهم على الإقلال مما يسبب الواقعية والإكثار مما ينمي المثالية.

قد أكون مخطئًا في تقديري؛ ولكني أقول كما يقول زميلي الصيني: إن هذه الأحكام لم تبلغ من الدقة مبلغ قوانين الطبيعة والكيمياء.

أما روح الفكاهة فهي نامية عند المصريين، وقد خففت عنهم كثيرًا من متاعبهم، بل وقد تكون حفظت عليهم وجودهم؛ فما تحملوه من ضغط آلاف السنين كان يكفي للقضاء عليهم لولا روح الفكاهة، فأنا أقدر روحهم الفكاهية بثلاث درجات لا أقل، وإذا احتاج هذا العنصر إلى إصلاح فليس أن يزيد أو ينقص، ولكن أن يشذب ويهذب، ويرقى في موضوعاته وأساليبه.

ثم إن المصريين كالفرنسيين ينالون ثلاث درجات في الحساسية، فهم سريعو الرضا، سريعو الغضب، سريعو الانفعال في شدة؛ وقد يلاحظ عليهم أنهم ينفعلون لدواعي الحزن، أكثر مما ينفعلون لدواعي السرور؛ لأسباب تاريخية عميقة، وينفعلون للمسائل الشخصية، أكثر مما ينفعلون للأسباب السياسية والاجتماعية؛ ولكن كلامنا الآن في وجود العنصر ومقدار كميته، لا كيفيته واتجاهاته.

واستمر المؤلف في تطبيق نظريته، فطبقها على الكتاب والشعراء، ورأى أنهم يختلفون في مقادير هذه العناصر الأربعة، ولكن لا بد أن يكون الشاعر — مثلًا — على قدر كبير من الحساسية، وإلا لما كان شاعرًا، وقال: إنه درس طويلًا ليصل إلى تقدير بعض الشعراء بهذه المقاييس فوصل إلى النتائج الآتية:
  • شكسبير: واقعية ٤ مثالية ٤ فكاهة ٣ حساسية ٤.
  • هَيْني: واقعية ٣ مثالية ٣ فكاهة ٤ حساسية ٣.
  • شيلي: واقعية ١ مثالية ٤ فكاهة ١ حساسية ٤.
وجاء دوري في التفكير في بعض شعرائنا، فاخترت ابن الرومي والمتنبي، وأعطيتهما هذه الدرجات:
  • ابن الرومي: واقعية ٢ مثالية ٣ فكاهة ٣ حساسية ٤.
  • المتنبي: واقعية ٣ مثالية ٣ فكاهة ٢ حساسية ٣.

وهذه النظرة تفتح لنا بابًا واسعًا في تقدير الكتاب والشعراء على هذا الأساس، وتبعثنا على التفكير: ما الدرجات التي يحوزها المثل الأعلى للشاعر؟ وأي الشعراء أفضل؛ من زادت مثاليته وأحلامه، أو من زادت حساسيته؟ إلخ.

وهي أسئلة تحتاج إلى درس طويل وتفكير عميق.

وأيًّا ما كان؛ فهذه النظرية التي عرضها الكاتب أطالت تفكيري، وأجالت خيالي، فأحببت أن أشرك القراء معي.

١  هو Lin Yutang.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤